الفصل الثالث
في بيان بلوغ المنافع العمومية بالديار المصرية درجة ارتقاء جلية في عهد الحكومة الحالية مع بعض ملحوظات بهية.
***
يُفْهَم من الملحوظات المذكورة في الفصل الثاني أن بمصر من البُور الصالح ما ينيف عن مليون فدان، وأنه ينبغي إصلاحها والانتفاع بها، وأنه ينبغي في القطر المصري تجديد المروج المدبرة؛ يعني: المراعي كالبرسيم الحجازي ونحوه، وأنه ينبغي لا سيما بالصعيد غرس أشجار التوت وتربية دود القز، وتعميم ذلك في البلاد الصالحة له بالأقاليم البحرية، وتحسين أحوال الأرز وعمل طواحين الهواء لتبييضه وتنظيفه، والإكثار من غرس القطن، وإصلاح أراضي الفيوم بزرع الأصناف كالكتان والنيلة والقطن، والإكثار من قصب السكر في الأقاليم التي ينمو فيها كأراضي المنية ومَلَّوِي، وغرس شجرة البن في مساحة عظيمة من أرض الصعيد، وتربية أغنام المارينوس الأندلسية في الفيوم، وتحسين أجناس الخيل بتوليد الخيول المصرية من الخيول العربية الأصائل، وعمل إصطبلات لذلك بالفيوم والشرقية، وتوصيل البحرين الأحمر والأبيض لتسهيل الأسفار، واتخاذ العريش مركزًا لتجارة مصر والشام، وغرس الأشجار العالية بالصعيد لمنع مضار الريح السموم، ولتسهيل ورود القوافل من داخل أفريقيا إلى مصر لاتساع التجارة.
فهذا مضمون ما أشار إليه صاحب الملحوظات كما يُعْلَم ذلك من مطالعة الفصل السابق، ولا يخفى على الخبير بأحوال مصر الآن أن كثيرًا من ذلك قد كان بحسب الإمكان في أيام المرحوم محمد علي جنتمكان، لا سيما في أيام من اعتنى من بعده وَوَفَى لعُمَّار المملكة المصرية بالشروط والأركان، فأما ما يتعلق بالبور المذكور فقد انتظم من أيام المرحوم محمد علي إلى وقتنا هذا في سلك المعمور؛ إما بالإقطاع والتمليك لقصد الإصلاح، وإما بالضريبة أو التأجير للفلاح وغير الفلاح، ومن وقت الحكومة الإسماعيلية صار إحياء ثلاثمائة ألف فدان من الموات حتى قَلَّ أن توجد من غير المنزرع إلا أطيان جزئية في محال عالية، أو كالحواجز التي انْحَسَرَ عنها النيل ولم يَبْقَ من البور إلا القليل.
وأما تجديد المراعي المدبرة فقد تجدد شيء من البرسيم الحجازي في الدوائر والأواسي المعتبرة إلا أن مصر تزرع البرسيم المعتاد في فصله بكثرة للتشمية، ثم عقب الصيف يكثر فيها المراعي بعد الحصيد مجانًا، ولكثرة علفها اليابس لها عن المروج المدبرة مندوحة.
وأما زراعة القطن فتحتاج إلى زيادة بسط الكلام والتوفية بالمرام؛ لأنها من أنفع المواد للديار المصرية لدخولها قديمًا وحديثًا في المصانع البلدية، ومع أن أرباب زراعتها بمصر بأرياف مصر لهم خبرة تامة بغرسها ومباشرتها؛ فلا بأس بِذِكْر بعض مسائل تَتَعَلَّق بذلك مما هو جارٍ في شأن زراعة القطن في البلاد الأجنبية؛ ليكون به كمال المعلومية، فنقول: إن شجرة القطن تَنْتِج بالقرب من سواحل البحار والأنهار وفي داخل البلاد بالبعد عن السواحل أيضًا، ولا يضرها الهواء الرطب متى كانت درجة الحرارة كافية، بخلاف ما إذا كان الهواء رطبًا والزمن باردًا، ولا يَصْلُح لشجرة القطن البلاد الكثيرة الأمطار المتعاقبة، لا سيما في ابتداء غرسها وفي زمن تزهيرها وفي زمن جنيها، فإن المطر في زمن غَرْسِها يوجب العفونة للبذر، وفي زمن تزهيرها يُسقط الأزهار، وفي زَمَن جَنْيِها يقتضي تأخير المحصول ووساخة القطن والإضرار بما يُجْنَى، وأما إذا كانت الأمطار غير متعاقبة بل متباعدة المسافات فإنها تَنْفَع لنمو أغصان هذه الشجرة، وكبر حجمها، وجودة جنس القطن.
ويجب أن تُغْرس أشجار القطن في جهات متباعدة عن الأورمان والغابات، وأن تكون بحيث لا يَمْنَع ظِلُّ الجبال والتلول تَمَكُّنَها من أشعة الشمس؛ لأن الظل يؤذي شجر القطن ولو في الأقطار الشديدة الحرارة، ويُسْقط أزهارها، وكذا الرياح العاصفة والباردة تضر به، فينبغي أن يُزْرَع القطن في الجهات التي ليست عرضة لهبوب الرياح.
ومن المجرب أن نَفْع الهواء مثل نَفْع النور للزروعات، فينجح زرع القطن في التلول المتوسطة الارتفاع التي تَمُرُّ بها الأهوية النافعة، وأن لا يُظِلَّها ظِلٌّ، وأن يكون عُمْق الأرض الدرجة اللازمة لها، وأن لا تكون الأرض صلبة ولا حجرية ولا يابسة، فإذا كانت الأرض يابسة ينبغي سقيها، وتنجح شجرة القطن في الأراضي المتخلخلة المشوبة بالرمل أكثر من نجاحها في الأراضي القوية الإبليزية، وتنجح في الأراضي الخفيفة الليونة أكثر من نجاحها في الأراضي اليابسة؛ لأن ذلك نافع لِتَشَعُّب سيقانها وتعريشها، ومن المُجَرَّب أنها في الأرض القوية الخصبة، ولو أنها تنمو نماء بليغًا وتكثر أزهارها، غير أن الأزهار تَسْقُط بالسرعة فلا تُنْتِج المحصول الكثير، ومثل ذلك ما إذا كانت الأرض شديدة الرطوبة فإن أزهارها تسقط سريعًا، وربما حَدَثَ من ذلك عفونة سيقانها وبذرتها معًا.
ولا تنمو شجرة القطن — كما لا ينمو غيرها من النباتات — إذا غُرِسَت بالأراضي الصخرية والحجرية؛ لأن سيقانها لا تَجِد شيئًا تخترقه وتنمو فيه، ويَصْلُح لغرس شجرة القطن الأراضي الرملية الدقيقة الرمل المشوبة بالطُّفل أو بالجير، فنُمُوُّها في هذه الأراضي، وإن لم يكن شديد القوة، لكن كثير المحصول الجيد الصنف وسريع الاستواء، وقد يَنْجَحُ غَرْس القطن في الأراضي المتوسطة الخصوبة التي يَتَعَسَّر فيها نجاح غيره من الزروع، والحاصل أن تمام نجاح غَرْس القطن ونُمُوِّه يكون في الأراضي المحتوية على الرمال الدقيقة السهلة الحرث القليلة الرطوبة، وإنما ينبغي الاعتناء بإصلاح الأرض قبل البذر فيها، وينبغي التفطن إلى أن ساق شجرة القطن لا بد أن يَدْخُل في الأرض ثمان عشرة بوسة؛ يعني: أصبعًا لا أَقَلَّ من ذلك، وأنها لا بد لسيقانها من التعريش والامتداد، فالأرض الصلبة الكثيفة الصعبة المَنَافِذِ لا تَلِيق لها، ولا يُدْرِك الزارع التعمق والتجنب إلا بمعرفة درجة العمق المطلوب لوصول الساق في الأرض ومقدار مسافة البعد المطلوب بين سَاقِ كُلِّ عود مع العود المجاور له، أما معرفة العمق فيسهل الوصول إليها بِحَرْث الأرض والتعمق فيها بقيمة ثمان عشرة بوسة إلى عشرين بوسة، وأما مَعْرِفَة قَدْر مد الساق من الفراغ لتعريشه فهي تابعة لطبيعة الأراضي، والمعتاد فوات الفراغ بين الخطوط بقَدْر سبعة أشبار ونصف في الأراضي الضعيفة، وثلاثة عشر وأربعة عشر شبرًا في الأراضي الخصبة القوية، فينبغي للزارع أن يَنْتَخِبَ محلًّا مخصوصًا، ويَغْرس به جملة أشجار بعضها متقارب وبعضها متباعد، فالأنجح منه يتبعه.
