الفصل الثالث
قال ﷺ: «إن أقرب الناس درجة من درجة النبوة أهل الجهاد، وأهل العلم؛ أما أهل العلم فقالوا ما قال الأنبياء، وأما أهل الجهاد فجاهدوا على ما جاءت به الأنبياء»، «وسأل رجل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ فإن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، ويقاتل ابتغاء عرض الدنيا، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: مَنْ قَاتَلَ لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وهذا الحديث مرآة لكل غازٍ ومجاهد بحيث يكون جهاده لله عز وجل حتى يَسْتَحِقَّ الثواب، أما مَنْ حارب للحمية، أو لِطَلَبِ الدنيا، أو لسبب من هذه الأسباب؛ فلا يكون غازيًا، ثم إن المحاربة لا تَجُوز إلا في ستة مواضع؛ الأول: محاربة المشركين وأهل الحرب، الثاني: محاربة الملحدين؛ لأنهم شَرُّ الخلائق، الثالث: محاربة المرتدين، الرابع: محاربة البغاة، الخامس: محاربة قُطَّاع الطريق، السادس: محاربة القاتلين لِيُقْتَصَّ مِنْهُم.
ومن شهامة المَلِك أن يتولى الحرب العظيم بنفسه، وأن يَتَحَفَّظ من لقاء العدو في بلاده لسلامة نفسه، كما قيل:
وينبغي أن يخوف الملك العدو بما يُمْكِنُه فربما رَجَعَ، ويجتهد في قَمْع العدو بالحيلة والمكيدة، فالحيلة أَنْفَع وسيلة، وإذا حَضَرَه العدو أَجْزَل العطاء للعسكر، ووفى بالمواعيد لهم؛ لئلا تَنْكَسِرَ قلوبهم، فبهذا يبيعون أرواحهم لقتال عَدُوِّهِم؛ لأنهم حماة الوطن والدين.
«قال» الحكماء: الناس حازمان وعاجز؛ فأَحْزَم الحازمين مَنْ عَرَفَ الأمر قَبْلَ وقوعه فاحْتَرَسَ منه، والحازم بَعْدَه من إذا نَزَلَ به الأمر تَلَقَّاه وعَمِلَ الحيلة حتى يَخْرُجَ منه، والعاجز مَنْ تَرَدَّدَ بين ذلك، لا يَأْتَمِر رشيدًا، ولا يطيع مرشدًا حتى تَفُوتَه النجاة، ويُقال: احْتَلْ تَغْنَمْ، وتَفَكَّرْ تَسْلَم، ويقال: تَرْك التقدم أَحْسَن من التندم، «وأوصى» مَلِكٌ قائد سريته، فقال له: كُنْ كالتاجر الكيس، إن وَجَدَ ربحًا اتَّجَرَ، وإلا حَفِظَ رأس ماله، ولا تَطْلُب الغنيمة حتى تَحْمَد السلامة، وكُنْ من احتيالك على عَدُوِّك أَشَدَّ حَذَرًا من احتيال عَدُوِّكَ عَلَيْكَ، ويُقال: لا تَنْشَب في حَرْب وإن وَثِقْتَ بقوتك حتى تَعْرِفَ وَجْهَ الهرب منها، فإن النفس أقوى ما تكون إذا وَجَدَتْ سبيل الحيلة مُدَبَّرة لها، واخْتَلِس مَنْ تُحَارِبه خِلْسة الذئب، وطِرْ منه طيران الغراب، فإن التحرز زمام الشجاعة، والتهور عدو الشدة.
ومما يجب مع التفكر على المحارب مشاورة العقلاء من النصحاء أُولِي التجارب، فقد حُكِيَ: أن قومًا من العرب أَتَوْا شَيْخًا قد أَرْبَى على الثمانين وقارب التسعين، فقالوا: إِنَّ عَدُوَّنَا استاق سَرْحَنَا، فأَشِرْ علينا بما نُدْرِك به الثأر، وننْفِي العار، قال: إنَّ ضَعْف قُوَّتِي نَسَخَ هِمَّتِي، ونَقَضَ إبرام عزيمتي، ولكن شاوِرُوا الشجعاء من ذوي العزم، والجبناء من أُولِي الحزم، فإن الجبان لا يألو برأيه ما وَقَى مهجكم، والشجاع لا يألو ما يشيد ذِكْرَكم، ثم خَلِّصُوا من الرأيين نتيجة تُبْعِد عنكم مَعْرِفة نَقْص الجبان وتَهَوُّر الشجعان، فإذا نَجَمَ الرأي على هذا كان أَنْفَذَ على عَدُوِّكم من السهم الصائب والحسام القاضب، وملاك التحيل في بلوغ الأماني رَفْض العجلة واستعمال التواني، «قال» الحكماء: إياك والعجلة، فإنها تُكْنَى أم الندامة؛ لأن صاحبها يقول قَبْل أن يَعْلَم، ويُجِيب قبل أن يفهم، ويَعْزِم قبل أن يُفَكِّر، ويَقْطَع قبل أن يَقْدِر، ويَمْدح قبل أن يُجَرِّب، ويَذُم قبل أن يَخْتَبِر، ولن تصحب هذه الصفة أحدًا إلا صَحِب الندامة، وجانب السلامة، قال الشاعر:
وقال تعالى في نهي نبيه عن العجلة تعليمًا لأمته: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وقال بعض الحكماء: تأنَّ واحْزِم، فإذا استوضحْتَ فاعْزِم، فإذا اجتمع في الرجل الحزم والشجاعة فهو الذي يَصْلُح لتدبير الجيوش وشجاسة أَمْر الحروب، والناس رَجُل ونصف رَجُل ولا شيء، فالرجل مَن اجْتَمَعَ له إصابة رأيٍ وشجاعة، ونِصْف الرجل هو الذي انْفَرَدَ بأحد الوصفين دون الآخر، والذي لا شيء هو من عَرِيَ من الوصفين.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى الغزاة المجاهدين الذين هم أنصار الوطن والدين، بوَصْف في حَقِّهِم بالخصوص فقال: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ وقد أَعَدَّ الجنة لمن منْهُم ذاق بالشهادة طَعْم الحتوف؛ بدليل قوله ﷺ: «إن الجنة تحت ظلال السيوف» وحسبك قوله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ الآية، ومدار فَنِّ الحرب الآن على تعليم الحركات العسكرية، وحُسْن الرأي والشجاعة، وخَيْرها أَوْسَطها، قال ﷺ: «الحرب خدعة»، وقال المتنبي:
ولو أن الشجاعة هي عماد الفضائل وَمَنْ فَقَدَهَا لم تَكْمُل فيه فضيلة، إلا أن الرأي مُقَدَّم عليها، كما حُكِيَ: أن الإسكندر حَاصَرَ قلعة سنة كاملة فَلَمْ يَفْتَحْهَا، فكَتَبَ إليه الحكماء: لو جَلَسْتَ سبعين سنة لا تَمْلِكْ فَتْحَها إلا بالمكيدة للأعداء، وأن يكون بَأْسُهُم بينهم، فبَعَثَ لبَعْضِهِم وخَدَعَهُم، ثم بَعَثَ إلى آخرين بِضِدِّ ذلك، فتَنَازَعُوا وتَحَارَبُوا، ثم سَلَّمُوا القلعة.
