الفصل الرابع
ليس من ملوك مصر مَنْ تَفْتَخِر به الأهالي مِثْل افتخارهم بالخديو الأكرم، حيث إنه تَأَسَّسَ في أيامه قواعد عدلية لا تُحْصى، ومآثر منافعها جلية لا تُسْتَقْصَى، ولو لم يكن له من المآثر إلا كَوْنُه حَمَلَ الأهالي على أن يَسْتَنِيبُوا عنهم نوابًا ذوي فِكْرَة ألمعية ليتذاكروا في شأن مصالحهم المرعية؛ لَكَفَاه ذلك شَرَفًا ومَجْدًا وعِزًّا وسَعْدًا، حيث صار مُسْتَوْلِيًا على أُمَّة حُرَّة الرأي باستشارتها في حقائق التراتيب والتنظيمات التي يُرَاد تجديدها لأجلهم، كما أن له الفخار في أنه لا يُضِيع حُقُوقَهم، حيث جَعَلَه الله أمينًا عليها، فبهذه الوسيلة القوية يَتَمَكَّن من أداء ما وَجَبَ عليه في حق الرعايا، مع كونه يُتَمَدَّح بالحكم على رعايا أحرار، يتمتعون بحقوقهم، ويَحْظَوْن بمزاياهم، وبهذا أيضًا يكون على يقين من التسلطن المعنوي على النفوس والأرواح، وأن يُدْرِك بمساعدتهم إياه في إسعاده لوطنهم تمام النجاح، حيث القلوب جُبِلَتْ على حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إليها، فَقَلَّ أَنْ تَخْلَع الرعايا خِلْعة مَحَبَّتِها القلبية ومَوَدَّتِها الإخلاصية على حَاكِمِها مَجَّانًا، فالعاقل مَنْ لا يُحِبُّ أو يَبْغَضُ إلا بسبب من الأسباب.
وقد تَقَدَّمَ غير مرة أن غِنَى مصر ورَأْسَ مالها الحقيقي إنما هو مُتَكَوِّن بالأصالة من زراعتها، وبالتبعية من تجارتها في محصولات الزراعة، مع ما يَتْبَعُ الزراعة من تنمية المواشي وتكثيرها، لا سيما ما يُعِين على الحرث وتنمية النبات كالبقر الذي هو لخاصة مصر قديمًا وحديثًا أَنْفَع بهيمة الأنعام، وأَجَلُّ غنيمة الإنعام، بدليل أن البلاد تَذُوق مرارة المَضَرَّة في السنة التي يذوق فيها هذا النوع كأس الحمام.
ولولا إلهام أَهْلِها التبصر والتصبر عند حلول مثل هذه المصيبة الفظيعة؛ لحزنوا جميعًا في سنة نَفْق المواشي بالوباء، ولا حزن أبي بكر بن قريعة حيث نَفَقَ له ثور أبيض، وجلس على العزاء عليه تراقُعًا وتحامُقًا، حتى إن أبا إسحاق الصائبي كتب إليه يُعَزِّيه على هذا المفقود عن لسان ابن لعبة في أيام وزارته، فقال: «التعزية على المفقود إنما تكون بحسب مَحَلِّه من فاقده، من غير أن تُرَاعَى قيمته ولا قَدْره ولا ذاته ولا عَيْنه، إذا كان الغرض منها تبريد الغلة، وإخماد اللوعة، وتسكين الزفرة، وتنفيس الكربة، فَرُبَّ وَلَدٍ عاقٍّ، وأخ ذي شِقَاقٍ، وذي رَحِم أصبح لها قاطعًا، وقريب قوم قَلَّدَهُم عارًا، وناطَ بهم شنارًا، فلا لَوْم في ترك التعزية عنه، وأَحْرى بها أن تكون تهنئة بالراحة منه، ورُبَّ مال صامت غير ناطق، قد كان به مُسْتَظْهَرًا وله مُسْتَثْمَرًا، فالفجيعة به إذا فُقِدَ موضوعة مَوْضِعَهَا، والتعزية عنه واقعة منه مَوْقِعها، وبَلَغَنِي أن القاضي أُصيب بِثَوْر كان له، فجلس للعزاء عنه شاكيًا، وأَجْهَشَ عليه باكيًا، وللندم مواليًا، وحُكِيَتْ عنه حكايات في التأبين له، وإقامة الندبة عليه، وتعديد ما كان فيه من فضائل البقر التي تَفَرَّقَتْ في غيره، واجْتَمَعَتْ فيه وَحْدَه، فصار كما قال أبو نواس في مِثْلِه من الناس:
لأنه يُكْرِب الأرض معمورة، ويُثِيرُها مَزْروعة، ويدور في الدواليب ساقيًا، وفي الأرجاء طاحنًا، ويَحْمِل الغلات مستقلًّا، والأثقال مُسْتَخِفًّا، فلا يَئُوده عظيم، ولا يُعْجِزُه جسيم، ولا يجري في الحائط مع شقيقه، ولا في الطريق مع رفيقه، إلا كان جَلْدًا لا يُسْبَق، ومُبْرِزًا لا يُلْحَق، وفائتًا لا يُنَالُ شأوُهُ وغَايَتُهُ، ولا يُبْلَغُ مداه ونهايتُهُ، ويَشْهَد الله أن ما ساءه ساءني، وما آلَمَهُ آلَمَنِي، ولم يَجُزْ عندي في حَقِّ المودة استصغار خَطْبٍ جَلَّ عِنْدَه، فأَرْمَضَه وأَرَّقَه وأَمْرَضَه وأَقْلَقَه، فكتب هذه الرقعة فأصابها من أَلْحَق في مصابه هذا بِقَدْر ما أَظْهَرَ مِنْ إكثاره إياه، وأَبَانَ من إعظامه له، وأسألُ الله تعالى أن يَخُصَّه من المُعَوِّضَة بأفضل ما خَصَّ به البشر عن البقر، وأن يُفْرِدَ هذه البهيمة العجماء بأَثَرَة من الثواب، تُضِيفها إلى المكلفين من الألباب، فإنها وإن لم تَكُن منهم فقد اسْتَحَقَّت أن لا تُفْرَدَ عنهم، بأن مَسَّ القاضيَ سَبَبُهَا، وصار إليه مُنْتَسَبُهَا، حتى إذا أَنْجَزَ الله ما وَعَدَ به من تمحيص سيئاتهم، وتضعيف حسناتهم، والإفضاء بهم إلى الجنة التي رَضِيَها لهم دارًا، وجَعَلَها لجماعتهم قرارًا، وأُورِدَ القاضي — أَيَّدَه الله تعالى — مَوَارِد أهل النعيم مع أهل الصراط المستقيم؛ جاء وثَوْرُه هذا مَجْنُوب معه مسموح له به، وكما أن الجنة لا يَدْخُلها الخبث، ولا يكون مِنْ أَهْلها الحدث، ولكنه عَرَق يجري من أعراضهم، كذلك يَجْعَل الله ثَوْرَ القاضي مُرَكَّبًا من العنبر الشحري، وماء الورد الجوري، فيكون له ثورًا، وجونة عطر له طورًا، وليس ذلك بمُسْتَبْعَد ولا مُسْتَنْكَر، ولا مُسْتَصْعَب ولا مُتَعَذَّر، إذا كانت قُدْرة الله بذلك مُحِيطَة، ومواعيده لأمثاله ضامنة بما أَعَدَّهُ الله في الجنة لعباده الصادقين وأوليائه الصالحين من شهوات أنفسهم، وملاذِّ أعينهم، وليس ما منحه من غَامِرِ فَضْلِه، وفائض كَرَمه، بمانع له من صَالِح مَسَاعيه، ومحمود شِيَمِه، وقلبي متعلق بمعرفة خبره — أدام الله عزه — فيما ادَّرَعَه من شعار الصبر، واحتفظ به من إيثار الأجر، ورُفِع إليه من السكون لأمر الله تعالى في الذي طَوَّقَه، والشكر له فيما أَزْعَجَه وأَقْلَقَه، فليعرفني القاضي من ذلك ما أكون ضاربًا معه بسهم المساعدة عليه، وآخذًا بقسط المشاركة فيه.»
