الفصل الثاني
والمراد بهم هنا: ما يَشْمَل علماء الحقيقة، وعلماء الشريعة، وعلماء الحكمة والأمور النافعة التي عليها نظام الدنيا والدِّين، فأما علماء الحقيقة أَهْل الزهد والورع — وقليل ما هُمْ — فهم أصحاب الإخلاص في الدين، وعن محبة الدنيا تراهم متباعدين، وأما العلماء وهم ورثة الأنبياء وَحَمَلَة الشريعة فدرجتهم من أمة النبي ﷺ مِثْل درجة أنبياء بني إسرائيل، وكرامتهم عظيمة، ولحومهم مسمومة، مَنْ شَمَّها مَرِضَ، ومَنْ أَكَلَهَا سَقِمَ، فَمَنْ عَظَّمَهُم فَقَدْ عَظَّمَ الله ورسوله، وأعطى دَرَجَة العِلْم حَقَّهَا، وهو فَضْلُ الله يؤتيه من يشاء، قال ﷺ: «لولا العلماء لَهَلَكَتْ أمتي، اللهم احْفَظ العلماء، واعْف عن الجهال، وارْحَم الناس.»
فيجب على الدولة أن تَحْتَرِم علماء الشريعة وتُكَرِّمهم، وتُثِيبهم على تعليمها والمحافظة عليها، بل عليها أيضًا أن تتحرى إدخال السرور عليهم، واستمالة قلوبهم، والتعطف عليهم، وأن تَتَقَرَّب إليهم بالصلات، وأن تُتْحِفَ أولادهم بالتحائف رِفْقًا بهم وتلطيفًا لهم، وأن تَحْمِلَهم على الاشتغال بالعلم، والمراد بعلماء الشريعة العارفون بالأحكام الشرعية والعقائد الدينية أصولًا وفروعًا؛ يعني: الأحكام المتعلقة بالعمل عبادات ومعاملات، ويَلْحَق بهم أهل العلوم الآلية العقلية التي يَتَوَقَّف عليها فَهْم العلوم الشرعية؛ لأن الوسائل تَشْرُف بشَرَف المقاصد، وينبغي زيادة الإجلال والتبجيل لأهل التفسير والحديث، وهم العلماء المُنْتَدَبون لعلوم القرآن أو تفاسيره، ورواية الحديث بأسانيده، وبعلوم الترغيب والترهيب، وتَبْجِيل علماء الحقيقة الذي انجلى عن قلوبهم الخَبَث وقاذورات الدنيا، وارتفع عنها الغطاء والرين، حتى اتَّضَحَتْ لهم حلية الحق عيانًا، وانتظمت شمائلهم في سمات الصالحين الذين بذكرهم تنزل الرحمات من رب العالمين، فمثل هؤلاء ينبغي الاتحاد بهم لاستفادة الخير منهم، فمن كان جليسُه صاحِبَ عِلْم أو صلاحٍ استفاد منه خيرًا؛ لأنه قَلَّمَا يخلو مَجْلِسه عن مسألة وَعْظ أو نُصْح.
وقيل:
فمُجَالَسة الصالحين فائدة عائدة بالخير العميم على مُجَالِسِيهِمْ، وفي الحديث: «يُحْشَرُ المرء مع مَنْ أَحَبَّ»، وقال ﷺ: «العالم والمُعَلَّم شريكان في الخير كذلك»، ويُحْتَرَمُ ويُكْرَم العلماء المُشْتَغِلُون بجملة علوم شريفة يُنْتَفَع بها، ويُحْتَاج إليها في الدولة والوطن؛ كعِلْم الطب، والهندسة، والرياضات، والفلكيات، والطبيعيات، والجغرافيا، والتاريخ، وعلوم الإدارة، والاقتصاد في المصاريف، والفنون العسكرية، وكل ما كان له مَدْخَل في فن أو صناعة، فإن أَهْلَه يَجِب إكرامهم من أهل الدولة والوطن، وكذلك يجب إسداء المعروف واصطناعه لأرباب المعارف الأدبية والفصاحة العربية، فقد ذَكَرَ ابن رشيق في العمدة: أَنَّ أعرابيًّا وَقَفَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه، فقال: إن لي إليك حاجة، رَفَعْتُهَا إلى الله قَبْل أن أَرْفَعَها إليك، فإن أنت قَضَيْتَهَا حَمَدْتُ الله وشَكَرْتُك، وإن أَنْتَ لم تَقْضِها حَمَدْتُ الله وعَزَرْتُك، فقال: خُطَّها في الأرض، فَخَطَّ إني فقير، فَدَفَعَ إليه حُلَّة، فلما تَسَلَّمَها أنشد:
فَأَمَرَ لَه بخمسين دينارًا، وقال: الحُلَّة لِفَاقَتِكَ، والخمسون لِأَدَبِكَ، سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يقول: «أَنْزِلُوا الناس مَنَازِلَهُمْ.»
وقد نَصَّ المؤرخون على أنه لَمْ يَكُ في الدنيا في قديم الزمان أَعْظَم دولة، ولا أَشْمَخ مملكة، ولا أَدْوَم أيامًا وذِكْرًا من دولة مصر والفرس واليونان، وسبب ذلك تعظيمهم للعلوم والحكمة، وتمكين مَنْ يَشْتَغِل بذلك ورعاية جانبه، حتى كان أكثر ملوكهم علماء وحكماء، فمن تمام رونق المملكة اشْتِمَالُها على أئمة في هذه العلوم بأَسْرها، فما أَضْيَع دولة قَلَّ علماؤها وحكماؤها، وفَسَدَتْ مزارعها، وكَسَدَتْ مَنَافِعُهَا، ولم تَجِدْ مَنْ يُحْيِيها، ولا مَنْ يُحْيِي بتحيات العلوم مَعَالِمَهَا ونواحيها، ولكن الحمد لله الذي مَنَّ على مصر بخلافة الخلفاء على الإطلاق، حيث جَعَلُوا فيها شموس العلوم ساطعة الإشراق، ثم مَنَّ عليها بدولة آل عثمان فحَفِظَتْ بالنسبة إليها ما بَقِيَ فيها من مكارم الأخلاق مع المحافظة على القوانين الشرعية، لا سيما وأن مِنْ نتيجة تَسَلُّطِهِمْ عليها تشريف ذي النفس الزكية والمناقب السنية جنتمكان المرحوم محمد علي، الذي أبقى — بحُسْن صنيعه — ذِكْرَهُ مدى الأيام، وآلَ أَمْرُ المملكة لحفيده الرفيع المَقام.
فقد جَدَّدَ دُروس العلوم بَعْد اندراسها، وأَوْجَدَتْ بَعْد العَدَم الرؤساءُ العلماءَ والفضلاءَ نتيجةَ قياسها لِقَصْد انتشار العلم والزيادة في الفضائل، فأتى من ذلك بما لم تَسْتَطِعْه الأوائل، غير أنه — حَفِظَه الله وأبقاه — ولو أنه أعلى منار الوطن وَرَقَّاهُ، لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور، ولم يَجْذِبْ طُلَّابَهُ إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحِكَمِية التي كبير نَفْعها في الوطن ليس يُنْكَر، نعم إن لهم اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية؛ كعلوم العربية الاثني عشر، وكالمنطق والوضع، وآدب البحث، والمقولات، وعِلْم الأصول المُعْتَبَر، ولمثل هذا فلْيَعْمَل العاملون، وفي ذلك فليَتَنَافَس المتنافسون، غير أن هذا وَحْدَه لا يَفِي للوطن بقضاء الوطر، والكامل يَقْبَل الكمال كما هو مُتَعَارَف عند أَهْل النظر.
ومدار سلوك جادَّة الرشاد والإصابة مَنُوط بَعْد ولي الأمر بهذه العصابة التي ينبغي أن تُضِيف إلى ما يجب عليها مِنْ نَشْر السُّنَّة الشريفة، ورَفْع أعلام الشريعة المنيفة؛ مَعْرِفَةَ سائر المعارف البَشَرية المدنية التي لها مَدْخَل في تقديم الوطنية، مِنْ كُلِّ ما يُحْمَد على تَعَلُّمِه وتعليمه عُلَمَاءُ الأمة المحمدية، فإنه بانضمامه إلى علوم الشريعة والأحكام يكون من الأعمار الباقية على الدوام، ويقتدي بهم في اتِّبَاعه الخاصُّ والعَامُّ، حتى إذا دَخَلُوا في أمور الدولة يُحْسِن كل منهم في إبداء المحاسن المدنية قَوْلَهُ.
فإن سلوك طريق العِلْم النافع من حيث هو مستقيم، ومَنْهَجه الأبهج هو القويم، يكون بالنسبة للعلماء سلوكه أَقْوَم، وتَلَقِّيه من أفواههم أَتَمَّ وأَنْظَم، لا سيما وأن هذه العلوم الحِكَمِيَّة العملية التي يَظْهَر الآن أنها أجنبية هي علوم إسلامية، نَقَلَهَا الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية، ولم تَزَلْ كُتُبُهَا إلى الآن في خزائن ملوك الإسلام كالذخيرة، بل لا زال يَتَشَبَّث بقراءتها ودراستها من أهل أوروبا حكماء الأزمنة الأخيرة، فإن مَن اطَّلَعَ على سَنَد شيخ الجامع الأزهر الشيخ أحمد الدمنهوري الذي كانت مَشْيَخَتُه قبل شيخ الإسلام الشيخ أحمد العروسي الكبير جَدُّ شيخ شيوخ الجامع الأزهر، الآن السيد المصطفوي العَلَم الشهير رأى أنه قد أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير، وأن له فيها المؤلفات الجمة، وأن تَلَقِّيها إلى أيامه كان عند أَهْل الجامع الأزهر من الأمور المهمة، فإنه يقول فيه — بَعْدَ سَرْد ما تَلَقَّاه من العلوم الشرعية وآلاتها معقولًا ومنقولًا: أَخَذْتُ عن أستاذنا الشيخ المُعَمَّر الشيخ علي الزعتري خاتمة العارفين بعِلْم الحساب، واستخراج المجهولات، وبما توقف عليها كالفرائض والميقات وسيلة ابن الهائم ومعونته، كلاهما في الحساب، والمقنع لابن الهائم، ومنظومة الياسميني في الجبر والمُقَابَلَة، ودقائق الحقائق في حساب الدرج، والدقائق لسبط المارديني في علم حساب الأزياج، ورسالتين أحدهما على ربع المقنطرات، والأخرى على ربع المجيب، كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط، ونتيجة الشيخ اللادقي المحسوبة لعرض مصر، والمنحرفات لسبط المارديني في عِلْم وَضْع المزاول، وبعض اللمعة في التقويم، وأَخَذْتُ عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز، واللمحة العفيفية في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي، وبَعْضًا من قانون ابن سينا، وبعضًا من كامل الصناعة، وبعضًا من منظومة ابن سينا الكبرى، والجميع في الطب.
