غزل الفرزدق على ما فيه من جفاء وفجاجة أصدق ما قال
من الشعر؛ فهو الذي يكشف الغطاء عن طبع الفرزدق الجافي،
ونفسه الماجنة الشرهة إلى اللذة. وهو غزلٌ شهواني غير
عفيف، فيه فجور ومجون وتعهُّر، وعاطفة الفرزدق فيه
خَشِنة، وأمانيه في هواه كذلك، وتعبيره عن أحاسيسه
يحتاج كثيرًا من العذوبة والسلاسة، وهو نفسه يُدرك هذه
الحاجة ولا يُنكرها، سمع مرة قينةً تغني بشعر جرير،
فقال: «ويل ابن المراغة، ما كان أحوجَه مع عفافِه إلى
صلابة شعري، وأحوجَني مع شهواتي إلى رقة شعره!» وأيُّ
شاهد أدل على جفاء طبعه في الغزل من قوله:
ونظره إلى المرأة لا يُشبه نظر الشعراء الغزليِّين،
قال:
قال الجاحظ: «وهذا الفرزدق وكان مُستهتِرًا بالنساء،
وكان زيرَ غوانٍ، وهو في ذلك ليس له بيت واحد في
النَّسيب مذكور.»
وكان يعجبه أسلوب عمر بن أبي ربيعة القصصي في الغزل،
سمع مرة شعره فقال: «هذا الذي كانت الشعراء تطلبُه
فأخطأته وبكت الديار ووقع عليه هذا.» وللفرزدق غزل
يقصُّ فيه حوادثه الغرامية، وقد يصف الحوار الذي يدور
بين أشخاص تلك الحوادث، ولا سيما النساء، ولكن لم
تُواتِه الرقَّة التي واتَت ابن أبي ربيعة، فقصصه
الغزلي أشبه بالقصص الغزلي المروي لامرئ القيس.
نعم، إنَّ خاصة الوصف قوية عند الفرزدق، ولكن وصف
الحوادث الغرامية يَستدعي طبعًا رقيقًا ولغة سهلة
ونفسًا غَزِلة، كما تجد ذلك في شعر ابن أبي ربيعة
ووضَّاح اليمن، أما الفرزدق وطبعه ورأيه في المرأة
وجزالة لغتِه على ما علمت فلا تتوقَّع أن يشيع غزله في
النفس، أو يعذب قصصه الغرامي في الذوق، وهاك مثلًا على
قصصه الغزلي على ما في بعضه من تعهُّر وفجور،
قال:
وَجونٍ عليه الجصُّ فيه
مريضةٌ
تطلَّع منه النفس والموت
حاضرُه
حليلةُ ذي ألفَينِ شيخ يَرى
لها
كثيرَ الذي يُعطي قليلًا
يُحاقرُه
أتيتُ لها من مختلٍ كنتُ
أدَّري
به الوحش ما تُخشي عليَّ
عواثِرُه
فما زلتُ حتى أصعَدَتني
حبالها
إليها وليلي قد تخامَصَ آخرُه
فلما اجتمعنا في العلاليِّ
بيننا
ذكيٌّ أتى من أهل دارين
تاجرُه
نقعتُ غليل النفسِ إلا لبانةً
أبت من فؤادي لم تَرُمها
ضمائرُه
فلم أرَ منزولا به بعد هجعة
ألذَّ قِرًى لولا الذي أنا
حاذِرُه
أحاذرُ بوَّابين قد وكَّلا
بها
وأسمر من ساجٍ تئطُّ مسامِرُه
فقلت لها كيف النُّزولُ فإنني
أرى الليل قد ولَّى وصوَّت
طائرُه؟
فقالت أقاليد الرتاجين عنده
وطهمانُ بالأبواب كيف تُساوره
أبالسيف أم كيف التسنِّي
لمُوثَقٍ
عليه رقيب دائب الليل ساهرُه؟
فقلت ابتغي من غير ذاك
مِحالةً
وللأمر هيئاتٌ تُصاب مصادره
لعل الذي أصعدتني أن يردَّني
إلى الأرض إن لم يَقدر الحين
قادره
فجاءت بأسبابٍ طوالٍ وأشرَفَت
قسيمة ذي زور مَخوف تراترُه
أخذتُ بأطراف الحبال وإنما
على الله من عوص الأمور
مَياسِرُه
فقلتُ اقعدا إنَّ القيام
مزلةٌ
وشدَّا معًا بالحبل إني
مُخاطرُه
إذا قلتُ قد نلتُ البلاط
تذبذَبَت
حباليَ في نبقٍ مخوفٍ
مَخاصرُه
منيف ترى العقبانَ تَقصر دونه
ودون كُبَيدات السماء مناظرُه
فلما استوت رجلاي في الأرض
نادتا
أحيٌّ يرجَّى أم قتيل
نُحاذِرُه؟!
