مقدمة
في ذكر هذا الوطن وما قاله في شأن تمدينه أرباب الفطن
قد تَحَقَّقَ في مصر اسمها بالمعنى المتعارف أكثر من غيرها؛ لمصير الناس إليها واجتماعهم فيها لمنافعهم ومكاسبهم، وما ذاك إلا لحسن موقعها العجيب الذي أَسْرَعَ في اتساع دائرة تَقَدُّمِهَا في التأنس الإنساني والعمران، وإحرازها أعلى درجة التمدن من قديم الزمان وعلى مَرِّ العصور وكَرِّ الدهور، انصَقَلَتْ في مرآة جوهرها صور أخلاق الخلائق، وتَهَذَّبَتْ طباعهم على التدريج وتشبَّثوا بثمرات العلوم والمعارف ووقفوا على الحقائق، وبمخالطة غيرهم من الأمم ذاقوا حلاوة الأخذ والعطاء وكثرة العلائق، وكما تَمَدْيَنُوا بصنائع العمران تَدَيَّنُوا بما اتخذوه من الأديان، وكان يُعْرَف خواصهم وحكماؤهم في الباطن بوحدة الملك الديان.
فتَحَقَّقَ فيهم من الأحقاب القديمة الواسطتان المقوِّمتان إذ ذاك لكمال التمدين والعمران: «إحداهما» تهذيب الأخلاق بالآداب الدينية والفضائل الإنسانية التي هي لسلوك الإنسان في نفسه ومع غيره مادة تحفظية تَصُونُه عن الأدناس وتُطَهِّرُه من الأرجاس؛ لأن الدين يَصْرِف النفوس عن شهواتها ويَعْطِف القلوب على إراداتها حتى يَصِير قاهرًا للسرائر زاجرًا للضمائر رقيبًا على النفوس في خلواتها، نَصوحًا لها في جَلَوَاتها، فبهذا المعنى كان الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وهو زمام للإنسان؛ لأنه مِلاك العدل والإحسان، فالدين الصحيح هو الذي عليه مدار العمل في التعديل والتجريح، فحقيق على العاقل أن يكون به متمسكًا ومحافظًا عليه ومتنسِّكًا، فأدب الشريعة ما أدى الفرض، وأدب السياسة ما عَمَّر الأرض، وكلاهما يَرْجِع إلى العدل الذي به سلامة السلطان وعمارة البلدان؛ لأن مَنْ تَرَكَ الفَرْضَ فقد ظَلَم نَفْسه، ومن خَرَّبَ الأرض فقد ظَلَمَ غيره وأَظْلَمَ بالإساءة أمْسه.
«والواسطة الثانية» هي المنافع العمومية التي تعود بالثروة والغنى وتحسين الحال وتنعيم البال على عموم الجمعية وتُبْعِدُها عن الحالة الأولية الطبيعية، فإنَّ نُور التمدن الجامع لهاتين الوسيلتين تذوق به العباد طَعْم السعادة، ويُعَدُّ تمدنًا عموميًّا، وأما إذا كان في البلد تقدمات جزئية في أشياء خصوصية كالبراعة في الفلاحة فلا يُعَدُّ هذا التمدن إلا مَحَلِّيًّا؛ ولذلك نرى كثيرًا من الممالك والأمصار امتاز أهْلُها بمزايا خصوصية، وبرعوا فيها بحيث لا تَصِل إلى اصطناعها الممالك المتمدنة، ومع ذلك فلا تُعَدُّ في باب التمدن مِثْلَ غيرها مُتَمَكِّنَة، وأيضًا الفنون الموجبة لِتَقَدُّم التمدن مختلفة قوة وضَعْفًا فيه؛ ففَنُّ الملاحة مثلًا أقوى في إنتاج التمدن من الفلاحة، ونَفْعُه أَعَمُّ منها في توسيع دائرة العمران عند عارِفِيه.
وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن الله تعالى لَمْ يَجْمَعْ منافع الدنيا في أرض، بل فَرَّقَهَا وأَحْوَجَ بعضها إلى بعض، فلا تُكْتَسَبُ إلا بالأسفار، وَجَوْب مَفَاوِز البراري والبحار، فالمسافر يَجْمَع العجائب ويَكْسِب التجارب ويَجْلِب المكاسب، فالمملكة التي سَخَّر الله لها الجمع بين صنعتي الملاحة والفلاحة كالديار المصرية لقابلية انتظامها مُحْرِزة لوسائط التمدن على وَجْهٍ أَكْمَل، بشرط زوال الموانع والعوائق التي لا تخلو منها مَمْلكة في إدراك مَرَامِها، كما أشار إلى ذلك نابليون الأول مَلِك فرنسا بقوله: «إن فرنسا تُسارِع دائمًا في أسباب التمدن وتَحْصُل منه على الكثير، إلا أن دولة الإنكليز تَعُوقُها عن تتميم بعض أغراضها، ولولا ذلك لَتَقَدَّمَتْ كل التقديم في حيازة جواهر المنافع وأعراضها» انتهى. فقد لا يستوفي كيفه الجوهر القائم بنفسه، ولكل شيء آفة من جنسه.
ويُفْهَم مما قلناه أن للتمدن أصلين: معنوي، وهو التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب؛ يعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قِوام الملة المتمدنة التي تُسَمَّى باسم دينها وجنسها لتتميز عن غيرها، فمن أراد أن يَقْطَعَ عن مِلَّةٍ تَدَيَّنَها بدينها أو يُعَارِضَها في حفظ مِلَّتِها المخفورة الذمة شرعًا فهو في الحقيقة مُعْتَرِض على مولاه فيما قضاه لها وأولاه، حيث قَضَتْ حِكْمَتُه الإلهية لها بالاتصاف بهذا الدين، فمن ذا الذي يجترئ أن يُعَانِده وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وحَسْبُنا في هذا المعنى قَوْل الكرار: «أما وقَد اتَّسَع نطاق الإسلام فكل امرئ وما يختار»، فبهذا كانت رُخْصة التمسك بالأديان المختلفة جارية عند كافة المِلَل، ولو خالف دين المملكة المقيمة بها، بشرط أن لا يعود منها على نظام المملكة أدنى خَلَل، كما هو مُقَرَّر في حقوق الدُّوَل والمِلَل، وما أحسن قول بعض الظرفاء:
وعلى ذِكْر زُرْق العيون يَحْسُن ذِكْر قول الشاعر — مع ما فيه من التورية:
«والقسم الثاني» تَمَدُّن مادِّي: وهو التقدم في المنافع العمومية كالزراعة والتجارة والصناعة، ويَخْتَلِف قُوَّة وضَعفًا باختلاف البلاد، ومداره على ممارسة العمل وصناعة اليد، وهو لازِم لتقدم العمران، ومع لزومه فإن أرباب الأخلاق والآداب يَخْشَوْن صَوْلة تَقَدُّم أهْل الفنون والصنائع، ويخافون ارتفاع مراتبهم بقوة مكاسبهم في المنافع، وأهْل الفلسفة والعلوم الحِكَمِيَّة النفيسة يعتقدون أن الصنائع من المهن والأمور الخسيسة، وأرباب الاقتصاد في الأموال والإدارة يبالغون في توسيع دائرة المنافع ووسائل العمارة، ويتغالَوْن بتكثيرها في دوائرهم لجباية فوائدهم منها وتيسيرها، ويباشرون جَمْع مُتَفَرِّقِها ونَظْم منثورها، ويَبْحَثون عن نشيد كل شاردة وتقييد كل آبدة؛ لأن مصلحتهم تقتضيها وحاكِمُ أغراضهم يَرْتَضِيها.