وعَرَّف بعضهم الشجاعة بأنها غريزة يَضَعُها الله فيمن يشاء من عباده، وقيل في تعريفها أيضًا: هي سَعَة الصدر بالإقدام على الأمور المُتْلِفَة، «وقد رُوِيَ» عن النبي ﷺ: «إن الله يحب الشجاعة، ولو في قَتْل حَيَّة»، وقال بعض أهل التجارب: الرجال ثلاثة: فارس، وشجاع، وبَطَل؛ فالفارس الذي يَشُدُّ إذا شَدُّوا، قال عامر بن الطفيل:
ويُكْنَى بأبي علي وهو ابن أخي عامر بن مالك المعروف بمُلَاعب الأسنة أحد فرسان العرب المشهورين وكبارهم، ومُرَاد عامر بن الطفيل: أن قبيلة عامر لم تَجْعَلْه سيدًا لأجل وِرَاثَتِهِ من أبيه السيادة، بلْ لِأَمْر آخَرَ، ولمَّحَ بعضهم لهذا المعنى بقوله:
وأما الشجاع فالداعي إلى البراز، والمجيب داعيه إلى ذلك، والبطل: المحامي لظهور القوم إذا وَلَّوْا، والعرب تُسَمِّي ذلك كله شجاعة، ويجعلون أَوَّلَ مراتب الشجعان: الهُمَام، سُمِّيَ بذلك لاهتمامه وعَزْمه، ثانيها: المقدام سُمِّيَ بذلك للإقدام، وهو ضد الإحجام، ثالثها: الباسل من البسالة، وهي الجراءة والشدة، رابعها: البطل؛ أي: الذي يُبْطِل فِعْل الأقران، ويطفئ شجاعة الشجعان، خامسها: الصنديد، وهو الذي لا يُقَاوِمُهُ مُقَاوِم.
وحكم الشجاعة ومَظْهَرها وثَمَرَتُها الإقدام في مَوْضع الإقدام، والثبات في مَوْضع الثبات، والزوال في مَوْضع الزوال، وضِدُّ ذلك يُخِلُّ بالشجاعة، وقالوا: الحرب كالنار، إن تَدَارَكْتَ أَوَّلَهَا خَمَدَ إِضْرَامُها، وإن اسْتَحْكَمَ إضرامها صَعُبَ إخمادها، وهذا معنى قولهم: ينبغي أن تَتَغَدَّى بالعدو قبل أن يَتَعَشَّى بك، «وزعم» بعضهم: أن السخاء والكرم دليل الشجاعة، وأن كُلَّ سَخِيٍّ شُجَاع، والصحيح أن ذلك أَغْلَبِي غير مُطَّرِد، بل بنو آدم على أربعة أحوال؛ فمنهم: الجواد الشجاع، يَجُود بماله ونَفْسِه، وهو أَعْلاهم مَرْتَبة، ومنهم البخيل الجبان، وهو أَذَلُّهُم وأَكْثَرُهم مَذَمَّة، ومنهم الجواد الجبان، يجود بماله ويَضِنُّ بِنَفْسِه، ومنهم الشجاع البخيل، بِضِدِّ ذلك، والأخلاق مَوَاهِبُ مِن الله، يَهَبُ منها ما يشاء لمن يشاء، ويَجْبُل خَلْقه على ما يريد، وإنما الأخلاق الفاضلة تَتَلَازم غالبًا، وكذا الأخلاق الدنيئة.
قال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله ﷺ أَجْمَلَ الناس وَجْهًا، وأَجْوَد الناس كفًّا، وأَشْجَع الناس قَلْبًا، لقد فَزِعَ أهل المدينة ليلة، فانطلق الناس ثائرين قِبَل الصوت، فتَلَقَّاهم رسول الله ﷺ راجعًا قَدْ سَبَقَهُم إلى الصوت، وسبر الخبر على فرس لأبي طلحة عرى، والسيف في عنقه، وهو يقول: لن تُرَاعوا، لن تُرَاعوا، وقال عمران بن حصين: ما لَقِيَ رسول الله ﷺ كتيبة إلا كان أَوَّلَ مَنْ يَضْرِب.
«وقال» الحكماء: أَصْل الخير كله في ثبات القلب، وهو الشجاعة، وأَعْظَم أهل الجند شجاعة وأَقْوَاهم جأشًا مَنْ إذا انهزم أصحابه يَلْزَم الساقة، ويَضْرب في وجوه القوم، ويَحُول بَيْنَهم وبين عَدُوِّهم، ويُقَوِّي قلوب أصحابه، فمَنْ وَقَعَ أقامه، وَمَنْ وَقَفَ حَمَلَه، ومَنْ كَبَا به فَرَسُه حَمَاه، حتى يَيْأس العدو مِنْهُم، حتى قيل: إن المُقَاتِل من وراء الفارِّين كالمُسْتَغْفِر من وراء الغافلين، ومِنْ أَكْرَم الكرم في الشجاعة الدفاع عن الحريم.
ولقد اعْتَرَفَ الجميع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوة الجأش، والصبر في المَوَاطن الكريهة، وكان عمر رضي الله عنه مَوْسُومًا بالشدة والشجاعة، كان يَضَعُ يده اليمنى على أُذُن فرسه اليسرى، ويَجْمَع بَدَنَهُ، ويَثِبُ على ظَهْرِها كأنما خُلِقَ عَلَيْهَا.
وكان علي رضي الله تعالى عنه شجاعًا بَطَلًا، إذا ضَرَبَ لا يُثَنِّي، وكذلك الزبير بن العوام معدود من شجعان الفرسان، قالوا: لم يكن في عصر النبي ﷺ فارس أشجع من الزبير، ولا راجِل أشجع من الإمام علي كَرَّم الله وجهه، ومن الشجعان بنو قَيْلة وهم الأنصار، قال لهم رسول الله ﷺ: «إنكم لتَكْثُرون عند الفزع، وتَقِلُّون عند الطمع» يريد أنهم يقاتلون ابتغاء مرضاة الله لإعلاء كلمته لا للغنيمة، ومن شجعان الأنصار معاذ بن عفراء، قُطِعَ كَتِفُه يوم بدر فبقي مُعَلَّقًا بجلده، فلم يَزَلْ يُقَاتِل جَمِيع يومه وهو مُعَلَّق حتى وَجَدَ أَلَمَه، فوَضَعَ رِجْلَه على يَدِه وتَمَطَّأ حتى قَطَعَ الجلدة، ومن شُجْعَان الصحابة خارجة بن حلافة، والمقداد بن الأسود.
ولما كَتَبَ عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو يحاصر مصر بطلب ثلاثة آلاف فارس؛ ليبعث إليه بها بَعَثَ إليه بهؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم، ولم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام أَشْجَع من خالد بن الوليد، ولشجاعته سَمَّاه رسول الله ﷺ سيف الله، لم يَنْهَزِم في جاهلية، ولا في إسلام، ومات على فراشه، وقيل لعبد الملك بن مَرْوان: مَنْ أَشْجَع الناس؟ فقال: العباس بن مرداس السلمي الذي يقول:
وقيس بن الحطيم، حَيْثُ يقول:
ومِمَّن اشتهر بالشجاعة أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي، فَارِسٌ بَطَل، شاعر نديم، جامِع لما تَفَرَّق في غيره، حَمَلَ على فارس وَوَرَاءَه رَدِيف فطَعَنَهُما فانتظما في رُمْحه، وكان ذلك في بعض حروبه، وفيه يقول بكر بن النطاح — ويذكر طعنته:
ومن كلام أبي دِلْف العجلي المذكور:
وقد أَرْشَدَ الله سبحانه وتعالى عباده المجاهدين بخمسة أشياء، ما اجْتَمَعَت في فئة قط إلا نُصِرَتْ، وإن قَلَّتْ وكَثُرَ عَدُوُّهَا، وهي مجموعة في قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أَحَدُها: الثبات، ثانيها: كَثْرَة ذِكْرِه سبحانه وتعالى، ثالثها: الطاعة، رابعها: اتِّفَاق الكلمة، خامسها: الصبر، فهذه الخمسة تُبْنَى عليها قُبَّة النصر، ولما اجْتَمَعَتْ هذه القوى الخمس في الصحابة لم تَقُمْ لهم أمة من الأمم حتى فَتَحُوا الدنيا، ودَانَتْ لهم البلاد والعباد، ولما تَفَرَّقَتْ فيمن بَعْدَهُمْ وضَعُفَتْ آلَ أَمْرُهم إلى ما آلَ إليه.