وقَرَأْتُ على أستاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في معرفة الحدود والدوائر لسبط المارديني في الهيئة السماوية، ورسالة ابن الشاط في علم الاسطرلاب، ورسالة قسطاس لوقا في العمل بالكرة، وكيفية أَخْذ الوقت منها، والدر لابن المجدي في عِلْم الزيج، وقَرَأْت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضًا من الجغميني في عِلْم الهيئة، وبعضًا مِنْ رَفْع الأشكال عن مساحة الأشكال في عِلْم المساحة، وقَرَأْت على شيخنا الشيخ عبد الجواد المرحومي جُمْلَة كُتُب منها رسالة في علم الارتماطيقي للشيخ سلطان المزاحي.
وقَرَأْت على الشيخ محمد الشهير بالسحيمي منظومة الحكيم درمقاش، المشتملة على عِلْم التكسير، وعِلْم الأوفاق، وعِلْم الاستنطاقات، وعِلْم التكعيب، ورسالة أخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسبط المارديني، وعِلْم المزاول، ومنظومة في عِلْم الأعمال الرصدية، وروضة العلوم، وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن ساعد الأنصاري، وهي كتاب يشتمل على سبعة وسبعين عِلْمًا؛ أولها عِلْم الحرف، وآخرها عِلْم الطلاسم، ورسالة للإسرائيلي، ورسالة للسيد الطحان، كلاهما في عِلْم الطالع، ورسالة للخازن في عِلْم المواليد؛ أعني: الممالك الطبيعية، وهي الحيوانات والنباتات والمعادن، وَأَخَذْتُ عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شَرْح الهداية في عِلْم الحكمة، ومَتْن الجغميني في عِلْم الهيئة بمراجعة قاضي زادة، ومطالعة السيد عليه، وأَخَذْتُ عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم الكواكب السبعة.
وَلَمَّا ذَكَرَ ما تَلَقَّاه من هذه العلوم أَعْقَبَه بما طالَعَه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ، فقال: طَالَعْتُ كتاب إحياء القواد بمعرفة خواص الأعداد في عِلْم الارتماطيقي في نحو كراسين، وكتاب عين الحياة في عِلْم استنباط المياه في نحو كراسين، ورسالة في الكلام اليسير في علاج البواسير في نحو كراسين، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في عِلْم التشريح في نحو كراسين.
ومنها كتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في عِلْم الطب في نحو خمسة كراريس، ومنها رسالة القول الأقرب في علاج لَسْع العقرب في نحو كراس، ومنها منهج السلوك في نصيحة الملوك في نحو عشرة كراريس، ومنها كتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب؛ مُعَنْوَنًا باسم: السلطان مصطفى خان ابن السلطان أحمد خان، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بَعْد الشمس، الجالس على سرير الملك في سابع عشر شهر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف يوم الأحد قَبْل الشمس، انتهى كلامه مُلَخَّصًا بِتَصَرُّف.
فانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعِلْم الهيئة الحظ الأوفر مما تَلَقَّاه عن أشياخه الأعلام، فَضْلًا عن كَوْن أشياخه كانوا أزهرية، ولم يَفُتْهُم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفَضْل العلامة الجبرتي — المتوفى في أثناء القرن — في هذه العلوم وفي فَنِّ التاريخ أَمْر مَعْلُوم، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي، وكان للمرحوم العلامة الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضًا مُشَارَكَة في كثير من هذه العلوم حتى في العلوم الجغرافية، فقد وَجَدْتُ بِخَطِّه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماه المشهور أيضًا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش أيضًا وَجَدْتُها بأكثر التواريخ وعلى طبقات الأطباء وغيرها، وكان يَطَّلِع دائمًا على الكتب المُعَرَّبة مِنْ تَوَارِيخَ وغَيْرِها، وكان له وُلُوع شديد بسائر المعارف البشرية مع غاية الديانة والصيانة.
وله بعض تآليف في الطب وغيره زيادَةً عن تآليفه المشهورة، فلو تَشَبَّثَ من الآن فصاعدًا نُجَبَاءُ أَهْل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جَدَّدَها الخديو الأكرم بمصر بإنفاقه عليها أَوْفَرَ أموالِ مَمْلكته؛ لفازوا بدرجة الكمال، وانتظموا في سلك الأقدمين مِنْ فحول الرجال، وربما يَتَعَلَّلُون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة، والحال أن الحكومة إنما تُسَاعِدُ مَنْ يَلُوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعَمَلُ كُلٍّ من الطرفين مُتَوَقِّف على عَمَل الآخر، فترجع المسألة دورية، والجواب عنها أن الحكومة قد سَاعَدَتْ بتسهيل الوسائط والوسائل؛ لِيَغْتَنِمَ فرصة ذلك كُلُّ طالب وسائل، وكلُّ مَنْ سار إلى الدرب وَصَلَ، وإنما تكون المكافأة على تمام العمل، فهذا ما يتعلق بطبقة العلماء، وقد ذَكَرْنَا ما يَتَعَلَّق بالعلم في الفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب مبسوطًا بما فيه الكفاية.
ومن أَجِلَّاء طبقة العلماء القضاةُ، فرُتْبَة القضاء قد جَعَلَ الله إليها مُنْتَهى القضايا، وإنهاء التظلمات والشَّكَايا، ولا يكون صاحِبُهَا إلا مِن العلماء الذين هُمْ ورثة الأنبياء، فالقاضي مُتَوَلِّي الأحكام الشرعية لهذه الرتبة، كما وَرِثَ عن النبي ﷺ عِلْمَهُ وَرِثَ عنه بهذه الوظيفة الشريفة حُكْمَهُ.
ومما ينبغي ذِكْرُه هنا بالمناسبة أنَّ مِنْ مِنَن الله سبحانه وتعالى على عائلتنا بطهطا أن اجْتَمَعَ فيها مَعَ مَنْصِب نقابة الإشراف، التي هي لم تَزَلْ في بيتنا إلى الآن، مَنْصِب قضاء الولاية في كَثِير مِنْ نَسْلِنَا.
وكُنْتُ أَسْمَعُ مِنْ أسلافنا أن مِنْ ذُرِّيَّة جَدِّنَا أبي القاسم الطهطائي من تَقَلَّدَ بمحروسة مصر بولايات شريفة، وحَظِيَ عند مُلُوكِها بالمراتب المنيفة، حتى وَقَفْتُ الآن على كتاب يُسَمَّى: ذيل رَفْع الإصر في قضاة مصر للحافظ شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي صاحب الضوء اللامع، تَرْجَم فيه لاثنين من أَقَارِبِنَا تَوَلَّيَا قضاء مصر بالتعاقب، ولما كان هذا الكتاب مُرَتَّبًا على حروف المعجم تَرْجَمَ للخَلَف منهما قَبْل السَّلَف، فقال هذا المؤلف ما نَصُّهُ: عُمَرُ بن أبي بكر بن محمد بن حُرَيْز — ويُدْعَى محرز — ابن أبي القاسم بن عبد العزيز بن يوسف بن رافع بن جندي بن سلطان بن محمد أحمد بن حجون بن أحمد بن محمد بن جعفر بن إسماعيل بن جعفر الزكي بن محمد المأمون بن علي الحارض بن الحسين بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القاضي سراج الدين ابن الشيخ مجد الدين الحسيني المغربي الأصل الطهطائي المنفلوطي المصري المالكي الشهير بابن حُرَيْز بضم المهمَلة وآخره زاي، وهو أخو القاضي حسام الدين محمد الآتي، والحسام هو الذي أَمْلَى عليَّ هذا النسب بعد أن أَثْبَتُّه، ثم أَوْقَفَنِي عليه صاحب الترجمة في جزء فيه ترجمة جَدِّه الأعلى الشيخ أبي القاسم المذكور بالكرامات والأحوال السنية، وكون الشيخ عبد الرحيم القنائي ابن عم جَدِّه وتَقَدُّمه في الزمان، وأن مِنْ جُمْلَة مَنْ لَقِيَه السراج البلقيني، وأنه مات في مُسْتَهَل سنة اثنتين وستين وسبعمائة عن نحو تسعين سنة، ودُفِنَ بزاويته التي أَنْشَأَهَا بطهطا، وقَبْرُه هناك ظاهر يُزَارُ، انتهى. أَنْجَبَ أبو القاسم هذا عِدَّة أولاد كانت لهم جلالة وهَيْبَة وكلمة نافذة؛ منهم نور الدين أبو الحسن علي الضرير المُقْرِي، وَجَدُّ والد صاحب الترجمة الزين أبو المعالي حُرَيْز الموصوف من بَعْض مَنْ لَقِيَهُ في سنة ثمان وسبعين بالشيخ الإمام الْمُحَدِّث المُقْرِي، وكان مَوْلِد صاحب الترجمة في سنة تسع عشرة بمنفلوط ونشأ بها، فحَفِظَ القرآن والرسالة والملحة وجَوَّد القرآن على الشهاب الطهطائي، وقرأ الفقه على الزينين عبادة وطاهر والشهاب السخاوي، وعليه قَرَأَ في العربية والفرائض ولَازَمَه وانْتَفَعَ به، وأَخَذَ في عِلْم الكلام عن أبي عبد الله اليَشْكُرِيِّ المغربي، وسَمِعَ الحديث عن النجم بن عبد الوارث فمَنْ دُونَهُ، وممن سمع عليه الشيخ أحمد محمد بن يونس المغربي نزيل مكة حين إثبات هذه الترجمة، وأجاز له العلم البلقيني وناب عنه، وكذا عن غيره من الشافعية بَعْدَه، وعن الولي السنباطي المالكي وحَجَّ في سنة أربع وستين، وتَعَانَى إدارة الدواليب والمعاصر — أي: مَعَاصِر قَصَب السُّكَّر — ونَحْوِهَا كأخيه.