وإرادة التَّمَدُّن للوطن لا تنشأ إلا عن حُبِّه من أهل الفِطَن كما رَغَّب فيه الشارع، ففي الحديث: «حُبُّ الوطن من الإيمان»، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عَمَّر الله البلاد بِحُبِّ الأوطان، وقال علِيٌّ كَرَّم الله وجهه: سعادة المرء أن يكون رزقه في بلده، وقال بعض الحكماء: لولا حُبُّ الوطن لَمَا عُمِّرت البلاد الغير المُخْصِبة، وقال الأصمعي: دَخَلْتُ البادية فنَزَلْتُ على بعض الأعراب، فقُلْتُ له: أَفِدْنِي. فقال: إذا أَرَدْتَ أن تَعْرِف وفاء الرجل وحُسْنَ عَهْدِه ومكارم أخلاقه وطهارة مَوْلِدِه فانظر إلى حَنِينِه لأوطانه وشَوْقِه إلى إخوانه، قال الشاعر:
وقال آخَر:
وقال آخر:
والمراد ببنات الهوى بنَاتُ الدَّهْر؛ أي حَوَادِثُه، فالوطن محبوب والمنشأ مألوف حتى لغير المتمدن، بل يُقَالُ: إن البادي الجبلي يَتَعَلَّق بحبال جبال أوطانه، ويُعَلَّق بأذيال باديته، ولا يُعَلَّق الحاضر بمدينته وحاضرته، بحيث لا يَنْتَقل الجلف من باديته إلا للانتجاع في الفَلَوات ويَسْتَسْهِل خَرْط القتاد، ويَرَى عِزَّه في الصحاري التي أَلِفَ طَبْعُه سُكْنَى خيامها، وتَرَيَّضَ عقْلُهُ عليها واعتاد، كما يَدُلُّ لذلك ما حُكِيَ عن مَيْسُون بِنْت بَحْدَل أنها لما اتَّصَلَتْ بمعاوية رضي الله عنه ونَقَلَهَا من البدو إلى الشام كانت تُكْثِر الحنين على ناسها والتذكر بمسقط رأسِها، فسَمِعَها ذات يوم وهي تنشد:
فَلَمَّا سَمِعَ معاوية الأبيات قال: ما رَضِيَت ابنة بَحْدَل حتى جَعَلَتْنِي عِلْجًا من عُلُوج العَجَمِ. فالعربي كثير التعلق بباديته فلا يَتَمَدَّح إلا بها كما قال بعضهم:
والضال والسلم من أشجار البوادي ذوات الشوك، فأشار الشاعر بذلك إلى ما يَتَمَدَّح به العرب من سُكْنى البادية؛ لأن العز عندهم مفقودٌ في الحضر، فكان العظيم منهم بين الضال والسلم أشهر من نارٍ على عَلَمٍ، أو أنه من البُعْد عن الهضم والضيم شَمْس أو قمر بلا غَيْم بخلاف المتمدن؛ فإنه يُكْثِر التنقل، ولكن في الحقيقة تنقله ثَمَرَة من ثمرات التمدن مرتفعة تَعُود على الوطن بالمنفعة، ولا نظر إلى مَنْ حَصَلَ له ذُلٌّ وهوان فَرَغِبَ بذلك عن الأوطان، كما قال الشريف الرضي:
وقال بعض أمراء الحرمين:
فقد يُذَمُّ الوطن من واحد ويُمْدَحُ من آخر بحسب حال المتوطن، فقد مَدَحَ الشريف المرتضي بابل وتَشَوَّقَ إليها بقوله:
وخَالَفَ ذلك شَرَفُ الدين البيهقي حيث قال:
وقال آخر يُخَاطِبُ أحد الملوك:
وقال آخر في حَقِّ مصر:
فهذا قول المغلوب وكلام مَهْجور الوطن لا المحبوب، وأحْسَنُ من ذلك قول مَنْ تَغَرَّبَ وأُصِيبَ في الغربة بداء حُبِّ وَطَنِهِ وتَجَرَّبَ:
ويكفي حُبِّ الوطن أن كراهة الإجلاء منه مقرونة بكراهة قَتْل الإنسان نَفْسَه في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ مما يُحْكى أن عُمَرَ بْن الخطاب رضي الله تعالى عنه مَرَّ ليلًا في المدينة فسمع امرأة تقول:
أيْ إلى وَصْلِه؛ لأنه كان حسن الصورة وهو من بني سليم، فدعاه عُمَرُ فرآه أحسن الناس وَجْهًا وله شَعْر حَسْن، فَحَلَقَ شَعْرَه فكان أَحْسَنَ الناس بلا شَعْر، فقال له أمير المؤمنين: لا تُساكِنِّي في بلدي، فَتَشَفَّعَ نَصْرٌ إليه أن لا يُخْرِجَه من المدينة، فَلَمْ يَقْبَلْ عُمَرُ رضي الله عنه، فَلَمَّا وَدَّعَه نَصْر قال له: يا أمير المؤمنين سُمْتَنِي قَتْل نفسي، فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ، فَقَرَنَ هذا بهذا، فقال: ما أَبْعَدْتَ يا نصْرُ لكن أقول ما قال شعيب: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ، وقد أَضْعَفْتُ لكَ يا نَصْرُ عطاءك؛ ليكون ذلك عِوَضًا لك. ومِنْ أَحْسَن ما قيل في حب الأوطان قول الصقلي:
وصقلية جزيرة بإيطاليا المسماة الآن سيسيليا، كانت في يد الإسلام زمنًا طويلًا، ويُنَاسِبُ هذا قُوْل مَنْ قال:
وما أَحْسَن قَوْل بَعْضِهِمْ:
وقال آخر:
وحسْب المؤمن بِحُبِّ الوطن أن رسول الله ﷺ حين خَرَجَ من مكة علا مَطِيَّتَهُ واستقبل الكعبة وقال: «والله لَأَعْلَم أَنَّكِ أَحَبُّ بلد الله إليَّ، وأنك أحب أرض الله إلى الله تعالى عز وجل وأنك خير بقعة على وجه الأرض وأحبها إلى الله تعالى، ولولا أنَّ أَهْلَك أَخْرَجُوني منك لما خَرَجْتُ.» وبالجملة فحب الأوطان على عظم الحسب وكَرَم الأدب أبهى عنوان، وهو فضيلة جليلة لا يُؤَدِّي حق الوفاء بها إلا من حَازَ الشمايل النبيلة، ولا تُعِين عليها إلا الهمم العلية والعزائم الملوكية التي تُقَلِّد أعناق الأمة حُلِيَّ المنة والنعمة، فتبعثهم على التشبث بالأوطان والتعلق بأذيال الإخوان والخلان، لا سيما إذا كان الموطن مَنْبِتَ العز والسعادة والفخار والمجادة كديار مصر، فهي أعز الأوطان لبنيها ومستحقة لِبِرِّها منهم بالسعي لبلوغ أمانيها بتحسين الأخلاق والآداب من جهتين عظيمتين: الأولى؛ أنها أُمٌّ لساكنيها وبر الوالدين واجب عقلًا وشرعًا على كل إنسان. الثانية؛ أنها ودودة بارَّة بهم مُثْمِرَة للخيرات مُنْتِجة للمبرات، فبِرُّها يعود على أبنائها ثَمَرَتُهُ، وترجع إليهم فائدته، ويَحْسُن الصنيع بتضاعف الفوائد العوائد أضعافًا مضاعفة.
وكلما تَحَسَّنَتْ جهات البر من أهاليها حَسَّنَتْ أيضًا الثمرات لطالبيها، فإذا كانت لا تُحْرَم من ثمرات مصر الأجانب فبالأحرى أن تَتَمَتَّعَ بها الأقارب، ففي الأثر: من أَعْيَتْه المكاسب فعليه بمصر وعليه بالجانب الغربي منها، ويروى أيضًا: قُسِمَت البركة عشرة أجزاء؛ تسعة في مصر وجزء في الأمصار كلها، ولا يزال في مصر بركة ما في الأرضين كلها، وقيل في تفسير قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا أن المراد بمشارق الأرض ومغاربها أرض مصر، وقال عليه الصلاة والسلام: مصر خزائن الأرض والجيزة غيضة من غياض الجنة، ذَكَرَ هذا الحديث صاحب المفاخرة بين مصر والشام، قال بعض من انْتَصَبَ لتفضيل دمشق لكونها وَطَنه على مصر: عَرَفْنَا طيب الديار المصرية ورقة هوائها، ولكن نحن لا نجفو الوطن؛ حيث حبه من الإيمان، ومع هذا فلا نُنْكِر أن مصر إقليم عظيم الشأن، وأن مغلها كثير، وأن ماءها نمير، وأن ساكنها ملك أو أمير، وأن الذهب فيها لا يُوزن بالمثاقيل ولكن بالقناطير، وأن دمشق يَصْلح أن تكون بستانًا لمصر، ولا شك أن أحسن ما في البلاد البستان، وهل دمشق إلا لمصر مثل الجنان؟!