ولا بأس أن نَذْكُر هنا من أخبار الشجعان ما حكاه الفضل بن يزيد، ونَقَلَهُ صاحب المستطرف، قال: نزل علينا بنو تغلب في بعض السنين، وكُنْتُ مشغوفًا بأخبار العرب أن أَسْمَعَهَا وأَجْمَعَهَا، فبينما أنا أدور في بعض أحيائهم إذ أنا بامرأة واقفة في فناء خبائها، وهي آخذة بيد غلام قَلَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَه في حُسْنِه وجَمَاله، له ذؤابتان كالسبج المنظوم، وهي تُعَاتِبُه بلسان رَطْب، وكلام عَذْب تَحِنُّ إليه الأسماع، وترتاح له القلوب، وأكثر ما أَسْمَع منها أي بني، وهو يَتَبَسَّمُ في وَجْهِها قد غَلَبَ عليه الحياء والخجل كأنه جارية بِكْر لا يَرُدُّ جوابًا، فاسْتَحْسَنْتُ ما رأيت، واسْتَحْلَيْتُ ما سَمِعْتُ، فَدَنَوْتُ منه وسَلَّمْتُ فَرَدَّ عليَّ السلام، فَوَقَفْتُ أَنْظُر إليهما، فقالت: يا حَضَرِيُّ، ما حاجتك؟ فقُلْتُ: الاستكثار مما أسمع.
والاستمتاع بما أرى من هذا الغلام، فقالت: يا حضري، إن شِئْتَ سُقْتُ إليك مِنْ خَبَرِه ما هو أَحْسَن مِنْ مَنْظَرِهِ، فقُلْتُ: فقد شِئْتُ يَرْحَمك الله، فقالت: حَمَلْتُه — والرزق عَسِر والعيش نَكِد — حَمْلًا خفيفًا حتى مَضَتْ له تسعة أَشْهُر، وشاء الله عَزَّ وجل أن أَضَعَهُ، فوَضَعْتُه خَلْقًا سَوِيًّا، فوربك ما هو إلا أن صار ثالث أبويه حتى أَفْضَلَ الله عز وجل وأعطي وآتى من الرزق بما كَفَى وأَغْنَى، ثم أَرْضَعْتُه حولين كاملين، فلما اسْتَتَمَّ الرضاع نَقَلْتُه من خرق المهد إلى فراش أبيه، فرُبِّيَ كأنه شِبْل أسد أَقِيه بَرْد الشتاء وحَرَّ الهجير، حتى إذا مَضَتْ له خَمْس سنين أَسْلَمْتُه إلى المُؤَدِّب فحَفَّظَه القرآن فتلاه، وعَلَّمَه الشِّعر فرواه، ورغب في مَفَاخر قومه وآبائه وأجداده.
فلما أن بلغ الحُلُم واشْتَدَّ عَظْمُه وكَمُل خَلْقُه حَمَلْتُه على عِتَاق الخيل، فتَفَرَّق وتَمَرَّس ولَبِس السلاح ومشى بين بويتات الحي الخيلاء، فأخذ في قِرَى الضيف وإطعام الطعام وأنا عليه وَجِلَة، أُشْفِق عليه من العيون أن تُصِيبَه، فاتَّفَق أن نَزَلْنَا بمَنْهل من المناهل بين أحياء العرب، فخَرَج فتيان الحي في طَلَب ثَأْرٍ لهم، وشاء الله تعالى أن أصابته وَعْكَة شَغَلَتْه عن الخروج حتى إذا أَمْعَن القوم ولم يَبْقَ في الحي غَيْرُه، ونحن آمنون وادعون ما هو إلا أن أَدْبَر الليل وأَسْفَر الصباح حتى طَلَعَتْ علينا غرر الجياد وطلائع العدو، فما هو إلا هنيهة حتى أَحْرَزُوا الأموال دون أهلها، وهو يسألني عن الصوت وأنا أَسْتُر عنه الخبر إشفاقًا عليه وَضَنًّا به، حتى إذا عَلَت الأصوات وبَرَزَت المُخْدَرَات رمى دِثَاره، وثار كما يثور الأسد، وأَمَرَ بإسراج فَرَسِه، ولَبِس لأَمة حَرْبه، وأخذ رمحه بيده، ولَحِقَ حماة القوم فطعن أدناهم منه فرمى به، ولَحِقَ أبعدهم عنه فَقَتَلَه.
فانصرفت وجوه الفرسان فَرَأَوْه صبيًّا صغيرًا لا مَدَدَ وراءه فحملوا عليه، فأقبل يَؤُمُّ البيوت ونحن نَدْعُو الله عز وجل له بالسلامة حتى إذا مَدَّهُم وراءه وامْتَدُّوا في أَثَرِه عَطَفَ عليهم، ففَرَّق شَمْلَهم، وشَتَّت جَمْعَهم، وقَلَّلَ كَثْرَتَهم، ومَزَّقَهُم كُلَّ مُمَزَّق، ومَرَقَ كما يَمْرُق السهم، وناداهم: خَلُّوا عن المال، فوالله لا رَجَعْتُ إلا به، أو لَأَهْلِكَنَّ دونه، فانصرفت إليه الأقران، وتَمَايَلَتْ نحوه الفرسان، وتَحَيَّزَت له الفتيان، وحَمَلُوا عليه وَقَدْ رَفَعُوا إليه الأسنة، وعَطَفُوا عليه بالأعنة، فوَثَب عليهم وهو يَهْدِر كما يَهْدِر الفحل من وراء الإبل، وجَعَلَ لا يحمل على ناحية إلا حَطَّمَها، ولا كتيبة إلا مَزَّقَها، حتى لم يَبْقَ من القوم إلا من نَجَا به فَرَسُه، ثم ساق المال وأَقْبَلَ به، فَكَبَّرَ القوم عند رؤيته، وفَرِحَ الناس بسلامته، فوالله ما رَأَيْنَا قَطُّ يومًا كان أَسْمَحَ صباحًا وأَحْسَنَ رواحًا من ذلك اليوم، ولقد سَمِعْتُه يقول في وجوه فتيات الحي هذه الأبيات:
هكذا فضائل شُبَّان العَرَب في الشجاعة ومكارم الأخلاق.
كما أن شجاعة شيوخهم في قوة آرائهم، المؤسسة على التجارب كما حُكِيَ قريبًا عن الشيخ الذي قارب التسعين، لَمَّا استشاره قَوْمٌ من العرب في شَأْن عَدُوِّهِم، فأشار عليهم برأي سديد.
ومن الشيوخ مَنْ يَجْمَع بين فضيلة الشجاعة والرأي كعمرو بن معدي كرب الزبيدي، فإنه بَعْد أن عَمَّرَ وضَعُفَ كان في واقعة الفرس يَحْمِل على عَدُوِّه، وذلك أنه معدود من فرسان الجاهلية والإسلام، فَلَهُ في حروب الجاهلية مَوَاقِف مذكورة ومواطن مشهورة، أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، ثم عاد إلى الإسلام، وشَهِدَ حروب الفرس، وكان له فيها أفعال عظيمة وأحوال جسيمة، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رآه؛ قال: الحمد لله الذي خَلَقَنَا وخَلَقَ عَمْرًا، «ورُوي» عنه رضي الله عنه: أنه سأله، فقال له: يا عمرو، أي السلاح أَفْضَل في الحرب؟ قال: فَعَنْ أيِّها تسأل؟ قال: ما تقول في السهام؟ قال: منها ما يُخطئ ويُصيب، قال: فما تقول في الرمح؟ قال: أخوك وربما خَانَك، قال: فما تقول في التُّرْس؟ قال: هو الدائر وعليه تدور الدوائر، قال: فما تقول في السيف؟ قال: ذلك العدة عند الشدة.
