الفصل الثاني
في أن منافع مصر العمومية قد تَمَكَّنَتْ كل التمكن من الذات المحمدية العلية، وتَسَلْطَنَتْ على قَلْبِه وأخذت بمجامع لبه.
***
لا شك أن المُومَى إليه أَدْرَكَ بقريحته الصحيحة وفِطْنَتِه الرجيحة أن المملكة المُثْرِية السعيدة، وسائل الثروة فيها، والسعادة هي عين وسائل الصيانة والمجادة، وأنه ينبغي أن يُعَضَّ عليها بالنواجذ، وأن لا يُفْتَح لشواردها سُبُل ولا منافذ، ومن المعلوم أن منبع سعادة مصر بالأصالة الزراعة، فلا يسوغ لها أن تُتَوَقَّع الثروة إلا من المحصولات الزراعية دون غيرها، فليس من بلاد الدنيا بلد يَسْهُل استخراج غزارة محصولاتها كالأراضي النيلية، كما أنه ليس من أقاليم الدنيا ما هو أقرب للتلف؛ إذ أراضيها أَشَدُّ عُرْضَة للفساد بفساد النيل، فهي تابعة له وجودًا وعَدَمًا.
فإذا أَغْمَضَ النيل عينه عنها سَنَة من السنين، وحَجَبَ عنها فيضانه الممزوج بالطينة المخصبة؛ كانت السنة عقيمة ومُجْدِبة، كما إذا أَغْرَقَهَا بمائه الزائد عن الحاجة واللزوم؛ فإن السنة الغرقية كسنة الشراقي تورث الهموم، وحَسْبك في الخصب وضِدِّه ما ذُكِرَ في سورة يوسف الصديق من ذِكْرِ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ فالآية قد أجادت في وَصْفِ مصر على وجه التحقيق، وقوله: فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ، يُرْشِدُ إلى الاحتياط والاحتراس لجميع ملوك مصر وسائر مَنْ فيها من الناس.
فلهذا كان حكماء ملوك مصر يحتاطون في سِنِي الخصب، فلا يُخْرِجون الزائد لغيرها من البلاد، ويَعْتَنُون كل الاعتناء بحفظ مجرى النيل، وتَنْظِيم القناطر والجسور والترع والخلجان لمصلحة الري في كل طريق وسبيل؛ فلذلك ترى من مباني الفراعنة ما عَظُمَ نَفْعُه من المصالح الخيرية لِحِفْظِ المزارع والمنافع النيلية، فبهذا أَبْدَوْا سعدهم وخَلَّدُوا ذِكْرَهُمْ لمن بَعْدَهُم، واقتدى بهم غيرهم من الملوك.
وعند فتوح الإسلام سَلَكَ الخلفاء والسلاطين والولاة بِقَدْر استطاعتهم في هذا السلوك، وإنما لما صارت مملكة مصر في قبضة الكوليمان، وصار لهم عليها الرياسة، واخْتَلَّتْ أحوالهم، وضَعُفَتْ عندهم السياسة، ولم يَبْقَ لهم من شهامة الحكام إلا مُجَرَّد إحسان ركوب الخيل والفروسية بدون فراسة؛ أَهْمَلُوا عمليات النيل، فخسروا من نَيْل الثروة وكَسْب السعادة خسرانًا مبينًا، وهَجَمَ عليهم الفرنساوية، فلم يَجِدُوا لهم من النظام المعنوي ولا الحسي مُنْجِدًا ولا مُعِينًا، فتَبَدَّدَ شَمْلهم بالكلية، وصارت مصر في يد الفرنساوية تُعَدُّ إقليمًا من أقاليم الجمهورية، ولم تَعُدْ للدولة العلية إلا بَعْدَ التي واللتيا، فزَحَفَ عليها المماليك وبالهمة المحمدية العَلِيَّة لم يَلْبَثُوا بها مليًّا، ثم بِتَوَطُّن هذا الأمير وتوطيد هذا السرير أَدْرَكَ أنه لم يَسْتَوْلِ من الأراضي إلا على موات، ولم يَسْتَرْعِ إلا أحياء ضعاف الهمة، وهم في الحقيقة لاختلال الهيئة الاجتماعية في حَيِّزِ الأموات.