وينبغي الابتداء بحرث الأرض وإزالة ما بها من آثار النباتات الطُّفَيْلِيَّة والحشائش، وأن يَشُقَّ جوفها بالمحراث أو بالعزق، إلا أن العزق يَنْفَع في الأراضي المنفصلة الأجزاء دون السمينة القوية، وبعد الحرث والعزق يُرَتِّبُها حفرًا أو شقوقًا ونقرًا، ويَتْرُكُها عُرْضة للشمس والهواء مدة من الزمن، مع تنقية ما فيها من الأحجار، ثم يَرُدُّها بالثاني بإعادة كمية الطين الذي أُخِذَ من جوفها بعد أن يَخْلِطَه بالسبخ، ولا يَتْرُك مكشوفًا فيها بوسة واحدة، ويضع في الجزء المكشوف تقاوي القطن بالوجه اللائق، وفي كل نقرة يَضَع من البذر ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ثم يُتَمِّم رَدْم النقرة بباقي الطين الذي خَرَجَ منها، وبِجَعْل ارتفاع النقرة مساويًا لارتفاع مُسَطَّح سَطْح الأرض المجاورة لها؛ لئلا تكون مخزنًا للمياه التي تُعَفِّنُ البذر.
ويلزم أن تُرْدَم جميع النقر التي وُضِعَ فيها البذر في يوم حفرها؛ خوفًا من إتلافها بنزول المطر أو نحوه، وينبغي أن تكون أشجار القطن متباعِدَة عن بعضها؛ لتمكن الهواء والضوء منها، وينبغي بعد حرث الأرض لزراعة القطن أن تَمُرَّ فوقها الآلة الهراسة؛ لتكثير قطع الطين الكبيرة وفَكِّها، ومن أهم الأمور انتخاب التقاوي بأن تكون كاملة النضج، سليمة خالية عن العيوب، مأخوذة من أثمار الأشجار القوية النمو، وإلا كان محصولها ضعيفًا وخسيسًا وخليًّا عن الجَوْدة؛ ولذلك ينبغي للزارع البارع أن يَنْتَخِب قطعة أرض في جهة من الجهات المعتدلة الهواء، ويَزْرَعها من الأشجار الشديدة القوية، ويُعِدَّها للتقاوي فيَنْتَخِب منها ما يكون متكاملًا في الحب، ثقيلًا في الجرم، ولا يَخْلِطُه بغيره من الحبوب، ثم يَبْذُر منه في الأرض، ومن محصوله بالخصوص، إلى أن يَظْهَر له انتقاص المحصول في الكمية والجودة، فيُتَدَارَك غيره أو أعظم منه من التقاوي، فقد صح بتكرار التجارب أن تكرار زراعة الصنف الواحد في الأرض نَفْسِها يَعْتَريه على مدى السنين تَنَاقُص في الجرم والجودة، فالأرجح لمصلحة أرباب الزراعة القطنية استبدال تقاوي أراضيهم بتقاوي الجهات المجاورة لهم، أو جلب تقاوي أجنبية من الخارج، وعلامة الخسية في تقاوي القطن أن يكون مفتوح اللون، عظيم الجرم، وأن يكون غلافه محتويًا على نقط بيضاء، وأن يعوم على وجه الماء، وعلامة الجيد أن يكون صلبًا، ثقيل الوزن، والغالب عند أرباب الزراعة أن التقاوي تكون قديمة من محصول السنة الماضية، وهناك عادة مطروقة في بعض البلاد وهي خدمة التقاوي؛ لانفصال الحبوب من بعضها وتفريقها، وتنظيفها من الألياف القطنية المشتبكة بها.
وطريقة ذلك وَضْع التقاوي في الماء عدة ساعات، ومَزْجها بعدُ بالرمل أو الرماد أو الطين المُسَوَّس، ثم دَعْكها فيما بَعْد بعضها فوق بعض بالأيدي أو بالأرجل، وبعض الناس يَغْمِسها في الماء اثنتي عشرة ساعة؛ لِقَصْد تعجيل إنباتها، ويَحْسُن استعمال هذه الطريقة في الأراضي اليابسة القليلة الرطوبة، وأَنْفَع من ذلك لتكثير المحصول غَمْس التقاوي في الماء الممزوج بهباب المداخن أو برجيع معاصر الزيوت، فإنه يقيها أذى الحشرات الأرضية كالدود.
ومن المعلوم عند أرباب الزراعة أن الأرض المتكونة من طرح البحار والأنهر الغزيرة الطمْي غنية عن التسبيخ، ومثلها في ذلك الأراضي البور التي صار إصلاحها قريبًا، وأما ما عدا ذلك من الأراضي فلا يَسْتَغْنِي عن التسبيخ، وبيان ذلك أن القطعة من الأرض يمكن للزارع خِدْمَتُها وغرسها قطنًا، والاستحصال منها على ما يشاء من المحصول بشرط أن يكون تسبيخها حسب اللزوم، وأن يكون سَبْخها موافقًا لطبعها، وأن يُوضع فيها من السبخ القدر اللازم على قَدْر الحاجة، فوَضْع السبخ بالقدر اللازم والجودة المطلوبة متعلق بمعرفة الزارع وبطبيعة الأرض، وأهل الصين هم الذين يُحْسِنون زراعة القطن، ويجيدون تسبيخ أراضيهم، إلا أن استعمال التسبيخ برَوَث المواشي والخيول قليل جدًّا عندهم؛ لعدم اعتنائهم بتربية الحيوانات؛ فلهذا يُقَوُّون الأرض بطين الأنهر والخلجان والوديان والبرك وبأنواع الرماد ورجيع عصر الزيوت وبالفضلات الإنسانية، إلا أنهم يفضلون الرماد على غيره خصوصًا رماد القصب والخيزران والحشائش الطبيعية وأوراق الأشجار، ويحترسون على تجميع الأجزاء الصغيرة من أجزاء قُطْنِهم ومن جزورها وأوراقها ولوزها وعيدانها، فيحرقونها وينشرونها في الأرض المُعَدَّة لزراعة القطن قُبَيْل غَرْسه، وقد صار الآن رجيع عصر الزيوت مستعملًا في أوربا لتسبيخ المزروعات، ولا يُفَرِّط أهل الصين في شيء أصلًا من الفضلات الإنسانية، فيدخلونها في إنبات البقول على الإطلاق لتقوية الإنبات، وفي جميع البلدان يُستعان بها مائعة أو يابسة على تقوية المزروعات، بخلاف أهل الصين فإنهم ينتفعون بها في زراعة القطن من وجهين؛ الأول: طرحها في النقر مختلطة بكمية كافية من الماء لِسَقْي الأرض منها، الثاني: أنهم يَخْلِطُونها خلطًا جيدًا بجانب من الطُّفل أو من طين المزارع، ويصنعون من ذلك أكرًا صغيرة، ويُنَشِّفُونها في الشمس، ثم يَسْحَقُونها في وقت الطلب، وينثرونها على سطح الأرض المُقْتَضَى زِرَاعَتُهَا، وقد يُسْتَعْمَل في بلاد الصين التسبيخ بالجير لإصلاح أراضي القطن، كما يُسْتَعْمَل ذلك في بلاد أوروبا، وهذه الطريقة نافعة لزرع القطن إذا كانت أرض القطن خالية من المادة الجيرية.
وزمن بذر القطن يكون تارة مُقَدَّمًا وتارة مُؤَخَّرًا بحسب ما يُوافق مزاج القطر وطبيعة الأرض، ومع ذلك فهو دائمًا قَبْل دخول الشتاء بشهرين أو بثلاثة في البلاد الباردة الثلجية والبلاد الحارة القليلة الرطوبة، وينبغي بذر التقاوي في الأراضي حين وجود درجة الحرارة المطلوبة، فإن بُذِرَتْ قبل ذلك لا تَنْبُت ويصير تعفين البذر، وينبغي أن يكون رَمْي البذر في يوم الصحو، ولا يجوز أن يكون في زمن نُزُول الأمطار الكثيرة، فإنه يترتب على ذلك تَعَفُّن البذر أيضًا.