فأجاب القاضي أبو بكر بقوله: «وَصَلَ توقيع سيدنا الوزير — أطال الله بقاءه وأدام تأييده ونعماءه وأَكْمَلَ رِفْعَتَه وعُلَاه وحَرَسَ بهجته ومرقاه — بالتعزية عن الثور الأبيض الذي كان للحرث مثيرًا، وللدواليب مديرًا، وبالسبق إلى سائر المنافع شهيرًا، وعلى شدائد الزمان مساعدًا وظهيرًا، لعمرك لقد كان بعمله ناهضًا، ولحماقات البَقَر رافضًا، أنَّى لنا بمثله وشراوه ولا شروى، فإنه من أعيان البقر وأَنْفَع أجناسه للبشر، مُضَاف ذلك إلى أخلاقٍ لَوْلا خَوْفي من تَجَدُّد الحزن عليه وتهييج الجَزَع وانصرافه إليه لعَدَدْتُها؛ لِيَعْلَم — أدام الله عِزَّه — أن الحزين عليه غير مَلُوم، وكيف يُلَام امرؤ فَقَدَ مِنْ مَالِه قِطْعَة يَجِب في مثلها الزكاة، ومِنْ خَدَمِ معيشته بهيمة تُعِين على الصوم والصلاة؟ وقد احْتَذَيْتُ ما مَثَّلَه الوزير من شمل الاحتساب والصبر على المصاب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قَوْلُ مَنْ عَلِمَ أنه أَمْلَك لنفسه وماله وأهله، وأنه لا يَمْلِك شيئًا دونه؛ إذ كان — جَلَّ ثناؤه وتَقَدَّسَتْ أسماؤه — هو الملك الوَهَّاب المُرْتَجِع ما ارتجع مما يُعَوِّض عليه نفيس الثواب، وقَدْ وَجَدْتُ — أَيَّدَ الله الوزير — للبقر خاصة فضيلة على سائر بهيمة الأنعام، تَشْهَد بها العقول والأفهام.» ثم ذَكَر جُمْلةً من فضائله لا يُحْتَاج إليها هنا، انتهى.
وإنما نقول: إنه لا يَتَوَجَّه على مِثْل هذا القاضي في مُصِيبَتِهِ مَلَامَةُ لائم، فكيف والسعد في طالع البهائم؟ ولهذا تقول العامة: إن الدنيا على قَرْن ثَوْر، وقال الشاعر:
وأما التعزية فلا بأس بها:
- الأول: أن أهالي الممالك التي تحت المنطقة الحارة ليست مثل الممالك التي تَحْتَ المنطقة المتجمدة — كالبلاد التي بأطراف القطب — في اللوازم الضرورية، فإن أهل المنطقة القطبية المتجمدة تفتقر إلى زيادة المَلْبَس؛ للتَّحَفظ من تأثير البرد بخلاف أهل المنطقة الحارة، فهي بعكسها مُفْتَقِرة إلى ما يقيها من تأثير الحرارة والرطوبة، وبخلاف أهل المنطقتين المذكورتين أهالي المنطقة المعتدلة.
- الثاني: أن طبيعة الأراضي والأقاليم تُرْشِد الإنسان إلى وسائط متنوعة في الصناعة، ونماء النبات والحيوان، إنما يكون بالنسبة لأهوية المملكة الموجودة هي فيها، وبعض الممالك مشهور بكثرة الطيور والمراعي النضرة والمعادن، وبعضها ليس فيها شيء من أسباب الثروة الطبيعية بالكلية، ومن الممالك ما تسهل المخابرات فيه بكثرة الأنهار، ومنها ما تَشُقُّ فيه لعدم ذلك، فالإنسان لا يمكنه مَحْوُها، وإنما بالقوة الصناعية العلمية يُمْكِنُهُ تحويل الحال إلى حالة أخرى، وحصول هذه الحالة، واختراعها وبلوغها درجة كاملة كالتلغراف مثلًا؛ إنما يكون بصرف المساعي والهمم، وكذا سائر الوسائل كالسفن البخارية والطرق الحديدية وسائر المخترعات النافعة، فكلها من أعظم أركان القوة المحصلة، وتزايدها موقوف على تَرَقِّي الفنون والصنائع، وبعظم هذه القوة يَرْتَقِي بعض الأمم إلى درجة الثروة، وبضعفها تَتَرَاجع الأخرى، فعَمَار المملكة موقوف على وُصُولها إلى الدرجة الكمالية، وذلك موقوف على اتساع الدائرة الصناعية، وهو موقوف على تتميم الصناعات الموروثة سلفًا عن خلف، ونقل ما اخترع منها في الممالك إلى البلاد التي ليست فيها هذه الاختراعات موقوف على صَرْف الهمة إليها والسعي، فالمدار في استكمال أسباب الثروة على السعي.
وحيث كانت التجارة من منابع الثروة العظيمة فلا شك أن صاحب الاشتغال بها، الباذل هِمَّتَه وسَعْيَه فيها؛ ذِهْنُه مصروف إليها بالكلية، فَفِكْرُه عادة مَلْهِيٌّ عن الأفكار الباطلة التي يتسبب عنها هَدْم بنيان الأمة بالفتن والشرور، ومتى كانت التجارة مُتَّسِعَة في مملكة تَنْصرف الهمم إلى التشبث بالأرواح الحقيقة، وتَشْتَدُّ الرغبات في الأسباب والمُسَبِّبات المُكَوِّنة لاتساع رءوس الأموال، وفي تمكين القوة الصناعية بالقوى العلمية من كل ما يُسَهِّل طُرُق المكاسب، ويُحَوِّلها إلى درجات كمالية مما يَهْتَم به الآن، بالنظر لتقديم المنافع العمومية أصالة وللمنافع السياسية تَبَعًا.
وقد اختلفت هذه الأزمان الحديثة عما كان يجري في الأزمان القديمة مِنْ صَرْف المساعي والهمم في تسهيل وسائل الدولة بالأصالة، مما يكون لمنافع الرعية حاصلًا غير مقصود، فقد دَلَّت التواريخ على أن المخترعات الجديدة في الدول المتأخرة لم تَخْلُ عن مُقَابِل لها مِنْ بَعْض الوجوه في الدول القديمة؛ كالطرق الحديدية والتلغراف ونحوها، فكان البريد وحَمَام الرسائل قائمًا مَقَامها في مصالح الدولة، وكذلك هَجْن الثلج والمراكب المُسَفَّرة بالثلج في البحر لشرابخانة السلطنة المصرية، وكذلك المناور لاستطلاع أخبار العدو والاحتراس منه، والمُحْرَقات للزروع والمراعي لقطع رجاء العدو المريد الإغارة على بلاد السلطنة، فجميع هذه إنما كانت مَنَافِعَ سلطانية كما سَيُعْلَم.
