فخره
الفرزدق فخور مختال تيَّاه، يَعتدُّ بنفسه كثيرًا
ويذهب بها بعيدًا، يَنسِب لنفسه المناقب الحميدة؛
كالكرم والشجاعة والرفعة، فيَفخر ببذلِه، ويُشبِّه نفسه
بالأسد والبحر والحية والبدر والذهب، قال:
قالوا لها احتَسبي جريرًا إنه
أودى الهِزَبر به أبو
الأشبالِ
وقال:
ذباب طار في لهواتِ ليث
كذاكَ الليثُ يَلتهم الذبابا
هزبر يَرفت القصرات رفتًا
أبى لعِداتِه إلا اغتصابا
وقال:
وقد مُنيَتْ منِّي كليبٌ
بضَيغم
ثقيل على الحبلى جرير كلاكله
وقال:
بأيَّةِ زنمتَيك تنال قومي
إذا بحري رأيتَ له عبابًا
ترى أمواجه كجِبال لُبنى
وطودِ الخَيف إذ ملأ الجنابا
إذا جاشَت ذاره بجنح ليلٍ
حسبت عليه حرَّاتٍ ولابا
محيطًا بالجبال له ظلال
مع الجرباء قد بلَغ الطبابا
١
وقال:
فكيف وقد فقأتَ عينَيكَ
تَبتغي
عنادًا لنابَي حيَّةٍ قد
تربَّدا
من الصم تَكفي مرةٌ من لُعابه
وما عاد إلا كان في العودِ
أَحمدا
ترى ما يمسُّ الأرض منه إذا
سرى
صدوعًا تفأَّى بالدَّكادك
صُلَّدا
عمدتَ إلى بدر السماء ودونه
نفانف تَثني الطرف أن
يتصعَّدا
وقال:
أنا البدر يُعشي طرف عينَيكَ
فالتمس
بكفَّيك يا ابن الكلب هل أنت
نائلُه؟
وقال:
ودَّ جرير اللؤم لو كان
عانيًا
ولم يدنُ من زأرِ الأسود
الضراغمِ
ويُدلُّ بشاعريته كثيرًا، فيدَّعي أنه ورث فحول
الشعراء وجمَعهم في شخصه؛ لذلك فشعره لا يقدر على
الإتيان بمثله أحد، قال:
وهَبَ القصائد لي النوابغُ إذ
مضوا
وأبو يزيدَ وذو القروح وجرولُ
٢
وأخو بني قيس وهنَّ قتَلنَه
ومهلهلُ الشعراء ذاك الأول
٣
والأعشيان كلاهما ومرقِّشٌ
وأخو قُضاعة قوله يتمثَّلُ
٤
دفعوا إليَّ كتابهنَّ وراثةً
فورثتهنَّ كأنهنَّ الجندل
وقال:
سأَجزيك معروف الذي نلتَني به
بكيفِكَ فاسمع شعرَ مَن قد
تنخَّلا
قصائد لم يَقدِر زهير ولا
ابنُه
عليها ولا مَن حوَّلوه
المخبَّلا
ولم يَستَطِع نسجُ امرئ القيس
مثلها
وأعيَتْ مراقيها لبيدًا
وجرولا
ونابغتَي قيس بن عيلان والذي
أراه المنايا بعضُ ما كان
قوَّلا
وأيُّ اعتداد بالنفس أبلغ من قوله وهو يجود بنفسه في
الساعة التي يخورُ فيها الجبار ويضرع العزيز:
أَرُوني مَن يقوم لكم مقامي
إذا ما الأمر جلَّ عن الخطابِ
وفخره بعشيرته وآبائه أشدُّ كثيرًا من فخره بنفسه،
فتميم أعزَّ العرب بأسًا وعددًا، ودارم معدن الكرم،
ومجاشع خيرة دارم، وصعصعة من أنصاف الآلهة ردَّ على
الموءودات حياتهن:
وجدي الذي منَع الوائدات
وأحيا الوئيد فلم يُوءدِ
وقال:
أنا ابن الذي ردَّ المنيَّة
فضلهُ
فما حسبٌ دافعتُ عنه بمعورِ
وغالب صاحب النار التي لا تخمد، والذي يُعطي العفاة
ولا يسأل من هم، والذي أحيا النفوس بجوده يوم صوأر،
والذي فكَّ العناة حيًّا وميتًا:
إذا عجز الأحياء أن يَحملوا
دمًا
أناخَ إلى أجدادنا كل غارمِ
لذلك فإن الذي سمك السماء، رفَع للفرزدق من هؤلاء
الآباء بيتًا يُطاول السماء، والله يفعل ما
يشاء:
إنَّ الذي سمك السماء بنى لنا
بيتًا دعائمه أعزُّ وأطوَلُ
بيتًا زرارة مُحتبٍ بفنائه
ومجاشُعٌ وأبو الفوارس نهشلُ
وكل من انتسب إلى تميم من المعروفين في الجاهلية
والإسلام؛ كحاجب وزرارة وعدس والزبرقان وناجية وعقال
ونهشل، يُشيد بذكرهم ويُنوِّه بفضائلهم، وقد حفظ فخر
الفرزدق أخبار تميم وأيامهم ومفاخرهم ومناقب أجوادهم
وبلاء فرسانهم، وما لهم من عزٍّ وبأس ومنَعَة وكرم في
الجاهلية والإسلام. وكما يفتخر الفرزدق بآبائه وأعمامه
فإنه يفتخر بأخواله بني ضبة ويذكر مناقبهم. وقد استحوذت
خاصة الفخر عليه، حتى لتسمع صداها في جميع شعره، فإذا
مدح غيره لا ينسى أن يمدح نفسه، وربما مهَّد بالفخر