وقيل: إنه نَزَلَ يوم القادسية على النهر، فقال لأصحابه: إنني عابر على هذا الجسر، فإن أَسْرَعْتُم مِقْدَار جَزْر الجزور وجدتموني وسيفي بيدي، أُقَاتِل به تِلْقَاء وَجْهِي، وقد عَرَفَنِي القوم وأنا قَائِم بينهم، وإن أَبْطَأْتُم وَجَدْتُمُوني قتيلًا بينهم، ثم انْغَمَسَ فحمل على القوم، فقال بعضهم لبعض: يا بني زبيد، علام تَدَعُون صاحبكم؟ والله ما نَظُن أنكم تُدْرِكُونَه حيًّا، فحملوا فانتهوا إليه وقد صرع عن فَرَسِه، وقد أَخَذَ برِجْل فَرَس رَجُل من العجم فأَمْسَكَها والفارس يَضْرِب فَرَسَه، فلم تَقْدِر أن تَتَحَرَّك، فلما رآنا أدركناه رمى الرجل نَفْسَه وخَلَّى فَرَسَه، فركبه عمرو، وقال: أنا أبو ثور، كِدْتُم والله تَفْقِدُونَني، فقال: أين فَرَسُك؟ فقال: رُمِيَ بنُشَّابة فعَارَ وشب فصرعني.
«ويُرْوَى»: أنه حمل يوم القادسية على رستم، وهو الذي كان قدمه يزدجرد ملك الفرس يوم القادسية على قتال المسلمين، فاستقبله عمرو، وكان رستم على فيل، فضرب عمرو الفيل فقطع عرقوبه، فسقط رستم وسقط الفيل عليه، مع خرج كان فيه أربعون ألف دينار، فقُتِلَ رستم وانْهَزَمَت العجم، وكان عمرو من الشعراء المعدودين، وفيه يقول العباس بن مرداس:
وما أحسن قَوْلِه في وَصْف السيف: ذاك العدة عند الشدة، فقد كان له سيف، يُسَمَّى: الصمصامة، فكان يُضْرَب به وبِسَيْفِه المثل؛ إذ هو أَشْرف سيوف العرب، فيقال: ما كل من يَسْطُو بصمْصَامَةٍ عَمْرٌو، ويقال له الصمْصَام، قال نَهْشَل مُتَمَثِّلًا به:
وَهَبَه عَمْرو لخالد بن سعيد بن العاص ولَمْ يَزَل في آل سعيد حتى اشتراه خالد بن عبد الله القسري بمال جزيل لهشام، فَلَمْ يَزَلْ عند بني مروان حتى جد الهادي العباسي في طَلَبِهِ فأَخَذَهُ، قال ﷺ: «الخير في السيف، والخير مع السيف، والخير بالسيف» قال السموءل:
وقال ابن الرومي:
وما أحسن قول الطغرائي:
ولذلك لما انتصر بعض الأمراء على أعدائه، وأَطْلَقَ أَسْرَاهُمْ مَنَّ عليهم بسلاحهم، فقال مُوَقِّع جيشه يَصِفُ ذلك: مَنَنَّا عليهم من الأسلاب بالبيض القواطع؛ ليجعلوا حليها أساور في أيدي البيض ذوات البراقع، وحلية السيف لا يَحْسُن إلا بِكَفٍّ يكون به ضاربًا له لا جالبًا وإِذَا عُطِّلَ في مواقف الجهاد، فالأولى له أن يُجْعَلَ عاطلًا، كما قال أبو العتاهية:
ومَدَحَ أعرابي قومه، فقال: قومي لُيُوث حَرْب، وغُيُوث جَدْب، ليس لأسيافهم أَغْمَاد غير الهَام، ولا رسل للمنايا غير السهام، قال الشاعر:
وقال عبد الله بن طاهر:
وقال ابن الرومي:
وقد تَنَازع الأدباء في التفضيل بين السيف والقلم، ففَضَّلَ بعضهم السيف في قوله:
وأشار بعضهم إلى تفضيل القلم على السيف بقوله:
ولو أن بِكُلٍّ من السيف والقلم قَوَام الممالك إلا أن تقديم الثاني على الأول أَقْرَب؛ لأن بالأقلام تُسَاس الأقاليم، فالقلم أَنْفَع من السيف، وإن كان السيف أَرْفَع منه، قال الشاعر:
فكيف وبه دوام المَجْدِ وتَمَامُ السَّعْد، فمما يُنْقَش بالذهب على سيوف بعض العرب:
ثم إن التعبير في المواطن الحربية بالسيف القَصْدُ منه آلات الحرب وعُدَّتُه؛ إذْ هو في الأزمان القديمة كان أَشْهَرَهَا، وإلا فليس للأهوان والمدافع في وَقْتِ الأهوال مِنْ دَافِعٍ ولا مُدَافِع، فهي أَوْلَى من الرمي بالسهام والنبال في قَوْل مَنْ قال:
فإنها في العدو أَنْكَى وأَبْلَغ في الانتقام والبلية، وأَهْلَك للأخصام، وأَمْلَك في قَطْع المنازَعات الحربية بين أُمَم البرية، إلا أنه لم تَزَل الشهرة للمرهفات، وأيضًا القوة كانت في قديم الزمان الرمي بالنبال، حيث فَسَّرَ النبي ﷺ القوة به حين مَرَّ على أناس يرمون، فقال: «ألا إن القوة الرمي، ألا أن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» وأراد بالقوة: القوة المذكورة في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وقوله تعالى: مَّا اسْتَطَعْتُم مُشْتَمِل على كل ما هو في مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة، فالآية الشريفة جامعة لأبواب الحرب، وهي الأصل في تدبير الحروب التي وَضَعَ الناس لها كُتُبًا، ورَتَّبُوا فيها تراتيب خاصة، وتَفَنَّنُوا فيها تَفَنُّنًا عجيبًا مع قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ، ومن المعلوم أنه ليس ثَمَّ بناء مرصوص أَتَمَّ ولا أَنْظَمَ من تشكيل الشكل المربع المُسَمَّى بالقلعة في التعاليم الجديدة النظامية، التي تَجَدَّدَتْ منذ سنين عديدة في مصر المحمية، فهذه النظامات الحديثة الأخيرة مِنْ أَعْظَم ما تَكُون به ديار الإسلام جديرة، والفضل في إدخالها الديار المصرية، واقتفاء الاقتداء بها، وتأليفها في الديار الإسلامية للحضرة المحمدية العلية، ثم قَوِيَتْ واتَّسَعَتْ دائرتها برياسة نجله الأكبر سَمِيِّ الخليل، ثم تَشَكَّلَتْ أشكال متنوعة إلى أن قَوِيَتْ شوكتها بالخديو الجليل عزيز مصر إسماعيل، فإنه فَرْع تَبَع الأصل الأصيل في كَسْب المجد الأثيل:
فإنه رَبَّى للسجال رِجَالًا، لهم في ميادين الحرب أَعْلَى مَجَالٍ.
وقال آخر:
ولا بأس أن تُذْكَر هنا عِظَة تمثيلية، وَصَّى بها الحكيم منطور تلميذه تليماك حين رياسته على بعض السريات اليونانية، وإن كانت الواقعة في حَدِّ ذاتها خيالية إلا أنَّ لها مَعْنًى من المعاني الصحيحة، يجب أن يَتَمَسَّكَ به أمراء الجنود في سفراتهم النجيحة، فنقول: قال منطور لتليماك: «اذهب إلى أي خطر كان واقْتَحِم المَخَاوِف والمَهَالِك متى احتاج الأمر لذلك، فإن المرء يَتَدَنَّس عِرْضُه إذا هَالَهُ الخوض في المَعارك، ولم يَقْتَسم الأخطار مع أربابها، ولم يُشَارِك ولم يقْتَحِمْ معًا مع الحرب والجدال، فإن هذا يُلَوِّثُه أَزْيَدَ مما إذا مُنِعَ من السفر؛ لحضور الحرب والنزال.