فقد كان البريد في عهد الأكاسرة والقياصرة موجودًا، وإنما أحواله مجهولة، وأَوَّل مَنْ وَضَعَ البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما حين اسْتَقَرَّت له الخلافة ومات أمير المؤمنين علي — كرم الله وجهه — وسَلَّم إليه ابْنُه الحسن وخَلَا من المنازع، فوَضَع البريد ليسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها، فأَمَرَ بإحضار رجال من دهاقين الفرس وأهل أعمال الروم وعَرَّفَهم ما يريد، فوضعوا له البريد واتَّخَذ لها بغالًا بأكف كان عليها سفر البريد، ثم اتَّسَعَ الأمر في زَمَن عبد الملك بن مروان حين خلا وَجْهُه من الخارجين عليه كعمر بن سعيد الأشدق وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير والمختار بن أبي عبيد، واستعمل البريد الوليد بن عبد الملك بعد أبيه، فكان يَحْمِل عليه الفسفيسا — وهي الفصوص المُذَهَّبَة من القسطنطينية إلى دمشق — حتى صَفَحَ بها حيطان المسجد الجامع ومكة والمدنية والقدس الشريف، ثم لم يزل البريد قائمًا، والعمل عليه دائمًا، حتى آنَ لبناء الدولة المروانية أن يُنْتَقَضَ، ولِحَبْلِهَا أن يُنْتَكَبَ، فانقطع ما بين خراسان والعراق لانصراف الوجوه إلى الدعوة القائمة للدولة العباسية، ودام الأمر على هذا حتى انْقَرَضَتْ أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ومَلَكَ السفاح ثم المنصور ثم المهدي والبريد لا يُشْتَدُّ له سُرُج، ولا يُلْجَم له دابة، ثم إن المهدي أغزى ابنَه هارون الرشيد بلاد الروم، وأحبَّ أن لا يزال على عِلْم قريب مِنْ خَبَرِه، فرَتَّبَ ما بينه وبين معسكر ابنه بُرُدًا، كانت تأتيه بأخباره وتُرِيه مُتَجَدِّدَات أيامه، فلما قَفَلَ الرشيد قَطَعَ المهدي تلك البُرُد، ودام الأمر على هذا باقيَ مُدَّتِه ومدة خلافة موسى الهادي بعده.
فلما كانت خلافة هارون الرشيد ذَكَرَ يومًا حُسْن صنيع أبيه في البُرُد التي جَعَلَها بينهما، فقال له يحيى بن خالد: «لو أَمَرَ أمير المؤمنين بإجراء البريد على ما كان عليه كان صلاحًا لِمُلْكِه.» فأَمَرَ به فقَرَّرَه يحيى بن خالد ورَتَّبَه على ما كان عليه أيام بني أمية، وجَعَلَ البغال في المراكز، وكان لا يُجَهِّز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر، ثم اسْتَمَرَّ على هذا في خلافة المأمون، واتَّسَع أمر البريد فيها حتى رُتِّبَ لصاحب البريد أربعة آلاف من الهجن مع مؤنتها وآلاتها؛ ليَسْتَخْبِر بها عن أمور المملكة، فكان يَعْلَم أمور العالم في يوم واحد.
ولما دَخَلَ هذا الخليفة بلاد الروم نَزَلَ على نهر البردون، وكان الزمان حارًّا، فقَعَدَ على هذا النهر ودَلَّى رجليه فيه وشرب من مائه، فاسْتَعْذَبَه واسْتَبْرَدَه واستطابه، وقال لمن كان معه مُسْتَفْهِمًا: ما أَطْيَبُ ما يُشْرَب عليه هذا الماء؟ فقال كُلٌّ برأيه، فقال هو: أَطْيَبُ ما يُشْرَب عليه هذا الماء رطب أزاد، فقالوا له: يعيش أمير المؤمنين حتى يأتي العراق، ويأكل من رطبها الأزاديِّ، فما استتموا كلامهم حتى أَقْبَلَتْ بغال البريد تَحْمِل أشياء منها رطب أزاد، فأُتِيَ للمأمون منها فَأَكَلَ وشَرِبَ من ذلك الماء فأكثر، فعجب الحاضرون لسعادته حيث لم يَقُمْ من مقامه حتى بَلَغَ أُمْنِيَتَه مع ما كان يُظَنُّ مِنْ تَعَذُّرِهَا، فلم يَقُم المأمون حتى حُمَّ حُمَّى حارة كانت فيها مَنِيَّتُهُ.
ولما جاءت دولة بني بُوَيْهِ، وعَلَوْا على الخلافة، وغَلَبُوا عليها الخلفاء العباسيين؛ قَطَعُوا البريد لِيُخْفُوا على الخليفة ما يكون من أخبارهم وحركاتهم أحيان قَصْدِهم بغداد، وكان الخليفة يأخذهم على بغتة، وجاءت الملوك السلاجقة على هذا وكان بين ملوك الإسلام إذ ذاك اختلافُ ذاتِ بَيْنِهِم وتَنَازُعُهُمْ، فلم يكن بينهم إلا الرسل على الخيل والإبل، كل أرض بحسبها.
فلما أَتَتْ الدولة الزنكية أقام السلطان نور الدين الشهيد للبُرُد النَّجَابة، وأَعَدَّ لها النُّجُبَ الجيدة، ودام هذا في جميع أزمان الدولة وفي أيام بني أيوب رحمهم الله إلى آخر أيامهم وسقوط أقدامهم، وتَبِعَها على ذلك أوائل الدولة التركية المصرية، فبَطَلَ في أثنائها البريد حتى صار الملك إلى الظاهر بيبرس رحمه الله، واجْتَمَعَ له مُلْك مصر والشام وحَلَب إلى نَهْر الفرات، وأراد تجهيز دولة إلى دمشق فعَيَّن لها نائبًا ووزيرًا وقاضيًا وكاتبًا للإنشاء.
