الفصل الأول
في مناقب جنتمكان محمد الاسم علي الشان، وأنه نادرة عَصْره ومحيي مآثر مصر، والمقابَلة بَيْنه وبَيْن عدة من مشاهير ملوك الأعصر القريبة.
***
كان المرحوم محمد علي سليم القلب، صادق اللهجة، أمينًا في تَصَرُّفه، حكيمًا في أعماله، كريمًا إلى الغاية، حريصًا على عَمَار البلاد، وفيًّا في معاشرته، مُحْرِصًا على ود عشيرته وجنوده ورَعِيَّته متحببًا إليهم، وإن كان في بعض المواطن سريع الغضب، فقد كان قريب الرضا، حليف الحلم، صفوحًا عن الجاني، مقدامًا على اقتحام الأهوال، صبورًا على الشدائد وتنقل الأحوال، شديد الحرص على شَرَف نَفْسه وصون ناموسه، قوي الفطنة سريع الإدراك يجول فِكْرُه في الأمور البعيدة، بصيرًا في الحساب الهوائي العقلي، عجيب البداهة، غريب الروية، تَعَلَّم القراءة والكتابة في أقرب وقت وعُمْره خمس وأربعون سنة إذ ذاك جبرًا لما فاته في زمن الصغر، وتدارُكًا لما يزيد في مجده في زمن الكِبَر، فرَغِبَ في مطالعة التواريخ ولا سيما تواريخ الفاتحين؛ كتاريخ إسكندر الأكبر المقدوني، وتاريخ بطرس الأكبر إمبراطور الروس؛ أي: الموسكو، وتاريخ نابليون الأكبر، وغير ذلك من التواريخ المترجمة إلى التركية، مع المواظبة على الاطلاع على ما في الكازيتات الإفرنجية التي كانت تُتَرْجَم له، وكان صاحب فراسة.
إذا تَكَلَّمَ أمامه أحد بلغة أجنبية؛ فَهِمَ من النظر إلى حركاته وإشاراته مَقْصِدَهُ، يستشير العقلاء والعلماء في جُلِّ أموره، وكان نشيطًا يُحِبُّ الحركة ويَكْرَه الكسل والبطالة، قليل النوم سريع اليقظة، يستيقظ غالبًا عند الفجر، يَسْمَع بنفسه العرضحالات التي تُعْرَض له يوميًّا عند الصباح، ويُعْطِي عنها جوابًا، ثم يَذْهَب لمناظرة العمارات الميرية التي كان مُغْرَمًا بها، وكان مُتَدَيِّنًا إلى حد الاعتدال بدون حمية عصبية ولا تشديد، فكان يغتفر لأهل الملل والدول في بلاده التمسك بعقائدهم وعوائدهم مما أباحته في حَقِّهِم الشريعة المطهرة، وهو أول مَنْ أعطى للعيسوية الداخلين في الخدامات الميرية لمنافعهم الاقتضائية مزايا المراتب المدنية، وكان يُؤْثِر الفعل على القول؛ بمعنى: أنه إذا أراد ترتيب لائحة مهمة فيها منفعة للأمة؛ شَرَعَ فيها بقصد التجريب، وأجراها شيئًا فشيئًا على طريق الإصلاح والتهذيب، فإذا سَلَكَتْ في الرعية وصارت قابلة لعوامل المفعولية؛ كساها ثوب الترتيب والانتظام، وأخرجها من القوة إلى الفعل في ضمن قانون الأصول والأحكام؛ لما أنه كما يقال: أحسن المقال ما صَدَقَ بحُسْن الفعال، وكان مُولَعًا ببناء العمائر، وإنشاء الأغراس، وتمهيد الطرق، وإصلاح المزارع، وإتقان الصنائع والأعمال، يَرْغَب في توسيع دائرة التجارة، ويستميل عقول الأهالي؛ ليجذبهم إلى ما فيه كسب البراعة والمهارة.
