الفصل الثالث
في أن أعظم وسائل تَقَدُّم الوطن في المنافع العمومية رخصة المعاملة مع أهالي الممالك الأجنبية واعتبارهم في الوطن كالأهلية.
***
من المعلوم أن ممن أسس في مملكة مصر السعادة والسيادة والأمنية وحِفْظ حقوق الرعية هو الملك رمسيس، الذي اشْتُهِرَ باسم سيزستريس، وهو الذي شَيَّد في مصر القصور الشامخة والهياكل السامية المنافسة للأطواد الراسخة، واتَّخذ ما يلزم للوطن من الجسور والقناطر والخلجان، ورَفَع الأراضي المنخفضة المُعَرَّضَة للغرق عند زيادة النيل، واسْتَبْدَل المدن المنخفضة من محالها ببنائها على الربى العالية؛ لسلامة البلاد والعباد، ولم يفارِق الدنيا حتى ترك مصر على غاية من الثروة والغنى والسعادة والهنا، وكل إنسان شاكرٌ لفعاله، وعلى تداول الأزمان لا زال التاريخ يُثْنِي على شمائله وجميل خصاله، إلا أنه هو ومَنْ قَبْله وأكثر مَنْ بَعْده من الملوك لم يَحْصُل منهم كما حَصَل من الملك أبساميطيقوس الأول؛ من مساعدة التجارة داخلًا وخارجًا، فإن سعادة الأهالي إنما هي بالأخذ والإعطاء والتنقلات الملكية.
فكان هذا الملك في الحقيقة فَخْر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها، اعتنى بتاريخه مؤرخو اليونان؛ لأنه أول مَلِك مصري قَرَّبَهم إلى بلاده، واستمال قلوبهم بتوظيفهم برياسة أجناده، وخالف عوائد أسلافه، وعامل يونان آسيا وأوروبا بأخص استعطافه، وأقطعهم الإقطاعات من الأراضي المصرية، وسَوَّى في الحقوق بينهم وبين الجنود الوطنية، وجَعَلَهُم من المقربين في المعية، وأعطاهم جملة من الغلمان المصريين لتعلم اللغة الإغريقية؛ ليكونوا مترجمين بينهم وبين المصريين، ففي أيامه انْتَشَرَتْ معرفة اللغة اليونانية، وبواسطتها كَثُرَت التجارات والمعاملات والمخالطات، وتأسس بالقطر المصري العمائر التجارية، فكانت هذه أَوَّل مَرَّة تَكَلَّم فيها اليونان بلسانهم في غير بلادهم، ولما رأى ما رأى من صداقتهم ومساعدتهم وَسَّعَ لهم في المعاش، وأغدق عليهم غاية الإغداق، وسَوَّاهم بجنده فكانت منفعتهم جسيمة.
وممن فتح لليونان ثغور مصر وأبوابها من ملوكها الملك أمسوس، ويقال له أماسيس، فإنه كان قوي الفطنة، جيد القريحة، حَسَن التدبير، لم تَسْعَد مصر في أيام غَيْره كسعادتها في أيامه الهنية، ولم تُخْصِبْ بالنِّيل كخَصْبِها في أيام دولته العدلية؛ حتى قيل — ولو أنه من المبالغات التاريخية: إن مُدُن مصر وقراها بَلَغَتْ في عَهْده عشرين ألف مدينة وقرية، وكلها غنية مثرية، وجُل أسباب ثروتها التجارات العظيمة لا سيما مع اليونانيين، فإنهم إذ ذاك كانوا أرباب التجارة والصناعة، واتَّسَعَتْ دائرتهم في ذلك من مخالطة المصريين، فَقَد شَمِلَتْهُم أنظار هذا الملك الخصوصية حيث أحسن مثواهم، ورَخَّصَ لهم الاستيطان بالديار المصرية بمدينة نقراطيس، التي يقال: إن محلها الآن فوة، وقيل غيرها.