محمد بن أبي بكر بن محمد بن حُرَيْز، وباقي نَسَبِه مَضَى في أخيه عُمَر القاضي حسام الدين أبو عبد الله الحسيني المغربي الأصل الطهطائي المنفلوطي المصري المالكي، عُرِفَ بابن حُرَيْز، وُلِدَ في العشر الأخير من شهر رمضان سنة أربع وثمانمائة بمنفلوط، وانْتَقَلَ منها وهو صغير مع أبيه إلى القاهرة، فقرأ القرآن بها على الشريف جمال الدين ابن الإمام الحسيني، وتلاه برواية أبي عمرو من طريق الدوري على الجَمَّال يوسف المنفلوطي أحد تلامذة جَدِّه الأعلى أبي القاسم المذكور بالإمامة في القراءات وغيرها، كما سَلَفَ في أخيه عُمَرَ، ثم على الشهاب ابن البابا والشهاب الهيثمي، وتلاه بعد ذلك وهو كبير في مجاورته بمكة بالسبع أفرادًا وجَمْعًا على الشيخ محمد الكيلاني أَحَد أصحاب الشمس ابن الجزري، ابْتَدَأَ عليه في عاشر المحرم سنة ثمان وأربعين، وختم في رابع ذي الحجة منها، وحَفِظَ قبل ذلك العمدة، والشاطبية، والرسالة، والألفية، وعَرَضَهَا على الجَمَّال الأقفهسي والبدر الدماميني والشمس البساطي وابن عمه القاضي جمال الدين والشمس ابن عماد والولي العراقي والعز بن جماعة والجلال البلقيني والشمس والمجد البرماويين وشيخنا والتلواني وآخرين، وتَفَقَّهَ على الزين عبادة، قَرَأَ عليه الرسالة مرتين، وَصَلَ في الثانية إلى الوصايا ورُبْع العبادات فَقَطْ من ابن الحاجب، والرسالة فَقَطْ على الشمس الغماري المغربي، نزيل الصرغتمشية، وكذا أَخَذَ عن الشمس البساطي وغيرهم، وسَمِعَ على الولي العراقي بعض الصحيح، وعلى الزين بن عياش بمكة صحيح مسلم والسُّنَن لأبي داود، وعلى البدر حسين الأهدل بقراءته الشفاء، وبقراءة القاضي فتح الدين بن سويد الْمُوَطَّأ، وعلى الشرف أبي الفتح المراغي بقراءة ابن سويد أيضًا الشفاء، كل ذلك في مجاورته الماضية بعينها، وكان حَجَّ قَبْلَ ذلك في سنة اثنتين وعشرين، ووَلِيَ قضاء منفلوط عن شيخنا فمَنْ بَعْدَه، وأَوْرَدَ شَيْخُنَا في حوادث سنة اثنتين وأربعين أن القاضي بهاء الدين الإخنائي حَكَمَ بحضرة مُسْتَنِيبِيه بقتل بخشيباي الأربلي حَدًّا؛ لِكَوْنِه لَعَنَ أجْدَاد صاحب الترجمة بَعْد أن قال له: أنا شريف وَجَدِّي الحسين ابن فاطمة بِنْت رسول الله ﷺ، واتَّصَلَ ذلك بقاضي الإسكندرية فأعذر، ثم ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
ولازم القاضي حسام الدين المُطَالَعَة في كتب الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والأدب حتى صار يَسْتَحْضِرُ جُمْلَة مُسْتَكْثَرَة من ذلك كُلِّهِ، ويُذَاكِرُ بها مذاكرة جيدة، مع سرعة الإدراك، والفصاحة، والبشاشة، والحياء، والشهامة، والبذل لسائليه وغَيْرِهم، والقيام مع مَنْ يَقْصِدُهُ في مُهِمَّاتِهِ، واقتناء الكتب النفيسة، والتبسط في أنواع المَأْكَل ونَحْوِها، والقيام بما يُصْلِحُ مَعِيشَتَهُ مِنْ زَرْع الْغِلَالِ والْقَصَبِ وطَبْخِ السُّكَّرِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وحَمِدَ الناس مُعَامَلَتَهُ في صِدْق اللهجة والسماح وحُسْن الوفاء، حتى رَغِبَ ذَوُو الأموال في مُعَامَلَاتِه، وممن كان يَتَرَدَّد إليه من مشايخنا؛ لمزيد إحسانه وإكرامه السيد النسابة، وربما سَمَّعَ الحسام عليه بَعْض النَّسَائِيِّ الكبير، بَل اسْتَكْتَبَهُ لِيَسْمَعَهُ بتمامه فما تَيَسَّرَ، والزين البوتيجي، وكان يَحْكِي من كرامات بَعْض سَلَف الحسام شيئًا كثيرًا، ولم يَزَلْ دَأْبُه ما حكيناه إلى أن مات القاضي وَلِيُّ الدين السنباطي في ليلة الجمعة تاسع شهر رجب سنة إحدى وستين، والْتُمِسَ مَنْ يَصْلُح لقضاء المالكية ويُسْتَقَرُّ لمن بَعْدَهُ فِيهِ، وتَطَاوَلَ لذلك غَيْرُ واحد، فاقتضى رأي الجمالي ناظر الخاص استقراره به، ولِمَا عَلِمَه فيه من رِيَاسَتِهِ وشَهَامَتِهِ وراسل كلًّا من القاضي الشافعي ابن البلقيني، والقاضي الحنفي ابن الديري في الثناء عليه عند السلطان واستحقاقه له، فَفَعَلَا واسْتَقَرَّ في يوم الأحد ثاني عشر الشهر المذكور، ورَكِبَ في أُبَّهَة وخَفَر، وفَرِحَ الناس به لا سيما رُفْقَتُهُ من بَقِيَّة المَذاهب لِمَا وَقَرَ عندهم من حِشْمَتِهِ ومَحَاسِنِه الجَمَّة، وحينئذ بَاشَرَهُ بعفة ونزاهة وشهامة مُفْرِطَة وقيامٍ بأعباء جماعة مَذْهَبِهِ والإنعام عليهم بأنواع من الإكرام، فاجْتَمَعَ شَمْلُهُم بوجوده، وبَلَغَ كُلُّهُم فيما يُؤَمِّلُهُ غايةَ مقصوده، ومَنَعَهُمْ من تَعَاطِي الأخذ على الأحكام، وأَكَّدَ على مَنْ لَمْ يَثِقْ به منهم في ذلك التأكيد التام حتى بالأيمان ونحوها، ولَزِمَ الاختصاص به من أعيانهم البدر بن المخلطة، وقَرَأَ عِنْدَه في المدارك للقاضي عياض، وفي الجواهر لابن شاس وغيرهما، واستناب في بعض الأوقات في تدريسه أَعْيَان المذهب قَصْدَ البِرِّ بِهِمْ، ففي المنصورية الشيخ يحيى العلمي، وفي الناصرية الشيخ نور الدين السنهوري، وفي الصالحية الشيخ نور الدين الوراق، وتزاحم عليه الفضلاء من سائر أرباب المذاهب، وممن تَرَدَّدَ إليه الشهاب بن صالح أَحَد نوادر أئمة الأدب، وسَمِعْتُ حينئذ قاضي المذهب الحنبلي — وناهيك بذلك مِنْ مِثْلِه — يقول: إن الشهاب لا يَنْهَضُ أَنْ يُغْرَبَ عليه في فَنِّه؛ إشارة إلى ملاءته وتَقَدُّمِه في جودة مُحَاضَرَتِهِ، وكذا كان الشهاب ابن أسدٍ شَيْخ القراء في زَمَنِهِ ممن يَتَرَدَّد إليه، وقد صَحِبْتُهُ قَبْل استقراره في المنصب، وساعدني في بعض القضايا، وكان يُجِلُّنِي وسَمِعَ من لَفْظِي بعض تصانيفي بحضرة الإمام الزين البوتيجي، وتَفَضَّلَ هو بسؤالي في الإذن له بالإجازة، وكتب القاضي خَطَّهُ بما يَشْهَدُ لهذا.
ولما اسْتَقَرَّ الْتَمَسَ مِنِّي إسنادي بالبخاري ونَحْوِه، فخَرَّجْتُ له جزءًا فيه أسانيد كثيرة من الكتب الحديثية والعلمية، فسُرَّ بذلك ورَغِبَ إليَّ في تبييض ما عَلِمَ أنني جَمَعْتُهُ من طبقات المالكية والمرور عليه عنده، فعَاقَ عنه بعض الشواغل، وكذا رَغِبَ في قراءتي الجامع للترمذي عنده في رمضان فَفَعَلْتُ، وحَرَصَ على المداومة على ذلك، فثَقُلَتْ عَلَيَّ الحركة بسبب ذلك خصوصًا في شهر الصوم، فبادَرَ صاحِبُنا الشمس ابن الفالاتي لذلك وانْتَهَزَ الفرصة، فلم يَزَلْ يقرأ عنده حتى مات، واقتصر في آخِرَةِ الأمر عليه بعد أن كان يَقْرَأُ عنده الثلاثة فأكثر، ويُنْعِمُ على القُرَّاء بالخُلَع والجوائز وغَيْر ذلك في الضحايا وغيرها، بل ويَصْرِفُ على جميع مَنْ يَحْضُرُ عنده يوم الختم دراهم مُتَفَاوِتَة على قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ، ولما مات يحيى العجيسي استقر في تدريس الشيخونية، ثم لما مات وَلَدُهُ اسْتَقَرَّ في تدريس جامع طولون، وباشر التدريس فيهما، وكذا دَرَّسَ بالمؤيدية نيابة عن ولد صاحبه البدر بن المخلطة بَعْد وفاة والده، وفي سَلْخ المحرم سنة ثلاث وستين لبس خلعة الاستمرار.
ولم يَزَلْ على جلالته وعُلُوِّ مكانته في جميع ما أَشَرْتُ إليه حتى حَصَلَ بينه وبين العلاء بن الأهناسي الوزير ما يَقْتَضِي الاستيحاش، فقام في معاونة الشرف يحيى بن صنيعة أحد الكتاب حتى اسْتَقَرَّ عوضه في الوزارة في ربيع الآخر سنة ست وستين بعد أن رَسَمَ بالقبض على ابن الأهناسي، وهو بالوجه القبلي في الصعيد، ولَزِمَ من ذلك قِيَامُهُ مَعَهُ خوفًا من حصول خَلَلٍ يعود اللوم عليه بِسَبَبِهِ، حتى يقال: إنه تَكَلَّفَ في تلك الحادثة نحو ثلاثين ألف دينار، فتزايَدَتْ ديونه بسبب ذلك، وطَمِعَ فيه أرباب الدولة، وأَدَّى ذلك إلى انحطاط جانبه، وهو مع ذلك لا يَنْفَكُّ عن التجمل جهده، وإظهار الجلد والصبر لمن يجيء عنده، إلى أن كاد الأمر يَتَفَاقَمُ، فلَطَفَ الله به، ومات في ليلة الاثنين مستهل شعبان سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة بمَنْزِلِهِ بمصر، وصُلِّيَ عليه من الغد بجامع عمرٍو، تَقَدَّم للصلاة عليه أخوه السراج عمر الماضي، ودُفِنَ بتربة جَدِّهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ الشيخ محمد الهلالي العريان بجوار تربة الشيخ أبي العباس الجرار من القرافة الكبرى عند أولاده، واسْتَقَرَّ أخوه في المنصب بَعْدَهُ، ولم يَتَعَرَّض لوظيفة الشيخونية وجامع طولون كما سَلَفَ، وقد قَتَلَ بسيف الشرع جماعة من المفسدين منهم حمزة بن غيث بن نصير أحد مشايخ العريان أبوه بالغربية، ومنصور بن صفي الاستادار، وما خلا عن عَتَبٍ في بعضهم جَرْيًا على عادة الناس في اختلاف أَغْرَاضِهِمْ، وكان مُنْفَحِمًا على قَتْل سعد الدين بن بكير القبطي، فَكَفَّهُ عنه بعض الحنابلة العز الكناني، كما سَلَفَ في ترجمته.
والشريف أبو المعالي حُرَيْز كزُبَيْر، ويُدْعَى أيضًا مُحْرِز بن الشريف أبي القاسم الحسيني الطهطائي التلمساني، تَقَدَّمَ في القراءات كأبيه، ورَوَى وحَدَّثَ، وكذا وَلَدُهُ الإمام المُحَدِّث شمس الدين محمد، وحفيده القاضي مجد الدين أبو بكر بن محمد بن حُرَيْز، تَوَلَّى القضاء بمنفلوط، وحَسُنَتْ سِيرَتُهُ، ووَلَدُه قاضي القضاة أبو عبد الله حسام الدين محمد، حَدَّثَ عن أبي زرعة العراقي، وأخوه سراج الدين عمر تُوُفِّيَ سنة ٨٩٢ وهم أكبر بيت بالصعيد، يقال لهم: المحارزة والحريزيون.