للمدح كما يُمهِّد الشعراء بالغزل أو ذكر الطَّلل،
فكأنه يتغزل بمكارم آبائه وينسب بنسبه كما يَتغزَّل
غيره من الشعراء بحِسان النساء. وإذا رثى جعل موت آبائه
تأساءً وتعزيةً مهما جلَّ خطب الميت ولو كان ابنه،
قال:
يُذكِّرني ابنيَّ السماكانِ
موهنًا
إذا ارتفَعا بين النجوم
التَّوائمِ
ومن قبلُ مات الأقَرعان وحاجب
وعمروٌ ومات المرء قيسُ بن
عاصمِ
ومات أبي والمُنذِران كلاهما
وعمرو بن كلثوم شهابُ الأراقم
ولعلَّك تشم رائحة الفخر من قوله في وصف
الذئب:
ولو غيرنا نبهتَ تَلتمِس
القِرى
رماكَ بسهمٍ أو شباة سنانِ
وأغرب من ذلك كله أن يرثي جنينًا له حملت به أمه من
الفرزدق سفاحًا، وماتت وهي حامل فمات في جوفها، فقال
يَرثيه لأنه ابن الفرزدق وسليل دارم:
وغمدِ سلاحٍ قد رُزئتُ فلم
أنُحْ
عليه ولم أبعَثْ عليه
البواكيا
وفي جوفه مِن دارمٍ ذو حفيظةٍ
لو انَّ المنايا أنسأَته
لياليا
وخاصة الفخر زادت طبعه جفاءً، واستدعت نفور الخُلَفاء
والوُلاة منه. عاتب مرة معاوية بن أبي سفيان لحبسه عطاء
عمه الحُتات، وافتخر عليه بقوله:
وكم مِن أبٍ لي يا معاويَ لم
يَزل
أغرَّ يُباري الريح ما ازورَّ
جانبه
نمَتْه فروع المالِكين ولم
يَكُن
أبوك الذي مِن عبد شمسٍ
يُقاربُه
فوسعُه حلم معاوية على عادته، ولكن زياد بن أبيه
حفظها له وتحيَّن له الفُرص حتى اضطهدَه وشرَّده من
العراق. واستنشده مرةً سليمان بن عبد الملك وهو يرى أنه
سيُنشِده مديحًا له، فأنشده قوله يفتخر:
وركبٍ كأنَّ الريح تطلب عندهم
لها ترةً من جَذبِها
بالعصائبِ
سروا يَركبون الريح وهي
تلفُّهم
إلى شعب الأكوار من كل جانبِ
إذا آنسوا نارًا يقولون ليتها
وقد خَصرت أيديهمُ نارُ غالبِ
فاغتاظ سليمان وكلح في وجهه. ولقد فُتن الفرزدق
بمَناقب عشيرته حتى ليرى أن كل ما يصدر عنها مفخرة وإن
كان ليس فيه مفخر، أو قُل إن الكناية به غير مستحسنة،
كقوله:
ونحن بنو الفَحل الذي سال
بوله
بكلِّ بلادٍ لا يَبولُ بها
فحلُ
وقوله:
أبي الشيخُ ذو البول الكثير
مجاشعٌ
نماني وعبد الله عمي ونهشلُ
وشعر الفرزدق في
هذا الباب من حرِّ الشعر وخالصه، ومن أحسن ما قال،
يَفحل ويجزل، ويقوى ويشتد، ويطول نفسه ويتسع مداه،
ويُحسن التصرف ويُجيد التأويل والاعتذار:
ولا نَقتلُ الأسرى ولكن نفكهم
إذا أثقلَ الأعناقَ حملُ
المغارمِ
ويكون مع جزالته وفخامته منسجمًا مطردًا قليل
التعسُّف والاجتلاب، كقوله:
إذا متُّ فابكيني بما أنا
أهلُهُ
فكلُّ جميلٍ قلتِ فيَّ
يُصدَّقُ
وكم قائلٍ ماتَ الفرزدق
والنَّدى
وقائلةٍ مات النَّدى
والفرزدقُ
والأمثلة على إحسانه في هذا الباب كثيرة لا سبيل
لاستقصائها؛ منها قوله:
أولئك آبائي فجِئني بمثلهم
إذا جمعَتْنا يا جرير
المجامعُ
فيا عجبًا حتى كليب تسبُّني
كأن أباها نهشلٌ ومجاشع
ولكن هما عمَّاي من آل مالكٍ
فأقعِ فقد سُدَّتْ عليك
المطالعُ
أَتَعدل أحسابًا لئامًا أدقةً
بأحسابنا إني إلى الله راجعُ
وكنا إذا الجبار صعَّر خده
ضَربْناه حتى تستقيمَ
الأخادعُ
وقوله:
ولو كانت الأحداث يَدفعها
امرؤ
بعزٍّ لما نالت يدي وعريني
وقوله:
ولو رفع الإله إليه قومًا
لَحِقنا بالسماء مع السحابِ
وقوله:
سيَعلم مَن سامى تميمًا إذا
هوت
قوائمُه في البحر مَن
يتخلَّفُ
فسعدٌ جبال العز والبحر مالكٌ
فلا حضنٌ يبلى ولا البحرُ
ينزفُ
وقوله:
فإن تكُ كلبًا مِن كليب
فإنَّني
من الدارميِّين الطوال
الشَّقاشقِ
هم الداخلون البيت لا تدخلونه
على المَلك والحامُون عند
الحقائق
ونحن إذا عَدَّتْ مَعَدٌّ
قديمها
مكان النواصي مِن وجوه
السوابق