وصفه
الفرزدق واسع
المخيلة حسن الملاحظة جيد القصص، وهذه المزايا أهم
عناصر الوصف في الشاعر. قد تكون قصائده المَصروفة للوصف
قليلة؛ لأنَّ وحدة المَوضوع في القصائد العربية لعهد
الفرزدق لا تكاد توجد، ولكن خاصة الوصف شائعة في شعره،
فهو إذا افتخر أو هجا أو مدح تراه يصطنع صورًا جميلة
على سبيل الاستطراد والتفريع، ولقد تناول بشيء من
البَسط وصف الجيش والسفن والذئب والنعسان والإبل
والبادية وهكذا، فهو يتناول وصف المرئيات أكثر من
المعنويات، وهو أيضًا أميَل إلى الأسلوب القصصي في
الوصف، وخاصة القصص، تظهر أوضح في غزله، وسيأتي الكلام
عليها في فصلٍ خاص. ولو توسَّع فيما كان يتناوله من
المعاني على سبيل الاستطراد أو الإلمام أو التشبيه أو
التمثيل أو الإشارة، لو توسَّع أو خصَّصَ لخلَّف للأدب
العربي صورًا من أروع الصور الشعرية. ومهما يَكُن فإن
خاصة الوصف قوية في نفس الفرزدق، قال يصف جيشًا:
وجيش رَبعناه كأن زُهاءَه
شماريخ طودٍ مُشمخرٍّ
مَخارمُه
كثير الحصى جمُّ الوغى بالغ
العِدى
يُصمُّ السميعَ رِزُّه
وهَماهمُه
لهامٍ تظلُّ الطير تُؤخذ وسطه
تُقاد إلى أرض العدوِّ سواهمه
مطونًا به حتى كأنَّ جياده
نوًى خَلقتْه بالضُّروسِ
عَواجمُه
قبائله شتَّى ويَجمع بينَنا
من الأمر ما تَلقى إليه
خزائمُه
إذا ما غدا من مَنزلٍ سهَّلَت
له
سنابكه صمَّ الصوى ومناسِمُه
إذا ورَدَ الماء الرواءَ
تظامأَتْ
أوائلُه حتى يُماح عيالمُه
دهمنا بهم بكرًا فأصبحَ
سَبيُهم
تُقَسَّمُ بالأنهابِ فينا
مَغانمُه
غزونا به أرض العدو وموَّلت
صعاليكُنا أنفالَه ومَقاسمه
وقال يصف سفينة:
وراحلةٍ قد عوَّدوني ركوبها
وما كنت ركَّابًا لها حين
تَرحلُ
قوائمها أيدي الرجال إذا
انتَحتْ
وتَحمل مَن فيها قعودًا
وتُحملُ
إذا ما تلقَّتْها الأواذيُّ
شقَّها
لها جؤجؤ لا يَستريحُ وكَلكلُ
إذا رفعوا فيها الشِّراع
كأنها
قلوص نعامٍ أو ظليمٌ شمردَلُ
وقال يُهدِّد جريرًا بشجة هذه صفتها:
ولولا حياءٌ زدتُ رأسك هَزمةً
١
إذا سُبرتْ ظلت جوانبُها
تَغلي
بعيدةُ أطراف الصدوع كأنها
ركية لقمان الشبيهة بالدحلِ
٢
إذا نظر الآسون فيها تقلَّبَت
حماليقُهم من هول أنيابها
الثُّعلُ
إذا ما رأتها الشمس ظلَّ
طبيبُها
كمَن مات حتى الليل مُختلس
العَقلِ
يودُّ لك الأَدنَون لو متَّ
قبلَها
يَرونَ بها شرًّا عليكَ مِن
القَتلِ
ترى في نواحيها الفراخ كأنما
جثَمْنَ حوالي أم أربعةٍ طُحل
٣
شر نبثةٌ شمطاء من يرَ ما بها
تشبه ولو بين الخماسيِّ والطفل
٤
إذا ما سقَوها السمنَ أقبلَ
وجُهَها
بعَيني عَجوز من عرينة أو
عُكلِ