وقول السخاوي في ترجمة الأول في حَقِّ جَدِّه: أَنْجَبَ أولادًا وذَكَرَ منهم اثنين، وأقول: إن الثالث منهما يُسَمَّى يَحْيَى، وعائلتنا بطهطا الموجودة الآن هم من ذرية يحيى الذكور، وينتهي نَسَبُنَا إليه، حيث إن المرحوم والدي السيد بدوي بن علي بن محمد بن علي بن حُرَيْز بن أبي القاسم الصغير بن جلال الدين، وليس عندي الآن بمصر السلسلة الموصلة إلى سيدي أبي القاسم:
ومن جهة الأم فوالدتي فاطمة بنت المرحوم الشيخ أحمد الفرغلي الأنصاري ابن المرحوم الشيخ عبد العزيز الأنصاري ابن المرحوم القاضي أبي الحسن الأنصاري ابن المرحوم العلامة القاضي محمد الأنصاري، ينتهي نَسَبُهُمْ إلى الإمام العالِم القُطْب الرباني سيدي رفاعة بن عبد السلام الأنصاري المشهور بالخطيب المكتوب على ضريحه:
وعلى كل حالٍ فما أَحْسَنَ قَوْل مَنْ قال:
ويتفرع عن عائلتنا التي بطهطا عائلة شريف إبيار المشهورة، فإنها نزلت بإبيار في القرن الحادي عشر، وهم بَيْت مَجْد مُؤَثَّل كأصولهم، وأما أولاد سيدي حُرَيْز فهم أشراف أسيوط، وفيهم النقابة إلى الآن، ولعل هذا هو معنى قول النسابة عبد الواحد بن إبراهيم الحُسَيْنِي الهاشمي في نبذة الأنساب عند ذِكْر الأشراف بعد أن ذَكَرَ بني الحسن، وأنهم في جرجا؛ يعني: أشراف منشأة النيدة، قال: وفي أسيوط طائفة من أولاد جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي بن الحسين بن علي عليهما السلام، يُعْرَفُون بأولاد الشريف قاسم، انتهى.
ومن أولاد حُرَيْز أشراف منفلوط وفيهم النقابة والقضاء إلى الآن، ومنهم فَرْعُ العالِم الفاضل السيد حسنين حُرَيْز الغمراوي، أحد فضلاء الجامع الأزهر ومُدَرِّس الجامع العالي بالقلعة العامرة، ومنهم فَرْع مُنْتَشِر في بلاد أناطلي.
وأما أولاد سيدي علي نور الدين البصير المدفون بجزيرة شندويل بعمالة جرجا، وله مَشْهَد يُزَارُ، فهم أَشْرَافُ جَزِيرَة شَنْدَويل، ومنهم جماعة بقرية مطاي بالأقاليم الوسطى، ومنهم أشراف عربان بالوجه البحري، مشهورون بالقواسم، منهم العالِم الفاضل الشيخ إسماعيل رأس نقباء الطريقة المحمدية الدمرداشية حَالًا، ويُفْهَم من قول العلامة السخاوي أن القاضي حسام الدين جده لأمه الشيخ محمد الهلالي العريان، ومع ذلك فسيدي أبو القاسم أستاذه هذا الشيخ المذكور، حيث يوجد في مناقبه أن الشيخ محمد الهلالي العريان أَلْبَسَهُ طَاقِيَّتَهُ، كما أَشَرْتُ لذلك في قصيدة جامعة لِمَنَاقِبِهِ منها قَوْلِي:
وقَدْ جَدَّدَ الأمير الكبير والمُفْرَد العِلْم الشهير لطيف باشا ناظر عموم البحرية سابقًا جامع سيد أبي القاسم بطهطا، وتَأَنَّقَ في بنائه بالبناء العجيب الذي صَرَفَ فيه جزيل الأموال مِنْ ضِمْنِ ما جَدَّدَهُ بطهطا من العمائر؛ كالحمام النفيس المَبْنِي على شَكْل حمام المرحوم مطلوش باشا بالإسكندرية؛ مما به صارت طهطا بهية، جزاه الله خير الجزاء، وأحسن له الحال والمآل، وفي هذا القدر مَقْنَع، وإنْ كان مجال الكلام أَوْسَع.
وقد كان كُلٌّ من القاضي حسام الدين والقاضي سراج الدين ابني حُرَيْز بلفظ التصغير، بحاء مضمومة ثم راء مُهْمَلَة ثم زاي مُعْجَمَة، خلافًا لِمَا وُجِدَ مِن الرسم في طَبْع حُسْن المحاضرة في ذِكْر قضاء المالكية بأن حُسَام ابن جَرِير، وصِحَّتُهُ ابن حُرَيْز بالحاء والراء والزاي، وكان تَوْلِيَتُهُمَا القضاء في زمن ملوك الجراكسة، وكان مَنْصِب القضاء في ذلك العهد وما قَبْلَه يَتَعَدَّد بمصر بتعدد المذاهب الأربعة حتى مَنْصِب قضاء العسكرية، فكان تارة يُضَاف إلى القاضي الحنفي، وتارة يُضَاف إلى القاضي الشافعي، وتارة يَنْفَرِد به قاضٍ حنفيٍّ وما ذاك إلا أن قاضي العسكر إنما يُنْتَفَعُ به في الجهاد ووَقْت خروج العسكر، وتَقَع وصايا من الأمراء وشهادات بينهم، ولا يوجد في العسكر الجالسين في المراكز أحد، ويُحْتَاج إلى إثبات ذلك عند القاضي الشافعي، فلا يَسْمَع شهادة العسكر فيَتَعَطَّل إثبات ذلك فتَبْطُل وصاياهم وشهاداتهم؛ فلهذا السبب وَلَّى المَلِك الظاهر بيبرس القاضي الحنفي لِمَا اتَّفَقَ له في الجهاد مثل ذلك.
وامتنع القاضي الشافعي في ذلك الوقت من سماع شهاداتهم، ثم بتداول الأيام ودخول أكثر الممالك الإسلامية في قَبْضَة الدولة العثمانية المُقَلِّد جمهور حُكَّامِهِم لأبي حنيفة النعمان، انتهى الأمر أن صار حَصْر القضاء على مذهب إِمَامهِم الذي هو أَوَّل مَنْ دَوَّنَ الفِقْه وجَمَعَهُ، وتَقَدَّمَ وسَبَقَ من العلماء مَنْ تَبِعَهُ، واخْتَصَّ بكثير من الفروع التي تُلَايِم ولاة الأمور، وأَعْظَمُهَا عَدَم اشتراط أمور كثيرة في المراسم السلطانية، والفسحة في اشتراط المعدلة، وإن كانت في الغالب لا يخلو منها مَنْ قَضَتْ له بالتولية الإرادةُ الصمدانية، فيجوز تقليد الإمام غير القرشي المناصب والأعمال، وأَصْلُهُ قصة معاوية، فإن الصحابة تَقَلَّدُوا منه الولايات، واستدل الشافعية بقوله ﷺ: «الأئمة من قريش» فبهذا كان مذهب أبي حنيفة أَوْفَقَ للملوك وأَصْلَح.
ومن الفروع أَنَّ من له أرض خراجية عَجَزَ عن زراعتها وأداء خراجها فللإمام على مذهب أبي حنيفة أن يُؤْجِرَها من غيره، ويَأْخُذ مِنْ أُجْرَتِها الخراج سواء رضي صاحبها بذلك أمْ لَمْ يَرْضَ، ومنها أنَّ مَنْ عَزَّرَهُ ولي الأمر لاستحقاقه التعزير فمات في أثناء تعزيره فلا ضمان عند أبي حنيفة على ولي الأمر، وهذه المسألة موافقة لولاة الأمور، ولَوْلَاهَا لَفَسَدَ أَمْرُهُمْ، ومنها أنَّ مَنْ أحيا أرضًا مواتًا بإذن وَلِيِّ الأمر مَلَكَهَا، وإن كان بغير إِذْنِهِ لم يَمْلِكْهَا عند أبي حنيفة، ومنها إذا احتاج وَلِيُّ الأمر إلى تقوية الجيش له أن يَأْخُذَ من أرباب الأموال ما يَكْفِيه من غير رضاهم على مذهب أبي حنيفة، ففيه مساعدة لولاة الأمور على مشروعاتهم حتى لو اضْطُرَّت الحكومة إلى تولية قاضٍ غير حنفيٍّ وَجَبَ تَقْلِيده لمذهب أبي حنيفة؛ لأجل الولاية وإجراء الأحكام عليه.
ثم إن الحالة الراهنة اقْتَضَتْ أن تكون الأقضية والأحكام على وَفْق معاملات العصر بما حَدَثَ فيها من المتفرعات الكثيرة، المتنوعة بتنوع الأخذ والإعطاء من أمم الأنام، وقد تَقَدَّمَ بعض ما يَتَعَلَّق بذلك في الفصل الرابع من الباب الثاني، ومن المعلوم أن بحر الشريعة الغراء على تفرع مشارعه لم يُغَادِر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأحياها بالسقي والري، ومصداق ذلك قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ فلا ريب في انقياد شمم كل عرنين إليها صاغرًا بدوام النفوذ، ولم تَخْرُج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية لا على سبيل التهاون ولا على سبيل الشذوذ، بل سَارَتْ على مشاعب المذاهب لمجاراة مُجْرَيَات النوازل والنوائب، وما شُرِعَ مَذْهب السيف إلا لِنُصْرة مذاهب الشرع؛ لأنها أَصْلٌ وجميع مذاهب السياسات عنها بمنزلة الفرع، فاختلاف مذاهب الأئمة رحمة، وجواز تقليد أي واحد منهم والرجوع إلى اجتهاد الآخرين للحاجة نِعْمة، ومما يُسْتَأنس به في الأقضية والأحكام بهذه الأزمان ما أَفْتَى به، وقد سُئِل عنه العلامة الشيخ محمد الشافعي الشهير بالصبان، وقد عَثَرْتُ بهذه الفتوى الجليلة، وهي جديرة بأن يَجْعَلَهَا مَنْ يريد التقليد للحاجة دَلِيلَهُ.
ونص السؤال: «ما قولكم — دام فَضْلُكُمْ — في الانتقال في بعض المسائل إلى غير المذهب الذي عليه الشخص، هل يجوز ولو كان متبوعه في هذا البعض مفضولًا، وهل يجوز العمل بالقول الضعيف في خاصة النفس، وهل يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة؟ أفيدوا الجواب.»