ولا ينبغي لمن يَقُود الجيوش وله عليهم أَمْرُه أن تَكُون شجاعَتُه مُتَرَدِّدة، بل مُحَقَّقة ليَنْفُذَ على الجميع نَهْيُه وأَمْرُه، فإذا كانت الرعية تحتاج لِحِفْظِ مُلْكِهَا وبقائه فهي أَحْوج لأن تَجِدَ شُهْرَتَهُ مترددة، يُخْشَى عليها من السقوط، ومن شماتة أعدائه، ولا تَنْسَ أن الذي يَحْكم العساكر ويقودها في الكفاح لا بد أن يكون أنموذج الجمع وشاكي السلاح، وبشجاعته الجاسرة الباسلة يُحْيِي قلوب الجنود الفاضلة، فإياك أن تَهَاب الأخطار، بل مُتْ في ميدان الحرب ونَقْع الغبار، فهذا خَيْر من أن يَرْمِيَكَ الناس بالجبن، ويَصِفُوك بالذل والصغار.
وأما المداهِمون الذين يَصُدُّونك عن التعرض للخطر عند الاقتضاء واللزوم فهم أَوَّل من يَقُولُ في حَقِّكَ سرًّا: إنك مَلُوم ومذموم، وإنك ضعيف الفؤاد والجأش، وجهْدك جهْد الأوباش، ويَفُوقُونَك بسهام الملام متى وَجَدُوا أن يَسْهُل عليك الاحتجاب والإحجام والتأخر عن الإقدام، ولكن لا ينبغي لك أن تَنْهَضَ وَقْتَ الرخاء والسعة؛ لِتَطْلُب الأخطار بدون منفعة، فإن الشجاعة ليست محمودة العلقة والارتباط، إلا إذا كانت موزونة بقِسْطَاس العقل وميزان الحَزْم والاحتياط، وإلا فهي بدون ذلك عبارة عن احتقار النفس النفيسة، والمُخَاطَرة بها بدون رأي ولا تدبير، فهي إذن خسيسة، فتَرْجع إلى الحمية الشهوانية والصفة الغَضَبِيَّة الحيوانية، فلا تُنْتِجُ نتيجة محققة مأمونة، ولا تُثْمِر ثمرة عن الهوان مصونة، مع أن النفس جوهرة مكنونة، فيجب أن تكون دماؤها محقونة، فالإنسان الذي لا يملك نَفْسَه في وقت الأخطار هو إنسان غَضَبِي ورجل أحمق، لا شجاع باسل حليف انتصار، ولا هو معدود من فحول الرجال، بل محتاج أن يَخْرُج من مركز العقل ويَدْخُل في زوايا الاختلال؛ ليغلب الخوف بصولة الغضب وجَوْلَتِه، ولا يقتدر على غايته لقوة قلبه وحضور عقله واستحضار فكرته.
فهو في هذه الحالة لا يَكِرُّ ولا يَفِرُّ ولا يُقْبِل ولا يُدْبِر، وإنما يَتَعَكَّر ويَتَكَدَّر ولا يَتَذَكَّر ولا يَتَفَكَّر، بل يَخْتَلِطُ ولا يَتَدَبَّر، ويَخْسَر حُرِّية عَقْله وفِكْرِه مما لا يلزم لتنظيم حاله، واغتنام تدمير عَدُوِّه، وتدبير أَمْرِه، وينسى خدمة الأوطان ومَنْفَعة البلدان، وهذا عَيْن الهوان، فإذا كان عند ذلك المُجَازِف شجاعة النفر العسكري المُجَالِد؛ فليس عنده فطانة الرئيس الكامل، ولا إمارة الأمير القائد، بل ليس مُتَّصِفًا في الحقيقة بحقيقة شجاعة النفر الصحيحة، ولا يسأله آحاد الجنود وأفراد العساكر الرجيحة؛ لأن النفر العسكري من واجباته أن يُحَافِظَ في المعركة على استحضار عَقْله، والاعتدال والحِلم حتى يكون ملازمًا للطاعة في جميع فِعْلِه.
فأي مُحَارِب تَعَرَّض للمجازفة في الحرب العوان كَدَّرَ نظام العساكر، وأَخَلَّ بالتعليمات والحركة العسكرية في حَوْمة الميدان، وكان قُدْوَة للمُجَازَفة والمُخَاطَرة والمُثَابَرة والمُكَابَرة، وعَرَّضَ الجيش بتمامه بِفَقْدِه استحضار العقل الصائب للوقوع في مَكَايِد الخطر والمصائب.
فكُلُّ مَنْ يُؤْثِر مَطَامِعَه الفاسدة، ويُقَدِّم وسائله ومَقَاصِدَه، على مقتضيات العدل والمصلحة العامة؛ يَسْتَحِقُّ الجزاء والعقاب، لا المكافأة والثواب على رأي الخاصة والعامة، فاحذر يا بُنَيَّ أن تَطْلُب الفخار بدون صَبْر ولا تؤدة، بل أقرب الوسائل في الحصول عليه أن تَنْتَظِر اغتنامه بالفرصة لتستعبده، فلا يَكُنْ سَعْيُك إليه سعيًا خائبًا، ولا تَرْمِ سَهْمَكَ صَوْبَه إلا صائبًا، فإن الخصلة الحميدة في الإنسان صاحب الكمال تُحْمَد ما دامت مبنية على الرفق والاعتدال، فهي مُعَادِية للزينة وحُبِّ الرياء والسمعة، وقَصْد التعمق في المطلوب والوسعة، فمتى زادت الحاجة الداعية لاقتحام الأخطار، ودَعَت الدواعي لاقتحام العقبات الكبار؛ وَجَبَ أيضًا الاستحصال على وسائل التبصر والاستبصار، والحزم في الشجاعة لبلوغ الأوطار، فتقوى الشجاعة بقوة الحاجة إليها، ويَجِبُ توسيع دائرة البالي في الحصول عليها.
وبالجملة: فَتَنَبَّه لأن تَسْلُك في أمورك كلها مَسْلَكًا لا يَجْلِب إليك غَيْرة الباقين، ولا يُوجِب لك عداوة الآخرين، فامْدَحْهُم فيما يستحقون عليه المدح، وليكن مَدْحُك مصحوبًا بتمييز كُلٍّ على قَدْر حَالِه؛ لئلا يستحيل إلى القدح أن تَذْكُر حَسَنَاتِ ذوي الإحسان والخصال الملاح مِنْ خَالِص قَلْب مُتَهَلِّل بالفرح والانشراح، تَضْرِب صَفْحًا عن سيئاتهم، وترثي لحال فاعلها وتَتَأَسَّف على وقوعه في الفعائل القباح، ولا تحكم بشيء وتقضي به استقلالًا بحضور هؤلاء الرؤساء الأفاضل الذين مارسوا الأمور، وجربوا الوقائع والنوازل، فإنك خَلِيٌّ عن ذلك، ولَسْتَ مِثْلَهُم في سُلُوكِ هذه المسالك، فاسْمَعْ قَوْلَهُم مع الأدب والاحترام، وشَاوِرْهُم في الأمر تَبْلُغ صحيح المرام، واخضع لأرباب المعارف والعوارف، وافْزَع إليهم وتَضَرَّع ليعلموك ما لم تَعْلَمْه من اللطائف.
