الفصل الأول
من المعلوم أن مصر في هذا العهد مِنْ أَحْسَنِ البلاد المشرقية حكومة وأَفْضَلِها إدارة؛ إذ فيها مِنْ كمال حُسْن الإدارة والضبط والربط ما يُفِيدُ الأمْنَ على الأرواح والأموال والأعراض، كما في أعظم الممالك المشرقية والمغربية، وفيها الصنائع أَخَذَتْ في النمو والازدياد، وما أنشئ فيها من سكك الحديد الكثيرة الفروع، ومن الترع والجسور والقناطر زاد كثيرًا في تجارتها وزراعتها، ولو لم يكن للحكومة الحالية إلا حوض السويس العجيب، والترعة الإبراهيمية التي صار إنشاؤها بالصعيد على وَجْهٍ من السعة غريب؛ لكفاها ذلك على رَغْم حاسدها المريب، فناهيك بترعة كادَتْ أن تكون بَحْرًا، وحَفْرها في أَقْرب مدة يكاد أن يُعَدَّ سِحْرًا، وكم للحكومة الحالية غير ذلك من التجديدات والمآثر الخالدات، فلو نَظَرْتَ إلى تحسين المحروسة بتوسيع المشارع والمسالك، وأنها في أقرب مدة صارت كأعظم مدن الدول الكبيرة والممالك؛ لازْدَرَيْتَ مَنْ تَوَلَّى حكومة مصر من الملوك والخلفاء، ولَصَغُرَ في عَيْنِكَ مَجْدُهُم الأثيل الذي ذَهَبَ جُفَاءً واختفى.
فشأن مصر اليوم مما يُغْبَطُ عليه، فهي حَرِية أن تكون قُدْوَة لجميع البلاد المجاورة لها، وبالجملة: فأرض مصر الأريضة الطويلة العريضة طيبة التربة كريمة المنبت، ومضافاتها من بلاد السودان جسيمة المقدار خصبة أيضًا على الأكثر، وتربتها أيضًا مُعْشَوْشِبَة فيها تعظم سعة الخديوية الجليلة المصرية بحيث لا تَنْقُص في المقدار عن ثُلُثِ الممالك العثمانية، فمساحتها مساحة الممالك العظيمة، وجميع أهاليها وأهالي البلاد الملحقة بها نحو ستة ملايين، كل ذلك يجعلها مضاهية حسًّا ومَعْنًى لبعض الممالك المعتَبَرة في ميزان البوليتيقية.
فلا غَرْوَ أن كانت بمزاياها وخصائصها مُنْتَظِمَةً في سُلُوك أحاسن الممالك، بل هي واسطة سلوك العقود الجوهرية، ومالِكُها خَيْر مالك، ومِنْ وَقْتِ ما حَسُنَ فيها مذهب الإدارة والترتيب جاد مَصْدَر إيرادها بالمحصول العجيب، فمَنْ قَدْره بزهاء مليون من الأكياس؛ فقد أصاب حدسه، وما حاد عن القياس.
وأقوى الدلائل في الحالة الراهنة على طيب حال مصر ما يُرْجى لها في المستقبل من نُمُوِّ الخير وانتهاء مَحْو الإصر، ما هو جارٍ الآن من ازدياد تجارتها، وامتداد معاملتها، فإن ما خرج منها إلى البلاد الأجنبية سنة سبع وستين ومائتين وألف هجرية قد زاد الآن خمسة أضعاف على السابق، والذي دَخَلَ إليها زاد ضعفين، فاليوم صارت قيمة تجارتها الداخلة والخارجة جسيمة جدًّا من رءوس أموال وأرباح حتى أَبْلَغَهَا بعضهم نحو مائة وخمسين مليونًا من الليرات، وإن كان هذا لا يخلو عن المبالغة.
ولا تزال مصر بالتقدمات التحسينية المتشبثة بها الحكومة الحالية تتمادى في الازدياد، وتتهادى بِحُسْنِ سلوك سبيل الرشد والسداد، فلا غَرْوَ أن اسْتَحَالَتْ حالةُ الحكومة في أحوال متعددة إلى أطوار حَسَنَة متجددة، ونَهَضَ بها حُسْن الجد والطالع إلى أسمى الطوالع وأسنى المطالع، فما أَحْسَنَ الحكومة التي أَنْعَمَ الله عليها بمن يُسَارع في إعْزَاز الوطن وتَبْلِيغِهِ مناه، وإعلاء الحِمَى وتكثير غِنَاه، ولو باتفاق المال لتحسين الحال:
فالملك العاقل من يستطيب المتاعب في استحصال المعونة، ويستجلب المكاسب؛ ليُقَوِّمَ أَوْدَ وَطَنِهِ، ويتَعَهَّد شُئُونَهُ، ويجتهد في تنمية الإيراد والمصرف إلى حد التعديل، بسلوك أَرْشَد طريق وأَعْدَل سبيل، حتى يبلغ السعي في التنمية درجة الموازنة والتسوية، فإذا امتلأ الحَوْضُ وسُقِيَ الروض لَطُفَ السَّعْيُ، وذاقت الرعية حلاوة الرعي، وظَهَرَتْ ضخامة مصر التجارية وفخامتها السياسية بِغَرْس أصول المنافع الأسياسة، فإِنَّ حُسْنَ الإدارة والاقتصاد والتدبير باب عظيم لِفُتُوح الخير الكثير، وطريق لتأسيس الثروة وتمهيد الغنى، ولتجديد النعمة وازدياد الهنا، وكل ما يُوجِبُ حُسْنَ الثنا، مما يَحْسُنُ فيه قَوْلُ الشاعر:
ولقد حصل في هذا الزمن الأخير في الحكومة توسيعات وتسخيرات عجيبة لم يَتَمَكَّنْ منها المرحوم محمد علي، وكان يتمنى حُصُولَهَا بعضُ المؤرخين حيث أبدى فيه ملحوظة لطيفة، تفيدُ أنه لو ظَفِرَتْ ديار مصر بهذا التكميل لَتَمَّ لها الدست، وفازت بالحظ الجزيل، فما تَمَنَّاه المؤرخ المذكور ثَمَّ في هذه الحكومة الحالية كما سَنَذْكُرُ ملحوظ ذلك في الفصل الثاني، المتكفل لبيان مباني تلك المعاني.