وكان الصاحب شرف الدين محمد عبد الوهاب هو كاتب الإنشاء، فلما مَثَلَ بين يديه لِيُوَدِّعَه أوصاه بوصايا كثيرة، آكَدُها مواصلته بالأخبار — لا سيما ما يتجدد من أخبار التتار والفرنج — وقال له: إن قَدَرْتَ أن لا تُبِيتَنِي ليلة إلا على خبر، ولا تُصَبِّحَنِي إلا على خبر فافعل، فعرض له بما كان عليه البريد في الزمان الأول وأيام الخلفاء وحرضه عليه، فحَسُنَ مَوْقِعه منه، وأَمَرَ به ورتب عليه جمال الدين عبد الله الدوداري البريدي المعروف بابن السديد، فكان جمال الدين في ذلك الوقت جناح الإسلام الذي لا يُقَصُّ، وتَرَتَّبَتْ في أيام نِظَارَتِهِ مراكز البريد في الممالك الإسلامية، ومنها في محروسة مصر، ومركز قلعة الجبل إلى نواحيها الخاصة بها، وهي ثلاث جهات: أَوَّلُها: إلى جهة قُوص ثم إلى أسوان، ثانيها: من القلعة إلى جهة الإسكندرية، ثالثها: إلى جهة دمياط، فالأولى من مركز القلعة إلى الجيزة، ثم منها إلى زاوية حسين وإلى منية القائد، ثم منها إلى ونا، ثم منها إلى بِبَا، ثم منها إلى دهروط، ثم منها إلى أقلوصنا، ثم منها إلى منية ابن خصيب، التي يقال: إن الخصيب أيام ولايته عَمَرَهَا لابنه وسَمَّاها باسمه، ثم من منية ابن خصيب إلى الأشمونين التي كانت إحدى مدن الصعيد العظيمة، وكان بها إذ ذاك مقر الولاية، ثم منها إلى ذروة الشريف نسبة إلى الشريف حِصْن الدين بن ثعلب، فإنها كانت دار مُقَامه وبها دُورُه وقُصُوره.
وكان قد خَرَجَ ملك الصعيد وعَجَزَ منه ملوك مصر، وأمن أيام المعز أيبك ومَنْ بَعْده، فلم يُظْفَر به، ثم خَدَعَه الظاهر بيبرس ومَنَّاه العوض بالإسكندرية، فلما أناب أَعْلَقَ به الظفر والناب، وجَهَّز إلى الإسكندرية ليَتَمَلَّكَها فشُنِق على بابها، ثم من ذروة الشريف إلى منفلوط وهي أَجَلُّ خَالِص السلطان، ثم منها إلى أسيوط ثم منها إلى طما، ثم منها إلى المراغة، ثم منها إلى بلسبورة، ثم منها إلى جرجا، ثم منها إلى البلينة، ثم منها إلى هو، ويليها الكوم الأحمر، وهما مِنْ خَالِص السلطان، وعندهما يَنْقَطِع الريف في البر الغربي، ويكون الرمل المتصل بدَنْدَرَة، ويُسَمَّى: خانق درندرة، ثم مِنْ هُو المذكورة إلى قُوص، ثم مِنْ قوص يَرْكَب البريد الهجن إلى أسوان، وإلى عيداب، ثم إلى النوبة، أو إلى سواكن على ما يكون.
وأما جهة إسكندرية فالمراكز من القلعة إليها في طريقين، فالوسطى تَشُقُّ العامر الآهل، وهي من مركز القلعة المحروسة إلى قليوب، ثم منها إلى منوف، ثم منها إلى محلة المرحوم مدينة الغربية، ثم منها إلى التحريرية، ثم منها إلى الإسكندرية والطريق الأخرى، وهي الآخذة من طريق البر، وتُسَمَّى: طريق الحاجز، وهي من مركز القلعة إلى الجيزة، ثم منها إلى جزيرة القط، ثم منها إلى وردان، ثم منها إلى الطرانة، ثم منها إلى زاوية مبارك، ثم منها إلى دمنهور ومدينة أعمال البحيرة، ثم منها إلى لوقين، ثم منها إلى الإسكندرية.
وأما طريق دمياط فمن القلعة إلى سرياقوس، ثم منها إلى بلبيس، وهي آخر المراكز التي لِخَيْل السلطان؛ أي: الخيل التي تُشْتَرَى بمال السلطان، ويُقَام لها السواسُّ والعُلُوفات على طرف السلطان، ثم مما يليها خيل البريد المقررة على عربان ذوي إقطاعات عليها خيول موظفة، تحضر في هلال كل شهر في مراكز أصحاب النوبة بالمخيل، فإذا انْسَلَخ الشهر جاء غَيْرُهم؛ ولهذا تُسَمَّى خَيْلَ الشهارة، وعلى بريد الشهارة والٍ من قِبَل السلطان، يَسْتَقْبِل في رأس كل شهر خيل أصحاب النوبة فيه، ويدوغها بالداغ السلطاني، ثم من بلبيس إلى السعيدية، وهي أول بريد الشهارة، ثم منها إلى أشموم الرمان، ثم منها إلى دمياط، فهذه المراكز الخاصة بالديار المصرية، وكان ثَمَّ مراكز آخذة من قلعة الجبل المحروسة إلى الفرات، تبتدئ من سرياقوس، وتجتمع ببريد دمياط، وتفترق من السعيدية السالفة الذكر، وتتشعب في البلاد الشامية إلى جهات مختلفة.
وأما حَمَام الرسائل فإن مَنْشَأه من بلاد الموصل، وحَافَظ عليه الخلفاء الفاطميون بمصر، وبالَغُوا حتى أفردوا لمراكزه ديوانًا وجرائد بأنساب الحمام، وأول مَن اعْتَنَى به من الملوك ونَقَلَه من الموصل هو الشهيد نور الدين محمود بن زنكي — رحمه الله — سنة خمس وستين وخمسمائة، حيث بَنَى الأبراج على الطريق بين المسلمين والفرنج، وجَعَلَ فيها مَنْ يَحْفَظُها وفوقهم الحمام الهوادي، فإذا رأوا من العدو أحدًا أرسلوا الطيور، فأَخَذَ الناس خَبَرَهُم وتَجَهَّزُوا لهم، فلم يَبْلُغ العدو منهم الغرض، وكان هذا من أَلْطَف الفكر وأَكْثَره نَفْعًا، وهذا معنى قول الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه: «اتَّخَذ السلطان نور الدين الشهيد الحَمَام الهوادي في سنة سبع وستين وخمسمائة؛ وذلك لامتداد مَمْلَكَته واتساعها، فإنها من حد النوبة إلى همدان؛ فلذلك اتخذ في كل قلعة وحِصْنٍ الحَمَام التي تَحْمِل الرسائل إلى الآفاق في أَسْرَع مُدَّة وأَيْسَر عدة.» انتهى، وتُسَمَى حَمَام الرسائل حَمَام البطاقة أيضًا، ولعل تربية حمام البطاقة في بلاد الموصل التي بها جَبَل الجودي، مُسْتَنْبَطة مِنْ بَعْث نوح الغراب ثم الحَمَامة؛ لاستعلام خَبَر الطوفان، فقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: «استقرت السفينة على الجودي، فبعث نوح الغراب ليأتيه بالخبر، فذَهَبَ فوقع على الجِيَف فأَبْطَأَ عليه، فبَعَثَ الحمامة فأَتَتْه بورق الزيتون، ولَطَّخَتْ رِجْلَيْها بالطين، فعَرَفَ نوح أن الماء نَضَبَ؛ أي: نَشِفَ.»
وقد كان بالديار المصرية تدريج الحَمام بالوجه القبلي بالرسائل، فكان مُتَّصِلًا من القاهرة إلى قوص وأسوان وعيداب، ومن القاهرة إلى الإسكندرية، ومن القاهرة إلى دمياط، ومن القاهرة إلى السويس من طريق الحاج، ومن القاهرة إلى بلبيس متصلًا بالشام، وبالجملة: فكانت مراكز الحَمام في سائر البلاد الإسلامية حتى قيل: إن الحمام ملائكة الملوك.