عمارتها وخرابها من وجوه خمسة؛ الأول: أن يُسْتَخْرَج خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من زروعهم، الثاني: أن يُرْفَع خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من عصْر كرومهم، الثالث: أن يُحْفَر في كل سنة خلجانها، الرابع: أن تُسَد تُرَعُها وجسورها، الخامس: أن لا يُقْبِل مَطَلُ أَهْلِها، فإذا فُعِلَ هذا فيها عَمُرَتْ، وإن فُعِلَ فيها بخلافه خَرِبَتْ.
فكان المماليك المستوْلُون عليها لا ينظرون إلى عمارتها، وإنما يأخذون ما بدا لهم وراج في كل عامٍ حتى صارت يبابًا وازدادت خرابًا، فقد كان أَهْمَلَهَا المماليك نحو خمسين سنة بدون عملية نيلية، فكانت الأراضي تَفْسُدُ في كل عام في كثير من الأقاليم حتى هَجَمَتْ جيوش رمال البراري على وادي النيل الصالح للزراعة، فتَكَوَّنَ من الرمال على شواطئ النيل تلال وأكوام، ولو بقي حُكْم إبراهيم بك ومراد بك عشرين من الأعوام لفسدت جميع أراضي مصر الزراعية.
- الأولى: أنه لم يكن للنيل في هذه الأيام إلا فرعان؛ فرع رشيد، وفرع دمياط، وأنه يجب عَمْل أقفال وسدود لهذين الفرعين بطريقة تقتضي أن لا يَنْصَب ماء النيل في البحر الأبيض إلا ما لا يُمْكِن تركه، فبهذه الوسيلة يكون ماء النيل الفائض جسيمًا، ويَمْتَد على كثير من الأراضي زيادة عما هو عليه، فبهذا تَتَّسِع الأرض الصالحة للزراعة، أو للسكنى أزيد من الحالة الراهنة.
- الثانية: إذا صار الاعتناء بتطهير التُّرَع والخلجان كما ينبغي، وصار الاجتهاد في تكثيرها بِقَدْر اللزوم تَمْكُث المياه على الأراضي جزءا عظيمًا من السنة، فيَتَّسِع وادي النيل ومَجْرَاه، ويَمْتَد فيروي الأراضي الصالحة للزراعة، فمن هذه الأراضي القابلة للغرس الواحات الخارجة وجُزْء عظيم مبْدؤُه من برية الفرما وسائر البحيرة ومريوط وما حوالي الإسكندرية، فإن جميع تلك الأراضي كانت في الأزمان القديمة عامرة بالزراعة، وليست من مآثر النيل محرومة.
- الثالثة: قد صح بوجه الحدس والتخمين أن بواسطة الطريقة السابقة المُسْتَحْسَنَة جدًّا إذا أُجْرِيَتْ بالضبط والمواظبة وحُسْن الهندسة، الصادرة عن فِكْرَة سليمة، الناتجة عن حكومة منظومة، تَزِيدُ في مزارع مصر العامرة ما ينيف عن تسعمائة فرسخ مربع.
- الرابعة: الظاهر أن النيل في الأعصر السابقة سَبَقَ مُرُورُه بالفيوم بالأرض، المسماة هناك: بحرًا بلا ماء، وجرى من الفيوم إلى بحيرات النطرون، وكان يخرج منها فينصب في المالح من المحل الذي خَلْفَ قلعة العرب، والظاهر أيضًا أن بركة قيرون، المسماة: بحيرة موريس التي هي كذلك بالفيوم سَدَّتْ هذا الفرع، وصارت بحيرة.
- الخامسة: من المعلوم مما سَبَقَ أن خَصْب مصر ويمنها مُتَسَبِّب عن النيل، ويُمْن غيرها الزراعي متسبب عن اختلاف الفصول والأمطار، فبهذا كانت مصر مستعدة لكسب السعادة أكثر من غيرها، بشرط انتظام حكومتها، واجتهاد أهاليها؛ لأن اختلال حكومتها يُخِلُّ بمزارعها بخلاف اختلال غيرها من الحكومات، فلا يُؤَثِّر شيئًا في جريان الفصول والأمطار، فيَنْتِج من هذا أن مصر إذا تَوَفَّرَتْ فيها شروط انتظام الحكومة، وإصلاح النيل، وسهولة وسائل المنافع العمومية، ودَفْع المضار النيلية؛ كَثُرَ خَيْرُها وبِرُّهَا، وإذا اخْتَلَّتْ فَسَدَتْ مزارعها، فاختلال مصر من السنين الماضية أَضَرَّ بها كثيرًا، مع أنه يُمْكِنُ أن تكون أرض مصر ومزارعها مستوية الخصوبة في جميع أجزاء الأقاليم بخصوبة واحدة إذا صار تَعَهُّدُهَا على الوجه السالف الذكر، بخلاف ما إذا أُهْمِلَتْ جسورها على عَمَلِهَا المعتاد، وتُرِكَت الترع بدون تطهير، فإن ذلك يوجِب تَلَف الإقليم بتمامه، ويجعله صحراء لا يُنْتَفَع بها، فتأخير العمليات عن مواعيدها مُوجِب للتلف، فإن الزراعة والحصد مبنيان على أزمان فيضان النيل وكَمِّيات مياهه، وبقوات العمليات تفوت مواعيد الزراعة والحصادة.