وبالجملة: فكان وحيد زمانه في جميع أوصافه، وفريد أوانه في عَدْلِه وإنصافه، لا سيما بعد أن صفا له الوقت عَقِبَ توليته على مصر، فإنه مَكَثَ قبل ذلك نحو خمس سنين وهو يقاسي ما يقاسي من الشدائد، ويعاني من أخصامه جميع أنواع المكائد، حتى عَزَمَ على رجوعه إلى وَطَنِه الأَوَّلِيِّ بدون صلة وعائد، لكن لوفور سَعْدِه، وتَعَبِه وكَدِّه، وسَبْق القدر بِوَصْله إلى تمام عِزِّه ومَجْده؛ صَرَفَ النظر عن العودة، ونال مِنْ وَاهب العطايا ما هَيَّأَهُ له من تَبَوُّئ بحبوحة الملك وأعده، ولا شك أنه عَرَفَ داء مصر وعلاجها في أثناء هذه المدة، ولا بد أيضًا أنه كان نَوَى لها تحسين الحال والمآل إنْ بَلَّغَهُ الله الآمال وأمده، ولا يَخْفَى أن مَنْ قصد الاستيلاء على مملكة لا يخلو عن أحد أمرين: إما أن يكون كالصياد يَقْتَنِص مَصِيدَه بكل مَكِيدَة، أو كالملتقط لليتيم المفارق أبويه؛ ليُنْقِذَه من التهلكة، ويجعله وليده، فالأمر الثاني هو الممدوح، وهو مَقْصِد حميد لأولي الفضائل من أصحاب الفتوح، فإنه مَقْصِد سَنِيٌّ ومَطْلَب هَنِيٌّ، فاستقامة الأمور لهذا الأمير الكبير وما حصل له في الاستيلاء على مصر من التسخير والتيسير يدل على حُسْن النية وصفاء الطوية، فكأنما أَرْشَدَه إلى بلوغ هذه المنزلة مصداق حديث: «اعملوا، فكل ميسر لما خُلِقَ له»، فكان دأبه في العناية بشئون تقديم مصر الإخلاص وحسن النية، فأعماله صارت على ذلك مبنية، وقد خَلُصَتْ نِيَّتُه فهَبَّت صَوْبَه نسمات القبول، وأصاب بشرف النفس وعُلُوِّ الهمة وإخلاص العمل إدراك المأمول، «قال» عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، ومرجع هذا الحديث: أن الأمور بمقاصدها، وهو معنى قوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فالمدار على الإخلاص في العمل. وعن أبي موسى الأشعري قال: «يا رسول الله أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأيُّ ذلك في سبيل الله تعالى؟ فقال رسول الله ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل» يعني: فالعمدة على النية؛ لقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»، وقوله ﷺ: «ليس للعامل من عمله إلا ما نواه» فتَحْت هاتين الكلمتين من كنوز العلم ما لا يُوقَف له على غاية؛ ولذا قال الشافعي رضي الله عنه: «حديث الأعمال بالنيات يدخل في نصف العلم، وذلك أن للدين ظاهرًا وباطنًا، والنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وأيضًا فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح.» وقال بعض الأئمة: «حديث الأعمال بالنيات ثلث الدين، ووجهه أن الدين قول وعمل ونية.» وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: «إن الله لا يَنْظُر إلى صُوَرِكم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وفي حديث آخر: «تَصْعَد الملائكة بالأعمال، فينادي الملك: أَلْقِ تلك الصحيفة، فتقول الملائكة: ربنا، قال خيرًا فحفظناه عليه، فيقول الله تبارك وتعالى: لم يُرِدْ به وجهي، وينادي الملك: اكْتُبْ لفلان كذا وكذا، فتقول الملائكة: يا رَبِّ، إنه لم يَعْمَل، فيقول الله عز وجل: إنه نواه»، وقال الثوري: «كانوا يتعلمون العمل، فكان بعضهم يقول: دلوني على عمل لا أزال به عاملًا لله، فيقال له: انْوِ الخير، فإنك لا تزال عاملًا وإن لم تَعْمَل» فالنية تَعْمَل وإن عُدِم العمل، والناس في النيات على ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: من ينوي بالعمل وجه الله عز وجل، والطبقة الثانية: من ينوي العمل لله تعالى ويشوبه بقصد الخلق تَبَعًا لا أصلًا، والطبقة الثالثة: ما يكون الباعث على العمل الرياء، فالإخلاص في الطبقة الأولى، والتجرد من الثواب في الثانية، والحرمة في الثالثة.
وقد كان السلف لا يعلمون شيئًا إلا أن تَتَقَدَّمَه النية الخالصة، ومع ذلك فقد نَصَّ العلماء أن مَنْ حَجَّ بنية التجارة كان له ثواب بِقَدْر قَصْدِه الحج، فكذلك الفاتح لمملكة إذا نوى إصلاح حالها، وتربية أهلها، وتهذيب أخلاقهم، وإسعادهم، وتنعيم بَالِهِم، وتحسين أحوالهم بِرَفْع الظلم عنهم، كما يقتضي به حُسْن الظن في حق المرحوم محمد علي كما هو الواقع؛ فهو مُثَابٌ قطعًا ولو دَاخَلَه قَصْد منفعة دنيوية مما لا يُفَارِق الملوك؛ من حُبِّ المَحْمَدة في غالب الأحيان.