ولا تَسْتَحِ مِنْ أَنْ تَعْزُوَ إلى من تَعَلَّمْتَ منهم جميع ما يَصْدُر عنك من الأمور الصائبة، فانْسُب لهم وأَضِفْ إليهم مَحَاسِنَه وأَطَايِبَه، ولا تَسْمَع أبدًا مَقَالَة من يُثَبِّط هِمَّتَكَ بالبعد عنهم وأَخْذ الحِذْر منهم؛ ليُوقِع المنافَسة والعداوَة والمناقَشة والقساوة بينك وبين هؤلاء الرؤساء السادة وأمراء القادة، وإذا تَحَدَّثْت معهم فاعتمد عليهم كُلَّ الاعتماد، واركَنْ إليهم، وثِقْ بهم، وَسَلِّمْ لهم القياد، ولا تَشُكَّ فيهم، ولا تَتَوَسْوَسْ، ولاطِفْهُمْ في الخطاب؛ لِيَتَمَكَّنَ الحُبُّ ويتأسس، وإذا ظَنَنْتَ أو رَأَيْتَ أن أحدًا منهم حَصَلَ منه تقصير في حقك به عليه يُعَاب؛ فعَاتِبْه برِفْق، وأَصْفِ نِيَّتَك في العتاب، واصْدُقْه في الدعاوى والأسباب، فإن وَجَدْتَ فيه أهلية لِفَهْمِ مَقْصِدِكَ الشريف بالإنصاف والعود على نَفْسِه بالإذعان والاعتراف؛ فَحَدِّثْه بما يَشْرَح صدره، ويَرْفَع قَدْره، ويُعْلِي ذِكْرَه، فبهذا تَأْمَلُ منه نَوَالَ ما تحتاج إليه، واستكمال ما تَطْلُبه لديه، وأما إذا رأيته لا عَقْل له في موافَقة رَأْيِك الصائب؛ فصَبِّر نَفْسَك على ما تَجِده عنده من التعسف، فهو إحدى المصائب، ولا تَجْزَع وتَجَلَّدْ إلى أن يَنْتَهِي الحرب على أَحْسَن حال، فإنه لا يُلَام عليك في التمسك بآداب الحرب على هذا المنوال، ولكن احترس أيضًا أن تُفْشِي لبعض المتملقين والسعاة والوشاة من المنافقين شَكْوى ما تَظُنُّه ظُلْمًا عن هؤلاء الرؤساء الموجودين في الوجاقات والمواقع التي أَنْتَ فيها معهم في الحروب والوقائع واقع.» انتهى.
وقد عَمِلَ بعض الملوك وَصِيَّة لناظر الجيش، قال فيها: «وليأخذ أمير هذا الديوان بكُلِّيَّتِه، ويَسْتَحْضِر كُلَّ مُسَمًّى فيه إذا دُعِيَ باسمه وحليته، وليقم قيامًا بغيره لم يَرْضَ، وليُقَدِّم مَنْ يُحِب تقديمه في العرض، وليقف على معامل هذه المباشرة، وجرائد جنودنا بما يُحْصى له من الأعلام ناشرة، وليقتصد في كل مُحَاسَبَة، ويُحَرِّرها على ما يَجِب أو ما قَارَبَه أو نَاسَبَه، وليسْتَنْصِح أَمْر كُلِّ مَيِّت يأتي إليه من ديوان المواريث الحشرية وَرَقَة وفاته، أو يُخْبِره مُقَدِّمه أو نقيبه إذا مات معه في الأسفار عند موافاته، وليحرر ما تَضَمَّنَتْه الكشوف، وتحقق ما يُقَابَل به من إخراج كل حال على ما هو معروف، حتى إذا سُئِل عن أَمْرٍ كان لم يُخْفِ، وإذا كشف على شيء أَظْهَرَ ما هو عليه حقيقته، ولا يُنْكِر هذا لأهل الكشف، وليحرر في أَمْر كل مربعة وما فيها من الجهات المقطعة، وكل منشور يكتب، ومثال عليه جمع للأمر يترتب، وما يثبت عنده وينزل في تعليقه، ويرجع فيه إلى تحقيقه.
وليعلم أن وراءه من ديوان الاستيفاء مَنْ يُسَاوِقُه في تَحْرِير كل إقطاع وفي كل زيادة وإقطاع وفي كل ما يُنْسَب إليه، وإن كان إنما فَعَلَهُ بأمرنا المطاع، وليتبَصَّر بمَنْ وراءه، وليتَوَقَّ اختلاف كُلِّ مُبْطِل وافتراءه، وليَتَحَقَّق أنه هو المشار إليه دُون رُفْقَتِهِ، والموكل به النظر، والمُحَقَّق به جملة جُنْدِنَا المنصور من البدو والحضر، وإليه مدارج الأمراء فيما يَنْزِل، وأَمْر كل جندي لهم ممن فَارَقَ أو نَزَلَ، وكذلك مساوقات الحساب، ومن يأخذ بتاريخ المنشور الشريف أو على السباقة، ومن هو في العساكر المنصورة في الطليعة أو في الساقة، وطوائف العرب والتركمان والأكراد، ومَنْ عليهم تقدمه أو درك بلاد ملزمه، أو غير ذلك مما لا يَفُوتُ إحصاؤه القلم، وأقصاه أو أدناه تحت كل لواء يُنْشَر أو عَلَم، فلا يزال لهذا كُلِّه مُسْتَحْضِرًا، وله على خاطره مُحْضِرًا؛ لتكون لفتات نظرنا إليه دون رفقته في السؤال رَاجِعَة، وحافِظَتُهُ الحاضرة غَنِيَّة عن التذكار والمراجَعَة، وملاك الوصايا تقوى الله، وهي مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافه، والجمع بين العدل والإحسان، وهما من نتائج اتِّصَافه، فليجعَلْهُما عُمْدَتَي حُكْمِه في القول والعمل، والله يَجْعَلُهُ من أوليائه المتقين وقد جعل.» انتهى.
ومما ينبغي ذِكْرُه أن أمراء الجيوش هم نُوَّاب الإمام في الجهاد، فكما يَجُوز لهم قتال أَهْل الحرب مُقْبِلين ومُدْبِرين، ونصب المنجنيقات والفرادات، وإلقاء الحيات، ورَمْي النيران بجميع آلاتها، وقَطْع أشجار العدو ولو مُثْمِرة عند الاقتضاءات والضرورات، وقتل الشبان والشيوخ، ومَنْ يَتَعَرَّض للطعن والضرب، لا قَصْد قَتْل النساء والصبيان، فكذلك يجوز لهم بمقتضى رُخْصَتِهِم أن يعقدوا عقود العهود والأمانات، ويُؤَمِّنُوا من ألقى السلاح مما شُرِعَ لجلب المصلحة ودَرْء المَفْسَدة، ومتى عَقَدُوا العقود وعاهدوا العهود فلا يجوز نَكْثُها بوجه من الوجوه، إلا إنْ ظَهَرَ لهم من العدو المتعاهدين معه خيانة مستورة وخوف مَضَرَّة، فيُنْبَذ العَهْد إليهم حتى يَسْتَوُوا في مَعْرِفَة نَقْض العهد؛ لقوله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ، وكذلك إذا كان العهد مؤجلًا بمدة فانْقَضَت المدة، فبانقضائها يُنْقَض العهد ويُنْبَذ إذا كان الغرض عَدَم تجديده، بل العزم على المحارَبة والمقاتَلة، ولا يجوز نَقْضُه في غير ما ذُكِرَ؛ لأن نَقْضَه يجري مَجْرَى الغدر وخُلْف القول، قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ، ومتى جاز نَقْض العهد وَجَبَ إخبار المعاهَدِين بذلك ليكونوا على بصيرة؛ لأن النبي ﷺ حين نَقَضَ العهد مع أهل مكة بَعَثَ مُنَادِيَه، وهو عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه في الموسم، فنادى يَوْمَ النَّحْر عند جَمْرَة العقبة بنَقْضِ الصُّلْح، فينبغي لكل أمير أن يَتَأَدَّب بآدابه ﷺ في حِفْظِ العهود، وإجرائها على وَجْه معهود.