فقلتُ ارفعا الأسباب لا يَشعروا
بنا
ووليتُ في أعجاز ليلٍ
أُبادِرُه
هما دلتاني من ثمانين قامةً
كما انقضَّ باز أقتم الريش
كاسرُه
فأصبحت في القوم الجلوس
وأصبحَت
مغلقةً دوني عليها دساكِرُه
وباتت كَدَوْدَاةِ الجواري
وبعلُها
كثيرٌ دواعي بطنه وقراقرُه
ويحسبها باتت حَصانًا وقد
جرَت
لنا بُرتاها بالذي أنا شاكرُه
فيا ربِّ إن تَغفِر لنا ليلة
النقا
فكل ذنوبي أنتَ يا ربِّ
غافِرُه
وبيضٍ كآرام الصَّريم
ادَّريتُها
بعَيني وقد غار السِّماك
وأسحرا
وسود الذُّرى بيض الوجوه
كأنَّها
دُمى هكر يَنضحْنَ مسكًا
وعَنبرا
تَراخى بهنَّ الليل يَتبعْنَ
فاركًا
يُضيء سَناها سابريًّا
مُزعفَرًا
وقلنَ لها يا هند لا تَبعُدي
بنا
فإنا نخاف الليل أن يَتقفَّرا
علينا ونخشى الناس أن يَشعُروا
بنا
فيُصبِح ما نخشى علينا
مُشَنَّرا
فجئتُ مِن الجنب الجحيش وقد
أرى
مخافة من يأتي الرَّباب
وشعفرًا
فعاطينَنا الأفواه حتى كأنما
شربنا بِراحٍ من أباريق
تُستَرا
فلم أدرِ ما برداي حتى إذا
انجَلى
سواد الدجى عن واضح اللون
أشقَرا
تنعَّلنَ أطراف الرياط
وواءلتْ
مخافة سهل الأرض أن يَتقفَّرا
وقلت لهنَّ احذَونَنا
فحذَونَنا
شباريق ريطٍ أو رداءً
مُحبَّرا
فلم أرَ قومًا يحتذون نعالنا
ولا مجلسًا أحلى حديثًا
وأنضرا
من المجلس المُستأنِسِين
كأنهم
لدى حرمل البطحاء جِنَّانُ
عبقرا
نُبِّئتُ عند الشيخ مُهرًا
يَبيعُه
من آل الحرون لم تُقطَع
أباجلُه
فلما أتيتُ الشيخ يَرجُف رأسه
وترعد من بعد المشيب مفاصله
قرأتُ عليه سورة الكهف واقفًا
ليأخذ فيه الحلم والجهل شامله
وأطرقت إطراق الشُّجاع وشمرتْ
عن الساق تشميرًا رقيقًا
ذلاذله
فما زلت حتى قال هل أنت نازل؟
فإنك ممن لا تُخاف غوائلُه!
فلما انبرت للغيِّ والشيخُ
غافل
من الخدر تُخفي شخصها وتضائله
فقلت أبرقٌ لاح في مدلهمةٍ
من الليل أم رئمٌ لطيف
أنامِلُه؟
فبتُّ لها في مرصد كنتُ
أدَّري
به الوحش لا تُخشى عليَّ
غوائلُه
يا أخت ناجية بن سامة إنني
أخشى عليكِ بنيَّ إن طلبوا
دمي
لو كنتِ في كبد السماء
فحاولتْ
كفَّاي مطَّلعًا إليك بسلَّمِ
هل تَذكُرين إذا الركاب
مناخةٌ
برحالها لرواح أهل الموسم؟!
إذ نحن نُخبر بالحواجب بيننا
ما في النفوس ونحن لم
نَتكلَّمِ
ولقد رأيتكِ في المنام
ضَجيعتي
ولثمتُ من شفتيكِ أطيب ملثمِ
بكت ناقتي ليلًا فهاج بكاؤها
فؤادًا إلى أهل الوديعة أصورا
وحنَّتْ حنينًا منكر اهيجَّتْ
به
على ذي هوًى من شوقه ما
تنكَّرا
فبتنا قعودًا بين ملتزم الهوى
وناهي جُمان العين أن
يتحدَّرا
تروم على نُعمان في الفجر
ناقتي
وإن هي حنَّتْ كنتُ بالشوق
أعذرا