جُنادِفةٌ سجراءُ تأخُذُ
عينها
إذا اكتحلَتْ نصف القفيز من الكحل
٥
وقال يصف البادية والقطا والناقة:
وبيداء تغتال المطيَّ قطعتها
بركَّاب هول ليس بالعاجز
الوغلِ
إذا الأرض سدتها الهواجرُ
وارتدت
مُلاءَ سمومٍ لم يُسدَّين
بالغزلِ
وكان الذي يبدو لنا مِن
سَرابها
فضول سُيول البحر من مائه
الضحل
ويدعو القَطا فيها القطا
فيُجيبَه
توائم أطفالٍ من السبسَبِ
المَحلِ
دوارج أخلفن الشكير
٦ كأَّنما
جرى في مآقيها مراودُ من كحل
يُسقَّين بالموماة زُغبًا
نواهضًا
بقايا نطافٍ في حواصلها تغلي
تمجُّ أداوى في أداوى بها
استقت
كما استفرغ الساقي من السَّجلِ
بالسَّجلِ
وقد أقطع الخرق البَعيد نياطه
بمائرة الضبعين وجناء كالهقل
تزيَّدُ في فضل الزمام
كأنَّها
تُحاذِرُ وقعًا من زنابير أو
نَحلِ
كأن يدَيها في مراتب سُلَّم
إذا غاولت أوب الذراعَين
بالرِّجلِ
تأوَّهُ من طول الكلال وتشتكي
تأوُّهَ مفجوعٍ بثكلٍ على
ثُكلِ
وقال في أسد:
وردُ السَّراة ترى سودًا
ملاغمه
مجاهر القرن لا يَكتنُّ
بالخَمرِ
كأن عينَيه والظلماءُ مسدفةٌ
على فريسته نارانِ في حجرِ
كأن عطَّارةً باتت تعلُّ له
بالزعفران ذراعَي مخدر هَصرِ
وقال يُشبه حسناء بدرَّة هذه صفتها:
كدرَّة غوَّاصٍ رمى في مهيبة
بأجرامِه والنفسُ يُخشى ضميرُها
٧
موكلةً بالدر خرساء قد بَكى
إليه من الغُوَّاص منها نذيرُها
٨
فقال أُلاقي الموت أو أُدرِكُ
الغنى
لنفسيَ والآجال جاءٍ دهورها
ولما رأى ما دونها خاطرَت به
على الموت نفسٌ لا يَنام
فقيرُها
فأهوى وناباها حوالَي يتيمةٍ
هي الموت أو دُنيا يُنادي
بشيرها
فألقَت بكفَّيه المنيَّة إذ
دَنا
بعضَّة أنيابٍ سريعٍ سئورها
فحرَّك أعلى حبله بحُشاشةٍ
ومن فوقه خضراءُ طامٍ بحورها
فما جاء حتى مجَّ والماء
دُونه
من النفس ألوانًا عبيطًا
نحيرها
إذا ما أرادوا أن يُحيرَ
مدوفةً
أبى من تقضِّي نفسُه لا يُحيرها
٩
فلما أروها أمَّه هان وجدُها
رجاءَ الغنى لما أضاء
مُنيرُها
وظلَّت تغالاها التِّجار ولا
ترى
لها سيمةً إلا قليلًا كثيرها
وقال في قتيلين:
لعمري قد سلَّتْ حنيفة سلةً
سيوفًا أبَت يوم الوغى أن
تُعيَّرا
جعلن لمسعود وزينب أُخته
رداءً وجلبابًا من الموت
أحمرا
وقال في الشيب:
تفاريق شيب في السواد لوامعٌ
وما خير ليل ليس فيه نجومُ
انظر أيضًا وصفه حمار الوحش: «أو اخدري فلاة …»
(ديوان الفرزدق، طبعة الصاوي، ص٧٤٦)، ووصف فقيرة بائسة:
«وسوداء في أهدام …» (الديوان، ص٦١٩)، وتصويره النيل
والفرات زاخرَين: «ما النيل يضرب بالعبرين …» (ص٢٨٨)،
ووصف الذئب: «وأطلس عسَّالٍ …» (ص٨٧٠).