ولو لم يكن من أفعاله الخيرية إلا تخليص الحرمين الشريفين والأقطار الحجازية من عبد الله بن سعود شيخ الوهابية لكفاه، فإن ابن سعود المذكور أَتْعَبَ الحُجَّاج بِقَطْع الطرقات وأزعج عِبَاد الله، فغزاه جند محمد علي جنتمكان وهزمه بعد حروب طويلة، وأرسله إلى الأستانة، فأَمَرَت الدولة العلية بِضَرْب عُنُقِه ليكون عِبْرة للناظرين، وكذلك حروبه في مورة فإنها من أَجَلِّ الأفعال المبرورة، حيث إن أروام تلك الجهة هجموا على الإسلام في الجوامع والمساجد، فقتلوا منهم الجم الغفير ولم يرحموا الشيخ الكبير ولا الطفل الصغير، وفتكوا بالجميع فتكًا ذريعًا بطريقة فظيعة تأباها النفوس الأبية، وتَنْفِر منها الطبيعة، وطالما قبضوا على سُفُن الإسلام، وقَتَلُوا مَنْ فيها وأذاقوه كأس الحمام، وكثيرًا ما عَذَّبُوا المقتولين بالتمزيق والتحريق، وأضرموا نار الفتنة في جزائر البحر الأبيض بَيْنَ كل فريق، وحَرَّضُوا جزائر كريد ورودس وساقس وغيرها على العصيان، وما خلا من فِتْنَتِهِمْ في الأروام الرعايا بلد ولا مكان.
ولم يقتصروا في الجبروت والطغيان على مخالفة الشريعة العيسوية، بل هَتَكُوا حرمة النواميس الطبيعية، فأرسل إليهم محمد علي باشا عمارته البحرية لِقَمْعِهم وإدخالهم تحت الطاعة، فحاربهم نَجْله الأكبر جنتمكان فدَمَّرَهُم وشَتَّتَ شملهم، ثم استقلوا ببلادهم وفارقوا الجماعة، ولم يَنْتِج من هذه الحرب نتيجة تعود على مصر بالمنفعة، اللهم إلا أن اكْتَسَبَتْ عدة من أرباب الامتياز الوافر من أعيان الأعيان الأكابر من أهالي تلك البلاد الرومية ممن هاجر إلى الديار المصرية، وبها قام وأَدَّى بها الخدمة الصادقة، ونال عُلُوَّ الرتبة والمقام، ومن هذا الجنس الرومي من تَنَاسَلَ بالقُطْرِ وعُدَّ من أبناء الوطن العظام، وإن كان في غزوة البلاد اليونانية فائدة أخرى جليلة فما هي إلا تمرين لرجال العسكرية المصرية على الحروب، وممارستهم للغزو والجهاد، وتعودهم على اقتحام الخطوب تحت قيادة أحد رؤساء الجنود المعدودين، الذي لا يزال صِيتُ صَوْتِه الجهادي باقيًا إلى يوم الدين.
وكذلك فَتَحَ محمد الاسم علي الشأن لغير هذه البلاد من البلدان؛ كفَتْحه للأقطار السودانية مما وَسَّعَ دائرة المنافع الوطنية، وحروبه مع والى عَكَّا معلومة، وجَوَلان جنوده في الشام وغير الشام مفهومة، لم تكن تلك من مَحْض العبث، ولا من ذميم تعدي الحدود إذ كان جُلُّ مقصوده تنبيه أعضاء ملة عظيمة، تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، والدليل على حُسْن النية أن هذه الحسنة التي على صورة الجنية أَنْتَجَتْ أصل وراثة مصر، التي تَرَتَّبَ عليها رَفْع الإصر، ولولا بقاؤه تَحْتَ ولاء الدولة العلية، ومراعات حِفْظ الحالة الراهنة على ما هي عليه من الراجحية والمرجوحية؛ لجال في الفتوحات الخارجة مجال إسكندر الأكبر، وحَسَّنَ حالة التمدن، وجَدَّ في جادة العمران، وفَعَلَ ما فَعَلَه إسكندر حيث اتَّحَدَا في البلد، فكان لا مانع أن يَتَّحِدَا في المظهر، فمِنْ سَعْد مملكة مقدونيا وتَخْلِيد فخارها أنها مَوْطِن أَمِيرَيْن جليلين، بَقِيَ ذِكْرُهما في الخافقين، أحدهما من بيت الملك رأس اليونان، وقادَهُمْ وفَتَحَ معهم سائر البلدان، فانتصر بالتدبير والأعوان، وتَغَلَّبَ بذكاء العقل وتجاريب الشجعان، والثاني من بَيْت مُجَمَّل ونَسْل أَمْثَل، ساعفَتْه المقادير، واستعان بِحُسْن العقل والتدبير، ولم يكن له بَعْد مولاه غَيْرُ عَقْلِه نصير، فنعم المولى ونعم النصير، أَلْهَمَ جموع أبناء جنسه المجردين عن الانتظام اقتحام العقبات، وحسن الإقدام والإحجام، واستسهال الصعب لنيل المرام:
فلما هَزَمَ بهم جيوش المماليك بسائر الجهات، وأَذْهَبَ دولة سناجقهم، وتحققت الحقائق، وزالت الشبهات؛ خَلَعَ على حِزْبِه المراتب السَّنِيَّة، وجعلهم حُكَّامًا في أقطار مصر، وحَصَلَتْ بهم الأمنية، ورباهم كما يُرَبِّي الأستاذ الطلبة، ونال بهم قَصْدَه ومَأْرِبَه، فلو كان الإسكندر بهذه المثابة لم يُصِبْ من العز ما أصابه، ولا بَلَغَ نصيب محمد علي ولا نِصَابه، وعلى كل حال فقد حَلَّ الثاني مَحَلَّ الأول، فكأنما ذلك وَثِقَ بهذا، وعليه في تتميم المقاصد عَوَّل، كما قُلْتُ في تاريخ بداية القدماء وهداية الحكماء في هذا المعنى من ضمن قصيدة:
وفي هذا البيت الأخير إشارة إلى جنتمكان إبراهيم باشا كالإشارة إليه في قصيدة أخرى في الرحلة بقولي:
ولما كان محمد علي يُحِسُّ مِنْ نَفْسِه بأن عَزَمَاته إسكندرية؛ كان مُتَوَلِّعًا بقراءة تاريخ إسكندر ومُنْكَبًّا عليه، وشبيه الشيء كما يقال مُنْجَذِب إليه، وفي الحقيقة فكان بينهما من جميل الصفات والشمائل ما شَهِدَتْ به الشواهد، ودَلَّتْ عليه الدلائل، فلو استولى أميرنا على مصر وفيها بقايا من حكماء الأعصر المصرية القديمة؛ لحكموا بما يَعْتَقِدُه قدماؤهم في أيام الجاهلية الذميمة؛ مِنْ تناسُخ الأرواح بعد الموت، وإنعاشها لأجسام أخرى، وأن رُوحَ إسكندر انْتَقَلَتْ بعده إلى شبيهه فهو بها أَحْرَى، وأما نحن معاشر أهل السنة فنقول: إن تشريك اثنين وتسويتهما في الصفات الفاضلة والمعاني الكاملة هو مَحْض فَضْل من الله ومِنَّة، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وهذا القياس الفارق بينه وبين إسكندر يجري أيضًا في قياسه بأصحاب الخروج والفتوحات المملكين، فقد أعانتهم ممالكهم وجنودهم وقوادهم على كَسْب العز والتمكين.
وقد كان عصر السلطان سليمان الثاني أعظم الأعصار؛ إذ هو الذي قدم الدولة العثمانية إلى أوج الفخار، فافتتح الفتوحات العظيمة، وأعلى كلمة الله، ورفع المنار، وباشر الغزو بنفسه في ثلاث عشرة غزوة، وانتصر في جميعها بقوة التدبير، وتنظيم الجيوش وأي قوة، وبنى الأبنية العجيبة، وفعل كثيرًا من الأفعال الخيرية الغريبة، وأنشأ الدوننما العثمانية، وكان كَهْفًا وملاذًا لأكثر ملوك البلاد القاصية والدانية، وكان في أيامه بأوروبا اثنان من الملوك العظام الأول شرلكان الذي كان مُتَوَلِّيًا على النمسا بلقب إمبراطور، وكان يُسمى كرلوس الخامس؛ يعني: خامس كرلوس من الإيمبراطورة المسمَّيْن بهذا الاسم، وكان مُتَوَلِّيًا أيضًا على إسبانيا بلقب ملك إسبانيا، وكان يُسَمَّى بالنسبة لمملكتها كرلوس الأول؛ يعني: أنه أول ملك تَوَلَّى عليها باسم كرلوس، والملك الثاني من الملوك العظام هو فرنسيس الأول مَلِك فرنسا، وكان يُلقب بأبي العلوم؛ لأنه كان يُحِبُّ العلوم والمعارف، كما كان مُولَعًا بالعمائر العظيمة، فقد أَسَّسَ بفرنسا مدرسة مَلَكِيَّة وكتبخانة، وبنى كثيرًا من السرايات والقصور، وأَدْخَلَ في ديوانه الرفاهية وآداب التمدن وتهذيب الأخلاق، ومع كثرة مصارفه وما كان يُنْفِقه في المنافع والمنازه من خزينته الخصوصية؛ فقد تَرَكَ فيها نحو أربعمائة ألف دينار غير ما لم يَقْبِضْهُ من خزينة المملكة من مُرَتَّب التاج الملوكي السنوي وهو ربع مرتب السنة، وكان بينه وبين شرلكان إمبراطور النمسا السالف الذكر منافسات ومشاجرات أَدَّتْ إلى تواتر الحروب بينهما، ومع أن دائرة الهزيمة كانت دائمًا على شرلكان إلا أن فرنسيس انْهَزَم في واقعة، ووَقَعَ في قبضة خَصْمه وهو شرلكان، وأَخَذَهُ أسيرًا إلى إسبانيا، فاسْتَنْصَرَ الملك فرنسيس المذكور بمولانا السلطان سليمان، وكَتَبَ إليه كتابًا