وفي سنة إحدى وسبعين وخمسمائة اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدًا حتى صار يَكْتُب بأنساب الطير المَحَاضِر أنه مِنْ وَلَد الطير الفلاني، وقيل: إنه بِيعَ بألف دينار، وقد جَرَت العادة في مصر أن الحمامة لا تَحْمل البطاقة إلا في جَنَاحِها؛ لأمور منها: حِفْظُها من المطر، ولقوة الجناح، والواجب أنه إذا بطقت الحمامة من مصر لا تُطْلَق إلا من أمكنة معلومة، فإذا سَرَحَت إلى الإسكندرية لا تُشْرح إلا من منية عُقْبة بالجيزة، وإلى الشرقية فمن مسجد التبين ظاهر القرافة وإلى دمياط، والذي استقر عليه قواعد المُلْك أن طائر البِطَاقة لا يَلْهُو عنه الملك ولا يَغْفُل ولا يُمْهِل لحظة واحدة، فتَفُوته مُهِمَّات لا تُسْتَدْرَك، إما مِنْ واصِل، وإما مِنْ هَارِب، وإما مِنْ مُتَجَدِّد في الثغور، ولا يَقْلَع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطةِ أَحَد، فإن كان يأكُل لا يُمْهَل حتى يَفْرُغ، أو نائمًا لا يُمْهَل حتى يَسْتَيْقِظ بل يُنَبَّه، وينبغي أن يَكْتُب البَطَّاق البطاقة في وَرَق الطير المعروف بذلك، وتُؤَرَّخ بالساعة واليوم لا بالسنة، ومما قيل في حمامة البطاقة من الأدب:
ومن إنشاء القاضي الفاضل في وَصْفها: «سَرَحَتْ لا تزال أَجْنِحَتُها تَحْمل من البطائق أجنحة، وتُجَهِّز جيوش القاصد والأقلام أَسْلِحة، وتَحْمِل من الأخبار ما تَحْمِله الضمائر، وتطوي الأرض إذا نَشَرَت الجناح للطائر، وتَزْوِي لها الأرضُ حتى يَرَى ما سَيُبَلِّغُه مَلِك هذه الأمة، وتَقْرُب منها السماء حتى تَرَى ما لا يَبْلُغُه وهْم ولا همة، وتكون مراكب الأغراض والأجنحة قلوعًا، ويركب البحر بحرًا يصفق فيه هبوب الرياح مَوْجًا مرفوعًا، وتُعَلَّق الحاجات على أَعْجَازها، ولا تَعُوق الإرادات عن إنجازها.» وقد أشار ابن الوردي في إشارة الحَمامة إلى ما يُفِيد مزية حمام الرسائل، مستوفيًا لكل خاصة فيه وعلامة، حيث قال: «فبينما الباز سكران بما بانَ له من البان، وإذا حمامة قد وَقَفَتْ أمامه، وقالَتْ له: كم تَفْتَخِر وأنت عظْم نخر؟ أنت من آلة اللعب والصيد، وأنا من آلة الجد والكيد، أنا مع الطوق والخضاب من حَمَلَة الكتاب، ومع حذري من شَرَك الشِّرْك، وخوفي مِنْ فَخِّ الإفك، حَمَلْتُ الأمانة التي أَبَت الجبال عن حَمْلِها، وامْتَثَلْتُ مرسوم: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا فلما أَوْصَلْتُ الحقوق أَمِنْتُ العقوق، وقُوبِلْتُ بالبشائر والخلوق، ومما أَعْجَبَ العالمين أني مخضوب البنان، ولي يمين أقول للملك: دع الاهتمام، لا تَلْعَب بي فأنا الحمام، فمهما حَدَثَ على البعد من أخصامك، فأنا آتيك به قَبْلَ أن تَقُوم من مَقَامك، كَتَمْتُ على الناس سِرِّي، وأَبْهَمْتُ بَيْن الغناء والنوح أَمْرِي.»
وقال بعضهم:
وأما مراكز هَجْن الثلج فكانت تُعْمَر فقط في أَوَان نقل الثلج من دمشق إلى قلعة الجبل، وهذه المصلحة متأخرة الإنشاء عن مصلحة سفن الثلج، فإن الثلج كان يُحْمَل في البحر خاصة إلى مصر من الثغور الشامية إلى دمياط في البحر، ثم يُخْرَج الثلج في النيل إلى ساحل بولاق، فيُنْقَل منه على البغال السلطانية، ويُحْمَل إلى الشرابخانة الشريفة، ويُخَزَّن في صهريج أُعِدَّ له، ثم صار يُحْمَل في البر والبحر، وكانت مدة ترتيب حَمْلِه من حزيران إلى آخر تشرين الثاني، وعِدَّة نَقَلَاته في البر إحدى وسبعون نَقْلة متفاوتة مُدَةُ ما بينها، بل ربما زاد على ذلك، وكان يُجَهَّزُ لكل نقْلة بريديٌّ يَتَدَرَّكُه ويجهز معه بالسلاح، وكان المرتب لكل مركز ستة هجن خمسة للحمل وواحد للهجان، وكانت المراكز البريدية مُرَتَّبَة في المسافات من مملكة الشام إلى مصر، والكلفة على مال مصر.
وأما عدة المراكب المسفرة به في البحر فكانت في أيام الملك الظاهر ثلاثة مراكب في السنة، ثم أَخَذَتْ بعد ذلك في الزيادة إلى أن بلغت أحد عشر مركبًا من مملكتي الشام وطرابلس، ثم صارت من السبعة إلى الثمانية، وإذا سُفِّرَت المراكب من البلاد الشامية سُفِّر معها مَنْ يَتَدَرَّكُها مع الملاحين، ولا يَصِل الثلج مُتَوَفِّرًا إلا إذا أُخِذَ من الثلج المجلد، واحْتُرِزَ عليه من الهواء، فإنه أَسْرَع إذابة له من الماء، ومنذ تَرَتَّبَ من الثلج ما يُحْمَل بَرًّا على ظهور الهجن اسْتَقَرَّ منه خاص المشروب؛ لأنه يصل أَنْظَف وآمن عاقبة، لا سيما وأن المُسَفَّرين به يأخذون الجشني منه بحضور أمير مجلس وناظر الشرابخانة السلطانية وخزانها، وكان المنقول في البحر لسوى ذلك، وكان للحاضرين بالثلج من الخلع والإنعام رسوم مستقرة وعوائد مستمرة.
وأما المناور فكانت مواضع مُعَدَّة لرفع النار في الليل والدخان في النهار؛ للإعلام بحركات التتار إذا قصدوا البلاد للدخول لحرب أو لإغارة، وقد أُرْصِدَ في كل منور ما يَلْزَم من المراقبين والنظارة؛ لرؤية ما وراءهم وإراءة ما أمامهم، وكان لهم على ذلك جوامك مُقَرَّرَة كانت لا تزال دارة، وكانت المناور المذكورة على رءوس الجبال وفي الأبنية العالية ومواضعها معروفة، وكانت من أقصى ثغور الإسلام كالبيرة والرحبة إلى ديوان السلطان بقلعة الجبل، حتى إن المُتَجَدِّد بُكْرَة بالعراق كان يُعْلَم به عشاء بمصر، والمُتَجَدِّد به عشاء كان يُعْلَم به بُكْرَة، وكانت تأتي أخبار لسان التتار على الجناح والبريد، وهذه المناور في الدولة السلطانية الأخيرة لها شَبَه بما صنعته في الأحقاب الخالية دلوكة العجوز ملكة مصر، التي تَوَلَّتْ على مصر بعد إغراق فرعون وإشراف أهل مصر، فبَنَتْ جدارًا أحاطَتْ به على جميع أرض مصر كلها من مزارع ومدائن وقُرًى، وجَعَلَتْ دونه خليجًا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والخلجان، وجَعَلَتْ في ذلك الجدار محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال مَحْرَس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل، وجَعَلَتْ على كل مَحْرَس رجالًا، وأَجْرَتْ عليهم الأرزاق، وأَمَرَتْهُم أن يحرسوا بالأجراس، فإذا أتاهم آتٍ يخافونه ضَرَبَ بعضهم إلى بعض الأجراس، فيأتيهم الخبر مِنْ أي وجْهٍ كان في ساعة واحدة فينظروا في ذلك، فمُنِعَتْ بذلك مِصْر ممن يَطْمَعُ فيها ويَمُدُّ عَيْنَه إليها، وفَرَغَتْ من بناء ذلك الجدار في ستة أشهر، فكانت فِكْرَتُها في ذلك لا بأس بها في ذلك الوقت.
وأما المُحْرَقات فكان الاهتمام بها أَوَّل كل شيء، وهي مواضع مما يلي بلاد سلطنة مصر والشام من حد الشرق، داخلة في تلك المملكة، فكان يُخْشَى من مجاوريها من الأعداء مباغَتَة الأطراف ومهاجَمة الثغور كجهة بلاد الموصل وبلاد الأكراد، فكان يُجَهَّز رجال لتحرق زَرْعها ونباتها، حيث هي أرض مُخْصِبَة كانت تقوم بكفاية خَيْل المغيرين مَرْعًى إذا قصدوا البلاد، فكان في حَرْقها إضعافهم وإقعاد حركاتهم؛ إذ كان من عاداتهم أن لا يتكلفوا علوفة لخيلهم، بل يَكِلُوها إلى ما يَنْبُت من الأرض، فإذا كانت مُخْصِبَة سَلَكُوها، أو مُجْدِبَة تَجَنَّبُوها، وكان يُنْفَق في هذه المُحْرَقات في كل سنة من خزينة دمشق جُمْلَة من الأموال، ويُجَهَّز منها لذلك شجعان الرجال، وكان شأنهم في الإحراق اسْتِصْحَاب الثعالب الوحشية والكلاب المستنفرة، ثم يَكْمُن المجَهَّزون لذلك عند أمناء النصاح وفي كهوف الجبال وبطون الأودية، وتمضي الأيام حتى يكون يوم ريح عاصف وهَوَاؤُه زعزع فتُعَلَّق النار مُوثَقَة في أَذْنَاب الثعالب والكلاب، ثم تُطْلَق الثعالب والكلاب في أثرها وقد جُوِّعَتْ، فتَجِدُّ الثعالب في الهرب والكلاب في الطلب، فتَحْرِق ما مَرَّتْ به وتعلق الريح النار منه فيما جَاوَرَه، ويضاف هذا إلى ما كانَتْ تُلْقِيه الرجال بأيديها في الليالي المُظْلِمة وعشايا الأيام المُعْتِمَة، وكان يُسْتَثْنَى من ذلك أرض الجبال التي هي بَلَد البقية القادرية من ولد شيخ الإسلام عبد القادر الجيلي، فكانت ذُرِّيَّته مُعَظَّمة عند الأكابر والملوك؛ لِقَدِيم سَلَفِهم وصميم شَرَفِهم، ولما كان الإسلام وأهله من أسعافهم بما تصل إليه القدرة ويبلغه الإمكان.
فمن هذا كله يُفْهَم أن مَنْ تَوَلَّى مصر من الملوك والسلاطين كان يُجَدِّد فيها بِقَدْر استطاعته من المنافع ما يَظُنُّه لازمًا لسعادتها، فأول مُسْعِد لمصر مَنْ دَبَّرَ أَمْرَ النيل بالمقياس، وصَعِد إلى مَنْبَعِه ومَسِيلِه، ودَبَّر وزْن الماء والأرض بمصر، ورَسَمَ التعاليم، وبنى القناطر، وأَصْلَحَ مَجْرَى النيل من جبال الحبشة إلى مصر، ولا زالت المنافع تتزايد ثم تتناقص على حسب صروف الدهر والعصور إلى أن توازنت الأحوال في جميع الممالك والمسالك بحركة عمومية، وأسباب بلغت درجة الأهمية، ودواعٍ دَعَتْ إلى أنه يَجِبَ على كل مملكة أن تَضْرِب في الاجتهاد بسهم ونصيب، وإلا أصابها سَهْم غيرها إذا قَصَّرَتْ في أن تَجْتَهِد وتُصِيب، فعلى الملة العاقلة أن تَتَشَبَّثَ بأسباب الغنى لِتَحْظَى في أيام مُلْكِها العادل بِبُلُوغ المنى.
(راجع الفصل الأول والفصل الثاني من الباب الأول من هذا الكتاب).
فلا شَكَّ أن الغنى حِلْيَة تَحَلَّى بها أغنياء الأنبياء؛ كداود وسليمان ويوسف وإبراهيم وموسى وشعيب، على نَبِيِّنَا وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وكثير من الصحابة والتابعين كانوا من الغنى في روضة غَنَّاء، وكان النبي ﷺ يُوصَف بالغنى بدليل قوله جَلَّ من قائل: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ، فقد امْتَنَّ الله سبحانه وتعالى على نبيه بإغنائه عن فَقْر، كما هو صريح الآية، فهو غني وإن كان في كيفية الإغناء وجوه عند المفسرين؛ فمنهم من قال: إن الله تعالى أغناه بتربية أبي طالب، ولما اخْتَلَّتْ أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة، ولما اخْتَلَّ ذلك أغناه بمال أبي بكر، ولما اخْتَلَّ ذلك أَمَرَهُ بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار، ثم أَمَرَهُ بالجهاد وأغناه بالغنائم.