ومن الواجب أن يحافظ المزارعون في كل عام على أكثر مما يَلْزَم لهم من التقاوي؛ لكي يُمْكِنُهُم إعادة الغرس مرة أخرى، فالمزارع المُتَبَصِّر بالعواقب يَحْرِص دائمًا على قَدْر التقاوي مرتين فأكثر.
ينبغي تَعَهُّد مَزْرَعة القطن للتنظيف وإزالة ما يَنْبُتُ فيها من الحشائش الطفيلية والنباتات الأجنبية، وخلعها إما بالأيدي وإما بالآلات، وكذلك يجب الاعتناء بعملية تقليمها تقليمًا جزئيًّا أو كليًّا، وينبغي الاعتناء بها في زَمَنِ بُدُوِّ إزهارها وإثمارها، والاعتناء بكيفية سَقْيها.
وبيان ذلك أنه متى شُوهِدَ أن الحشائش الأجنبية زاحَمَتْ عيدان شجرة القطن النابتة؛ يجب عَزْق الأرض وتنظيفها من الحشائش، وقد جَرَت العادة أن أَبْذَار شجرة القطن تَخْرُج من الأرض بَعْد مُضِيِّ أسبوع مِنْ بَذْرِها إذا كانت الأرض مُحْتَوِيَة على درجة الليونة اللازمة، وكان الحر شديدًا، ومع ذلك فقد يَتَقَدَّم الإنبات أو يتأخر عدة أيام بحسب ما يَقْتَضِيه مزاج القطر وطبيعة الأرض، وتكون تنقية الحشائش في المرة الأولى متى بَلَغَتْ عيدان القطن أربع إيهامات أو خمسة أو ستة؛ يعني: متى مضى شهر كامل تقريبًا بعد البذر، وإنما يَلْزَم الاحتراس من إتلاف العيدان الصغيرة المستورة بالحشائش، والأحسن استعمال اليد في قَلْعها أو بالمنجل المقَوَّر، وكذلك ينبغي في عزق الأرض الاهتمام بقلع عيدان القطن الضعيفة وإبقاء القوية للتخفيف، مع الاحتراس من أن لا تتزحزح العيدان الباقية عن مكانها، ولا تُتْلَف جُذُوره، ومن الواجب لتثبيت الجزور وتمكينها بعد خلع العيدان الضعيفة أن يَصِير دَكُّ الأرض بالرجل في جميع أجزاء الغيط، وهذه العملية تكون في التنقية الثانية؛ يعني: متى بَلَغَت العيدان في الارتفاع ثمانية عشر إصبعًا، ويقال لهذه العملية: عملية الدور الثاني.
وأما الدور الثالث فيكون في وقت دخول زمن التزهير، ولا يجب عمليات إذا نَبَتَت الأزهار وظَهَرَتْ؛ لأنه يُخْشَى في ذلك الوقت من سقوط شيء من الأزهار بعملية العزق والتنقية، فإن المزرعة إذا حَسُنَتْ تَنْقِيَتُها قبل دخول التزهير فإن العيدان تكون في هذه الأوان مُظِلَّة على ما تحتها من الأرض، فلا تَضُرُّها النباتات الأجنبية، ومع ذلك فمن اللازم أن تكون الأرض دائمًا بالتلطيف نظيفة نقية خلية من الحشائش الأجنبية، بحيث لا يصير إبقاء الحشائش الأجنبية حتى تَنْمُو وتظهر ويلزم أنه لا يمس قشر جذوع أشجار القطن جِرْم أجنبي، فيلزم لهذا عَزْق الأرض وتنظيفها ثلاث مرات فأَزْيد في العام الواحد خصوصًا في مزارع القطن التي تُزْرَع بالسقي؛ لأنها في العادة تَكْثُر بها الحشائش الأجنبية، فيجب تَعَهُّد هذه الحشائش بالقلع، وإبعادها خارج المزرعة.
ويكون تزهير شجرة القطن بعد إنباتها على سطح الأرض بنحو خمسة أشهر، بل بما دون ذلك في الأقطار الحارة، وبأزيد من ذلك في الأقطار الباردة، وكذلك بُدُوُّ ثمرتها قد يَتَقَدَّم أو يَتَأَخَّر حسب مزاج طبيعة القطر وسِنِّ الأشجار، ولا مانع من ابتداء جَنْي القطن في آخر الشهر الخامس أو السادس، وتقل العمليات المقتضى إجراؤها في أثناء زَمَن التزهير إلى استواء الأثمار، وربما انْحَصَرَتْ جميع العمليات في تقليم الفروع الميتة، ويجب على الزارع الماهر أن يَسْتَيْقِظَ بين مسافة التزهير والإنبات لحِفْظ الشجرة ووقايتها مما يَعْتَرِيها من الآفات.
وأما سَقْي شجرة القطن بالبلاد الحارة اليابسة فهي أعظم ما تُعِينُ على إنبات النباتات، فإن الماء أقوى الأسباب الموجبة لإحياء الأرض وخصوبتها، وبدون إعطاء الأرض حَقِّها في السَّقْي لا تُجْدِي ولا تُثْمِر ولو تَوَفَّرَت الشروط الأخرى، فسقي الأرض في الأوقات اللازمة عليه نجاح زَرْع القطن، فلا تَسْتَغْنِي أشجار القطن عن أَخْذ حَقِّها من الماء خصوصًا في الأقاليم الحارة المتمكنة منها أشعة الشمس المُحْرِقة، وينبغي أن يُحْتَرَسَ في السقي أن لا يكون زيادةً عن المُقَنَّن.
فقد ظهر بالتجاريب الصحيحة أن سَقْي القطن إذا زاد عن المُقَنَّن يُنْقِص جودة جِنْس القطن، وسواء كان ذلك في زمن حَرْث الأرض أو بذر التقاوي فينبغي أن يكون تقسيم المياه وتوزيعها بحسب الحاجة.
ثم إن السقي للأراضي القطنية وريها قد يكون لازمًا قَبْل دخول زَمَن البذر، وتارة يكون عقب إتمامه، والأرجح أن لا يصير سقي الأراضي المبذورة إلا بعد البذار بخمسة عشر يومًا، أو بعد تخفيف الأرض من أعواد القطن الضعيفة ما لم تكن المزرعة كثيرة اليبوسة، فإنه ينبغي الاهتمام بسقيها عند مجرد الإنبات، وقد يُعْتَنَى في بعض البلاد بري الحُفَر المُعَدَّة لبذر القطن، وتَرْكها مُدَّة من الزمن حتى تنشف قبل وَضْع التقاوي فيها.
ولا يمكن تحديد زَمَن لسقي الأرض ولا تقدير كمية الماء الذي يُسْقَى به، بل هذا موكول لمهارة الزارع، حيث يُرَاعِي ما يوافق مِزَاج قُطْر بَلَدِه وطبيعة أرضه، حيث إن الأرض المُرْمِلَة تُسْقَى أكثر من الأرض الطينية المتكائفة التي من طبيعتها الرطوبة، وكذا إذا كان القُطْر حارًّا يابسًا قليلَ الأمطار يلزم تَوَاتُرُ السقي ما لم يَكُن معتادًا بكثرة الندى؛ لأن نَفْع الندى في كثير من البلاد مِثْل نَفْع الأمطار؛ ولذلك كثيرًا ما تَنْجَح شجرة القطن وغيرها من النباتات الشديدة الحرارة المعدومة الأمطار.
وأما إذا صار تسبيخ أرض القطن فلا بد من سَقْيِها وفيض الماء فَوْقَها، ولا مانع من استمرار السقي كل خمسة عشر يومًا مَرَّة إن كان من كل الأرض ومزاج القطر صالحًا لذلك، وهذا في غير زمن الإثمار، وبعضهم يقول: إن السقي غير لازم من ابتداء التزهير، ويُرَجَّح ذلك لأن الشجرة في زمن تزهيرها موجود بها ما يكفيها من الفواعل المُعِينة على تَغْذِيَتِها، لا سيما وأَنَّ سَاقَهَا مُغَطًّى بما يُظَلِّله من الفروع والأوراق التي من عادتها تجديد الرطوبة المساعدة على تنضيج الأثمار وبلوغها حَدَّ الكمال.