مؤرخًا في سنة تسعمائة واثنين وثلاثين يشكو مِنْ تَغَلُّب أعدائه على مملكته، ويَسْتَصْرِخُ به ويستغيث، فأجابه بعد صدر الكلام بقوله: إن الكتاب الذي أَعْرَضْتَه إلى الأستانة الملوكية مع رسولك المستَحِق لأمانتك أفاد أن العدو حاكِمٌ في مَمْلكتك، وأنك صِرْتَ الآن أسيرًا وتَلْتَمِس من طَرَفِي فَكَّ أَسْرِك، فجميع ذلك عُرِضَ على أقدام سرير سلطنتي العلية التي هي ملجأ العالم، وقد أحاط علمي الشريف بجميع شرح كلامك، ولا غرابة في أيامنا هذه إذا انْهَزَمَت الملوك ووَقَعَتْ في الأسر، فشَجِّعْ قَلْبَكَ، ولا تَتْرُك نَفْسَك تَجْبُن، ففي مثل هذه الأحوال لَمَّا رأينا سَلَفَنَا المُمَجَّدِين وأجدادنا الأكرمين لم يَتَأَخَّروا عن الدخول في قتال الأعداء وفتوح البلاد، فأنا مُقْتَفٍ لأثرهم، فطالما فَتَحْتُ في هذا العهد كثيرًا من الولايات والحصون القوية التي لا يدنو منها أحد، وقد حَرَّمْتُ على نفسي النوم وجعلت سيفي لا يفارق جانبي، والله يُسَهِّل علينا إتمام الخير وغير ذلك، فاسأل رسولك عن جميع ما جرى مما استقر عليه الحال، واقْنَع بما يُخْبِرك به من المقال، فإنه واقع لا محالة، ثم بَعْد رَدِّ الجواب أَرْسَلَ مولانا السلطان سليمان عمارة بحرية، وأَمَّرَ عليها خير الدين باشا يُنْجِدْ بها مَلِكَ فرنسا.
ولما وَصَلَتْ إلى مرسيليا انْضَمَّتْ إلى عمارة الملك فرنسيس، وساعدته على أَخْذ بعض البلاد ونَصَرَتْه على أعدائه، ثم عادت إلى القسطنطينية، وكان خير الدين باشا من أعظم قباطين الدنيا، وكان قد فَتَحَ أخوه بلاد الجزائر في أيام السلطان سليم، ونزعها من يد شيخ العرب سالم بن تيمي وكان حاكمًا عليها، ثم تَقَدَّمَ أخو خير الدين باشا المذكور في توسيع الفتوحات، فأرعب كرلوس الخامس حتى خاف بَطْشَه وخشي أن يَتَغَلَّبَ على أملاك إسبانيا التي بإفريقية، فبعث إليه جيشًا عظيمًا جرارًا، واسْتُشْهِدَ هذا الأمير الخطير عند هذه المدينة، فخَلَفَهُ أخوه خير الدين باشا المذكور على حكومة جزائر الغرب المذكورة، ودَخَلَ في حماية السلطان سليم، وقَرَّرَ على نفسه خراجًا للدولة العلية، فلما تولى السلطان سليم جعله قبطان باشا على جميع الدوننما العثمانية، فحصن بلاد الجزائر بالاستحكامات اللازمة.
وفي شهر رجب سنة أحد وأربعين وتسعمائة أَرْسَل خير الدين باشا إلى غزوة الجزائر البحرية المُلْحَقة بإسبانيا وغيرها من الجهات البرية كإيطاليا، وتَوَجَّه السلطان بجيشه من جهات البر، وأَرْسَلَ بطريق البحر لطفي باشا وخير الدين باشا بنحو خمسمائة غراب مشحونة بعساكر البحر، وأَمَرَهَا أن تسير وتنزل في معسكره المنصور، فنَزَلَتْ في ثلاث وأربعين وتسعمائة، فقَتَلَتْ في البر والسواحل كثيرًا من الأعداء، واغْتَنَمَتْ غنائم عظيمة، وافْتَتَحَتْ في جزائر ذلك البحر اثنين وثلاثين حصنًا حصينًا من ممالك إيطاليا وغيرها، واقْتَلَعَتْهَا من أساسها، وغَنِمَتْ جيوش المسلمين من الأموال والسبايا ما لا يُحْصَى، وعاد السلطان مع سائر عساكره المجهزة برًّا وبحرًا.
وكان في سنة إحدى وأربعين تَقَدَّم خيْر الدين باشا إلى أسوار مدينة تونس، وكان مَلَكَهَا مولاي حسن من بني حفص، وكان في مدة ولايته قد قَتَلَ أربعة وعشرين من إخوته مشتغلًا بلذاته وشهواته غَيْر مُلْتَفِت إلى تحصين بلاده، فافْتَتَحَهَا خير الدين باشا وَطَرَدَه من البلاد، غيْر أن هذا الفتح لم يَمْكُث إلا مدة قليلة حيث إن مولاي حسن التجأ إلى كرلوس الخامس، فجَيَّشَ على تونس واسترجعها بالحرب لدولة بني حفص، ثم في أيام السلطان سليم ابن السلطان سليمان صار فَتْحُها بالدولة العثمانية، وبَقِيَتْ في أيديهم.
