هجاؤه
لم يقل الفرزدق في هجائه الكثير بيتًا أصدق من قوله:
لقد كان الهجاء في الجاهلية وصدر الإسلام على مرارته بعيدًا عن الفُحش، كالذي نراه في هجاء حسان بن ثابت والحطيئة، فلما نبغ الفرزدق واستحرَّ الهجاء بينه وبين جرير لم يقفا عند حد، أحاطا بما في طريقة الجاهليين والمخضرمين من لذع وتهكُّم وتعريض، وتجاوزاها إلى هتك الأعراض، والإقذاع في السب والإفحاش في الشتيمة، والنَّيل من المحارم. والفرزدق مطبوع على الهجاء، مارسه أكثر من سبعين سنة، بدأ به حياته الشعرية واختَتمها به؛ فلقد قال: «كنت وأنا غلام في أيام عثمان أهجو شُعراء قومي.» واستمرت المهاجاة بينه وبين جرير نحوًا من خمسين سنة حتى أسكته الموت. وطالَما استعمل الهجاء أداة إرهاب يَبزُّ بها أموال الناس؛ فلقد كان له جُعل على منية بنت الصلت الحنفي تُعطيه في كل سنة خمسمائة درهم، وكان الناس يشترون أعراضهم منه، كما فعل رجل من موالي باهلة اسمه حمام. ولولا خوف الفردزق لفضَّل أن يَهجو الناس ويأخذ أموالهم بدلًا من أن يَمدحهم، ويدلُّكَ على ميله للهجاء أن رجلًا اسمه ابن روَّاد حلَّفه أن لا يَهجوه ما عاش، ولم يخطر على باله أن يَشتري منه عرضه بعد مماته، فأمسك عنه الفرزدق حتى مات، فقال يهجوه:
وأراد المهاجر بن عبد الله الكلابي أن يُصلح بينه وبين جرير، فأهدى إليه الفرزدق هذه الحلَّة المحبَّرة:
وقدَّم بين يدَي تلك الهدية هذه التحية:
وقد يمدح الفرزدق من يَرجو نواله أو يخشى بأسه، ويَرثيه أيضًا إذا مات، فإذا انقطع أمله أو زال خوفه هَجاه كما فعل بالحجاج؛ فقد مدحه حيًّا ورثاه ميتًا، فلما بُويع بالخلافة لسليمان بن عبد الملك — وهو عدوُّ الحجاج — هجاه.
والفرزدق في هجائه واسع العطن فسيح المدى كثير الفنون، لا يقف عند حد في مناضلة خصمه، يَذكُر المخازي ويُصرِّح بالمثالب، ويُفحش في النَّيل من الأمهات والأخوات والبنات، ويتهكَّم ويسخر ويَختلِق ويكذب ويذكر العورات، ويخصب خياله فيُحكم التشبيه ويجيد الاستعارة ويعرض على الأنظار صورًا شتى تُمثِّل خساسة المهجو في نفسه وأهله وعشيرته، من غير أن يزعه دين أو يردعه حياء. وهجاؤه لغير جرير أقل إقذاعًا، وأكثر ما قاله في الهجاء موجَّه لجرير؛ لأنه قضى أكثر حياته في مناضلته، فجُمع من أهاجيهما كتاب كبير سُمي بنقائض جرير والفرزدق. وبراعة الفرزدق في هذا الباب وإحسانه — إن صحَّ أن يُسمَّى إحسانًا — ومقدرته مجموعة في النقائض، فتراه يَصِم جريرًا بالخسة والدناءة وأنه راعٍ للغنم، ويَنال من أمه ويشتم أباه، وأن جريرًا على حقارة بيته دَعِيٌّ يسرق من شِعر الفرزدق، وأن أمه فاجرة وأنه مَهتوك العِرض، ويدعوه: بابن المراغة، وأن بني كليب لُؤَماء ونساءهم قبيحات فواجر، وهم من رجال ونساء كالظربى والجعلان، وأن جريرًا جَنى على قومه أعظم جناية لأنه هاج الفرزدق عليهم وعجز عن حمايتهم. وقد يَختلِق مواقف لجرير وأمه، كأن يشكو جريرٌ لأمِّه عجزه عن مصاولة الفرزدق، فتقرعه أمه على تعرُّضه له؛ لأن بني كليب لُؤَماء لا يجد فيهم ما يفتخر به. ويُعيِّر جريرًا بالحمير وأن قومه يتخذونها بدل الخيل، وأنهم غير فرسان بل أصحاب حمير ومعزى، وربما نال من عشيرة جرير أكثر مما يَنال من جرير نفسه؛ فيَذكُر مثالبها ومخازيها والأيام التي كانت عليها في الجاهلية والإسلام. وجميعُ أهاجيه مملوءة بالفخر بنفسه وعشيرته، وقد يكون الفخر في القصيدة أكثر من الهجاء، فما كان جرير لئيمًا إلا كان الفرزدق كريمًا، وما ذلَّت بنو كليب إلا عزَّتْ بنو مجاشع، وهكذا دواليك في المقابلة بين الأضداد. والأمثلة على ما نقول في هجائه كثيرة جدًّا، منها قوله يهجو الطرمَّاح بن حكيم الطائي:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله: