مدحه
مدْح الفرزدق كثير، ويكاد يكون كلُّه في سبيل
الاستجداء، وهو نفسه لا يرى غضاضة في التصريح بذلك، فقد
يَذكر خلته وخصاصته في قصائده التي مدح بها خلفاء بني
أمية، ولا سيما ما قاله في آخر عمره؛ فإنَّ فيه ما هو
أشبه بذلِّ المسألة لا يأتلف مع تيهِهِ وتعاظُمه، ولا
يكاد الإنسان يصدق أن من قال في أول عمره لمعاوية بن
أبي سفيان:
وكم مِن أبٍ لي يا معاويَ لم
يزلْ
أغرَّ يُباري الريح ما ازورَّ
جانبُه
نمته فروع المالِكين ولم يكن
أبوك الذي مِن عبد شمس يقاربه
يقول في آخر عمره لهشام بن عبد الملك:
ومِن أين أخشى الفقر بعد الذي
الْتقى
بكفَّيكَ مِن معروف ما أنا
طالبُه؟
فإن ذَنوبًا من سِجالك مالئٌ
حِياضي فأفرغ لي ذَنوبًا أنا
هبُه
ويقول للوليد بن عبد الملك:
شَكونا إليك الجهد في السنَة
التي
أقامت على أموالِنا آفة
المحلِ
فلم يبقَ مِن مال يَسومُ
لأهله
ولا مَرتعٌ في حزن أرض ولا
سهل
وفي مدح الفرزدق
غلو ومبالغة؛ لأنه اتخذه عملًا يعيش من ورائه. مرَّ
عمران بن حطَّان على الفرزدق وهو يُنشد والناس حوله،
فوقف عليه ثم قال:
أيها المادحُ العبادَ ليُعطى
إن لله ما بأيدي العبادِ
فاسألِ الله ما طلبتَ إليهم
وارجُ فضل المُقسِّم العوادِ
لا تَقُل في الجواد ما ليس
فيه
وتُسمِّ البخيل باسمِ
الجَوادِ
فقال الفرزدق: لولا أن الله عز وجل شغل عنا هذا برأيه
للقينا منه شرًّا.
ومدحُ الفرزدق لخلفاء بني أمية فيه براعة ومقدرة،
يظهر عليه الطابع السياسي جليًّا واضحًا أكثر من كل ما
مدَحهم به الشعراء حتى أخصَّ أنصارهم، كالأخطل وجرير
وعدي بن الرقاع؛ فهو داعية لهم ولسياستهم، يُجاهر بأنهم
أجدر العرب بالمُلك، وأن حقهم في الخلافة لا يختلف فيه
اثنان، وأن الله اختارهم لخلافته؛ فهم الهادون
المهديُّون، يضربون بسيف رسول الله، وأن أعداءهم
كأعدائه يوم بدر، وأنهم ورثوا الخلافة عن عُثمان الذي
أخذها بحكم الشورى، وأن الوحي يكاد يَنزل عليهم، وأن
الشرف والكرم في عبد شمس وهاشم في الجاهلية والإسلام،
من ذلك قوله:
وجَدْنا بني مروان أوتادَ
دينِنا
كما الأرضُ أوتادٌ عليها
جبالُها
فأنتم لهذا الدين كالقِبلة
التي
بها إنَّ يضلَّ الناس يُهدى
ضلالُها
وقوله في يَزيد بن عبد الملك:
وما وجد الإسلام بعد محمد
وأصحابه للدِّين مثلك راعيًا
ضربت بسيف كان لاقى محمدٌ
به أهل بدرٍ عاقِدين النواصيا
سعى الناس مذ سبعين عامًا
ليَقلعوا
بآل أبي العاص الجبال
الرواسيا
فما وجدوا للحقِّ أقربَ
مِنهمُ
ولا مثل وادي آل مروان واديًا
وقوله في يزيد أيضًا:
لو لم يُبشِّر به عيسى
وبيَّنه
كنتَ النبيَّ الذي يدعو إلى
النورِ
فأنت إذ لم تَكُن إياه صاحبه
مع الشهيدَين والصدِّيق في
السُّورِ
في غُرفِ الجنة العليا التي
جُعلت
لهم هناك بسَعيٍ كان مَشكورِ
صلى صهيبُ ثلاثًا ثم أنزَلها
على ابن عفَّان ملكًا غير
مَقصورِ
وصيةً من أبي حفص لستَّتِهم
كانوا أحبَّاء مهديٍّ ومأمورِ
مُهاجِرين رأوا عُثمان
أقربَهم
إذ بايَعُوه لها والبيتِ
والطُّورِ
فلن تزال لكم واللهُ أثبتها
فيكم إلى نَفخة الرحمن في
الصُّورِ
وقوله في عبد الملك بن مروان:
إذا أتيتَ أمير المؤمنين
فقُلْ
بالنُّصحِ والعِلم قولًا غير
مَكذوبِ
أما العراقُ فقد أعطَتكَ
طاعتها
وعادَ يَعمُرُ منها كلُّ
تخريب
فالأرض لله ولَّاها خليفتَه
وصاحبُ الله فيها غير مَغلوبِ
بعد الفساد الذي قد كان قام
به
كذاب مكة مِن مكرٍ وتخريبِ
راموا الخلافة في غَدرٍ
فأخطأهم
منها صدور وفازوا بالعَراقيبِ
والناسُ في فِتنةٍ عمياءَ قد
ترَكَت
أشرافُهم بين مَقتولٍ
ومَحرُوبِ
دعوا ليَستَخلِفَ الرحمنُ
خَيرَهمُ
والله يَسمعُ دعوى كل مكروبِ
فانقضَّ مثل عتيق الطير
تَتبعُه
مساعرُ الحرب مِن مُردٍ ومِن
شيبِ
وقد رأى مُصعبٌ في ساطع سبطٍ
منها سوابق غارات أطانيبِ
فأصبح الله ولَّى الأمرَ
خيرَهمُ
بعد اختلافٍ وصدعٍ غيرِ
مَشعُوبِ
تراث عُثمان كانوا الأولياء
له
سربال ملك عليهم غير مَسلُوبِ
وقوله في الوليد بن عبد الملك:
وما زلت أرجو آل مَروان أن
أرى
لهم دولةً والدهر جمٌّ
دوائرُه
لدن قُتل المظلوم أن يَطلبوا
به
ومولى دمِ المظلوم منهم
وثائرُه
وما لهم لا يُنصَرونَ ومنهم
خليل النبي المصطفى ومُهاجرُه
ملوك لهم ميراثُ كل مشورة
وبالله طاوي الأمر منهم
وناشرُه
وكان يلقِّب سليمان بن عبد الملك بالمهدي، قال من
قصيدة يمدحه بها:
ألا تَشكُرونَ الله إذ فكَّ عنكُمُ
أداهَم بالمهدي صُمًّا ثِقالها
وقال:
وما قام مذ ماتَ النبيُّ محمد
وعثمانُ فوق الأرض راعٍ
يُعادلُه
فأصبح صلبُ الدين بعد
الْتوائِه
على الناس بالمهديِّ قُوِّم
مائله
وقال في معاوية بن هشام:
ورثوا تراث محمد كانوا به
أَولى وكان لهم من الأقسام
وقال في هشام بن عبد الملك:
ولو أُرسل الرُّوح الأمين إلى
امرئٍ
سوى الأنبياء المصطفَين
الأكارمِ
إذًا لأتَت كفَّي هشامٍ
رسالةٌ
من الله فيها مُنزلات
العَواصِمِ
وقال في سليمان بن عبد الملك:
كُنا نُنادي اللهَ نسأله
في الصبح والأسحار والعصرِ
أن لا يُميتَكَ أو تكون لنا
أنتَ الإمام وواليَ الأمرِ
فأجاب دعوتنا وأنقذنا
بخلافة المهديِّ من ضرِّ
وقال في الوليد بن عبد الملك:
قضيتَ قضاءً في الخلافة
ثابتًا
مبينًا فقد أسمعتَ مَن كان ذا
عقلِ
فمَن ذا الذي يرجو الخلافة
منهم
وقد قمتَ فيهم بالبيان
وبالفَصلِ؟!
وبيَّنتَ أن لا حق فيها
لخاذِلٍ
تربَّص في شكٍّ وأشفق من
مثُلِ
وقال فيه:
إذا ما رحى زالت بقومٍ
ضربتَها
على الدِّين حتى يَستقيم
ثِفالها
بسيفٍ به لاقى بِبَدرٍ محمدٌ
بني النضر في بيضٍ حديثٍ
صقالُها
رأيتُ بني مروان إذ جدَّ جدهم
علا كلَّ ضوءٍ في السماء
هلالُها
أرى الحق قاد الناس من كلِّ
جانبٍ
إليكم من الآفاق تَلقى رحالها
رأيتُ بني مروان أفلجَ حقُّهم
مشورة عثمانِ الشديد مِحالها
وقال:
هل تعلمون بني أميَّة قاتَلوا
إلا بسيف نبوَّةٍ لم
يُفلَلِ؟!
ولقد مدح ستة من خلفاء بني أمية، هم: عبد الملك بن
مروان، وأولاده الأربعة: الوليد، وسليمان، ويزيد،
وهشامًا، وابن أخيه عمر بن عبد العزيز، ولكنه لم يَفِد
على خليفة مادحًا قبل سليمان بن عبد الملك. ويزعم بعد
ذلك بعض من ترجم للفرزدق أنه كان يتشيَّع.
وإذا مدَح أمراءهم وعمالهم قال إنهم جبال الأرض
لولاهم لزُلزلت، ولطَغى بعضُ الناس على بعض، وهم سيوف
الله سلَّها على أعدائه. والفرزدق سمح جواد بألقاب
المدح وصفات التَّقريظ، ولكنه حاذِقٌ نافذ البصر،
يُمدَح الرجل بما يليق أن يُمدح به، وينظر إلى خصائصه
فيُضفي عليها ثوبًا من المبالغة؛ كقوله في
الحجَّاج:
أمير المؤمنين وقد بَلَونا
أمورَكَ كلَّها رشدًا صوابًا
تعلم أنَّما الحجاج سيف
تَحزُّ به الجماجم والرقابا
هو السيف الذي نصَرَ ابنَ
أروى
به مروان عُثمان المصابا
إذا ذكرَت عيونُهم ابنَ أروى
ويوم الدار أسهلَتِ انسكابًا
عشيةَ يَدخلون بغير إذن
على مُتوكِّلٍ وفَّى وطابا
رأيتُ الناس قد خافُوكَ حتى
خشوا بيدَيكَ أو فرَقُوا
الحسابا
ومدحُ الفرزدق في جملته من أبواب شِعره الجيدة، ومن
أحسنه قوله:
إني رأيتُ يَزيدَ عند شبابه
لبس التُّقى ومهابة الجبَّارِ
وإذا الرجال رأوا يزيدَ
رأيتَهم
خُضْعَ الرِّقاب نواكسَ
الأبصارِ
وقوله:
أغرٌّ كأنَّ البدر فوق جبينه
متى تَرَهُ البيضُ الدهاقين
تَسجدِ
وقوله:
ترى الشُّمَّ الجحاجح من قريش
إذا ما الأمر في الحدثان عالا
قيامًا يَنظرون إلى سعيدٍ
كأنهمُ يَرون به هلالًا