- السادسة: إذا صار الشروع في عملية قناطر عظيمة تَسُدُّ فرع دمياط ورشيد في المحل المسمى بَطْن البقرة، وعُمِلَ لها أبواب ورباحات ومصارف، فإن بواسطة ذلك يَحْصُل تحويل النيل للمحلات التي لا يَصِل إليها بدون ذلك، فمصلحة الري تصير كاملة، ويصير ماء النيل عند الفيضان ضِعْفَيْن بحجز مياهه، ومَنْع الإسراف فيها بانصبابها في البحر، هذا ما تَصَوَّرَتْه الفكرة الجليلة المحمدية العلية، لا سيما مما أرادت إجراءه فيما بَعْد ببناء القناطر الخيرية، وبالجملة: فكان ميل جنتمكان متوجهًا كلية إلى بَذْل مَجْهوده وقوة نشاطه؛ لإحياء عملية الري والزراعة، وعن ذلك نَتَجَ إحياء مصر وأهلها، واستنشقت في أيامه رائحة الراحة؛ لأنه لما كان الري مضمونًا بهذه العمليات صارت الأراضي المصرية التي هي عناصر أرزاق الأهالي ذات أثمان غالية؛ لِكَوْنِها تؤدي محصولاتها بغاية من السهولة، بِشَرْط ترتيب المياه والاقتصاد فيها، فكانت الحكومة المصرية دائمًا مُتَشَبِّثَة بتحسين مصلحة الري، والاحتراس من الغرق والتشريق، فقد سَلَكَ جنتمكان في ذلك مسلكًا حسنًا؛ إذ في أقرب زَمَن اكْتَسَبَ من مالية الأراضي أضعاف إيرادها الأول بقدر ست مرات قبل أن يتفرغ لتكثير العمليات النافعة.
وإنما تأخرت أعمال الري الجسيمة التي هي أَهَمُّ مِنْ غَيْرها في حَدِّ ذاتها وبالنسبة للأهالي، ولتكثير إيراد المملكة؛ لأن غيرها كان في ذلك الوقت أَهَمَّ منها، وهو إيجاد العساكر وتكثيرهم والاحتياج إليهم؛ لتصميم مُلْكِه، والأمن على نفسه، وحماية الوطن، فكانت بالنسبة إلى الباشا المرحوم جميع المنافع العمومية المَلَكِيَّة عرضية، وتابعة للعسكرية التي بها تصميم كرسي الديار المصرية، فلم يَلْتَفِتْ لرواج الزراعة البلدية إلا التفاتًا ثانويًّا، ولم يَصْرِف عليها في أوائل حُكْمه إلا مقادير غير جسيمة بالنسبة لما صَرَفَه على تأسيس العسكرية، ومع قِلَّة الإيرادات إذ ذاك فكان يُحْسِن تدبيره، ويُقَنِّن إيراده على قَدْر مصرفه؛ فلهذا لم تَكُن تحسينات الترع والجسور في مبادي أحكامه مُتَّسِعة، بل كان يَقْتَصِر فيها على الضروري منها.