وكانت هذه المدينة دون غيرها مخصوصة بأن يَرْسِي عليها سُفُن الدول الأجنبية، وقد أباح هذا الملك للغرباء أن يَتَمَسَّكوا في مصر بأصول دياناتهم، وأَنْعَمَ عليهم بأراض مخصوصة؛ ليبنوا فيها معابدهم وهياكلهم ومذابحهم ومحاريبهم على اختلاف مِلَلِهم وأديانهم ومذاهبهم، وعَقَدَ مع دولة أثينا؛ أي: مدينة حكماء اليونان معاهدات، وعَقَدَ أيضًا معاهدات أخرى مع دول أخرى كدولة القيروان بالمغرب، وكان له مخاطبات ومراسلات متواترة مع الملوك الأجانب؛ كمَلِك جزيرة صيصام إحدى جزائر الروم الكبيرة، فإن التاريخ قد حَفِظَ نصيحته لملك الجزيرة المذكورة، ومضمونُها: «لا تأمن صروف الزمان، وتَفَكَّر في نوائب الحدثان، واعْصِ النفس في اتباع هواها، وخَالِفْها ولا تُبْلِغْهَا مُناها»، فلما قرأ ملك صيصام البطاقة عزم أن يزهد في الدنيا حسب الطاقة، وكان بإصبعه خاتم جوهر نفيس عظيم القيمة، لا يُؤْثِر عليه من زينة الدنيا شيئًا، ولكن وَقَعَتْ بقلبه موعظة الملك أماسيس أَعْظَم مَوْقع، فنزعه من إصبعه وألقاه في اليم، وعزم على ترك الزينة وصَمَّمَ، ولكن لما كان جد هذا الملك قائمًا والسعد له خادمًا؛ رَدَّ الله عليه هذا الخاتم في بطن حوت سعى به إليه صياد من البحر قادم، فَفَهِمَ من ذلك أن الأشياء بخوت وسعود، وأن خاتم الملك وإن زَهِدَ فيه فهو إليه مردود، وتاج السعادة على مفرقه معقود.
قال الشاعر:
والحظ أجدى لصاحبه من الحجى، وأهدى في طُرُق مأربه من نجوم الدجى، ومن لطائف المطبوع في هذا الباب قول محمد بن شرف القيرواني:
ويقال: إذا أقبل سعد المرء فالأقدار تُسْعِدُه، والأوطان تُسَاعِدُه، وإذا أَدْبَرَ فالأيام تعاديه، والنحوس ترواحه وتغاديه، قال عبد العزيز بن نباتة:
واعْلَمْ أن كمال العقل وسوء الحظ كالعلة والمعلول، لا يَنْفَكُّ أحدهما عن الآخر، كما أن قِلَّةَ العقل وكمال الحظ متلازمان، ويَصْحَبُهُمَا الجهل والحمق، قال ابن المعتز:
وقال أبو الطيب:
وقال القاضي الفاضل:
وقال شمس الدين الحكيم بن دانيال:
وقال أبو تمام:
ومن عدم تعليل الحظ قول أبي الطيب:
وعلى هذا فيجب على العاقل التسليم في جميع الأمور وتَلَقِّي المقادير بالرضا والقبول، كما قال:
فإذا عَلِمْتَ أنَّ قِسْمَة الحظوظ في سابق الأزَل لحكمة يَعْلَمُهَا، لا تبديل ولا تغيير في ذلك، وَسَلَّمْتَ الأمر لمولاك الفاعل المختار، المتصرف في مُلْكِه كيف يشاء بالاختيار، فلا عِتَابَ ولا ملامة، قال:
وقال:
كما قيل:
وقال آخر:
ومما يُنَاسِب ذلك ما يُحْكَى عن عروة بن أذينة أنه وفد على هشام بن عبد الملك فشكى إليه حاجته، فقال له: ألسْتَ القائل:
وقد جِئْتَ من الحجاز إلى الشام في طَلَبِ الرزق، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد وَعَظْتَ فأبْلَغْتَ، وخَرَجَ فركب ناقته وَكَرَّ إلى الحجاز راجعًا، فلما كان من الليل نام هشام على فراشه فذَكَرَ عروة، فقال في نفسه: رجل من قريش قال حكمة، ووفد عليَّ فجبهْتُه وردَدْتُه خائبًا، فلما أَصْبَحَ وَجَّهَ إليه بألفي دينار، فقَرَعَ عليه الرسول باب داره بالمدينة وأعطاه المال، فقال: أَبْلِغ أمير المؤمنين مني السلام، وقُلْ له: كيف رأَيْت قولي؟! سَعَيْتُ فأكديْتُ، فرَجَعْتُ، فأتاني رزقي في منزلي.
ولا يُتَعَجَّب من بليغ نصيحة أماسيس ووَعْظِه، فإنه كان بيْنَه وبين سولون حكيم أثينا مراسلات؛ لاقتباس الحكمة اليونانية، والمعارف التي تُكْسِب الفضائل، فاقتبس من حِكَمِه وفضائله وقوانينه ما تَمَيَّزَ به عن غيره من الملوك السابقين.