ورُوِيَ: «أنه عليه السلام دَخَلَ على خديجة وهو مغموم، فقالت له: ما لَكَ؟ فقال: الزمان زمان قَحْط، فإن أنا بَذَلْت المال يَنْفَد مَالُكِ، فأستحي منك، وإن أنا لم أَبْذُل أخاف الله، فَدَعَتْ خديجة قُرَيْشًا وفيهم الصِّدِّيق رضي الله عنه، قال الصِّدِّيق: فأَخْرَجَتْ دنانير وصَبَّتْهَا حتى بَلَغَتْ مَبْلَغًا لم يَقَع بصري على من كان جالسًا قدامي لكثرة المال، ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال مَالُه إن شاء فَرَّقَه وإن شاء أَمْسَكَه»، ومن المفسرين مَنْ قال: «أغناه بأصحابه؛ كانوا يعبدون الله سرًّا حتى قال عُمَر حين أسلم: أَنَعْبُد اللات جهرًا ونَعْبُد الله سِرًّا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: حتى تَكْثُر الأصحاب، فقال: حَسْبُك الله وأنا، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فأغناه الله بمال أبي بكر، وبهيبة عمر.» ومنهم من قال في التفسير: «أغناك بالقناعة، فَصِرْتَ بحالٍ يستوي عندك الحَجَر والذَّهَب، لا تَجِدُ في قلبك سِوَى رَبِّكَ، فربك غني عن الأشياء لا بها، وأنت بقناعتك اسْتَغْنَيْتَ عن الأشياء، وإن الغني الأعلى الغني عن الشيء لا بِهِ.» وهذا المعنى الأخير ما أشار إليه البوصيري في قوله:
أي: طلبت الجبال العالية أن تصير ذهبًا له ﷺ فارتفع عنها ارتفاعًا معنويًّا أعلى وأرفع من ارتفاعها الحسي، وذلك بالإعراض عنها الإعراض الكلي، وعدم الالتفات إلى جهتها، كما أَمَرَهُ ربه سبحانه وتعالى في قوله جَلَّ مِنْ قَائِل: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: لا تَنْظُر نظرًا طويلًا إلى ما مَتَّعْنَا به المذكورين؛ استحسانًا للمنظور إليه، وإعجابًا به، كما فَعَلَ نَظَّارَة قارون حيث قالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع؛ نهى الله سبحانه وتعالى رسوله، ومن المعلوم أن النَّهْيَ له نَهْي لِأُمَّتِهِ، وقيل: إن الذي نُهِيَ عنه ﷺ بقوله تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ليس هو النظر، بل هو الأسف؛ أي: لا تَأْسَف على ما فَاتَكَ مما نالوه من حَظِّ الدنيا؛ لأنك غَنِيٌّ عنها بربك حيث هي غير ممدوحة، والدنيا إذا كانت ممدوحة فإنما يكون مَدْحُها باعتبار أنها وَصْلَة لدار القرار؛ ولذلك قال بعضهم وأجاد:
فكيف يُذَمُّ مُطْلَق الغنى وهو وَصْف الله سبحانه وتعالى وَلِنَبِيِّه عليه الصلاة والسلام؟! فهو ممدوح شَرْعًا، فلا بأس أن يتشبث بالوصف به المُلوك والرعايا.
وأقل مزايا غنى الحكومة المصرية أنه لما قَصُرَتْ بلادها عَقِب آفات قسرية كموت المواشي وقلة المحصول، وعَزَّ على الأهالي تحصيلها إلا بالأثمان الغالية من البلاد الأجنبية، ولا يتيسر لكل إنسان جَلْبُها؛ استجلبها الخديو الأكرم بنفوذ يسار الحكومة بالأثمان اللائقة، وصار التوسيع بذلك على الأهالي، فكان كما قيل:
ولَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قال:
فكم له من جدوى على الأوطان في قضاء أوطار، وكم اسْتُمِدَّت الرعايا في هذه الأعصار، استمداد الجداول من البحار، مما تَعْجَز العقول عن فَهْم كُنْهِه، وعن حَقِّ أداء الشكر على الإنعام به، فقد أَنْجَزَ الله لمصر ما قَدَّرَه لها من السعادة، وأَبْرَزَ في حيز الوجود ما كَتَبَهُ لها من الحسنى وزيادة:
ومع أن كل قسم من أقسام الدنيا له كوكب من الممالك في أُفُقِهِ مُشْرِقٌ؛ فمِصْرُنَا بأعلى منارها كوكب قسم أفريقيا وشَمْسُ أُفُق المشرق، فقد كُسِيَتْ في هذا العهد حُلَّة المهابة والنباهة، وخَرَجَ أهلها بصقال البراعة واليراعة عن لُكْنَة القصور والفهاهة، واكْتَسَبَت الفنون والمنافع حتى صارت تَرْنُو إليها الأبصار، وتُومِي إليها الأصابع، وبتوفيق الله تعالى تَمَسَّكَ أهلها بالآية الشريفة التي العمل بها من الفرض وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ يعني: من التجارة والزراعة، فسياسة الحكومة الحالية الالتفات إلى جذب النفوس إلى هذه المنافع العمومية من أعجب التأثيرات المصرية، وفي الحقيقة:
- الأول: السياسة النبوية، والله يختص بها من يشاء من عباده، كما قال تعالى:
اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ وهو الذي يَهْدِي لاتباعهم مَنْ يَشَاء مِنْ
فَضْله بسابق السعادة، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، قال
سيدي محمد وفا:
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُ أن وَصْلَكَ يُشْتَرَىبكرائم الأموال والأشباحِوظَنَنْتُ جَهْلًا أَنَّ حُبَّكَ هَيِّنُتُفْنَى عليه نفائسُ الأرواحِحتى وَجَدْتُكَ تَجْتَبِي وتَخُصَّ مَنْأَحْبَبْتَهُ بلطائف الأمناحِفجَعَلْتُ في عشقِ الغرامِ إقامتيوَلَوَيْتُ رَأْسِي تَحْتَ طَيِّ جَنَاحِي
- الثاني: السياسة الملوكية، وهي حفظ الشريعة على الأمة، وإحياء السُّنَّة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
- الثالث: السياسة العامة، وهي الرياسة على الجماعات؛ كرياسة الأمراء على البلدان، أو على الجيوش، وترتيب أحوالهم على ما يجب من إصلاح الأمور وإتقان التدبير، والنظر في الضبط والربط والحسبة.
- الرابع: السياسة المنزلية، وهي معرفة كل إنسان حَالَ نَفْسِه، وتدبير أَمْر
بَيْتِه وما يتعلق به، وقضاء حقوق إخوانه شَرْعًا وفتوة وعُرْفًا، كما
قال من يَمِيلُ بِطَبْعِه إلى حُبِّ المعروف:
إني لَأَهْوَى أن أَكُونَ لِصَاحِبِيغَيْثًا وغَوْثًا في النَّدَا والبَاسِوإذا اكْتَسَى ثَوْبًا جميلًا لَمْ أَقُلْيا لَيْتَ هذا الثوبَ كان لِبَاسِي
وهذه السياسة في الغالب لا يُحْسِنُهَا إلا أَشْرَاف الناس، كما قيل:
لَعَمْرُكَ ما الأشراف في كل بلدةوإن عَظُمُوا إلا لِفَضْل صَنَائِعِ - الخامس: السياسة الذاتية، وهي تَفَقُّد الإنسان أَفْعَالَه وأحوالَه وأقوالَه
وأخلاقَه وشَهْوَتَه، وزَمُّها بزمام عَقْلِه، فإن المرء حكيمُ نَفْسه،
وبعضُهُم يُسَمِّيها بالسياسة البدنية، قال الشاعر:
تَعَلَّمْتُ فِعْلَ الخير مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِوهَذَّبَ نَفْسي فِعْلُهُم باختلافِهِأرى ما يَسُوءُ النفسَ مِنْ فِعْلِ جَاهِلٍفآخُذُ في تأديبها بِخِلافِهِ
وما أَحْرَى من الملوك من يتمسك بهذه السياسات الخمسة؛ لينزه بها وَطَنَه عن النقائص، ويُحَلِّي بها نفسه؛ لأن تفاضل الأنفس إنما هو بقدر تحصيلها من الفضائل التي يَظْهَر بها التفاوت في القيم، وذلك بمقدار تَرَافُع الهمم، والكَيِّس من يُنَافِس في تحصيل النفيس والأنفس؛ ليتوصل إلى درجة الكمال فيما هو أَصْون لِحِفْظ الناموس وأَحْرص.