يُحكى أن خالد بن الوليد لما حَارَبَ بني حنيفة بأرض اليمامة، وقَتَلَ مسيلمة الكذاب حتى صار إلى حِصْن لبني حنيفة، فخرج إلى خالد رَجُل من الحصن، فأَسْلَم على يده، ثم قال: إن في هذا الحصن ضَعَفَة ونساء وصِبْيَة، فأعْطِهِم أمانًا ليَخْرُجوا إليك، فلَيْسَ فيهم درك، فأَخَذَ أمانًا مِنْ خَالِد للجميع، ثم أَخْرَجَهُم فخَرَجَ فيهم رجال كأنهم الأُسْد، فقال خالد: لَمْ أُعْطِكَ لهؤلاء أمانًا، وإنما أُعْطِيك للضعيف، قال الرجل: فهم كُلُّهُم ضعيف؛ لأن الله عز وجل يقول: وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا، فكتب في ذلك إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأجاز الأمان على خالد، وما قاله الرجل الأسلمي لخالد يُعَدُّ من باب دَفْع المكروه بقَوْل صَادِقٍ في حَدِّ ذاته، كما يُحْكَى: «أن رجلًا مَرَّ برسول الله ﷺ وهو بمكة قبل هِجْرَتِه إلى المدينة، فقال: يا محمد، أَغِثْنِي فإن خَلْفِي من يَطْلُب دمي، فقال رسول الله ﷺ: امْضِ لوجهك لأصُدَّ الطلب عنك، ثم قام عليه السلام وجَلَسَ بعد نفوذ الرجل، فإذا قَوْم يَتَعَادَوْنَ بالسيوف، فقالوا: يا محمد، هَلْ مَرَّ بِكَ رَجُل هارب، من صِفَتِه كذا وكذا، فقال عليه السلام: أمَّا مُنْذُ جَلَسْتُ فلا، فصَدَّقَهُ القوم وانْصَرَفُوا في غير ذلك الطريق.»
وقال بعض المؤرخين لما غزا أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه مدينة دمشق في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان قد نَازَل هذه المدينة من جهة باب الجابية، ونازَلَها خالد من جهة الباب الشرقي، ونازَلَها عمرو بن العاص من جهة باب ثوما، ونازَلَها يزيد بن أبي سفيان من جهة الباب الصغير، وحاصَرُوها قريبًا من سبعين يومًا، وكان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه مُصَمِّمًا على أَخْذِها بأي وَجْه كان صُلْحًا أو عَنْوَة، وكان عساكر الروم بدمشق قد أَيْقَنُوا أن حِصَارَها على هذه الحالة لا بد أن يَعْقُبَه الفتوح الإسلامي، وأنه لا مَفَرَّ له من وقوعهم في أَسْر المسلمين، وكان محافظ دمشق الأمير ثوما صِهْر القيصر هرقل، فدَبَّرَ حيلة عسى يكون بها نجاة نَفْسِه وجُنْده من الوقوع في أيدي المسلمين، فخَرَج بجنده من المدينة عدة خرجات عساه أن يدافع جيوش المسلمين عن المدينة ويَنْتَصِر عليهم، وكان يَعْتَمِد على أنه سيصله إمدادات من القيصر، فخاب رجاؤه وانْهَزَمَ في جميع خرجاته، ثم لما أيس من النصرة والإمداد القريب، وجَزَمَ بأنه واشِكٌ بالوقوع في قَبْضَة الإسلام؛ شرع في التماس المُسَالَمة بعقد الصُّلْح مع أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه.
وكان قد بَلَغَهُ موت الخليفة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، واستخلاف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وكان أبو عبيدة هَيِّنًا لَيِّنًا صاحب رأفة ورحمة على عباد الله، غير مُتَعَصِّب ولا مُشَدِّد على أهل الكتاب بدون حق، وكان شريف النفس، عالِيَ الهمة، يَمِيلُ إلى العدل والحِلم، وكان قد اشْتَهَرَ عند الروم بحُسْن الشمائل، ومكارم الأخلاق، وصِدْقِ المقال، فلما الْتَمَسَ أهْلُ دمشق الصُّلْح من هذا الأمير وفاتحوه في شأن ذلك؛ صَالَحَهُم على أن يُؤَمِّنَهُمْ على نفوسهم، ورَخَّصَ لمن لم يُسْلِمْ إذا أراد أن يَخْرُج من دياره خَرَجَ منها بجانب من أمواله، واشترط عليهم أن يَبْلُغوا مأمَنَهُم بعد مُضِي ثلاثة أيام بلياليها من زَمَنِ جلائهم، يجِدُّون فيها السير كما يشاءون، ولا يَقْفُو أَثَرَهُم أَحَدٌ من جيش الإسلام إلا بَعْد مُضِيِّها، فعلى هذا الصلح سَلَّمُوا له مفاتيح المدينة، فلما دخل فيها بجُنْدِه ووَصَلَ فيها إلى ميدان عامٍّ في وسَطِها؛ رأى في هذا الميدان جُنْدَ خالد بن الوليد، فكانوا نَقَبُوهَا وأَخَذُوها عَنْوة من الأبواب المسامتة للباب الذي دَخَلَ منه أبو عبيدة عَقِبَ الصلح، فكانت عساكر خالد بِوَصْف كَوْنِهم فَتَحُوها عَنْوَة يَقْتُلون مَنْ يَجِدُونه في مَمَرِّهم، فنَهَاهم عن ذلك بالتي هي أحسن، وأَمَرَهُمْ بتقوى الله والرفق بعباده، وأَخْبَر الأمير خالد بن الوليد بما صالحهم عليه؛ لأن خالدًا رضي الله تعالى عنه كان بمنزلة عظيمة عند أمير المؤمنين، وكان قد أتاه كتاب من عمر رضي الله تعالى عنه بتقليده إمارة جَيْشِه، فأَقَرَّ خالد ما صَالَحَ عليه أبو عبيدة، ووَعَدَهُ برفع السلاح عنهم، وأن لا يَقْفُوَ أَثَرَهُمْ إلا بعد مُضِيِّ الثلاثة أيام المُتَّفَقِ عليها، وأَنْجَزَ حُرَّ ما وَعَدَ، فاقْتَفَى أَثَرَهُمْ بعد مُضِيِّهَا، ثم جَدَّ المسير فأَدْرَكَهُمْ وبَدَّدَ شَمْلَهُمْ، وسَلَبَهُمْ ما عِنْدَهُم، واغْتَنَمَ منهم ما اغْتَنَمَ، ثم عاد سالمًا غانمًا إلى دمشق، وبَعَثَ أبو عبيدة بالفتح إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما فمدحه المؤرخون بوفائه بنَفْسِه، وبتوسطه إلى خالد بن الوليد، وحمله على ذلك.
قال بعض مَنْ وَقَفَ على هذه الواقعة من مؤلفي أوروبا: «لو كانت أوصاف هذا الصحابي الجليل الذي كان أمير الجيش الإسلامي في ذلك الجيل مُجْتَمِعَة في أمراء الجنود بالأجيال الجديدة، المشهورة بالتمدنات المتنوعة والتقدمات العديدة؛ لأفادَتْهُمْ غاية المَجْد والشرف، ونَفَتْ عنهم مَثَالِبَ الجور والسَّرَف، فأَجَلُّ أمراء جيوش الدول العظيمة التَّمَدُّن في عَهْدِنا هذا لم تَبْلُغ درجة ذلك الأمير الخطير الذي هو من بين الفاتحين عديم النظير، فكل مَنْقَبَة من مناقِب عَدْلِه وحِلْمِه ووفائه تُخْجِل أكابر رؤساء كل جيش من جيوش الدول المتأخرة، وتَزْدَرِي بأمرائه.» انتهى، وهذا من قَبِيل: «ومليحة شَهِدَتْ لها ضراتها.»