وقال عبد الله بن عمر: أهل مصر أَكْرَمُ الأعاجم كلها، وأَسْمَحُهُم يدًا وأفضلهم عنصرًا وأَقْرَبُهُم رَحِمًا بالعرب عامة وبقريش خاصة. يشير بهذا إلى هاجر أُمِّ إسماعيل عليه السلام، فإنها من قرية أم دينار أو قرية أم دنين، وكلاهما بمصر، أو يقال: إنها من بلدة بقرب الفرما، وإلى مارية أم إبراهيم فإنها من قرية بصعيدها من إقليم الجيزة، وقد رُوِيَ عن أبي ذر أنه قال: سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يقول: «إنكم ستفتحون أرضًا يُذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورَحِمًا، فإذا رأيتم رَجُلَيْنِ يقْتَتِلَان في موضع لَبِنَة فاخرجوا منها. قال: فمر بربيعة وعبد الرحمن ابني شرحبيل يتنازعان في موضوع لَبِنَة فخرج منها.»
ويُرْوَى عن عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن الله عز وجل سَيَفْتَح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرًا، فإن لهم مِنْكُم صِهْرًا وذمة.» وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «دعا نوح عليه الصلاة والسلام لولده وَوَلَدِ ولده مصريم الذي به سُمِّيَت مصر مصرًا، فقال: اللهم إنه قد أجاب دَعْوَتِي فبارِك فيه وفي ذريته وأسكِنْه الأرض الطيبة المباركة التي هي أم الدنيا.» وما أحسن قول الشاعر:
فلهذا يقال: إن مصر هي اختيار نوح عليه السلام لولده، وكذلك صارت اختيار الحكماء لأنفسهم، واختيار عمرو بن العاص لنفسه، واختيار مروان بن الحكم لابنه عبد العزيز وهكذا، فكيف لا وهي بَلَدُ العِلْم والحكمة من قديم الدهر وحِدِيثِه، ومنها خرج العلماء والحكماء الذين عمَّروا ممالك الدنيا بتدبيرهم وحكمتهم وفنونهم وصنائعهم، ولَمْ تَزَلْ إلى الآن يسير إليها طلبة العلم وأصحاب الفهم من سائر الأقطار؛ لتحصيل درجة الكمال، وكفاها فخرًا أنها تُسَمَّى خزائن الأرض، كما حكاه الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله لِمَلِكِ مصر: اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
ولذلك قال بعضهم: إن مصر خزائن الأرض كلها وسُلْطَانُهَا سلطان الأرض كلها، يعني أن يوسف لَمَّا تَمَكَّنَ من أرض مصر يتبوأ منها حيث يشاء كان بسلطانه فيها سلطانَ جميع الأرض كلها لحاجتهم إليه وإلى ما تحت يديه، حتى في أيام الخلفاء كانت مَثْرِيَّة بالمآثر والمكارم، تُغْنِي الوافد عليها والقادم كما قال بعض الشعراء:
ويدل أيضًا على أنها كانت بمكانة من التمدين في قديم الأزمان قوله تعالى مخبرًا عن موسى عليه السلام أنه قال: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وكذا قوله تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، قال بعض المفسرين: ولم يكن في الأرض مُلْكٌ أعظم من مُلْك مصر، وكان جميع الأرضين يحتاجون إلى مصر، وأما الأنهار فكانت قَنَاطِرَ وجُسُورًا بتقدير وتدبير، حتى إن الماء يجري من تحت مَنَازِلِها وأَفْنِيَتِها فيَحْبِسُونَه كيف شاءوا. انتهى.
