رثاؤه
رثاء الفرزدق قليل لقلة الجدوى منه، وهو إذا قيس
ببقية أبواب شعره يقع مقصرًا عنها لصلابة عاطفة
الفرزدق. وما قاله في هذا الباب عن اضطرار أو خوف ينمُّ
عن قوة ومقدرة، كرثائه للحجاج وأخيه وابنه، وما قاله
غير مُضطرٍّ الْتَوى عليه بعضه، فجاء صلبًا كزًّا؛
كقوله في موت زوجه حدراء:
يقولون زُرْ حدراء والترب
دونها
وكيف بشيء وصلُه قد تقطَّعا
ولستُ وإن عزَّتْ عليَّ
بزائرٍ
ترابًا على مَرموسة قد
تَضعْضَعا
وأهونُ مفقود إذا الموت ناله
على المرء من أصحابه مَن
تقنَّعا
ومناقضة الفرزدق لجرير في رثاء زوجه دليل على الفرق
ما بين نظريهما إلى المرأة، والبُعد ما بين طبعيهما،
قال جرير يرثي امرأته:
ولقد نظرتُ وما تمتُّع نظرةٍ
في اللحد حيث تمكَّن المحفارُ
ولقد أراكِ كُسيتِ أجمل
مَنظرٍ
ومع الجمال سكينةٌ ووقارُ
فقال الفرزدق:
تبكي على امرأةٍ وعندَكَ
مثلها
قعساء ليس لها عليك خمارُ؟
إنَّ الزيارة في الحياة ولا
أرى
ميتًا إذا دخل القبور يُزارُ
ولقد هممتَ بسوءةٍ وفعلتَها
في اللحد حيثُ تمكَّن
المحفارُ
ورثَيتَها وفضَحتها في قبرها
ما مثل ذلك تفعل الأخيار
ويدل على تخلفه في
هذا الباب أنه لما ماتت زوجه النُّوار وكان يحبها لم
يُفتَح عليه بما يصح أن يُناح به عليها، فناح عليها
النائحات بقصيدة جرير التي رَثى بها امرأته. على أن له
في رثاء بعض بنيه شعرًا يدلُّ على أن الشجى خالط نفسه
وألانَ عاطفته، فنفَثَ حرقة صادقة تشجي السامع؛
كقوله:
بنيَّ أصابهم قدر المنايا
فهل منهنَّ مِن أحدٍ مُجيري
ولو كانوا بَني جبل فماتوا
لأصبح وهو مُختشِع الصُّخور
إذا حنَّتْ نُوار تهيج مني
حرارة مثل مُلتهِب السعير
حنين الوالهين إذا ذكرنا
فؤادَينا اللذَين مع القبور
وقوله:
يُذكِّرني ابنيَّ السماكانِ
موهنًا
إذا ارتفعا بين النجوم
التوائمِ
وقوله:
إذا ذُكرَتْ أسماؤهم أو دُعوا
بها
تكاد حيازيمي تَفرَّى صلابُها
إذا ذَكرَتْ عيني الذين هم
لها
قذًى هِيجَ منها للبكاء
انسكابُها
هجرنا بيوتًا أن تُزار وأهلها
عزيزٌ علينا يا نُوارُ
اجتنابها
وما زلت أرمي الحرب حتى
تركتها
كسيرَ الجناح ما تدفُّ عقابها
ولكن هذا النوع في رثائه غير كثير.
ويُستحسن قوله:
فلو أن ميتًا لا يموتُ لعزة
على قومه ما ماتَ صاحب ذا
القبر