وأما غرس شجرة التوت وتربية دود القز بالديار المصرية فيحتاج أيضًا إلى بعض إطناب، فنقول: إن من المعلوم أن التوت مألوف الغرس عند العرب، ويُسَمَّى الفرصاد، قال ابن وحشية صاحب الزراعة: «التوت أنواع يُخَالف بَعْضها بعضًا في الطعم والطبع، وفيه ألوان فمنه الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والأغبر، وكذلك طعمه فيه الحلو والمر والتفه، وأكثر ما يُتَّخَذ غَرْسًا وتحويلًا، وأجود ما يُنْبَت منه ما أكله بعض الطيور الموجودة في البساتين وزَرَقَه؛ لأن بزر التوت لا ينهضم في معد الحيوانات كلها، فالطير يأكله ويزرقه على شطوط الأنهار وتحت سقوط مجاري الأمطار، فينبت نباتًا جيدا، إلا أنه إذا وقع إلى الأرض من جوف الطائر وقع وزبله معه فيُنْبِت بسرعة، والطيور التي تُحِبُّ لَقْطَ ثَمَر التوت كثيرًا هي الفواخت والوراشين والعصافير والغربان، وهذا النبات يوافقه الماء موافقة كثيرة، وليس له زبل يَخْتَصُّ به، بل جميع الأزبال على اختلافها مُوَافِقَة له، ويحتاج إلى التسبيخ مرتين في السنة، وقد يَنْبُت في البراري بنفسه ويَعْظُم فيها، إلا أنه إذا نَبَتَ بقرب المياه وعلى أطراف الأنهار كان أجود، ويوافقه ريح الجنوب، وتُلَقِّحُه لقاحًا حسنًا، وهو يَمُدُّ عِرْقَه إلى أسفل الأرض كالكمثرى، وغَرْسُه في أول شباط وإلى آخر آذار، وتُغْرَس أصوله بعروقها وقضبانها.» انتهى كلام ابن وحشية.
وقال ابن بصال: وَجْه العمل في غَرْسه أن تُحْفَر له حُفَر رقيقة، ثم يُغْرَس كما يُغْرَس التين، ومن الناس من يَغْرِسه كما يَغْرِس الرمان أوتارًا، وإذا نَبَتَتْ عروقه حول، «قال» أحمد بن وحشية: «التوت أعز الأشجار؛ لأن دُود القز لا يَأْكُل إلا منه، ومنافعه كثيرة جدًّا.» وقد قال المعتصم العباسي لعمال البلاد: «اسْتَكْثِرُوا من شجر التوت، فإن شعبها حَطَب، وثَمَرَها رَطب، ووَرَقُهَا ذَهَب.» انتهى، قال الشاعر في ثمر التوت:
ولما مَنَّ الله سبحانه وتعالى على المملكة المصرية بِتَقَدُّمِها في طريق التمدنات العصرية؛ وَفَدَ على مصر كُلُّ وَافِد، وقَصَدَهَا كُلُّ قَاصِد ممن له نصيب في المعلومات الصناعية والمنافع التجارية والزراعية؛ رَجَاءَ أن يَجِدَ في مصر نصيبه في الغنيمة، وأن يُرَوِّج صناعته بأَنْفَس قيمة، فكان ممن حضر من بلاد فرنسا شخْص يُسَمَّى: الفونس غوطيه، من أرباب الزراعة، يَتَشَبَّثُ بفلاحة غرس التوت، وتربية دود القز، واستخراج أبزاره المسماة بالشنارق، وطرق حلجه، وتصفيته وتنظيفه، وكيفية غزله، وهذا الوافد كغيره من الوفود الأغراب إنما حَضَرَ إلى مصر؛ رجاء أن يَجِدَ فيها نصيبه من الربح بجولان النظر فيما يُبْدِيه من التعريفات لتنمية هذه المنفعة، فهو مُتَشَبِّث بالتجريبات والعمليات من منذ ستة أشهر، يجتهد كل الاجتهاد في تجاريبه العديدة، وهو الآن مشغول بتجربة ذلك في الجزيرة بأمر عزيز مصر الجالب لها الفوائد الغزيرة، ويقال: إنه كان قد نَجَحَ أيضًا في تربية دود القز بالأقاليم البحرية، وظَهَرَ له أن استخراج الحرير من غَرْس شجر التوت وتربية دود القز واستخراج الحرير منه يزيد في عمارية مصر وفي مصانعها وثروتها.
ونَصُّ عبارته فيما كتبه في هذا المعنى: قد كان محصول القطن في العهد القريب؛ بُغْيَة تجار مصر وزُرَّاعها، وكان الاشتغال به مُسْتَوْلِيًا على عقولهم وجُلِّ مرامهم وأقوى غرامهم، وأَغْلَبُهُم يَحْبِس رَأْس ماله عليه، ولا تَمِيل نَفْسه إلا إليه، ولم يَخْطِر ببال أحد منهم أن يَمِيل إلى غَرْس التوت، ولا تَنَبَّه للاستحصال على الحرير، ولا اسْتَيْقَظَ لما يَتَرَتَّب عليه من المنافع العمومية المهمة، مع أنه أيضًا مَنْبَع الغِنَى والثروة، والظاهر أنه لم يَعْزُب ذلك من عقول المتقدمين منهم، وإنما لم تُسَاعِدْهُم الأوقات والأحوال، ولا أَعَانَهُمْ على ذلك ولاة الأمور في الأزمان السابقة، والآن قد حَانَ أوان الوعظ باتخاذه، ولعل الوعظ فيه يقرع الأسماع، ويُؤَثِّر في النفوس الزكية المُحْرِصَة على جميع أنواع الانتفاع، ولا أَنْفَع لمصر من غَرْس التوت لتحصيل الحرير، فإنه ينشأ عن ذلك الخير الجزيل والغنى الغزير، فإن غنى مصر يكون في المستقبل بدون الاستحصال على الحرير ضيق الدائرة، كما يكون كذلك بدون القطن، فإن زراعة شجرة التوت القزي لم يَأْخذ من أراضي مصر إلا الأماكن الخالية الآن عن الغرس، فإن انْضَمَّتْ من الآن فصاعدًا زراعة هذا الصنف إلى زراعة القطن على طريقة حسنة فلا يَنْقُص ذلك من أراضي مصر شيئًا، ولا يَنْقُص كمية زراعة القطن.
فبهذه الطريقة الجامعة بين الزراعتين يزيد غنى أهالي مصر عما كانوا عليه قبل كساد القطن عقب صلح أمريكة، ولا شك أن كل عاقل يتمنى شدة الاعتناء بغرس التوت بقدر اعتناء الحكومة بتنمية القطن؛ لإدراكه احتياج الصناعات إلى الأقطان، فكذلك المنافع العظمى تستدعي نُمُوَّ الحرير لرواجه، فإن مصانع فرنسا الآن في أشد الاحتياج إلى الحرير، وهو مطلوب أيضًا لمصانع إيطاليا وإسبانيا، نعم إن بلاد يابونيا والصين والهند والدولة العثمانية مجلوب منها هذا القرع التجاري الصناعي، إلا أنه لا يفي بحاجة الصناعة لعموم الجهات، وحيث إن الأقاليم المصرية مملكة مُسْتَجِدَّة بالنسبة للصنائع الحالية ومتشبثة بالحصول على درجة الكمال، فاستخراج الحرير فيها يكون من صالح المصالح، فإذا غُرِسَتْ فيها أعواد التوت الصغيرة فلا تَمْكُثُ مُدَّةً إلا وتَجْمُد وتعلو؛ إذ ليس من الشجر ما يَقْوى على الشموخ مِثْل شَجَر التوت، ولا من البلاد التي في دائرة البحر الأبيض الرومي مَنْ له هذه المنقبة مثل مصر، ففيها يَكْثُر ويُسْعف جميع الجهات، فإن الحرير الآن في سائر البلدان متجاوز الحد في الأثمان، فلا يُقْدِم على شرائه إلا أصحاب الأموال الجسيمة وهم الأغنياء المُفْرِطون في جمع الأموال، فهم يغتنمون فرصة احتكار زراعته أو الاستيلاء عليه، فلا يكادون يُخْرِجُونه إلا بالأثمان الغالية لقِلَّتِه، فتكثيره في بلاد الدنيا لا يكون إلا بواسطة الحكومة المصرية حيث مَوَاقِعُها الطبيعية أَصْلح المواقع لزراعته؛ إذ ما فيها من التوت العجوز يُتَحَصَّل منه حالًا بواسطة التربية والخدمة أجود ما يكون من الحرير، فإذا صار تقليمه بمعرفة أهل الصناعة بالطريقة اللازمة زاد محصوله وسَهُل اجتناء ثَمَرِه، ثم تُغْرَس عيدان التوت الشابَّة بترتيب لطيف، فيُتَحَصَّل منها أوراق ظريفة مع حسن الاقتصاد في مصاريف الصناع المستخدمين لذلك.