الحمد لله وَحْدَهُ
قال الزركشي في البحر المحيط: في تقليد المفضول مذاهب أَحَدُهَا امتناعه، ونُقِلَ عن أحمد وابن سريج ثانيها — هو الأصح، واختاره ابن الحاجب وغيره — الجواز، ثالثها: يجوز لمن يَعْتَقِدُهُ فاضلًا أو مساويًا، وقال في موضع آخر: لو الْتَزَمَ العامي مَذْهَبًا معينًا واعْتَقَدَ رُجْحَانَه من حيث الإجماع، فهل يَجُوزُ أن يُخَالِفَ إمامه في بعض المسائل، ويأخذ بقول مُجْتَهِد آخر؟ فيه خلاف، والأصح الجواز كما في الرافعي، ثم قال: وقَسَّمَ بَعْضُهُمْ الْمُلْتَزِمَ لمذهب إذا أَرَاد تَقْلِيدَ غيره إلى أحوال، إلى أن قال: الثانية أن يُقْصَدَ بتقليده الرخصة فيما هو مُحْتَاج إليه لحاجة لَحِقَتْهُ، أو ضرورة أَرْهَقَتْهُ، فيجوز إلى أن قال: السادسة أن تُجْمَع من ذلك حقيقة مُرَكَّبَة ممتنعة بالإجماع فيَمْتَنِع، كما إذا افْتَصَدَ ومَسَّ الذَّكَرَ وصَلَّى «أي: لأن ذلك يُعَدُّ تلفيقًا في مسألة واحدة»، ثم ذَكَرَ الخلاف في جواز التقليد بعد العمل، والخلاف في جواز تَتَبُّع الرخص، ورَجَّحَ المنع، وحكى الجَوَازَ عن بعض مشايخ الشافعية، ثم قال: لا يَنْبَغي إطلاق القول بالجواز لكل أحد، بل يُرْجَعُ إلى حال المستفتي وقَصْدِهِ، كما وَقَعَ لابن القاسم مع وَلَدِهِ؛ إذ حَنِثَ في يمين بالمشي إلى الكعبة، فاستفتى أباه، فقال له أُفْتِيكَ: فيها بمذهب الليث كَفَّارَةُ يمين، وإن عُدْتَ أُفْتِيكَ بمذهب مالك؛ يعني: الوفاء.
ويجوز عَمَلُ الشخص بالقول الضعيف في حَقِّ نَفْسِهِ خاصة إذا دَعَتْ إليه حاجَة، ولم يَلْزَم تَتَبُّع الرخص ولا تركيب حقيقة أُجْمِع على بطلانها، وإنما الممنوع أن يُفْتِيَ به أو يَحْكُم، وفي البحر المحيط أيضًا مُجْتَهِد الصحابة إذا لَمْ يُجْعَل قَوْلُهُ حُجَّةً، ففي جواز تَقْلِيدِه في هذه الأعصار خلاف، ذَهَبَ إمام الحرمين وغَيْرُه؛ إلى أن العاميَّ لا يُقَلِّدُه، وبه جَزَمَ ابن الصلاح وزاد أنه لا يُقَلِّد التابعين أيضًا ولا غَيْر مَنْ لَمْ يُدَوِّن مَذْهَبَه؛ لعدم الوقوف على حقيقة مَذَاهِبِهِمْ، فإنهم إنما نُقِلَ عنهم فَتَاوَى مُجَرَّدَة، فلعل لها مُكَمِّلًا أو مُقَيِّدًا أو مُخَصِّصًا، لو انْضَبَطَ كلام قَائِلِهِ لَظَهَرَ، فمُقَلِّدُهم على غير ثقة، وعلى هذا فينحصر التقليد فيمن دون مذهبه كالأربعة والأوزاعي وسفيان وإسحاق وداود على خلاف في داود، وذَهَبَ غيرهم إلى أن الصحابة يُقَلَّدُون، وهذا هو الصحيح إنْ عُلِمَ دَلِيلُهُ، وقد قال الشيخ عز الدين في فتاويه: إذا صَحَّ عن بعض الصحابة مَذْهَبٌ في حُكْمٍ جَازَ تَقْلِيدُه، وإلا فلا، انتهى. وبالجملة: يَخْتَصُّ التقليد بالأربعة على كِلَا القولين والله أعلم، كَتَبَهُ الفقير محمد الصبان الشافعي.
وقوله: وسفيان، لعله أراد به أبا عبد الله سفيان بن سعد الثوري، نسبة إلى ثور بن عبد مناف، وقيل: إلى ثور همدان الكوفي مات بالبصرة في شعبان، ودُفِنَ بها لإحدى وستين ومائة، ولم يَزَل مُقَلِّدُوه إلى القرن السادس، ومن الناس مَنْ يَعُدُّ مِنْ أصحاب المذاهب سفيان بن عيينة، فيَدْخُل تَحْتَ كافِ التمثيل كما يَدْخُل أيضًا إسحاق بن راهوَيْه، ومحمد بن جرير الطبري، وقوله: وداود على خلافٍ فيه، لَعَلَّه نَظَرَ إلى قول إمام الحرمين: إن المحققين لا يقيمون للظاهرية وَزْنًا، وإن خلافهم لا يُعْتَبَرُ، ولكن قال العلامة اللقاني في شرح الجوهرة عند قوله: ومالِكٌ وسائر الأئمة إلى آخره: حَمَلَ ابن السُّبْكِي قول إمام الحرمين على ابن حَزْم وأمثاله، قال السبكي: وأما داود، فمَعَاذَ الله أن يَقُولَ إمام الحرمين أو غَيْرُه أن خلافه لا يُعْتَبَر، فلقد كان جَبَلًا من جبال العِلْم والدِّين، وله من سَدَاد النظر وسِعَة العلم ونُور البصيرة والإحاطة بقول الصحابة والتابعين، والقدرة على الاستنباط ما يعظم وقعه، وقد دُوِّنَتْ كُتُبُه، وكَثُرَتْ أَتْبَاعُه، وذَكَرَهُ الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقاته من الأئمة المتبوعين في الفروع، وقد كان مشهورًا في زمن الشيخ وبَعْدَه بكثير، لا سيما في بلاد فارس شيراز وما والاها إلى ناحية العراق وفي بلاد المغرب، انتهى، على أنَّ ابن حَزْم المحمول عليه عَدَم اعتبار المَذْهَب نَسَبَ إليه بَعْضُهُم الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي وأنه مِنْ مُقَلِّدِيه، حكاه العلامة الأمير في حاشيته على شرح الملوي للسمرقندية عند التكلم على البسملة، ثم قال: وَجَدْتُ في ديوان محيي الدين ما يَدُلُّ على اجتهاده، وهو قوله:
وأما الأوزاعي وهو أبو عمر وعبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي إمام أهل الشام، روى عنه الثوري، وأَخَذَ عنه عبد الله بن المبارك وجماعة كثيرة، وُلِدَ ببعلبك، ثم نَقَلَتْهُ أُمُّه إلى بيروت، ودُفِنَ بقرية على باب بيروت، يُقَال لها: حنتوس في قبلة المسجد، ولا يَعْرِف قَبْرَه بها إلا الخَوَاصُّ من الناس، وأما أهل القرية فيقولون: ها هنا رجل صالح، يَنْزِل عليه النور، وأما ذِكْر العلامة الصبان، نَقْلًا عن الزركشي استفتاء وَلَد ابن القاسم، وإفتاء أبيه له على مَذْهَب الإمام الليث؛ فيَدُلُّ على جواز الإفتاء بغير المذاهب الأربعة؛ كجواز العمل في حِقِّ نَفْسِه، فحينئذ قول السبكي: «يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة في العمل»، في حَقِّ نَفْسِه، لا في الإفتاء والحكم؛ كما قاله ابن الصلاح، فلعله ليس على إطلاقه، وأَمَّا ذِكْر العلامة الصبان أَصَحِّيَّة تقليد الصحابة فيما عُلِمَ دليله وَصَحَّ عنهم فظاهرٌ؛ لأن جميعهم رضي الله عنهم لا يَتَطَرَّق إلى آرائهم تجريح؛ إذ كُلُّهُم عدول؛ لأن الله عز وجل ورسوله زكَّيَاهم وعَدَّلاهم، فمذهب كل منهم صحيح رجيح، ومما يدل على أن التشديد والتخفيف في الأحكام قد يختلف باختلاف الأزمان والأيام ما قاله العلامة السيوطي في كتاب الإنصاف في تمييز الأوقاف: «إنك إذا تَأَمَّلْتَ فتاوى النووي وابن الصلاح وَجَدْتَهُمَا يُشَدِّدَان في الأوقاف غاية التشديد، وإذا تَأَمَّلْتَ فتاوى السبكي والبلقيني وسائر المتأخرين وَجَدْتَهُم يُرَخِّصُون ويسهلون، وليس ذلك منهم مُخَالَفة للنووي، بل كلٌّ تَكَلَّمَ بحسب الواقع في زمنه.» انتهى، وقد أتى بمثل ذلك نادرة عَصْره خير الدين باشا التونسي، وذَكَرَ في كتابه أَقْوَم المَسَالِك في معرفة أَحْوَال الممالك ما لَمْ يَسْبِق به غيره، ونَصَحَ أهالي الأوطان في سائر الممالك الإسلامية بِمَا لا يُنْكَر لدين الإسلام من النفع خَيْرُهُ، فإنه حَمَلَ هموم أوطانه وإخوانه المسلمين عملًا بحديث: «مَنْ لَمْ يَحْمِل هَمَّ المسلمين فليس منهم، ومن لَمْ يَهْتَمَّ بأمر المسلمين فليس منهم»، وكان عمر بن الخطاب إذا نَزَلَ بالمسلمين بلاء لا يَضْحَكُ قط حتى يرتفع ذلك البلاء، وكذلك عمر بن عبد العزيز وسفيان الثوري وغيرهم، فتنظيم كتاب للأحكام الشرعية بمناسبة تفرع النوازل في هذه الأيام بأكمل نظام مما تنتظم به الأحكام القضائية في أوطاننا، ويكون عمدةً للقضاة والحُكَّام.
وعلى وَلِيِّ الأمر إذا أراد أن يُوَلِّيَ القضاء لأحد على مَذْهَبِهِ أن يَطْلُبَ أعيان ذلك المذهب، ويَسْأَل كل واحد بانفراده سِرًّا عن رَجُلٍ يصلح للقضاء، يكون كاملًا في العقل والدين، وإن اجْتَمَعَ مع هذين الوصفين الكمال في الفضيلة فهو أجود، وإلا فالمتوسط في الفضيلة مع كمال هَذَيْن الوصفين أَوْلَى، فإذا اتَّفَقُوا أو أَكْثَرُهُم على تعيين شَخْص صَرَفَهُمْ عن مَجْلِسِهِ، ثم سأل عن هذا الشخص الذي عَيَّنَ من غَيْر أَهْل مَذْهَبِه سِرًّا، فإن أُثْنِيَ عليه بأنه أَكْمَل أَهْل مَذْهَبه في العقل والدين اسْتَخَارَ الله تعالى وَوَلَّاه، وإن أَثْنَوْا على غَيْرِه أَكْثَرَ منه جَمَعَ أَعْيَان ذلك المذهب في مَجْلِسِه وأَهْل المذهب الآخر، وذَكَرَ لهم ذلك الشخص الذي عَيَّنَ أَوَّلًا وهذا الشخص الآخر، وطَلَبَ منهم أن يَتَّفِقُوا على الأرجح منهما، فإن اتَّفَقُوا أو أَكْثَرُهُم على أَحَد الشخصين وَلَّاه، ولا يَعْتَمِد الترجيح إلا على الأدْين الأعْقل، ولا يَغْتَر بكثرة الفضيلة مع قلة الدين والعقل، فيكون الضابط لولي الأمر حينئذ في هذا الباب اعتبار الأدْيَن الأعقل وإن لم يكن له فضيلة تامة، فإن المتدين تَمْنَعُهُ ديانته عن أن يَقَعَ فيما لا يجوز، وأن يحكم في شيء لا يَعْرِفُه، ولا كذلك الأعلم إذا كان مُتَهَاوِنًا في الدين فإنه يُخْشَى منه، وهكذا أصحاب أبي حنيفة نَصُّوا: أنه إذا اجْتَمَعَ الأدْيَن والأعلم قُدِّمَ الأدين، وإنما وَجَبَ الفحص عن أهلية القاضي وَقْت الولاية، وأنه يكون أَدْيَن أَهْل مَذْهَبه وأَعْقَلهم؛ لقوله عليه السلام: «مَنْ قَلَّد إنسانًا عملًا وفي رعيته مَنْ هو أَوْلى منه فَقَد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين»، فعلى ولاة المسلمين أن لا يَخْرُجوا عن هذا الأمر الذي قاله رسول الله ﷺ مع قوله تعالى أيضًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ.