وهذا عَيْن التمدن؛ إذ لا يكون ذلك إلا بتَقَدُّم الصنائع والفنون، ويُؤَيِّده بقايا الآثار المشاهَدَة التي لا كان مِثْلها في غير مصر، ولا يكون مع ما انمحى منها بشهادة قوله تعالى: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ، وقد قَنَعَ المأمون بهذه الآية حين اسْتَصْغَرَ مصر في عَيْنه، وذُهِلَ عن حقيقة الدراية والرواية، فأدرك بها من الحكمة الغاية.
وبالجملة فهي فُرْضة الدنيا يُحْمَلُ خَيْرها إلى ما سواها، فيُحْمَلُ منها من طريق بحر القلزم إلى الحرمين واليمن والهند والصين والسند وبلاد إفريقية، ومن جهة بَحْر الروم إلى بلاد الروم والقسطنطينية والإفرنج وسواحل الشام والثغور إلى حدود العراق وإلى صقلية وكريد وبلاد المغرب، ومن جهة الصعيد إلى بلاد الغرب والنوبة والسودان والحبشة والحجاز واليمن، ولا سيما الآن بوصل البحرين الأبيض والأحمر واتصال أفريقيا بآسيا على وَجْهٍ أظهر، فهذا يُقَرِّب النقل منها وإليها من سائر الأقطار المعمورة، والمنظور أنها تصير بمنافع جميع ممالك الدنيا مغمورة وتَكْثُر مخالطَتُها مع جميع الأمم، فلا غَرْوَ أنْ يأتيَ لها زمان يَصِير فيه تَمَدُّنُها راسخ القدم، فإن لِطَالع التَّمَدُّن دورًا مخصوصًا من أدوار الجمعيات التأَنُّسِية عند حضور الأوان تَسْطَعُ أَنْوَاره على سائر الآفاق والبلدان:
فكل مملكة تأخذ حَظَّهَا الأوفر من نير التَّمَدُّن مدة قرون وأزمان بحمية أهلها ومغالاتهم في حب الأوطان، فقد شَبَّهَ بعضهم حُبَّ الأوطان الحقيقي والغيرة عليها بحرارة جديدة محلية متمكنة من الأبدان الأهلية متى حلَّتْ ببدن الإنسان غَلَبَتْ على الحرارة الغريزية، فلذلك إذا ظَهَرَت الحمية الوطنية في أبناء الديار المصرية ووَلِعَتْ بمنافع التَّمَدُّنِيَّة فلا جَرَمَ أن تَذْكُوَ نارُها وتغلب على القوة الأولية، فيَحْصُل لهذا الوطن من التمدن الحقيقي — المعنوي والمادي — كمالُ الأمنية، فيَقْدَح زناد الكد والكدح والنهض بالحركة والنقلة والإقدام على ركوب الأخطار تَنَال الأوطان بلوغ الأوطار.
وقال آخر:
فما دامَت المنافع متفرقة في الجهات؛ فلتكن الهمم في تحصيلها من جهاتها قضايا مُوَجَّهَات، فلا بد لكل إنسان وكل مملكة من الحصول على المادة الكافية لبلوغ الوطر، لا سيما التي لا يُعَرَّى منها بَشَر، قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ، فإذا انعدمت المادة التي هي قِوَام النَّفْس لم تَدُم الحياة، ولم تَسْتَقِم الدنيا لأهلها، فإذا تَعَذَّرَ على الإنسان شيء من مَعايِش الدنيا؛ لَحِقَه الوهن والاختلال في دنياه بِقَدْر ما تَعَذَّر من المادة عليه؛ لأن الشيء القائم بغيره يَكْمُل بكماله ويخْتَلُّ باختلاله، ولما كانت المواد مطلوبة لحاجة الكافة إليها؛ وجب الحصول عليها من جهاتها، ثم إن أسباب المواد مختلفة وجهات المكاسب مُتَشَعِّبة.