فإذا صار في الأقاليم المصرية الابتداء بخدمة الحرير الكثير المحصول على هذا الوجه في الأقاليم البحرية؛ فإنه يصير كثير الأرباح جدًّا، ولا يَضُرُّ في الزراعات الأخرى، فإن غَرْس أشجار التوت يكون علاوة على غيره من الزراعات حيث يُغْرَس على حافات الترع والخلجان العديدة، وعلى الطرق الكبيرة والصغيرة العمومية والخصوصية، وعلى حدود الشفالك والأواسي، والأراضي المملوكة والأتربة، وعلى الجسور وأسوار المدن والقرى والكفور؛ لتكون أشجارهم مُظِلَّة حول القرى والغيطان والكروم والبساتين، وهي أعظم ما يكون في الوقاية من حر الشمس.
فإذا تم غَرْس هذا الصنف على هذا الوجه فإنه يكون في آنٍ واحد ابتداء مغروسات سريعة الإنبات بديعة المحصول، ولا يَخْفَى أن مديرية البحيرة واسعة الأراضي المسطوحة، فإذا غُرِسَتْ شطوط تُرَعِها بأشجار التوت كان لها مَنْظَر الظرافة والثروة، وتُعَدُّ من المنتزهات الخلائية يَسْتَظِلُّ الفلاح تحتها وقت الاستراحة، ويستريح المسافر عندها وأرباب السياحة، وتَحْجُب الرياح الشديدة الهبوب وتُلَطِّفُها، وتَمْنَع شِدَّة مَضَرَّتِها وحِدَّة أذاها، لا سيما في أيام القيظ وحرارة الخمسين، وتنفع أيضًا هندسة الطرق المدبرة لتحسين حصيد جوز الحرير، فإنه ينمو فيها الغرس فتكون تربية الدود تربية متوالية وأجود من تربيته في أوروبا؛ إذ ثَمَر دود القز يَخْرُج أربع مرات في السنة كما يُحْصَد في بلاد الصين والهند ويابونيا وفي مملكة برمان، وكما أن مصر صالحة لدود القز استخراجًا بزراعة التوت فهي صالحة لِحَلْجِه وتنظيفه وغَزْله وصناعته أَكْثَر من غيرها، فينجح فيها كُلَّ النجاح؛ إذ يَتَحَصَّل منه أَصْنَاف جيدة منتظمة بهيجة النعومة واللون والقوة والتمدد واللين، مستكملة لجميع ما تستدعيه جودة هذا الصنف، بخلاف الحرير في أوروبا فلا يعطي إلا محصولًا واحدًا، فإن شهور فصل الشتاء طويلة الليالي كثيرة الرطوبة، موجبة لاستخراج الحرير من جوزته، فتحتاج إلى كثرة المصاريف للاحتراس والتدارك.
وكذلك فصل تربية الدود غير موافق في تلك البلاد، فإن الدود يضعف بواسطة ندى الربيع، ويَضُر بالأوراق الشابة المتجددة في أوان توليدها للحرير وفَقْسِها له، فبهذا تكون التربية بطيئة فيقاسي الدود مدة ما يقاسي من التعب، ثم يتغير الربيع بالصيف فيَنْضج الدود بغتة وفجأة، فتَنْشِف الأوراق وتحترق، فتخيب التربية ولا يَحْصُل المقصود منها، بل يَعْتَري الدود أسباب الأمراض، فلا تصادف التربية محلًّا في الغالب ببلاد أوروبا، وأما في بلاد الهند والصيد ويابونيا فلا يمنع الحر من تربية دود القز، بل له فيها منفعة، فإذا احتاج الحال إلى ترطيبه وتعديله فإن ذلك يَحْصُل برش المعامل بحسن التدبير، وأما زمن البرد ولو في الربيع والخريف فلا يمكن مداواة نُزُول الصقيع فيها من أسباب مرض الدود، فليس له علاج أبدًا على أوراق الشجر النقرة المتجددة فيكون الصقيع.
فمن هذا يُفْهَمُ أن مصر صالحة جدًّا لتربية دود القز، ولا يساويها في الصلاحية لذلك غيرها من البلدان، فيها يحصل الغنى والثروة زراعة وشغلًا، فإن زراعة التوت متى نَتَجَتْ ونَتَجَت التربية والاستحواذ على جوز الحرير تَرَتَّبَ على ذلك نتاج المصانع والمشغولات الحريرية؛ إذ ليس في إقليم مصر مانع يَمْنَع من ذلك كُلِّه؛ لاعتدال إقليمها، ووجود الحرارة الملائمة للتربية بها، واستواء الحرارة في فصل الربيع الذي هو عبارة عن برمهات وبرمودة وبشنس، فهذه الشهور الثلاثة تكفي لتربية دود القز، فهي صالحة له من جهة مزاج القطر، وموافقة أيضًا لدود القز من جهة أخرى، وهي مُوَاظَبة أهلها على أشغال الزراعة والفلاحة وعلى أشغال التربية والجني والحصد، فإن لين أعضاء الأولاد والبنات يوافق شغل الحرير؛ إذ شغل الحرير يحتاج إلى شيئين: وهما خفة الأيدي، والتعود على الحر، وأبناء مصر مُتَوَفِّر فيهم ذلك كله بخلاف أوروبا، فوجب أن تكون مصر مُثْرِية في المواد الحريرية الأولية غَرْسًا وتربية، وأن لا تَجْلِب حريرها من الخارج، وأن تَشْتَغِل المشغولات الحريرية الدقيقة والغليظة بِنَفْسها في مصانعها، وأن تَتَخَلَّص من ربقة شراء الحرير من البلاد الأجنبية بالأثمان الغالية، فإنها إلى الآن تَصْرِف الأموال الجسيمة على الاستحصال على الحرير، فيجب عليها أن تُوَسِّع دائرة محصولاتها وتجارتها، فإذا وَصَلَتْ إلى أقصى درجات جُهْدِها في تربية دودة القز اتَّسَعَتْ دائرتها في غَزْله وفَتْله سريعًا، وفي صناعة نسج الحرير ومشغولاته، فتأخذ من حرير بلادها مِقْدَار ما يكفي لحاجتها، وما زاد على الحاجة من الخام والمشغول تُنْفِذُه إلى البلاد الأجنبية؛ لِيُبَاع فيها بالملايين من الأموال، وهذا خير من أن تبقى على حالتها الأصلية، فاقدة لهذه المزية، مقتصرة على اشتراء الحرير المصنوع أو غيره من البلاد الأجنبية.
فمَنْ أَمْعَنَ النظر وأَنْعَمَ الفكر في تربية دود القز بالديار المصرية؛ ظَهَرَ له بالحساب الصحيح مقادير الأرباح الجسيمة التي تَكْتَسِبُهَا مصر من هذا الصنف، فإن صناعة الحرير لم تَزَلْ إلى الآن في ديار مصر قليلةَ التقدم بالنسبة لغيرها من الممالك، فبالطريقة السابقة تَتَقَدَّم تقدمًا عظيمًا بحيث تَعُمُّ سائر الجهات المصرية وتَمْتَدُّ بأطرافها وأكنافها؛ لأن العمدة في مشغولات الحرير وأقمشته على صبغته ولونه.
ومياه النيل المبارك تُسَاعِد كل المُسَاعَدَة على حُسْن الصبغة واللون مما به تتزين المشغولات الداخل فيها الحرير كالمناديل والمحارم والملابس، فجميع مشغولات الحرير تَبْلُغ الدرجة العالية في عدة من السنين، بِشَرْط أن يَحْصُل التشويق من الحكومة المصرية للحرير؛ كالتشويق الحاصل الآن لزراعة القطن؛ حيث اتَّسَعَتْ دائرة مزارعه بعناية الحكومة كما هو ظاهر للعيان، وغَنِيٌّ عن الدليل والبرهان، هذا ما أبداه موسيو فونس غوطيه المُومَى إليه في هذا الفصل بصريح قَوْلِهِ.