ثم إن القاضي مَتَى تَقَلَّدَ مَنْصِب القضاء، وحَصَلَ على توليته التوافق والرضا، فقد أَصْبَحَ بِيَدِهِ زِمَام الأحكام، وفَصْل القضاء الذي عَسَاه أن يُعْرَض على غيره من الحكام، وما منهم إلا من يَنْقُد نقد الصيرفي، ويَنْفُذ حُكْمه نَفَاذ المَشْرَفي، فليترو في أحكامه قَبْل إمضائها، وفي المُحَاكَمات إليه قَبْل فَصْل قضائها، وليراجِع الأمر مرة بعد مرة حتى يزول عنه الإلباس، ويعاود فيه بَعْد التأمل كتاب الله تعالى وسُنَّة رسول الله ﷺ والإجماع والقياس، وما أُشْكِلَ عليه بَعْدَ ذلك فَلْيَجْلُ مُظْلِمَهُ بالاستخارة، ولْيُحِلَّ مُشْكِلَهُ بالاستشارة، ولا يَرَ نَقْصًا عليه إذا استشار، فقد أَمَرَ الله رسوله ﷺ بالشورى، ومَرَّ مِنْ أَوَّل السلف مَنْ جَعَلَهَا بينه وبين خطأ الاجتهاد سُورًا، فقد يَسْنَح للمرء ما أعيا غَيْره وقد أَكْثر فيه الدأب، ويتفطن الصغير لِمَا لَمْ يَفْطِنْ إليه الكبير، كما فَطِنَ ابن عمر للنخلة ما مَنَعَهُ أن يَتَكَلَّمَ إلا صِغَرُ سِنِّهِ ولزومه مع مَنْ هو أَكْبر منه للأدب، ثم إذا وَضَحَ له الحق قَضَى به لِمُسْتَحِقِّهِ، وأَسْجَلَ له به، وأَشْهَدَ على نفسه بثبوت حَقِّهِ، وحَكَمَ له به حُكْمًا يَسُرُّه يوم القيامة أن يراه، وإذا كَتَبَ له به تَذَكَّرَ إذا بلي وأبقى الدهر ما كَتَبَتْ يداه، وليُسَوِّ بين الخصوم حتى في تقسيم النظر، وليَجْعَل كُلَّ عَمَلِهِ على الحق فيما أباح وما خَطَر، وليُحِدَّ النظر في أمر الشهود حتى لا يَدْخُلَ عليه زَيْف، وليَتَحَرَّ في استئداء الشهادات، فَرُبَّ قاضٍ ذَبَحَ بغير سِكِّين، وقاتِلٍ قَتَلَ بغير سيف، ولا يَقْبَل منهم إلا مَنْ عُرِفَ بالعدالة، وألف منه أن يرى، أو أمر النفس أَشَد العدى له وغير هؤلاء ممن لم تَجْر له بالشهادة عادة، ولا تَصَدَّى للارتزاق بسحبها، ومات وهو حي على الشهادة، فليَقْبَل منهم مَنْ لا يكون في قبول مِثْلِه مَلامة، فرُبَّ عَدْلٍ بين منطقة وسيْفٍ، وغيرِ عَدْل في فرجية وعمامة، ولينفث على ما يصدر من العقود التي يُؤَسَّس أكثرها على شفا جرف هار، ويوقع في مثل السفاح، إلا أن الحدود تدرأ بالشبهات، ويَبْقَى العار وشهود القيمة الذين يُقْطَع بقولهم في حَقِّ كل مُسْتَحِقٍّ، ومالِ كل يتيم، ويقلد شهاداتهم أمر كل عظيم، فلا يعول منهم إلا على كل رب مال عارف، ولا يخفى عليه القيم ولا يخاف معه خطأ الحدث، وقد صقل التجريب مرآة فَهْمِهِ على طول القِدَم، ولْيَتَأَنَّ في ذلك كُلِّه أناة لا تقضي بإضاعة الحق، ولا إلى المطاولة التي تُفْضِي إلى حرمان مَن استحق، وليُمَهِّد لرمسه، ولا يتعلل بأن القاضي أسير الشهود وهو كذلك، وإنما يسعى لخلاص نَفْسِه، والوكلاء هم البلاء المُبْرَم، والشياطين والمسوِّلون لمن يوكلون له بالباطل ليقضي لهم به، إنما يَقْطَع لهم قطعة من جهنم، فليكف بمهابته وساوس أفكارهم ومَسَاوِئَ فجارهم، ولا يدع لمَجْنِيِّ أحدٍ منهم ثَمَرة ممنوعة، ولا يد اعتداء تَمْتَدُّ إلا مغلولة إلى عُنُقِهِ وإلا مقطوعة، وليُطَهِّر بابه مِنْ دَنَس الرُّسُل الذين يمشون على غير الطريق، وإذا رأى واحدٌ منهم دِرْهَمًا وَدَّ لو حَصَلَ في يده ووَقَعَ في نار الحريق، وغير هذا مما لا يَحْتَاج به مِثْلُه أن يُوصَى ولا أن تُحْصَى عليه منه أفراد عمله، وهو لا يُحْصَى، وعليه أن يَنْظُر في أمور أوقاف مَذْهَبه نَظَر العموم؛ ليَعْمُرَها بجميل نَظَرِه، فرُبَّ نظرة أَنْفَع من مواقع النجوم.
فإذا كان قاضي العسكر مُنْفَردًا فليَكُن مُسْتَحْضِرًا لهذه المسائل، وليَعْلَم أن العسكر المنصور هم في موطن الحرب أهل الشهادة، وفيهم من يكون جَرْحه تعديلًا لهم وزيادة فليَقْبَل منهم من لا يخفى عليه سيما القبول، ولا يرد منهم من لا يضره إن رَدَّه هو وهو عند الله مقبول، وليجعل له مستقرًّا معروفًا في المعسكر، يقصد فيه إذا نُصِبَت الخيام، ومَوْضِعًا يمشي فيه ليَقْضِي فيه وهو سائر وأشهر ما كان على يمين الإعلام، وليلزم ذلك طول سفره وفي عدة المُقام، وليتخذ معه كُتَّابًا تَكْتُب للناس، وإلا فمن أين يوجد مركز شهود، ويسجل لذوي الحق بحقه، وإلا فما انْسَدَّ باب الجحود، وتقوى الله هي التي بها يُنْصَر الجنود، وما لم تكن أعلى ما يكون على أعلام الحرب وإلا فما الحاجة إلى نشر البنود، ثم إنه من حيث يَجِبُ على ولي الأمر الكشف عن أحوال الولاة والدواوين في كل وقت، ومحاسبتهم فيما يلزم بواسطة كشاف من أعقل الناس وأكثرهم أمانة وعفة، فالقضاة ونوابهم داخلون في هذه الزمرة، ولو أنه سَبَقَ اشتراط شروط في ولاية القاضي إذا تَوَفَّرَتْ يحصل الأمن من وقوع شيء منه مما يُخِلُّ بمنصب القضاء، إلا أنه غير معصوم من حب المال، الذي يكون الطمع فيه طَبْعًا؛ فلهذا وَجَبَ التثبت في ذلك بالتفتيش، فقد يحدث العَيْب، وتخالف الشهادة الغيب.
فينبغي لولي الأمر أن يتخذ عليهم باحثًا في السر، يكون ثقة، دَيِّنًا، عفيفًا، أمينًا، قليل الكلام، لا يُتَفَطَّن له من مِثْلِهِم، ولا يُدْرَى به أنه مُطَّلِع عليهم بحيث يُطَالِع ولي الأمر بأحوالهم في السر ساعة بساعة، ويكون ولي الأمر في العلانية مُعَظِّمًا للقضاة لا يَظْهَر منه أنه يَتَكَشَّف عن أحوالهم أبدًا؛ لحِفْظ ناموسهم الرفيع، وشَرَف مَنْصِبهم المنيع، فإذا صَحَّ عنده أنه وَقَعَ من أحدهم جريمة، فإن كانت مِنْ أَخْذ رشوة أَرْسَل إلى القاضي وطَلَبَه إليه سرًّا وسَأَلَه عن الواقعة، فإن اعْتَرَفَ بذنبه أَخَذَ الرشوة التي الْتَمَسَهَا من الناس ورَدَّهَا على صاحبها، وأَدَّبَ الذي بَذَلَهَا في السر من غير أن يُظْهِر تأديبه عَمَّا ذا، وعَزَلَ القاضي، وكَشَفَ عليه، فإن وَجَدَه الْتَمَسَ من الناس مالًا أو اكْتَسَبَه بالقضاء أَخَذَه لبيت المال كالهدية ونحوها، وإن لم يَعْتَرِف القاضي وظَهَرَ لولي الأمر من قرائن الأحوال، أو من صِدْق الناقل إليه ذلك عن القاضي؛ عَزَلَ القاضي، ولا يُظْهِر بأي سَبَب عَزَلَهُ.
وإن كانت الجريمة من غير أَخْذ الرشا ولم يكن من هذا القبيل، وإنما كان بسبب قوة نَفْسه، وتَحَامُله في الحكومات وهوى النفس، يجب على ولي الأمر عَزْلُه، والاستبدال به، ولا يَغُرُّه كثرة عِلْمه، ولا ديانته في الظاهر، فإن التحامل من القاضي من أَصْعَب الأمور، ومما يُوجِب عَزْلُه، ولا يَلْتَفِت إلى انتصاره لِحُكْمِه بعد أن يَعْرف ولي الأمر منه الهوى والغرض والتحامل، وله أن يُعَزِّرَه بسبب ذلك إذا تَحَقَّقَ جوره؛ كي يَتَأَدَّبَ به غيره، وإن كانت الجريمة بسبب ارتكاب بعض المعاصي من شراب وغَيْره؛ سَأَلَ ولي الأمر عن هذا الأمر من الثقات، فإن صَحَّ عنده ذلك عَزَّرَه سرًّا ورَفَعَه، ولا يُشَهِّر ذَنْبه بين الناس، وإن جَمَعَ القاضي مالًا من الحكومات أَخَذَه وَلِيُّ الأمر ووَضَعَه في بيت المال.
وإن كان هذا القاضي نائبًا، وقد قيل عنه شيء مما ذَكَرْنَا؛ كَشَفَ عن حال مُسْتَخْلِفه، فإن تَبَيَّن عند ولي الأمر أنه كان يَعْلَم به ويَسْتُر عليه عَزَلَه أيضًا، وإن كان لا يعلم واشْتَبَهَ فيه فهو بالخيار إن شاء عَزَلَه وإن شاء تَرَكَه.