ففي تلك الأيام كانت الهيبة العثمانية عظيمة مُرْعِبَة ملوك أوروبا مع وجود فرنسيس الأول ملك فرنسا، وشرلكان إمبراطور النمسا وملك إسبانيا، وفي أيام هذين القرالين اتَّسَعَتْ دائرة بلاد أوروبا في الفنون والمعارف، وأَخَذَتْ في كمال التقدم، ومن ذلك العهد لا زالت أوروبا آخذة في تقدم الجمعيات التمدنية إلى أن أَبْلَغَهَا درجةَ الكمال عَصْرُ لويز الرابع عشر، وكان ذلك بهمة هذا القرال الذي تاريخه لا ينبغي أن يُهْمَل؛ لما بَيْنَه وبين جنتمكان محمد علي من الشبه الأكمل الأمثل عشر في المفصل والمجمل.
فَلْنَذْكُرْ منه نبذة وجيزة، فنقول: تَوَلَّى هذا الملك على تَخْت فرنسا من سنة ألف وثلاثمائة وخمسين إلى سنة ١٠٧٢ من الهجرة، وكان عمره إذ ذاك خَمْسَ سنوات، ومَكَثَ إلى بلوغ رُشْدِه تحت ولاية أمه فأَبَتْ بِنَفْسِها عنه في المملكة، وقَلَّدَت الوزارة للكردينال مازارين، فكانت مدة مملكته اثنتين وسبعين سنة، فلما تَمَّ عُمْر الملك اثنتين وعشرين سنة باشَرَ أحكام مَمْلَكَتِهِ بنفسه، وكان يَمِيلُ إلى المجد والشوكة، فلا زال مستوزرًا مازارين، فلما دَنَتْ وفاة هذا الوزير وأَحَسَّ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ، وكان معهودًا منه الصداقة لوطنه ومُلْكِه؛ أوصى الملك أن يُسْتَوْزَرَ بعده كولبرت، وكان من كبار الرجال الفرنساوية، فعَمِلَ المَلِك بِوَصِيَّتِهِ، وكان كولبرت حَسَنَ التدبير كامل الاستقامة، فبَذَلَ جُهْدَه في تنظيم المالية، وترتيب القوانين العدلية النافعة، وجعل من الأصول مكافأة أرباب المعارف، وتشويق أرباب الصنائع من الأهالي والأجانب، وجَدَّدَ في المملكة الفرنساوية عمارة سُفُن حربية، وأَسَّسَ مدارس العلوم والفنون، واعتنى بالعلوم المستظرفة كالرسم والنقش، وجَعَلَ لها مكاتب خصوصية، وجَدَّدَ من المنافع العمومية ما صَيَّرَ مُلْكَه مهابًا عند الدول الأجنبية، وأَبْطَلَ أسباب الظلم والجور في داخل البلاد، وأقام قسطاس العدل والإنصاف لراحة العباد، وتَحَوَّلَتْ أحوال الأقاليم في الداخل بالعمليات النافعة، وتَحَسَّنَتْ الأحكام والقوانين، وصارت رياض المنافع يانعة.
وفي أثناء ذلك استنار فِكْرُ الملك، وصار قابلًا لملاحظة السياسة بنفسه، ولانتخاب رؤساء مملكته من كل رئيس نافع لأبناء جنسه، وكما أن الوزير كولبرت مُتَقَلِّد بالوزارة المَلَكِيَّة كان المارشال تورين متقلدًا برئاسة العسكرية، وكان هذا الأمير من فُحُول رجال عصره، نافذ الكلمة في الجيوش الفرنساوية في نَهْيِه وأمره، حليف الصبر والحلم في حالَتَي الحرب والسلم، لم يُعْهَد عليه غَضَب مُخِلٌّ ولا حِقْدٌ ولا حَسَد، بل كان يَتَحَبَّب لكل أحد، مع ما كان عليه من الانفراد بالفضائل والمعارف والغرائب واللطائف، وكان إذا وَجَدَ من غَيْره عيبًا سَتَرَه وخللًا سَدَّه وجَبَرَه، وكان مِقْدامًا على الحروب، جَلْدًا عند الخطوب، يُحْسِن مكايد تدارك الأعداء، ولا يَحْمِل أحدًا من العسكرية على أن يخطو خطوة سُدًى، فقد قَضَى زمانه في خدمة الأوطان، وحاز من المجد العسكري أبهى عنوان.