ومن المعلوم أن ملحوظه في مَحَلِّه، وإنما فيما سلف كان قد شَرَعَ في تربية دود القز جنتمكان المرحوم محمد علي، وحَصَلَ من ذلك النفع الجلي، ولا زالت إلى الآن تربية دود القز في حَيِّز الموجودات، وإنما هي مقصورة على بعض جهات في المديريات، فإذا حصل التعميم كان بالنسبة لِتَقَدُّم صنائع الوطن معدودًا من النفع العميم، وأما ما أشار إليه صاحب الملحوظات المذكورة من تحسين زراعة الأرز؛ فلا يَجْهَل إنسان أن زراعة الأرز في الأقاليم البحرية مُلْتَفَت إليها كل الالتفات، ولها خصائص ومزايا بمعافاة زُرَّاعها من كثير من العمليات، وأنه قد تَجَدَّد في أكثر دوائرها للتنظيف والتبييض كثير من الوابورات، وقد صَحَّ بالإجماع والاتفاق على أن أرز مصر أجود من غيره على الإطلاق، فأرز عين البنت أجود من أرز أمريكة وأرز إيطاليا الخارج من أرض البنادقة، وهذا الرأي لا ينافي ما قَضَى به قضاة المَعْرِض الباريسي من الحكم بالأولوية والامتيازية لصنف أرز إيطاليا؛ لأن مَطْمَح نظرهم فيه إنما كان للون، فإنه أشد أنواع الأرز بياضًا، فهو بهذا المعنى يُعْجِب الناظر أكثر من أرز مصر.
وأما أرز أرض مصر فهو وإن كان دون ما ذُكِرَ في اللون إلا أنه شتان ما بينهما في الطعم، فلا يَفُوقه في طعمه صنف من أصناف أرز الدنيا، لا سيما نُمُوه بالنضج نموًّا وافرًا، فهو أَخَصُّ أوصافه، وأما ما أشار إليه المؤلف المذكور من غَرْس قصب السكر في مديرية المنية لصلاحيتها له؛ فهذا أمر مُعْتَنًى به من أيام المرحوم محمد علي كمال الاعتناء، وأَعْظَم مَن اعتنى بغرسه والإكثار منه واستخراج أنواع العسل والسكر مما يكفي القُطْر المصري هو المرحوم إبراهيم باشا، فإنه عَمَّمَ زراعته في شفالكه التي بغير الصعيد وبالصعيد بمديرية المنية أو غيرها، حتى نافست مَصَانِعُه السكرية مصانع الإفرنج، وهو أول مَنْ جَدَّدَ الوابورات لِسَقْي ذلك وصناعته وجَلْب القصب الجمايكي حتى انْحَطَّت بمصر أثمان السكر، وقد كان الأورباويون يَتَغَالَوْن في أثمانه كل المغالاة، وتَبِعَهُ في ذلك كثير من دوائر الذوات وأوسيات الأهالي حتى كاد لا يخلو منه قسم من الأقسام المصرية لكثرة أرباحه، ثم لما آلت الدوائر الإبراهيمية؛ أي: أَغْلَبُها، لنجله الخديو الأعظم اتَّسَعَتْ مصانعها، وكَثُرَتْ وابوراتها، وعَظُمَ محصولها حتى كادت تجارة أوروبا في السُّكَّر أن تكون كاسدة في القُطْر المصري — خصوصًا وسُكَّر مصر لا يفوقه في الجودة والحلاوة غَيْرُه — وأما ما أشار إليه من غَرْس شجر البن في الصعيد، وأنه يمكن أن يُخَصَّصَ لِغَرْسه مقدار جسيم من الأراضي؛ فالظاهر أن الحكومة لم تَعْتَنِ بذلك لأنه سَبَقَ تجربته، وأنه لا يَبْلُغُ في الجودة درجة البن اليمني، بل يكون دونه بكثير، ونهاية الحال أنه يصير كالبن الخارج من جزيرة فرنسا وغيرها المسمى بالبن الإفرنجي، وهو قليل الرواج بالديار المصرية وغيرها من البلاد، حتى إنه — على كثرته في بلاد السودان المصرية ورُخْص ثمنه — لا يَعْتَنِي أحد بجلبه إلى الديار المصرية؛ لأن شرب القهوة بديار مصر وغيرها بالبلاد الإسلامية إنما هو من قبيل الكيف والتلذذ بالنكهة كشرب الدخان، وقَلَّ مَنْ يستعمل القهوة ممزوجة باللبن وحده أو مع البيض للأكل بالخبز كما يَسْتَعْمِلُه أهل أوروبا بكثرة، فيقنعون بأيِّ بُنٍّ كان، على أن أكثر تجار مصر يَتَّجِرُون في البن اليمني، ولهم فيه عملاء وشركاء، فهو مِنْ أهم التجارات اليمنية، فالمقصود الأعظم الذي هو الربح حاصل بذلك، فعلى فرض غَرْس شجرة البن بمصر وفلاحها تكون عديمة النكهة كالدخان البلدي بالنسبة للجبلي والصوري، وكالتُّنباك البلدي بالنسبة للعجمي والحجازي.
وعلى كل حال فليست الحاجة ماسَّة لغرس شجر البن في مصر، بل ربما عُدَّ من الأمور النافلة؛ لأن ما ينبغي تجديده هنا من المحسنات إن لم يكن عظيم الجودة، أو تدعو إليه الحاجة؛ فالتشبث به ليس تحته عظيم طائل.
وأما ما ذَكَرَهُ صاحب الملحوظات من تربية أغنام المارينوس في الفيوم فرأيه فيه أَدَقُّ من رأيه في غرس شجرة القهوة، فتربية المارينوس مَحْض منفعة لا مَحْض شهوة؛ إذ القهوة مَحْض كَيْفٍ؛ ولهذا أَنْكَرَ على متعاطيها بعضهم، وهو الخطيب غير القزويني والشربيني، ورَدَّ عليه بعضهم بقوله:
وقال آخر:
وقال بعضهم في مدحها:
ثم إن أغنام المارينوس المقصودة بالتربية هي الأغنام الأندلسية ذوات الصوف الناعم، والصوف — من حيث هو في جميع بلاد الدنيا قديمًا وحديثًا — مرغوب، حتى إنه يُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّل عمر الدنيا ومن تاريخ الخليقة كأنه يُتَّخَذُ للصناعة والنسج، فلا شك أنه معلوم الصنعة في الأزمان الأولية، فهو قرين الفلاحة التي هي معلومة قَبْل الطوفان، ولم تُعَطِّلْها حادثة الطوفان ولا أَبْطَلَتْهَا، فقد دَلَّت التوراة على أن نوحًا عليه السلام لما نَجَا من الطوفان بسفينته؛ اشتغل بحراثة الأرض، وعَلَّم أولاده الناجين معه ما كان يَعْرِفه في أصول الزراعة.
وقد ذَكَرَ قدماء المؤرخين أن العراقيين والكنعانيين والمصريين اشتغلوا بالفلاحة من الأزمان القديمة والأعصر الخالية، حتى إن المصريين كانوا يَعْتَقِدُون أن أول مخترع للزراعة أسلافهم، وزَعَمَ أهل الصين أن لهم الأسبقية في ذلك قبل غيرهم، وأن أول رؤساء مِلَّتِهم هو الذي اخترع عِلْم الفلاحة، والمحقق بالأخذ من التواريخ الصحيحة الجامعة بين الأقوال المختلفة أن قدماء الأمم — لاضطرارهم إلى القوت والمؤنة — كل منهم اخْتَرَعَ عِلْم الفلاحة وبَرَعَ فيه، ومن أقاليمهم التي لها الأسبقية في مزية الاختراع انْتَقَلَت الزراعة إلى غيرهم بالتدريج، وأن جميع الأمم أجمعوا على أن الزراعة أمر مهم، وأدركوا أنه عِلْم نفيس، ولا يَقْتَدِرُ على ابتداعه من حيث كَوْنه علمًا إلا أَرْباب العقول الذكية، فنَسَبُوا اختراع علم الفلاحة لأكابر عقلائهم، وفي كتب اليونان ما يفيد أنهم تَعَلَّمُوا الزراعة من مصر، وقال الرومانيون: إن هذا العلم وَصَلَ إلى بلادهم — يعني إلى إيطاليا — من اليونان ومن مصر، نعم المحَقَّق أن أهل الصين يَعْتَنُون بزراعة الأرض، ويجتهدون في تكميل عِلْم الفلاحة، ومما يَدُلُّ على ذلك أن لهم عيدًا مشهورًا في كل سنة بمدينة تونكين، وهو يوم مشهود يَحْضَر محفله ملك الصين بموكب عظيم مع أعيان دولته، فيأخذ الملك المحراث ويحرث قطعة من الأرض بنفسه، وينتهي هذا الموسم بوليمة عظيمة على طرف الملك، وهذا اليوم معدود عند أهل الصين من أيام المواسم والأفراح الأهلية، وفي مَحْفِل هذا اليوم لا يدور على ألسنة الجم الغفير والجموع المتكاثرة من المحادثة والمذاكرة غير المسامرات المتعلقة بخصوص الزراعة، وأنها أم النعم وزينة الأمم وجميع أهل الزراعة من مبادي أمرهم يعتنون بتربية المواشي — لا سيما الغنم — وبطرائق تحسين حالها ونتاجها، فكانت الغنم في الأزمان السالفة أصل ثروة سكان المعمورة، حتى إن الرومانيين كانوا يَعُدُّونَهَا فَرْعًا من الفلاحة؛ لكونها ألزم الأشياء لطريق التعيش، وكانوا يَتَّخِذُون المعاملة من جلود الغنم، يطبعونها بطابع السكة.