ومع ذلك فنقول: إن تَمَدُّن الخلفاء الراشدين والصحابة التابعين وتابعيهم هو تَمَدُّن حقيقي مُكْتَسَب من أنوار النبوة واتباع هَدْي مَنْ لا يَنْطِق عن الهوى، مع سلامة طَبْع أبي عبيدة عامر بن الجراح الذي قال في حَقِّه عليه الصلاة والسلام: «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح» وقد كانت شَفَقَتُه على نصارى الروم بدمشق واجبة؛ لأنها نتيجة المُصَالَحة والمُعَاهَدة، وإلا فكان لا يَخْشَى في الله لَوْمَة لائم، فهكذا مَكَارِم أخلاق الصحابة، فمن أَرَادَ أن يَقْتَدِيَ بهم فهو من أهل السداد والإصابة، وما أَسْعَد مَنْ يَتَنَزَّه من أول شَبِيبَتِهِ عن الجهالات، ويَتَمَسَّك بناموس المروءة والشريعة، ويُخَالِفُ أهواء النفس اللوامة، ويُخَالِف معالي الأمور المؤسسة على ما في الكتاب العزيز من الآيات البينات، فلا أَحْمَق ممن تَجَرَّدَ عن الشفقة والمرحمة، وأَفْضَى به الجهل إلى ارتكاب الأمور المُحَرَّمة، فكأنما هو تَرَبَّى في الجبال، ورَضَعَ ألبان الوحوش والوعال، كما يُحْكَى عن نية غَدْر من مغربي مُسْلِم بأسير من نصارى الإسبانيول، مُنْقَاد لقضاء الله عليه بالأسر ومُسْتَسْلِم، وذلك أن أَكْثَرَ عَرَب المغاربة المُتَوَطِّنِين ببلاد إفريقية أَصْلُهُم من عَرَب الأندلس الذين أَجْلَاهُم الإسبانيول مِنْ ديارهم بعد تَغَلُّبِهِم عليها، وكانوا بقايا مَنْ نَجَا من القتل، فكانت العداوة باقية بين الفريقين.
وكان أَغْلَب المغاربة يَعْتَقِدُون حل التقرب إلى الله تعالى بقتل النصارى لمخالفة الدين، لا سيما إذا كانوا من نصارى الإسبانيول المعتدين، وكان من قواد المغاربة الذين يُغِيرُون على بلاد الإسبانيول الساحلية أمير، يقال له علي بن جرمي من قواد ملوك إفريقية، فانتصر مرة في حربه مع الإسبانيول نَصْرَة عظيمة، وقَتَلَ وأَسَرَ وشَحَنَ سَفِينَتَه من أَسْرَاهُم حتى أرسى على سواحل إفريقية وأَنْزَلَهُمْ إلى البر، فحَضَرَ إليه شَخْص من حَمْقَى العرب مُتَمَثِّلًا بين يديه، وجَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْه وقال له: يا أيها الأمير، لقد أَسْعَدَك الله تعالى بالظفر والتأييد، ووَفَّقَكَ لجلب عَدَدٍ كَثير من النصارى الأسارى، فهم لجنابك العالي من قبيل الأرقاء والعبيد، وطَالَمَا انْتَهَزْت الفرصة في سَفْك دمائهم، وسَبْي رجالهم ونسائهم، وفي طَاقَتِك أن تَقْتُل منهم ما تشاء من العدد الكثير والجم الغفير، فلا شك أن مِثْلَكَ من أهل الجنة حَيْث وَفَّقَه الله تعالى إلى الحصول على هذه المنة، وأما أنا فَلَمْ أَحْظَ في عمري بهذه الفضيلة، ولا تَيَسَّرَتْ لي هذه النعمة الجزيلة، فأناشِدُك الله إلا تَفَضَّلْتَ عليَّ من إحسانك وجميل فَضْلِك وامتنانك بأَحَدِ هؤلاء الأسرى أعداء الدين؛ لأَتَقَرَّب به إلى طاعة رب العالمين. فأَظْهَرَ له الأمير حُسْن الإجابة، وأنه لَبَّى دَعْوَتَه لِيَنَال الأجر والإثابة، وأَفْهَمَه أنه يُرسل إليه هذا الشاب طويل النجاد في الغابة، وأَمَرَهُ أن يَنْتَظِرَه فيها هذه الساعة لِيَفْتِكَ به سِرًّا بدون إشاعة، ثم أَمَرَ الأسير بالمسير، وأَطْلَعَهُ على خَبِيئَة هذا الأحمق وحَذَّرَه منه وأَنْذَرَه حتى يَعْمَل لنفسه في الذب عنها أَحْسَن التدبير، فاقْتَحَمَ الأسير الغابة شاكِيَ السلاح، مُصَمِّمًا على المناضلة والكفاح، فلما رآه خَصْمُه على أُهْبَة بهذه الحالة لَمْ يَجِد من الهروب بدًّا، فنَجَا بِنَفْسِه ولا محالة، ورَجَعَ إلى الأمير يَرْجُف فؤاده وقَدْ فَاتَهُ مُرَادُه، فقال له الأمير بِصَوْت جهوري، بغاية من الحماس، يُسْمِعُه كُلَّ مَنْ حَضَرَ من الناس: يا أيها الشقي الأحمق، والعدو الأزرق، كيف عِشْتَ بين أَظْهُر مؤمني البرية، ولم تَعْلَمْ حُرْمَة قَتْل النفس البرية؟ وهل مَحْض اختلاف الأديان يُبِيح التعدي بقَتْل الإنسان؛ ابتغاء مرضاة الشيطان؟ وكيف تَظُنُّ أن بتصميمك على هذه النية تُرْضِي الله سبحانه وتعالى أو نبيه؟ وهل من المروءة والسماحة قَتْل مَنْ ألقى سِلَاحه؟ أَمَا تَعْلَم أنَّ قَتْل النفس بغير حَقٍّ مِنْ أَعْظَم الآثام عند الله، فخجل المغربي بالخزي والخجل، يَطْلُب الغفران من الله عز وجل، واسْتَحْسَن جميع الحاضرين ما دَبَّرَه الأمير، فما أَحْسَن العدل المرفوق بحُسْنِ التدبير لا سيما من قائد خطير.
ويُحكى أن عَمْرو بن معدي كرب مَرَّ بِحَيٍّ من أحياء العرب فرأى فَرَسًا مشدودًا ورُمْحًا مركوزًا ورجلًا في وهدة يقضي حاجته، فقال له عمرو: خُذْ حِذْرَكَ، فإني قَاتِلُكَ، فقال له: مَن أنت؟ قال: أبو ثور عمرو بن معدي كرب، قال: وأنا أبو الحرب، ولكن ما أَنْصَفْتَنِي، أنت على ظَهْر فَرَسِكَ وأنا في موضعي، فأَعْطِنِي عهدًا أن لا تُقَاتِلَنِي حتى أَرْكَبَ فَرَسِي وآخُذَ حِذْرِي، فعَاهَدَهُ على ذلك، فخرج من الموضع الذي كان فيه وجَلَسَ مُحْتَبِيًا بسيفه، فقال له عمرو: وما هذا الجلوس؟ قال: ما أنا براكب فرسي ولا أنا مُقَاتِلك، فإن نَكَثْتَ العهد فأنت أَعْلَمُ بما يَلِيقُ بالناكث، فتركه عمرو ومضى، وقال: هذا أَجْبَن مَن رَأَيْتُ، فانظر إلى حِفْظ العهود، فهو وإن كان واجب الوفاء به في حَدِّ ذاته إلا أن أَحَقَّ الناس به الأمراء والجنود، وفي هذا القدر كفاية فيما يَتَعَلَّق بالطبقة الثالثة التي هي طبقة الغزاة.