ومن العار على كامل التمييز أن يَطْلُبَ رُتْبَة دون الرتبة القصوى، وأن يُقَصِّرَ عن الوصول إلى وصال سُعْدَى وعُلْوَى، وأما قول الشاعر:
فهو قَوْل من يقنع بالدُّونِ، ويرضى بصفقة المغبون، وما أَحْسَنَ ما قالَه بَعْضُهم:
والمراد من الأسماء الخمسة: أبوك، وأخوك، وحموك المُرْتَجَى نَفْعُهُم ونَجْدَتُهُم عند الشدائد، وهنوك وهو كناية عن الشيء، وفوك وهو الفم، والمراد: الفصاحة والبلاغة، وسادس الأسماء ذو مال وهو سيدها، فذو المال أَقْرَب لاكتساب المعالي لذويه ولوطنه، وأن يُقَلِّدَه قَوْمه ويَتْبَعُوه في ذلك:
فكل ما يتمناه المتمني بلسان الاستعداد، وشهادة الاستحسان والرشاد من المراتب الباهية، والمناصب الزاهية، والمقاصد السَّنِية، والموارد الهنية، والعدة والجاه بَلَغَ فيه رجاه، فمطمح نظر مصر الآن التبصر في تكميل وسائل التمدن والتمصر من باب إحسان العمل، وقد قال تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وقال ﷺ: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» فمباشرة الأسباب مَظَنَّة الإنجاب؛ ولذلك أوصى بعض الصلحاء بعض أرباب الفلاحة بقوله: لا تَدَعْ غَرْسَ أَرْضِكَ وإن سَمِعْتَ بخروج الدجال، فالأسباب لا تُنْكَر، وقال داود البصير — بمناسبة ذِكْر الأسباب: إن قيل: إذا كان الطب حافظًا للصحة دافعًا للمرض؛ فالواجب البقاء وعَدَم اختلال البنية خصوصًا مِنْ نَفْس الطبيب، ونحن نرى الحكماء فَضْلًا عن غيرهم يَمْرَضُون ويموتون، فلا فائدة حينئذ في الطب؟ قلنا: ليس على الطبيب مَنْعُ الموت والهرم، ولا تبليغ الأجل المُطَوَّل، ولا حِفْظ الشباب؛ لِعَدَم قُدْرَتِهِ على ضبط ما ليس إليه أَمْرُهُ؛ كتغيير الهواء وَوُرُودِه في الأغذية من حيوان وغيره، ومشقة الاحتراز في تعديل أمور المأكل والمشرب وغَيْرها، وعَدَم إمكان جَلْب الفصول على طبائعها الأصلية، فقد يَنْقَلِب كل منها إلى الآخر، وإنما عليه إصلاح ما أَمْكَنَ مِنْ دَفْع طَارِئ مُنَافٍ، وحِفْظ صحة إلى الأجل المعلوم، «فإن قيل»: موجبات الموت والحياة ولوازمها إما أن تكون بتقدير الصانع إيجابًا وسلبًا، كما هو الحق، أو باقتضاء طَالِع الوقت، وعلى التقديرين ليس للطبيب قُدْرَة على أحدهما، فانْتَفَت الحاجة إليه؟ «قلنا»: لو كان الأمر كذلك لكان الأكل والشرب وسائر ما به القوام مِنْ هذا القبيل فكان يجب تَرْكُه؛ لأن المُقَدَّر مِنْ بقاء الأجل إن كان بدونها فلا فائدة في تعاطيها، أو بها لَزِمَ ذلك، والكل باطل، بل تقادير عُلِّقَ الأمر عليها كما في محله، فكذا الطب وبه جاءت السُّنَّة عن أرباب النواميس، فقد قال ﷺ: «تداوُوا، فإن الذي أَنْزَلَ الداء أَنْزَلَ الدواء، وما من داءٍ إلا له دواء» إلى غير ذلك، فقيل له: أَيَدْفَع الدواءُ القَدَرَ؟ فقال ﷺ: «الدواء من القدر.»
ونتيجة هذه المسألة أن مباشرة الأسباب من هذا القبيل، والتشبث بتصحيح الأعمال، تطييب للنفس وتعليل، والملوك في الظاهر حكام، وفي الباطن حكماء، يقال: إنه كان بَيْنَ يدي الإسكندر كُرَة مُثَمَّنَة من الذهب، وَضَعَهَا له الحكيم أرسطاطاليس، على كل جهة منها كلمة سياسية، تَتَعَلَّق كل واحدة بالأخرى؛ لتكون بَيْن يديه يُقَلِّبُها في حركاته ويَعْمَل بما فيها، وهي: هذه العالَم بستان سياجه الدولة، الدولة سلطان يَحْفَظُهَا السُّنَّة، السُّنَّة شريعة يَحُوطُها الملك، الملك راعٍ يُعَضِّدُه الجند، الجند أعوان يكلفهم المال، المال رِزْق تَجْمَعُه الرعية، الرعية خدام يَتَعَبَّدُهم العدل، العدل مألوف وبه صلاح العالم، فحقيق لمن قَلَّدَهُ الله أَمْر عباده وبلاده أن يَعْطِف عليهم، ويَعْدِل فيهم، ويُنْصِف ضعيفهم مِنْ قَوِيِّهم، ويساوي في الحق بين شريفهم ومشروفهم، ويبتدي أولًا بالإنصاف من نَفْسِه ووَلَدِه وأَهْلِه وخاصته، فالناس على دين الملك كما قيل؛ بمعنى: أنهم يَتْبَعُونَهُ في أحواله وأفعاله؛ ولذلك لما قَدِمَ بُرَيْد من الشام على عمر بن عبد العزيز، فقال له: كيف تَرَكْتَ الشام؟ قال: تَرَكْتُ ظالمهم مقهورًا، ومظلومهم منصورًا، وغنيهم موفورًا، وفقيرهم محبورًا؛ «أي: مسرورًا»، قال عمر: الله أكبر، لو كانت لا تَتِمُّ خصلة من هذه إلا بفقد عُضْوٍ من أعضائي لكان ذلك يسيرًا.
وبالجملة: فالسعي في أداء الحقوق الوطنية مِنْحَة إلهية، يَمْنَحُها الله سبحانه وتعالى من يصطفيه مِنْ خَلْقِه، فإنها مَرْتَبة جسيمة ونعمة وفية عظيمة، فيجب علينا أن نُقَيِّدَها بشكر المولى سبحانه وتعالى على إنعامه بها علينا، ولقد كان السلف الصالح كالفضيل بن عياض، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها لولي الأمر؛ لأن في صلاحه صلاح المسلمين، أَصْلَحَ الله حال مَلِكِنَا وسلطاننا وسائر الملوك والسلاطين آمين:
وسيأتي بسط الكلام على سياسة ولاة الأمور في الخاتمة.