وإنما كانت كذلك ليكون اختلاف أسبابها عِلَّة الائتلاف بها، وتَشَعُّب جِهَاتها تَوْسِعة لِطلابها؛ كي لا يجتمعوا على سبب واحد فلا يلتئمون، أو يشتركوا في جهة واحدة فلا يَكْتَفُون، وقد هداهم الله سبحانه وتعالى بعقولهم، وأرشدهم إليها بطباعهم حتى لا يتكلفوا ائتلافهم في المعايش المختلفة، فيعجزوا ولا يعانوا تقدير موادهم بالمكاسب المتشعبة؛ فيَخْتَلُّوا، حِكْمَة من الله سبحانه اطَّلع بها على عواقب الأمور، قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ، قيل في تفسيره: أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ ما يُصْلِحُهُ، ثُمَّ هَدَىٰ دَلَّه، وقيل: أعطى كل شيء صورته، ثم هداه لمعيشته، وقال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: معايشهم؛ متى يزرعون ومتى يغرسون، وقال تعالى: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ أي: قَدَّرَ في كل بلدة منها ما لم يُقَدِّرْه في الأخرى؛ ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد.
ثم إن الله تعالى جعل للناس مع ما هداهم إليه من مكاسبهم وأَرْشَدَهُمْ إليه من معايشهم، دينًا يكون لهم حَكَمًا، وجَعَلَ لهم شَرْعًا يكون عليهم قَيِّمًا؛ ليصلوا إلى مُرَادِهِم بتقديره، ويطلبوا أسباب مكاسبهم بتدبيره، حتى لا يَنْفَرِدُوا بإرادتهم فيَتَغَالَبُوا، ولا تَسْتَوْلِي عليهم أَهْوَاؤُهم فيتقاطعوا، قال تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ، ثم إنه — جَلَّتْ عَظَمَتُهُ — جَعَلَ تَوَصُّلَهُم إلى مَنَافِعِهِمْ مِنْ وجهين: مادةٍ، وكَسْبٍ؛ أما المادة فهي حادثة عن اقتناءِ أصولٍ ناميةٍ بذواتها، وهي شيئان: نَبْت نَامٍ، وحيوان متناسِل، قال تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ أي: أغنى خَلْقَه بالمال، وجَعَلَ لهم قُنْية؛ وهي أصول الأموال، وأما الكسب: فيكون بالأفعال المُوصِلة إلى الكفاية، والتصرف المؤدي إلى الحاجة من وجهين؛ أحدهما: تَقَلُّب في تجارة، والثاني تَصَرُّف في صناعة، وهذان الوجهان هما فَرْع لِوَجْهَي المادة السابقين، فصارت أسباب المواد المألوفة وَجِهَات المكاسب المعروفة أربعة أَوْجُه: نَمَاء زِراعة، ونِتاج حيوان، ورِبْح تجارة، وكَسْب صناعة، وكذلك حكى الحسن بن رجاء، عن الخليفة المأمون: أنه كان يقول: «معايش الناس على أربعة أقسام: زراعة، وصناعة، وتجارة، وإمارة، فمن خرج عنها؛ كان كَلًّا علينا»، ولكن سيأتي لنا أن الإمارة هي قُطْب رَحَى المنافع العمومية.
ثم إن أحوال المنافع العمومية تَخْتَلِف بِتَنَقُّل الأحوال وتَغَيُّر العادات، ولا يمْكن استيعاب طرق تحسينها وأدوات تمكينها، وإنما يَجْتَهِدُ كل إنسان في الحصول على ما بَلَغَه من الوسع في صنائع زمانه، وما استحسن عُرْفًا من محسنات عصره وأوانه، ولولا تَغَيُّر الأحوال والعادات؛ لكان المُتَقَدِّم كَفَى المتأخر تَكَلُّفها، وإنما حَظُّ المتأخر أن يُعَانِي نُشْدَ الشارد مع حِفْظِه، وجَمْع المتفرِّق بِلَحْظه، ثم يعرض ما تَقَدَّم على حكم زمانه وعادات وقْته وأوانه، فيُثْبِت ما كان موافقًا، وينفي ما كان شَاقًّا، ثم يَسْتَمِد خاطره في استنباط الزوائد، واستخراج الفوائد، واختراع ما به السهولة، وابتداع ما يبْلغ رب البصائر مَأْمُوله.