ومن المعلوم أن النيل لا يُقَاس به غَيْرُه من أنهار الدنيا، فإنه يَسْتَدْعي للاقتصاد فيه تدقيقًا مستمرًّا وتأملًا متكررًا، فلا ينبغي أن يُقَاسَ بالأنهار الواسعة البوغازات، فإن لها عند مَصَبِّهَا ما يُسَمُّونَه حاجزًا، وهو السيف الذي يَرْسُب من الطين وغيره من الأشياء المتجمعة في البوغاز، وهذا الحاجز يصادم مياه النهر عند انصبابها في البحر، فيَجْعَل مجرى المياه وانصبابها بطيئًا، وأما النيل فإن بوغازه عريض عرضًا ذريعًا مخصوصًا به في أيام فيضانه وفي مائه من الطين الذي يتحول معه من بلاد الحبشة جزء عظيم، فيتكون منه عند بوغاز رشيد حاجز كبير جدًّا، يعوق السفن المارة من النيل إلى البحر عن الدخول فيه، أو يجعل دخولها خطرًا، وليس لمصر إلا طريق واحد من النيل إلى هذا البحر تُنْقَل منه محصولاتها، فلما كان في أوائل حكومة المرحوم محمد علي طريق رشيد هي دون غيرها الموصلة لنقل المحصولات لمن يسافر إلى البلاد الأجنبية؛ اضْطُرَّ في سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة أن يَفْتَحَ ترعة بين النيل والإسكندرية، وكان في قديم الزمان ترعة تسمى: بالخليج الأشرفي باقية الأثر، وكانت تُوصِل مياه النيل إلى صهريج إسكندرية وَقْت الزيادة، فكان يُمْكِن توسيعها والسفر فيها، إلا أن جنتمكان محمد علي عَمَدَ إلى إنشاء ترعة جديدة سماها: المحمودية، فكانت من أعظم الترع التي أنشأها على كثرتها، فقد فَتَحَ كثيرًا من الترع والخلجان، إلا أنها متفرقة في جهات عديدة ونافعة في موقعها، ولم يَعْمَل صورة ري واحدة عمومية بحيث يجتمع المهندسون لرسم ميزانية مصرية مؤلفة من مجموع الترع والجسور اللازمة لمشغوليته بما هو أهم من ذلك مدة طويلة في مبادي أَمْرِه، وفي أثناء ولايته، وإنما بعد مدة طويلة اتسعت آراؤه في العمليات، وعَرَفَ الأسباب والمُسَبِّبَات، واكتسب التجارب، وتفرغ للعمليات النافعة، وكان قد جاء أوانها وتَوَفَّرَتْ وسائلها ونفقاتها، وذلك أن النيل في الحقيقة منه تَكَوَّنَ قَلْبُ مصر وقالبها، وهو الموجد للرطوبة الضرورية للقطر؛ إذ لا يَسْتَغْنِي القطر عنها، فالنيل نائب عن الأمطار المرطبة في البلاد الأخرى، وزيادة على ذلك هو الجاذب للطمي الذي هو عُنْصُر الخصوبة وأصْل النماء والبركة، حتى اسْتَظْهَر بعض الطبائعيين أن جميع وادي النيل مُتَوَلِّد من الطمي، ويؤيد هذا القول ما ذَكَرَهُ الأقدمون من أن الوجه البحري مُتَوَلِّد من تراكُم الطمي الطيني الراسب من فيضان النيل السنوي، وأن شكل ساحل البحر الذي على هيئة نِصْف دائرة علامة قوية على صحة هذه الدعوى.
- الأولى: أن تراكم الأرساب الطينية يتسبب عنه ارتفاع أرض وادي النيل بِقَدْر لا يَصِلُه الري، فتضيق كميات الأراضي الزراعية التي يَصِل إليها الماء عند الزيادة.
- الثانية: أن النيل حين يفيض يحفر الأرض وينحر الحصباء، فينفذ في خلال القيوف فيسقطها، فيَحْدُث من ذلك كُلَّ سَنَة انخفاضات جسيمة، فيَتَّسِع فرش النهر ومجراه، وبقدر ذلك تتناقص تسوية ميزانية النهر، ويَنْحَطُّ سَطْحُه، فيتولد عن هذا أن الأراضي التي كانت تَغْرِق سابقًا بالماء مدة الزيادة صارت بعيدة الآن عن النيل بمسافة، بحيث لا يَصْعَد إليها الماء، فبهذا صارت يابسة، ولو في زمان الزيادة، وهذه الحالة ملازمة للحالة الأولى.