وقد مكثت الغنم البيض مدة نحو ستمائة سنة في بلاد الرومانيين يُحْسِنون تربيتها وتنميتها ولا يُهْمِلون فيها، حتى إنهم رتبوا مأمورين للتفتيش عليها، فكانوا لا يُعِدُّونَها للذبح، بل أصوافها البيضاء مُعَدَّة للصناعة، ومَنْ أَهْمَل في تربية الماشية على العموم وتنمية الغنم على الخصوص؛ عاقَبُوه بدفع المغارم الجسيمة، ومَنْ أَحْسَنَ تربية ذلك وتنميته؛ كافئوه بالجوائز السنية، وشوقوه بالتحف البهية والإنعامات، لا سيما مَنْ جَلَبَ من الخارج من ذوات الأصواف الجيدة إلى موطنه حيوانات للتوليد.
وكان الرومانيون ينسحون من هذه الأصواف جميع الملابس المختلفة والأمتعة المتنوعة كالجاري الآن عند المتأخرين من الأمم، فكانوا يبحثون مع غاية الاعتناء عن الأصواف النفيسة الجامعة بين الطول والنعومة واللين كالصوف الأنجوري، وكصوف نابلي وأثينا وملطية وسيواس، وكلها أصواف ممدوحة، ولم يكن في ذلك الوقت يُتَّخَذُ من الأصواف اليونانية في التجارة إلا أصواف خشنة، لا تَصْلح للمصانع إلا بالتنظيف ما عدا أصواف أثينا، فإن أصواف أغنامها تُضَاهِي أصواف أغنام إسبانيا المسماة بالمارينوس مع النعومة التي تَجَدَّدَتْ في الأزمان الأخيرة، فهذه الأغنام الأندلسيةمن جلود الغنم، يطبعونها بطابع انْتَقَلَتْ فيما بعد إلى بلاد الإنكليز والفلمنك، فأتقنت هذه الدول تربية هذا الصنف، وزادت كمية محصوله بتربيته، حتى إن ولاية إسبانيا كانت في ابتداء أَمْرِها يُتَحَصَّل في خزينة مملكتها من مغنم الأصواف الجيدة ما ينيف عن ثلاثين مليونًا من الريالات، ثم إن ملك الإنكليز المسمى إدوارد الرابع جَلَبَ من بلاد إسبانيا بإذن ملكها ثلاثة آلاف رأس من الغنم البيضاء إلى مملكة الإنكليز، فمن هذا الوقت انْفَتَحَ منبع جديد للثروة والغنى والسعادة المالية لخزينة المملكة والتجارات الملية.
وفي القرن السابق الهجري ورد من بلاد الهند الشرقي إلى بلاد الفلمنك صنف من الغنم من ذكور وإناث عالي القامة، مستطيل البدن، غزير الصوف، فاجتهد أهل الفلمنك بتربيته وتعويده على مزاج إقليمهم، فنجح فيها كل النجاح حتى إن أناثي هذه الأغنام كانت تَلِد في السنة الواحدة أربع أغنام، وصوف الرأس الواحد يزن من عشرة أرطال إلى ستة عشر رطلًا، فمثل هذه الأغنام تَنْجَح ولو في البلاد الباردة مثل مملكة أسوج، فإنها اعتنت بتربية أغنام المارينوس أمثالها، وغلبت على الموانع القطرية كبرودة الأقاليم، بحيث إن هذه المملكة كانت تجلب قبل ذلك أصوافها من إسبانيا والفلمنك، والآن استغنت عن ذلك، فما ظنك بالخديوية الجليلة المصرية التي أقاليمها معتدلة ملائمة لتربية الأغنام في الفيوم وغير الفيوم، فإن النجاح فيها محقق لا محالة فمن جَدَّ وَجَد، فإن مملكة فرنسا كان أهاليها في الأزمان القريبة يشترون غزل الأصواف بالأموال الجسيمة جدًّا، فكأنهم كانوا يدفعون للبلاد الأجنبية في الثمن هذه المبالغ الثقيلة كالجزية والخراج، فلما تَقَدَّمَتْ حركة الصناعة من منذ نحو السبعين سنة؛ اسْتَشْعَرَتْ بما يلحقها من العار في ذلك، لا سيما وأنها بهذه الحالة لا تستطيع مصانعها أن تُسَاوِيَ مصانع غيرها من الإنكليز والفلمنك ونحوهم، فتَعَلَّقَتْ آمالها أن تجتهد في تقديم صناعتها؛ لتفوق على غيرها، فانتهى الأمر بنجاحها في تجهيز الأصواف، حيث شَرَعَتْ أن تُدْخِل في بلادها الدواليب والآلات اللازمة لحَلْج الصوف وغَزْله، فشوقت من يَسْتَجْلِب من الأهالي هذه الدواليب لتنظيف الصوف وغَزْله، فكثر في فرنسا أرباب الصناعات والبراعات ممن يُحْسِن عَمَلَ هذه الدواليب.
فبهذه الوسيلة تقدمت الصنائع الآلية في بلادهم، وكَثُرَت المكافآت من جمعية التشويقات الأهلية، حيث إن هذه الجمعية الأهلية خَصَّصَتْ ثلاثة آلاف فرنك لكل من يَخْتَرع دولابًا لغَزْل الصوف، فاخترع بعضهم دولابًا لذلك، وأخذ المكافأة، وكَثُر الاختراع للدواليب التنظيفية بهذا التشويق، فوجود أغنام المارينوس وحدها في البلاد لا يكفي ولا يَتِمُّ الانتفاع بأصوافها إلا بالدواليب المذكورة، فإن صوف المارينوس كان موجودًا في فرنسا من عدة أجيال، وكان يساوي في النعومة والجودة مارينوس إسبانيا، ولم يَتِمَّ الانتفاع به إلا باختراع الدواليب.
ومن المجرب عند الفرنساوية أن غَنَمَ المارينوس كلما طالت مُدَّتها في البلاد، وتَرَبَّتْ أغنامها، وتَطَبَّعَتْ بالتوليد؛ لا يزال يَأْخُذُ صوفها في النعومة، ويَنْجَحُ النجاح التام في مصانع الجوخ العال، والمدار على حُسْن تَعَهُّدِه بالتنظيف والتصفية، فإن ذلك يَزِيد في قيمته، ولم يكن بفرنسا من حِيضان تَنْظِيف الصوف إلا حَوْض واحد، فالآن كَثُرَتْ حِيضان التنظيف حول باريس، فلعل يومًا من الأيام تدرك الديار المصرية مُناها في اغتنام فرصة الاقتناء والاعتناء بتحصيل مزايا هذه الأغنام، ثم إن مزية أصواف هذه الأغنام المارينوسية ليست منحصرة في النعومة والامتداد، بل من جملة جودتها طُول قرون أصولها، فكلما طالَتْ كَثُرَت فيها الرغبات، وكان الناس يعتقدون أن الأغنام تَتَنَاقَص جودةُ أصوافها للجز كل سنة، وأن كل جزة مِنْ سَنَة سابقة أجود من اللاحقة، وأن الأصواف إذا بَقِيَتْ على الضأن عدة سنوات لا ينمو صوفها نماء يكون كُفْؤًا لِجَزِّها عدة مرات، فَجَرَّبَ ذلك بالامتحان عِدَّةٌ من أعضاء الجمعية الزراعية الفرنساوية بأن أبقوا قطيعًا من الغنم ثلاث سنوات بدون جَزٍّ لتظهر النتيجة، فلم يَجِدُوا تَنَاقُصًا في الكم والكيف، بل رأوا أن أصوافها قد اكْتَسَبَتْ طولًا متساويًا ودقة متساوية ووَجَدُوهَا ناعمة المَلْمَس كما لو كانوا جزوها على مرار عديدة، وظَهَرَ من هذه التجربة تجديد فرع للصناعة وهو تطويل الصوف بعدم جزه، وتفويت أوانه مدة ليدخل في مصانع أخرى تحتاج إليه، ومن هذا اخترعوا صنفًا من الجوخ الشهير المسمى بالكزمير، فأكثروا من اصطناعه وتحسينه، وقدموه في أحد المعارض العمومية بفرنسا، فاستحسن الجميع جودة صناعته لِعُلُوِّ مرتبته وحُسْن أصوافه، بحيث صار يُضَاهِي بالكلية مشغولات الكزمير الإنكليزية.