ولما مات أَمَرَ المَلِكُ بدَفْنه في القبور الملوكية، وتَشَرَّف بعد انقضاء حياته بهذه المزية، وكُتِب على قَبْرِه من الشعر ما معناه: قد دُفِنَ تورين في مقابر الملوك، وامتاز بهذه الحظوة بسلوكه في الحروب أَقْوَم سلوك، وقد أَذِنَ لويز الرابع عشر بذلك ليُتَوَّجَ بعد الموت بتاج المجازاة؛ إذ كان هذا البطل قد أَحْسَنَ رئاسة الغزاة، وليفيد ما يأتي بعده من القرون الآتية، أنه لا فَرْقَ في الدرجة بَيْن من بِيَدِه قضيب المملكة، والقائد الذي يَصُون بِحُسن تدبيره الوطن من التهلكة.
فجميع ما كان من الغزوات الفرنساوية والانتصار فيها على الأخصام الأجنبية كان من حُسْن تدبير تورين، وأما كولبرت رئيس الوزراء فإنه قد جَدَّدَ المنافع العمومية، ووَسَّعَ دائرة التجارة الفرنساوية؛ بكثرة الأخذ والإعطاء في الهند وأفريقيا، وجَعَلَ في هذه الممالك الأجنبية قمبانيات فرنساوية، وسَهَّلَ التجارة الداخلية بفَتْح مسالك في الأنهر، بحيث صارت مسلوكة للسفن، وكذلك فتح طريقًا بين البحرين؛ يعني: المحيط الغربي، والبحر الأبيض، وهو خليج لنفدوق، وقد كان تَصَوَّرَ فَتْحَه فرنسيس الأول مَلِك فرنسا ولم يَشْرَع فيه، ففَعَلَه كولبرت في أيام لويز الرابع عشر، وأنشأ المصانع والمعامل والورشات والكراخانات المتنوعة بتنوع المشغولات، حتى سَلَبَ من البنادقة الاختصاص بصنعة المرايا والتجارة فيها دُونَ غيرهم، ومن الفلمنك صنعة الملابس والمفروشات، ومن بلاد الدولة العلية الاختصاص بصنعة البُسُط والسجاجيد الجيدة، ورَتَّبَ المصالح البحرية من ترسانات ودواوين وعوائد، وحَسَّنَ الزراعة والفلاحة، واكْتَسَبَ المُلْك من أيام وزارته الصادقة في العمل فَلَاحَه، ونَقَّحَ الأحكام والقوانين، وهو المؤسس لمدارس العلوم الكبيرة الملوكية، ولمدارس الرسم لا سيما مدرسة رومية، التي هي بحسن الرسم معهودة، ولم تزل باقية إلى الآن على طَرَف الفرنساوية، ومَرْصُودًا لها دراهم معدودة، ورَتَّبَ مكاتب النحت والنقش والمباني، وحَسَّنَ مدينة باريس بتشييد الأرصفة على نَهْر الصين، وزَيَّنَها بالميادين العمومية الفسيحة، وقَوَّى عِلْم النجوم بالرصدخانة الملوكي، وجَدَّدَ فيها الحسبة والضبط والربط الداخلية، وأدخل حُسْن التربية في الجيوش العسكرية، وسَوَّى بالعمارات بالسواحل المينات المأمونة، وبنى عليها قلاع الثغور المصونة، وجَدَّدَ لِنَفْعِ الملة بتمامها قشلة العساكر السقط على أتم أسلوب وأكمل نَمَط، وعَقَد لمملكة فرنسا على غيرهم من الدول عقود المعاهدات والمحالفات النافعة، وجَعَل الروابط والعلاقات بينهم وبين خلفائهم متواثقة متمانعة، وأَكْثَرَ من الفتوحات الفاخرة التي وَسَّعَتْ لعموم الوطن مُحِيط الدائرة.
وقد رَثَى ولتير الفيلسوفي الشاعر لويز الرابع عشر بذكر بعض المآثر، فقال ما معناه: لم يَتَوَلَّ قَبْلَه مَلِك من تلك العصابة، ولا سَاوَاه غَيْره في تربية الرعية بهذه المثابة، فالفخار شعاره، والمجد دثاره، وكان أَحْظَى الملوك باكتساب الطاعة من رعاياه والانقياد، كما كان أعظمهم في الهيبة عند الأخدان والأضداد، وربما كان دونهم في ميل الرعية إليه، ومحبتهم له بانعطاف القلوب عليه، فطالما رأيناه تَتَقَلَّب عليه صروف الزمان، وتتلاعب به حوادث الحدثان، وهو عند النصرة يُظْهِر الفخار، ويَتَجَلَّد عند الهزيمة، ولا يَظْهَر بمَظْهر الذل والانكسار، فقد أَرْهَبَ عنده عشرين أمة، عليه تَعَصَّبَتْ، وعلى قِتَاله تحالَفَتْ وتَحَزَّبَتْ، وبالجملة: فهو أعظم الملوك في حياته، كما كان عظيم العبرة عند مماته، انتهى.