وإذا صَحَّ عند ولي الأمر أن القاضي جَمَعَ مالًا بعد تَوَلِّيه القضاء، وقد كان فقيرًا قبل التولية؛ ينبغي أن يفحص عن ذلك الجمع، فإن كان من متعلقات المنصب كما يأخذه بعض القضاة بدون حق من قضاة النيابات أو من ديوان الأيتام أو الصدقات أو الأوقاف؛ فإن ولي الأمر يَأْخُذُهُ منه، ولا يترك في يده منه شيئًا، ويَضَعُه في بيت المال، وإن عَرَفَ أنه من مال الأيتام أو الأوقاف رَدَّه على من أَخَذَ منه، وإن كان من غير متعلقات المنصب بأن يكون اتَّجَر أو وَرِثَ أو استفضل من معلوم مدارسه وكَسْبه؛ فهو له، وإن كان للقاضي حاشية وأولاد يَتَعَرَّضون إلى أموال الناس، وقَطْع مصانعتهم، كما كان وَقَعَ في زمن الملك الناصر بن قلاوون بمصر من القاضي الشافعي والحنفي وعَزَلَهُمَا بسبب أولادهما؛ فإن ولي الأمر يَجِبُ عليه عَزْله إن كان ذلك بعِلْمه، وأَخَذَ ما حَصَّلَه أولاده وحاشيته بجاه المنصب ويَضَعُهُ في بيت المال ويؤدبهم، ولا تَأْخُذُهُ رأفة عليهم، ولا يَقْبَل في القاضي ولا في أولاده المذكورين شفاعةَ أحد، فإن ذَنْبَهم كبير، وفسادهم مُتَعَدٍّ.
وقد أَسْلَفْنَا أن شَرْط الباحث الكاشف عن أحوال القضاة وغيرهم الأمانة والعفة والوثوق، فبهذه الوسيلة يَقْبَل وَلِيُّ الأمر قَوْلَه في القاضي، بخلاف ما إذا كان المخبر لولاة الأمور من السعاة المشائين بالنميمة المتخلقين بالأخلاق الذميمة، فلا ينبغي أن يُقَام لقولهم في حق القضاة وَزْن ولا قيمة:
كما يُحْكَى عن الخلنجي القاضي عبد الله بن محمد ابن أخت علوية المُغَنِّي، وكان هذا القاضي قد تَقَلَّد القضاء للأمين العباسي، وكان خَالُه علوية عدوًّا له، فجرت له قضية في بغداد فاستعفى عن القضاء، وسأل أن يُوَلَّى بعض الكور البعيدة، فتولى قضاء دمشق وحِمْص، فلما تَوَلَّى المأمون الخلافة غَنَّاه يومًا علوية بشعر للخلنجي وهو:
فَقَال له المأمون: من يَقُول هذا الشعر؟ قال: قاضي دمشق، فَأَمَر المأمون بإحضاره فأشخص، وجَلَس المأمون للشرب وأَحْضَر علوية، ودعا بالقاضي فقال له: أَنْشِدْني قولك: بَرِئْت من الإسلام، الأبيات، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه أَبْيَات قُلْتُها منذ أربعين سنة وأنا صَبِيٌّ، والذي أَكْرَمَك بالخلافة وَوَرَّثَك ميراث النبوة ما قُلْتُ شِعْرًا منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد أو عتاب صديق، فقال له: اجْلِس، فجَلَسَ وناوله قَدَحَ نبيذ كان في يَدِه، فأعول وبكى وأخذ القَدَحَ من يده، وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما غَيَّرْتُ الماء بشيء قط مما يُخْتَلَف في تحليله، فقال: لعلك تريد نبيذ التمر أو الزبيب، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، لا أَعْرِف شيئًا من ذلك، فأخذ المأمون القدح من يده، وقال: أما والله لو شَرِبْتَ شيئًا من هذا لضَرَبْتُ عنقك، ولقد ظَنَنْتُ أَنَّكَ صادق في قَوْلِكَ كُلِّه، ولكن لا يتولى القضاء رجل بَدَأَ في قَوْلِه: بالبراءة من الإسلام، انْصَرِف إلى منزلك، وأَمَرَ علوية فغَيَّر هذه الكلمة وجَعَلَ مكانها: حُرِمْتُ مكاني مِنْك، فكان ما جرى للمأمون عفا الله عنه مع هذا القاضي المسكين هو المعهود من حِلْم هذا الخليفة ومكارم أخلاقه، وكان غير هذا الفعل أَوْلَى به وبرياسته، ولكن الخليفة صَانَ مَنْصِب القضاء وَوَقَّرَه وأَجَلَّه، فعفا الله عنه، وأما هذا القاضي الخلنجي رحمه الله فقد اختلج في خاطره من الوشاة ما أَضْرَبَه عند محبوبته وعند الخليفة، وهذا من كهانة الشعر ومما يَتَّفِق وقوعه للشاعر بعد مدة مديدة، وأما علوية فأَعَلَّه الله ولا أَعْلَى له كعبًا فلقد أَضَرَّ بابن أخته، وعَطَّلَه من حُلِيِّ القضاء، وقد جاء عن النبي ﷺ: «لعن الله المثلث، فقيل: يا رسول الله، وما المثلث؟ قال: الذي يسعى بصاحبه إلى سلطان، فيُهلك نَفْسَه وصاحِبَه وسلطانه.»
قال الواثق يومًا لابن أبي داود: قد سَعَى بِكَ عندي قوم، قال: فما قُلْتَ لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: ما قال صاحب عزة:
ورَفَعَ بعض السعاة إلى الخليفة السفاح قصة بسعايا على بعض عُمَّالِهِ، فوقع فيها: هذه نصيحة، لم يُرَدْ بها ما عند الله، فنحن لا نَقْبَل قَوْل مَنْ آثرنا على الله.
ومما اتَّفَقَ في أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أنه حَضَر في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة تاج الدين كاتب المفتاح إلى الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي لما كان وزيرًا، وذَكَرَ عنده أُناسًا بكل قبيح، والْتَزَم فيهم جملة من الذهب إذا صُودِرُوا، وأُخِذَتْ منهم وظائفهم، فدَخَل الجمالي إلى السلطان وحكى له ما قاله الكاتب، فقال: أَحْضِرْه لي، فلما اسْتَحْضَرَه سَمِعَ كلامه، وقال له: هل لَكَ عِلْم بأحد في القاهرة، يَعْرِف شيئًا من هذه الأحوال؟ فقال: نعم، جماعة، وَعَدَّهُمْ، فقال للوزير: خُذْ هذا عِنْدَك، واحْتَفِظ به، وأَحْسِن إليه، وإذا حَضَرَ إليك كل هؤلاء الذين ذَكَرَهُم عَرِّفْنِي بهم، فَخَرَجَا من عنده وذَكَرَ له الكاتب جماعة، وهو يُحْضِرُهُم إلى أن لم يَبْقَ منهم أحد، ودَخَلَ الجمالي إلى السلطان وعَرَّفَهُ بهم، فقال: اخرج الآن في هذه الساعة، وجَهِّز الجميع، ولا تَدَعْ أحدًا منهم في القاهرة، فإن هؤلاء مناحيس يرافعون الناس، فنفاهم أجمعين.
وقال رجل للمهدي: «عندي لك نصيحة يا أمير المؤمنين، فقال: لمن هي، ألنا أم لعامة المسلمين، أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين، قال: ليس الساعي بأعظم عورة، ولا أقبح حالًا من قابل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسِدَ نعمة فلا نَشْفِي غَيْظك، أو عدوًّا فلا نُعَاقِب لك عَدُوَّك، ثم أقبل على الناس، فقال: لا يَنْصَح لنا ناصح إلا بما فيه رِضَى الله تعالى، وللمسلمين فيه صلاح، فإنما لنا الأبدان، وليس لنا القلوب، ومن اسْتَتَرَ لم نَكْشِف له، ومن نادانا طَلَبْنَا تَوْبَتَه، ومن أخطأ أَقَلْنَا عَثْرَتَه، إني أرى التأديب بالصفح أَبْلَغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع المعالجة، والقلوب لا تَبْقَى لِوَالٍ لا يَنْعَطِف إذا اسْتُعْطِفَ، ولا يَعْفُو إذا قَدَرَ، ولا يَغْفِر إذا ظَفَرَ، ولا يَرْحَم إذا اسْتُرْحِمَ.» انتهى.
وقد كان بعض الأمراء — رحمه الله تعالى — إذا جاءه أَحَدٌ ورافَعَ كُتَّابَه والمباشِرين الذين في بابه، قال: هؤلاء قد أَخَذُوا وشَبِعُوا لا تُغَيِّرُوهم، فإن الذي يَجْنِي بعدهم يكون جوعانًا، ونُقِلَ نحو ذلك أيضًا عن المرحوم محمد علي، وما أَلْطَف قول البهاء زُهَيْر — رحمه الله تعالى — وأَرَقَّه في عَدَم سماع قول الوشاة:
ولا بَأْسَ بِتَعْقِيب هذا الفصل بالتتمة مما ينبغي ذِكْرُه في رؤساء أحبار أهل الذمة؛ ليكون فيه أَوْفَر سَهْم، وأوفى قِسْط لرؤساء العبرانيين والبطاركة، فأما بِطْريق اليعاقبة فهو أَكْبر أهل مِلَّتِه والحاكم عليهم ما امْتَدَّ في مُدَّتِه، وإليه مرجعهم في التحريم والتحليل، وفي الحكم بينهم بما أُنْزِل في التوراة ولم يُنْسَخ في الإنجيل، وشِرْعَتُه مَبْنِيَّة على المسامَحة والاحتمال، والصبر على الأذى وعدم الاكتراث والاحتفال، وهو مُؤَدِّب لِنَفْسِه في الأول بهذه الآداب، وفي المدخل إلى شريعته قسيم الباب؛ أي: «بابا رومه»، وأنهما سواء في الاتباع ومتساويان، فإنه لا يزيد مصراع على مصراع، فدَأْبُه التخلق من الأخلاق بكل جميل، وأن لا يَسْتَكْثِر من متاع الدنيا فإنه قليل، فليُقَدِّم المصالحة بين المتحاكمين إليه قَبْل الفصل البت، فإن الصلح كما يُقَال: سَيِّد الأحكام، وهو قاعدة دِينِه المسيحي، ولم يُخَالِف فيه المحمدية الغراء دِين الإسلام، وليُنَظِّف صُدُور إخوانه من الغل، ولا يَقْنَع بما يُنَظِّفُه ماء المعمودية من الأجسام، وهو رأس جماعته والكل له تَبَع، فلا يَتَّخِذ له تجارة مُرْبِحة، أو يَقْتَطع بها مال عيسوي يُقَرِّبُه، فإنه ما يكون قد قَرَّبَه إلى المذبح وإنما ذَبَحَه، وكذلك الديارات وكل عمر والقلالي فيتعين عليه أن يتفقد فيها كُلَّ أَمْر، ويجتهد في إجراء أمورها على ما فيه رَفْع الشبهات، عِلْمًا أنهم إنما اعتزلوا فيها للتعبد، فلا يَدَعُها تُتَّخَذ مُنْتَزَهَاتٍ، وأنهم إنما أَحْدَثوا هذه الرهبانية للتقلل في هذه الدنيا، والتعفف عن الشهوات، وحَبَسُوا فيها أنفسهم حتى إِنَّ أَكْثَرَهُم إذا دَخَلَ إليها لا يعود يبقى مع المطلوقين من الجماعات، فَلْيُحَذِّرْهُم مِنْ جَعْلِها مَصْيَدَةً للمال، بل خُلْوة مُنَزَّهة عن الحرام، مُرْصَدة على الحلال، لا يَأْوِي إليها من الغرباء القادمين عليه من يُرِيب، ولا يَكْتُم عن الحكومة مُشْكِل أَمْر وَرَدَ عليه من بعيد أو قريب، وليَتَجَنَّبْ ما لَعَلَّه فيما يَخُصُّ المذاهب، من طَرَف الأجانب ينوب، وليَتَوَقَّ ما يأتيه من تلقاء الحبشة، حتى إذا قَدَرَ فلا يَشُم أنفاس الجنوب، فمادة سؤدد السودان وإن كَثُرَتْ مقصرة، فإن الله تعالى جَعَلَ آية الليل مظلمة وآية النهار مُبْصِرة، والتقوى مأمور بها أهل كُلِّ مِلَّة، وكل مُوَافِق ومُخَالِف في القبلة، فليكن عَمَلُه بها على وَجْه صحيح، وفي الكناية ما يُغْنِي عن التصريح، وبالتقوى رضا الله ورسوله، وبها أَمَرَ المسيح.