وقد تبين أيضًا بالملاحظة أن الغنم التي لم تُجَزَّ مدة طويلة، وتبقى هذه المدة بقصد طول أصوافها؛ لا يُؤَثِّر فيها تأثيرًا ظاهرًا ثِقَلُ الصوف على أبدانها، وهذا بخلاف ما تعتقده العامة، وقد أَطَلْنا الكلام في الأصواف، وحسْبك فيها الآية الشريفة وهي قوله تعالى: وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ ومن المعلوم أن البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين أحدهما: البيوت المُتَّخَذَة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت، وإليها الإشارة بقوله تعالى: وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وهو ما يَسْكُن إليه الإنسان أو يَسْكُن فيه، وهذا القسم من البيوت لا يُمْكن نَقْله، بل الإنسان يَنْتَقل إليه، والقسم الثاني: القباب والخيام والفساطيط، وإليها الإشارة بقوله: وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وهذا القسم من البيوت يُمْكِن نَقْلُه وتحويله، والمراد بها: الأنطاع؛ يعني: البسط المتخذة من الجلد، وما يَعُمُّ البيوت منه مما تَسْتَعْمِله العرب وغيرهم من أهل البوادي، والمعنى: يَخِفُّ عليكم حَمْلُها في أسفاركم وفي إقامتكم؛ أي: لا يَثْقُل عليكم في الحالين، وقوله تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا قال المفسرون: الأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز، وقوله تعالى: أَثَاثًا الأثاث: أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية، وقد يَعُمُّ الثياب والكسوة، وقوله تعالى: وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ أي: ما تَتَمَتَّعون به إلى يوم القيامة، واسْتَقْرَب بعض المفسرين أن المراد بالأثاث: ما يَكْتَسِي به المرء، ويستعمله في الغطاء والوطاء، وبالمتاع ما يُفْرَش في المنازل ويُزَيَّنُ به، وقد ذَكَرَ الله تعالى الأصواف وما بَعْدَها في مَعْرِض النِّعَم العظيمة التي يَجِبُ شُكْرُها، فيجب الاعتناء بتكثيرها على اختلافها في جميع أطراف وأكناف الممالك المصرية، بعناية الحكومة الخديوية، وهِمَم عُمَد أهل الأراضي الزراعية لتعميم المنافع الأهلية، فإن مصر المتشبثة الآن بأن يكون لها في الصنائع والفنون قَدَم رَسُوخ لا ينبغي أن تَيْأَس من تجديد مصانع الجوخ، فَكَمْ من أشياء لا يَخْطِر إنشاؤها بالبال، ويُظَنُّ أن تحصيلها مِنْ قَبِيل المُحَال، وعند اقتضاء الأوقات وتَعَلُّقِ الآمال يَتِمُّ الحصول عليها بأسهل طريق وأَتَمِّ منوال.
وأما تنبيه صاحب الملحوظات على وفود قوافل داخل أفريقيا إلى الديار المصرية، واستعاضتها بضائعها بمشغولات مصر وأوروبا، وخلاصة صنائعها؛ فهو في مَحَلِّه، وقد جرى مفعول هذه الملحوظة على أصول مصونة محفوظة، فتُجَّار دارفور وبرنو ونحوهما تحضر في ميعادها، وتأتي بسائر بضائعها على حسب مُعْتَادها، ومن جهة سنار والبحر الأبيض تحضر التجار بسن الفيل والصموغ وريش النعام وغيرها، وإنما أهل أقاليم تنبكتو — وهي بلاد التكرور — لا يَحْضُرون إلا لقضاء الحج، وكذلك الفلاتة السودانية يمرون بمصر لسفر الحجاز، وما ذاك إلا لِبُعْد المسافة لا لقلة أمن الطريق، أو وجود مخافة، فالتجارات في داخل أفريقيا الحقيقية تتيسر بعد تخطيط المسالك الطرقية، وهي لا تتيسر إلا بحركة عجيبة من الحكومة المصرية، واستكشافات جليلة عصرية، وانتجاعات من قبائل إسلامية متمدنة، وتوقيفات لأهالي تلك البلاد على وسائل التمدن المُسْتَحْسَنَة، وإن شِئْتَ فَقُلْ: إنَّ حُسْنَ تمامها إنما يكون بِنَوْع من الفتوحات، والتشبث بعِمَارِيَّتِهَا، وإدخال ما يلزم لها من الإصلاحات، حتى يصير جنوب أفريقيا كالأقاليم الجنوبية بقسم أمريكة، فإن كان من السابق في عِلْم الله تعالى أن يكون لِمِصْر فيه قوة التنجيز «فما ذلك على الله بعزيز»:
فمن هذا نَجِدُ أن ملحوظات الفصل الثاني التي سَبَقَتْ إليها الإشارة قد أُجْرِيَتْ بتداول الأيام، «وما الدهر إلا تَارَةٌ بَعْد تارةٍ.»
فكلما خَطَرَ بالبال أَمْر خطير من الأعمال الصالحة، يحتاج إلى حُسْن التدبير؛ كان الوطن مُعَانًا عليه من المولى القدير، فالمقاصد الخيرية مُيَسَّرة الوسائل، قريبة المَشَارِع، عَذْبة المناهل، وحَقَّ على الأمير الطالب للمعالي أن يَتَغَالى في المطلوب، ويتعالى في مَدَارج العُلَى بأجمل أسلوب، ويُبْرِز في مَظْهر البلاغة نظام بَيْت ملكه المَشِيد، حتى يَظْهَر في نَظْم سلوك الملوك بَيْتُ القَصِيد، ومَنْ أَحْسَنَ مِنْ ولاة الأمور سُلُوكَ أَقْوَمِ سَنَنٍ، تَأَيَّد بحُسْن نِيَّتِه في ميدان الانتصار على مشروعه الحسن إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ.
يُحْكَى: أن إسكندر الأكبر تَشَكَّلَتْ له ثلاث معادن في جلباب الجمال وثياب المهابة والإجلال، فَأَوَّل شَكْلٍ دَخَلَ عليه في حُلَل الحُسْن والبهاء، والشمائل التي يَزْهُو بها، فأَخَذَ بقلبه ولُبِّه، فأَحَلَّهُ مِنْه بقُرْبه، ثم سأله: مَنْ أنت؟ فقال: أنا المال، فقال الإسكندر: لولا أَنَّكَ ميال، ثم دخل عليه الشكل الثاني يَرْفُلُ في حُلَل الوقار والمعاني، فأدناه منه ثم سأله: مَنْ أنت؟ فقال: أنا العقل، فقال: لولا أنك في بعض الأحوال عَقَّال، ثم دَخَل عليه الشكل الثالث تَزُفُّه الغانيات بالمثالث، وقد أَشْرَقَتْ بجَمَاله وُجُوهُ المَطالب، وانْجَلَتْ بإقباله ظُلَمُ الغَيَاهِب، فقام له على قَدَمَيْه، وقَبَّل ما بَيْن عينيه، ثم قال: مَن الزائر أيها البهي الزاهر؟ فقال: أنا السعد، فقال: أَشْهَدُ أنك عناية الحق، وميزان اختبار الخلق، فالويل لمن جَهِلَ حقوق إقبالك عليه، ويا سعادة مَنْ وَفَى حق الخلافة إذا سُلِّمَتْ إليه، ثم عاهَدَه على أن يكون من أعوانه، وعلى وَفْق ما يقتضيه حُكْم ميزانه، والحمد لله الذي جَعَلَ نِعْمَة مصر في المزيد؛ ليزداد الشكر والمحبة لوليها الذي أُجْرِيَت النعمة على يديه؛ إذ هو السبب الأصلي الحامل على ذلك، والدال عليه والمائل بالطبع إليه، وستأتي الإشارة إلى ما يُجَدَّد من المحاسن الحالية في الفصل الرابع من هذا الباب.