وكان سولون المذكور في مملكة أثينا من ذوي البيوت، اكْتَسَبَ من السياحة في البلاد ما صَيَّرَه فريد زمانه في الحكمة والتدبير والسياسة، وكان ممن دَخَلَ مصر من الفلاسفة، فعاد إلى مملكة أثينا، فوجدها مُخْتَلَّة النظام، مُنْحَلَّة الأحكام، فالتمَسُوا أن يجعلوه مَلِكًا عليهم وكانوا جمهورية، فلم يَرْضَ أن يُلْبَسَ التاج الملوكي ويَتَسَلْطَنَ على بلاده، وإنما اقتصر على تنظيم الجمهورية، وأنشأ سولون قوانين داخلية، منها: أنَّ مَنْ ثَبَتَ عليه من الأهالي أنه لم يَشْتَغِل بحرفة ولا صنعة بعد المرافعة معه ثلاث مرات، وهو مُصِرٌّ على البطالة؛ فإنه يُفْضَح على رءوس الأشهاد، وكذلك كل ولد اشتغل بصنعة وسَلَكَ مسلك التبذير في أمواله؛ فإنه يُفْضَح على رءوس الأشهاد أيضًا، وأن الولد الذي لا يقوم بمؤنة أبويه العاجزين عن الكسب؛ فإنه يُعَاقَبُ بذلك العقاب، ولا يُعَاقَبُ بهذه العقوبة الوالد إذا بَخِلَ بالإنفاق على وَلَدِهِ.
ومن قوانينه: أنه لا يجب على المرأة عند الزواج أن تَتَجَهَّزَ لزوجها بأكثر من ثلاثة أثواب، وبمتاع قليل الثمن؛ لأن تكليفها أكثر من ذلك ربما عاد بالفاقة على أهل الزوجة، وأن من اجْتَمَعَ من الرجال بالنساء المتبرجات وعَاشَرَهُنَّ لا يسوغ أن يكون من أعضاء مشورة الجمهورية أبدًا؛ لأنه لا يُؤْتَمَنُ على مصلحة الأهالي، وأن من ثَبَتَ عليه من أرباب المشورة السُّكْرُ؛ فإنه يُعَاقَبُ بالقتل، وأن المَدين لا يجوز حَبْسُه، وأن من لم يكن له ذرية؛ فله أن يوصي بجميع أمواله قُبَيْل وفاته، وأن من مات في الحرب وله ذرية؛ فإن الوصي على ذريته الحكومة، فهي الكافلة والمسئولة عن أفعالهم، والمطالَبَة بتربيتهم وإصلاح أحوالهم وشئونهم، وأنه يجب الاقتصاد في المصارف التي تُنْفَق في الجنائز والاحتفالات الدينية بِقَدْر الإمكان، وأن تَدْخُل الغرباء البلاد اليونانية، ولكن لا يسوغ تَدَاخُلُهُم في مناصب الحكومة.
فلما كان سولون معدودًا من المشرعين والمُفَنِّنِين؛ اقتبس منه أماسيس بعض قوانين، وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الباب الثالث أن أماسيس أوجب التفحص عن معيشة الإنسان، وكَسْبه من الحلال، وأنه كان يَحْكُم بالقتل على من يَكْتَسِب من الحرام، فلا شك أنه الْتَمَسَ ذلك من مخالطة اليونان، فالمخالَطة مغناطيس المنافع، فهي تُسَاوِي حركة العمل في ذلك، وكلاهما لا يستغني عن الحرية، والرخصة، ومنبع الجميع، وكسب المعارف العمومية، والمحبة الوطنية التي يَتَرَتَّب عليها اجتماع القلوب، والتعاون في إبلاغ الوطن المطلوب، فمخالطة الأغراب لا سيما إذا كانوا من أولي الألباب تَجْلِب للأوطان من المنافع العمومية العَجَب العجاب، ولو كانت مترتبة على ظواهر التغلب والاغتصاب، فربما صَحَّت الأجسام بالعلل، ولنَضْرِب لك المثل في فتوح إسكندر لمصر في الأيام الأُوَل، فقد ترتب على فتوحه في تلك الأيام إعادة قديم بهجة مصر بَعْدَ أن دَمَّرَهَا حُكْم الأعجام، حيث واسى أَهْلَهَا، وراعى عوائدهم، وأباح عقائدهم، وساسهم بأحسن ما يمكن من السياسة والعدل في الأحكام.