- الثالثة: أن النيل من حيث إنه غير محبوس يجور على البحر عند بوغازه المصادم ماؤه ماء البحر عند مَدِّه، ويجور البحر المالح أيضًا على الأراضي المستجدة التي يَضِيق عنها نطاق الري فيُتْلِفها، وسيأتي فيما بعد معالجة هذه العلل الثلاثة المضرة بوادي النيل، وبيان مَضَرَّة البحر المالح للأراضي الزراعية أنه في شهري برمودة وبشنس يكون ماء النيل قليل المياه منخفضًا، فيصعد البحر المالح نحو ثلاثة فراسخ فوق دمياط ورشيد، فيرسب منه رسوب كالربوات من المياه المالحة المنخفضة الزراعة، فيتكون من ذلك البرك المالحة، فمن ذلك بحيرة المنزلة وغيرها من البحيرات التي كانت مزارع وزالت، ثم يأخذ النيل في الزيادة في الصيف، ويحصل الوفاء في الخريف، فيبقى النيل مستمرًّا على زيادته مدة أيام، ثم يأخذ في النقص شيئًا فشيئًا حتى إذا دَخَلَ فَصْل الشتاء كان ماؤه منخفضًا جدًّا، ولكن لا تزال المياه موجودة في الترع الكبيرة، ففي هذه الحالة يَدْخُل فَصْل الزراعة، فإذا انقضى فَصْل الخريف يَبِسَت جميع الترع، ونضب ماؤها ما عدا عدة ترع مستثناة يُسْقَى منها بالراحة أو بالآلات، ففي هذا الفصل تُسْقَى الزروع والغروس في أكثر محالِّ الديار المصرية بالتوابيت والسواقي، إلا أن طريقة السَّقْيِ على هذا الوجه ضعيفة شاقة كثيرة المصاريف، ومع ذلك كله لا ينتفع منها إلا قليل من المزارع، لا سيما القريبة من النهر.
فبواسطة السقي الدائم يَتَحَصَّل من مزارع الديار المصرية ثلاث محصولات أو أربع في كل سنة، ولكن أغلب أرضي مصر ملق غير رواتب، فلا تُسْقَى بتلك الطريقة، بل يَعُمُّهَا الماء وَقْتَ الري حَسْب العادة، فلا تُزْرَع إلا مرة واحدة ولا تُؤَدِّي إلا محصولًا واحد في السنة، فقد لوحظ بالقانون الهندسي أنه إذا صار تعميم النيل بترتيب مساقي مرتبة على فصول السنة، وتوفيق السقي على مزاج القطر، وما يناسب من أصناف الزراعة؛ فإنه يترتب على هذا إيجاد عدة محصولات للمزارع في السنة.
- الأول: ارتفاع وادي النيل المانع لري عدة محلات، والحاجز لعمومها بالماء.
- الثاني: تَلَف القيوف المسبب عنه توسيع فرش النيل، وانحطاط ميزانية مائه.
- الثالث: جور مياه البحر المالح، وامتدادها على الأرض الزراعية، وسلبها منها على التدريج مقادير واسعة، فهذه ينبغي معالجتها وقتيًّا بما يَلِيقُ بها من الإصلاحات كتسبيخها وتسميدها وتوصيل المياه إليها، ولو لم تُنْتِج بهذه المعالجات قَدْر عدة المحصولات السنوية، إلا أن فائدتها تنسيب الزراعة على أسلوب واحد، بحيث إن الماء يَصِلُها فلا تُهْمَل إلى حد حصول التداركات الموفية بالغرض، وأَسْهَل طريق في مَنْع تلك الأسباب المضرة، وإزالة ضررها دفعة واحدة في آنٍ واحد، مع الاقتصاد في المصاريف هو أن يُحْصَر النيل بسدود لائقة؛ يعني: أن يُعْمَلَ له بالهندمة والهندسة فَرْش محصور محدود لا يُمْكِن معه إتلاف القيوف، فالجزء الزائد من ميزانية النهر الذي يطفو على السدود زَمَنَ الفيضان يصير تصريفه بالتوزيع على الأراضي والحيضان، كما كان جاريًا قَبْلَ عَمَلِ السد، فيحصل الطمي كالعادة.
فهذه العملية تَجْعَل فَرْشَ النيل محصورًا، وتزيد في سرعة جريان ماء النهر عند مصبه، فيتجدد من هذه القوة فائدة عظيمة؛ لأن ماء النيل يُزَاحم حينئذ مياه البحر الملاطمة له، ويَغْلُب عليها فيصدها، ويرد امتدادها وانتشارها بما فيه من السرعة والقوة، ويطردها طردًا عنيفًا كما فُعِلَ ذلك في بعض أَنْهُر أوروبا التي بهذه المثابة، وهذا المعنى هو الباعث للمرحوم على عَمَلِ الجسور العظيمة، وعلى عَمَلِ القناطر الخيرية التي هي مِنْ أَعْظَم المنافع العمومية المصرية، كما يُذْكَرُ في الفصل الثالث من الباب الرابع.