وأما رئيس اليهود فهو الضابط لطائفته على قِلَّتِهِم، والمُؤَمِّن لسِرْبِهم الذي لو لم يُؤْمِنُوا فيه لأكلهم الذئب لِذِلَّتِهِم، فعليه بِضَمِّ جماعته، ولَمِّ شَمْلِهِم باستطاعته، والحكم فيهم على قواعد مِلَّتِه وعوائد أَئِمَّتِه في الحكم، إذا وَضَحَ له بأدلته، وعقود الأنكحة وخواص ما يُعْتَبَر عندهم فيها على الإطلاق، وما يَفْتَقِر فيها إلى الرضا من الجانبين في العقد والإطلاق، وفيما أَوْجَب عنده حُكْمُ دينه عليه التحريم، وأَوْجَب عليه الانقياد إلى التحكيم، وما نَصَّ فيه الأحبارُ التواترَ من الأخبار، والتوجه تلقاء بيت المقدس إلى جِهَة قِبْلَتِهِم ومكان تَعَبُّد أَهْل مِلَّتِهم، والعمل في هذا كُلِّه بما شَرَعَه موسى الكليم، والوقوف معه إذا ثَبَتَ أنه فِعْل ذلك النبي الكريم، وإقامة حدود التوراة على ما أنزل الله من غير تحريف، ولا تبديل لكلمة بتأويل ولا تصريف، واتباع ما أَعْطَوْا عليه العهد، وشَدُّوا عليه العقد، وأَبْقَوْا به ذمامهم، ووقوا به دماءهم، وما كان يحكم به الأنبياء والربانيون، ويُسَلِّم إليه الإسلاميون منهم، ويعبر عنه العبرانيون، كل هذا مع إلزام الرئيس لهم من حُكْم أمثالهم من أهل الذمة الذين أَقَرُّوا في هذه الديار، ووقاية أنفسهم بالاتصاف بالخضوع والانكسار، ومد رءوسهم بالإذعان إلى ملة الإسلام، وحِفْظ شعار الذمة بتمام الانقياد والاستسلام، وعَدَم التظاهر بما يَقْتَضِي المناقضة، ويُفْهَم معه المعارضة، وعلى هذا الرئيس ترتيب طبقات أَهْل مِلَّتِه من الأحبار فيمن دونهم على قَدْر اسْتِحْقَاقِهِمْ، وعلى ما لا يَخْرُج عنه كلمة اتفاقهم، وكذلك له الحديث في جميع كنائس اليهود المستمرة إلى الآن، المستقرة بأيديهم، من حِين عُقِد عهد الذمة، ثم ما تَأَكَّدَ بعده بطول الزمان، وتقريرهم على ما سَلَفَ عليه سَلَفُ هذه الأمة، وفي هذا كفاية وتقوى الله، وإطاعة الدولة الإسلامية رأس الأمور المهمة.
مسألة
اختلف القرويون، هل يَجُوزُ تَمَكُّن الخَصْم مِنْ طَلَب يهودي في سَبْتِهِ، وإلزامه الحكم فيه، أو يُكْرَه ذلك؟ قال العلامة قاضي القضاة البساطي: «وعندي أنه يُمْنَع، إلا أن تَقُوم القرائن على أن المُسْلِم اضْطُرَّ إلى ذلك، ولم يَقْصِد ضَرَرًا، قال: ولقد حُكِيَ لنا أن بعض الناس يَتَعَيَّش بذلك، فيذهب إلى بعض القضاة ويدفع إليه ورقة، ويطلب فيها يهوديًّا، وربما كان معه ورقتان أو ثلاث من قضاة مختلفة، وإذا كان يوم السبت تَوَجَّه إلى اليهود، ومعه رسول قد أَطْلَعَهُ على سِرِّه، ويقول: طَلَبْتُكَ إلى الشرع، فلا يَسَعُهُ إلا أن يصالحه على الترك في ذلك اليوم.» انتهى كلام الشيخ بدر الدين، ثم قال في محل آخر: «تغليظ اليمين يكون في المحل المعظم، وهو الجامع للمسلمين، ولا يقوم مقامه مَسْجِد، ويَحْلِف غير المسلم حيث يُعَظِّم، فيَحْلِف اليهودي في البيعة، ويَحْلِف النصراني في الكنيسة، والمجوسي في بيت النار.» انتهى.
قال الشيخ سراج الدين عمر الحنفي قارئ الهداية: إذا بَنَى الذمي دارًا عالية بين دور المسلمين، وجَعل لها طاقات وشبابيك، تُشْرِف على جيرانه، هل يُمَكَّن من ذلك؟ فأجاب بقوله: أهل الذمة في المعاملات كالمسلمين، وما جاز للمسلمين جاز لهم، وإنما يُمْنَع الذمي من تَعْلِيَة بنائه إذا حَصَلَ ضَرَر لجاره مِنْ مَنْع ضَوْءٍ أو هواء، هذا هو ظاهر المذهب. انتهى.
وللإمام أو نائبه الاستعانة بأهل الذمة، والاستئمان على العدو، بشرط أن تُؤْمَن خيانتهم بأن يُعْرَف حُسْن رأيهم فِينَا، ويُشْتَرط في جواز الإعانة بهم الاحتياج إليهم ولو بنحو خدمة، أو قتال لِقِلَّتِنَا، ونَفْعَل بالمستعان بهم الأصلح من أفرادهم، أو تفريقهم في الجيش. انتهى.
ويَحْسُن هنا أن نَقُول ما قَالَه هرقل ملك الروم حين أَمَّر في جيشه بالشام جبلة بن الأيهم الغساني على مَنْ مَعَه من العرب؛ ليحاربوا معه عَرَب الإسلام، وجَعَل جبلة وقومه مُقَدِّمَة لجيش الروم، وكان جبلة قد أَسْلَم، ثم ارْتَدَّ وانضم للروم ليَخْلُصَ مِنْ حُكْم عُمَرَ رضي الله تعالى عنه حيث أراد أن يُسَوِّي بينه وبَيْن خَصْمه في القصاص في نَظِير لطمة لَطَمَهَا جَبَلَة، فقال هرقل حين صدر به في حرب الإسلام: لا يَقْطَع الماس إلا الماس؛ يعني: لا يَغْلب العرب إلا العرب: أي: لا يَغْلب الجنس إلا جِنْسه.
فلا شك في جواز مُخَالَطة أهل الكتاب ومُعَامَلَتِهم ومُعَاشَرَتهم، وإنما المحظور الموالاة في الدين، ومما يُقَرِب ذلك حِلُّ الكتابية للمسلم، وولاية العقد له من وَلِيِّها؛ لقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ؛ أي: حَلَّ لكم مع جواز التسري بالكتابيات اللاتي وَقَعْن في أَسْر الإسلام بحرب؛ لأنه ﷺ تَسَرَّى بصفية وريحانة قَبْل إسلامهما، وممن تزوج بالكتابيات من الخلفاء الراشدين ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فإنه تزوج بنصرانية كتابية، لكن أَسْلَمَتْ بعد ذلك وحَسُنَ إسلامها.
وبالجملة: فرخصة تَدَيُّن أهل الكتاب بدينهم مؤسَّسة على العهود المأخوذة عليهم عند الفتوح الإسلامي، وكل مُسْلِم يَحْفَظ العهد؛ لأن العهد في الحقيقة إنما هو لله تعالى، وفي العادة أن العهد يَلْتَزِمه من يَعْقده بالطوع والاختيار، فبهذا يجب الوفاء به، قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، وقد ذُكِر بعض ما يتعلق بذلك في المقدمة عند التكلم على حرية الذمة التي تُعْتَبر عند أهل الأديان، وفي الفصل الثالث الآتي بعد هذا ما يَتَعَلَّق بوفاء العهود، فليُراجع.
«ومما يُحكى» مما يناسب ذلك في الجملة: أن البرنس جِرْجِس بن جاكس الثاني ملك الإنكليز ووَلِي عَهْده الذي هو بروتستاني المذهب، لما سَافَر إلى مملكة فرنسا للسياحة ذَهَبَ لزيارة فتلون القسيس الفرنساوي صاحب التآليف الكثيرة التي منها سياحة تلماك، أَوْصَاه بقوله: «إذا آلَ الملك إليك أيها الأمير لا تُجْبِر رعيتك القاتوليقية على تغيير مذهبهم، ولا تبديل عقائدهم الدينية، فإنه لا سلطان يستطيع أن يتسلطن على القلب وينزع منه صفة الحرية، فقوة العنفوان الحسية والشوكة الجبرية الغاصبة لا تفيد برهانًا قطعيًّا في العقيدة، ولا تكون حُجَّة يطمئن إليها القلب، فلا ينتج الإكراه على الدين إلا النفاق، وإظهار خلاف ما في الباطن.» انتهى.
ومن هذا يُعْلَم أن الملوك إذا تَعَصَّبوا لدينهم، وتداخلوا في قضايا الأديان، وأرادوا قلب عقائد رعاياهم المخالفين لهم؛ فإنما يحملون رعاياهم على النفاق، ويستعبدون من يُكْرِهُونَه على تبديل عقيدته، ويَنْزِعون الحرية منه، فلا يُوَافِق الباطن الظاهر، فمَحْض تعصب الإنسان لدينه لإضرار غيره لا يُعَدُّ إلا مجرد حمية، وأما التشبث بحماية الدين لتكون كلمة الله هي العليا، فهو المحبوب المرغوب؛ ولذلك كان الجهاد الصحيح لقمع العدو إنما يتحقق إذا كان القصد منه إعلاء كلمة الله عز وجل، وإعزاز الدين، ونصرة المسلمين، لا لحيازة الغنيمة، واسترقاق العبيد، واكتساب اسم الشجاعة، وتحصيل الصيت، وطلب الدنيا، ففاعل ذلك تاجر أو طالب وليس بمجاهد، كما سَتَعْرِفُه في الفصل الثالث.