فمتى أُسْعِفَ الإنسان بشيء اخترعه؛ حَظِيَ بِفَضْله بشرط أن يكون مألوفًا للوقت وعُرْفِ أَهْلِه، فإن لأهل كل وَقْت عادة تُؤلف، ومنافع تُعْرف، تَقَع من النفوس بموقع المحبة والرغبة؛ لوضوح مَسْلَكِها وسهولة مأخذها، وإلا كان ضائعًا مُسْتَهْجَنًا، والإتيان به تَعَسُّف، والإلزام به تَكَلُّف، فإن العادة حقيقة بقول القائل:
فإن مُسْتَحْسَنَ العُرْف والعادة لا يُوجِبُهُ عَقْل أو شَرْع؛ بدليل اختلاف ذلك باختلاف البلاد؛ كالتجمل والزينة، فإن لأهل المشرق زِيًّا مألوفًا، ولأهل المغرب زيًّا معروفًا غيره، وكذلك يختلف العُرف باختلاف أجناس الطوائف، فإن للأجناد زيًّا مألوفًا يُخَالِف مَأْلُوف العلماء والتجار، وأصله أن يكون للناس على اختلافهم سِمة يتميزون بها، فإن عَدَلَ واحد عن عُرْف بلده وجِنْسه بدون مندوحة؛ عُدَّ ذلك منه حُمْقًا، فكلٌّ يَتْبَع القيافة الخاصة به، ولزوم العرف المعهود، واعتبار الحد المحدود أَدَلُّ على الحق، وأَمْنَع من الذم، وربما تَوَهَّمَ البعض أن التزيي بزي البلاد الأجنبية المشهورة بالتمدن هو من المروءة الكاملة، والسيرة الفاضلة، فَبَادَرَ بالامتياز بها عن الأكثرين بدون مُوجِب، مع أن قِيَافَةَ بلده لا تَنْقُصُ عنها شيئا، وإنما قَصَدَ بذلك الخروج من قِيَافَة وطنه التي استَرْذَلَهَا الأجانب، وخَفِي عليهم تَعَدِّي طَوْرِهم، وتَجَاوُز قَدْرِهم، وقَبُحَ بَيْن أهل الوطن ذِكْرُهم.
فالتمدن ليس في زينة الملابس بعرف مجهول متخيل استحسانه، لا سيما إذا كان لا يمكن لمن تَزَيَّا به إحسانه.
فحاجة الوطن إلى المنفعة الحقيقية أشد من حاجته إلى تَقْلِيد العرف، الذي هو منفعة ظاهرية، ولما كانت الديار المصرية فائقة في المآثر جاهلية وإسلامًا، ولها أَسْبَقِيَّة التمدن قديمًا وحديثًا، والآن تنافس الممالك الأخرى في الفنون والصنائع وسائر أنواع المنافع؛ لها الآن أن تُزَاحِمَ في ميادين صحيح الفخار، وتصون درجة السلف التامة الاعتبار، حتى يَصِحَّ أن نقول:
فلهذا وجب علينا أن نَسرُد في صحائف هذا الكتاب ما يَبْدُو لنا من أحوال المنافع الملائمة لِمِزَاج الوقت والحال، مما عَسَاه أن يَسْتَفِيدَ منه الأهالي الفوائد الجمة من أسباب الرفاهية والنعمة، كما قال النابلسي:
وتكفي الأدلة الإقناعية في إفادة أهمية المنافع العمومية، وليكون للجميع في وسائلها ومقاصدها كمال المعلومية.
فالآن تَعَطَّرَ مُلْكُ مِصْر بشذا نَسَائِمِ مَنَافع الممالك الأجنبية، فصار كما قيل:
أي: فَضُّوا خِتَام المسك فَتَعَطَّرَت الأرجا، فهو لرجاء بلوغ الدرجة الكمالية أَقْرَب حصولًا وأرجى.