وكان في عصر هذا الملك من مشاهير الرجال جماعات كثيرون في كل فن، فكان الملك في أعلى درجات الفخار بالجمعيات العظيمة، المُؤَلَّفَة من هؤلاء المشاهير أرباب القرائح الكاملة والعقول الراجحة الفاضلة، وقد استعان بجميعهم، وعَرَفَ لكل منهم فَضْلَه، وقَلَّدَه من الوظائف بِقَدْر استحقاقه، فهو مع هذه الجمعيات العظيمة التي سَاعَدَتْ مَظَاهِر سَعْدِه مُخَلَّدُ الذِّكْر عند مَنْ جاء مِنْ بَعْده، وفي بحر مُدَّة حُكْمه تَوَلَّى على الدولة العثمانية سِتَّة من السلاطين، فقد تولى لويز الرابع عشر على دولة فرنسا، وكان إذ ذاك مُتَوَلِّيًا على الدولة العثمانية السلطان إبراهيم ابن السلطان أحمد خان الأول، فخَلَفَهُ ابْنُه السلطان محمد الرابع سنة ثمانية وخمسين وألف ومات في سنة تسعة وتسعين ومائة، وخَلَفَهُ ابنه في هذه السنة السلطان سليمان الثاني، ويقال له الثالث، ثم تُوُفِّيَ في أوائل شعبان سنة ألف ومائة واثنتين من الهجرة.
ثم تولى في هذه السنة السلطان أحمد الثاني ابن السلطان إبراهيم خان، وتوفي سنة ألف ومائة وواحد من الهجرة، خَلَفَه في هذه السنة السلطان مصطفى خان الثاني ابن السلطان محمد الرابع، وتُوُفِّيَ في أوائل سنة ألف ومائة وخمسة عشر، ثم تولى السلطان أحمد الثالث ابن السلطان محمد الرابع سنة خمسة عشر ومائة وألف من الهجرة، وفي أيامه تُوُفِّيَ لويز الرابع عشر، فقد عَمَّرَ لويز المذكور عمرًا طويلًا بِقَدْر عُمْر خمسة من الملوك العثمانية، فكان طُولُ عمره مما أعانه على كثرة مشروعاته وإنجازه جميعها.
فقَدْ عُلِمَ من هذا مساعدة كبار الملوك على مقاصدهم برجال مجربين، يكاد أن تُنْسَب الأفعال العظيمة إليهم؛ كمساعدة خير الدين باشا وأمثاله لمولانا السلطان سليمان، وكمساعدة الوزير مازارين ورئيس الوزراء كولبرت وكالمرشان تورين وغيرهم من مشاهير الأبطال الذين لا يُحْصَوْنَ عددًا، فلو حَظِيَ المرحوم محمد علي في أوائل توليته بأمثال هؤلاء الفحول المُتَّصِفِين بالسياسة والرياسة وذكاء العقول؛ لكان أَعْظَم أبطال الدنيا، ومع ذلك فَلَهُ الفضل الذي كاد أن يختص في كَوْنِه أَعْمَلَ قريحته في تربية رجاله الذين جاءوا معه إلى الديار المصرية، أو الذين انتخبهم ورباهم فأحسن تربيتهم في هذه الديار، وببركة يُمْنِه وحُسْنِ نِيَّتِهِ الخيرية سَلَكُوا معه سبيل الفخار، ونالوا بتربيته كمال الشهرة والاعتبار، فهو بهذه الملاحظة بالنسبة لتلك الأزمان حاز قَصَبَ السبق في ميدان الملوك السابقين، فهو جدير بأن يُعَدَّ من عظماء ملوك الدنيا بيقين، وحَسْبُه أنه أحسن تربية نَجْله الأكبر إبراهيم باشا تربية عسكرية حتى شَهِدَ له بالفضل الحربي جميعُ أمراء جيوش الدولة الأوروباوية، وأيقنوا جميعًا أنه من كبار قواد الجنود الذين اشتهروا في القديم والحديث، وأنه أَوَّل أمير من أمراء الجنود في الدول الإسلامية من القرون الأخيرة، وأما في السياسة المَلَكِيَّة فكان من كبار المدبرين، وإدارته الخصوصية أَعْدَل شاهد على أنه لو طال عُمرُه بعد توليته؛ لكان من أعظم المعمرين، وقد اقْتَضَتْ حكمة الحكيم أن وَضَعَ في إسماعيل سِرَّ إبراهيم، وأنه حين آل سرير الملك إليه أجرى الله تعالى كَمَالَ خَيْر التمدن على يديه، وما تجدد في عهده من المحاسن الجمة شَاهِد عَدْل على أن مولاه وَضَعَ فيه سِرَّ أبيه وجده، وهي نعمة عظيمة وأي نعمة.