الفصل الرابع
قد أَسْلَفْنا الكلام على هؤلاء بالبيان الشافي في عدة مواطن، لا سيما في الباب الثاني من هذا الكتاب، فلا فائدة في الإعادة، وإنما نقول هنا: إنه ينبغي لأبناء الوطن أن يُؤَدُّوا ما يَجِب عليهم من الحقوق لوطنهم أيًّا ما كانت طَبَقَتُهُم؛ لاتحادهم في وَصْف الأهلية، وأن يتعاونوا على ما فيه صلاح مملكتهم وجمعيتهم السياسية، وأن يَبْذُل المستطيع ما عنده في إصلاح حالهم ومآلهم، حتى يَصْدُق عليه أنه ممن أحيا نخوة الملة، وأَنْعَشَ قُوَّة الدولة، فيشكره وطنه الذي هو مِصْرُه، ويَحْمَدُه زَمَنُه الذي هو عَصْرُه، فيكون مُخَلَّد الذِّكْر في دفاتر أخبار الذين اشْتَهَرُوا في سلسلة الأعصار، وأن يَتَّصِف كل عضو من أعضاء الجمعية الأهلية بالأمانة التي هي أشرف الخصال، التي يُحْتَاج إليها في المعاملات، وقد كانت هذه الفضيلة قديمًا في الديار المصرية على غاية من التمسك بها ولو عند عرب البادية.
ومن غريب ما يُحْكَى في ذلك ما أَخْبَر به الشيخ عبد الرازق القفطي: «أنه جاء إليه الشريف الأحمر ومعه بدوي، فقال لعبد الرازق: أشتهي أن تُقْرِضَنَا دينارين وتَرْكَب مَعَنا لله تعالى، قال: فدَفَعْتُ لهما دينارين ورَكِبْتُ معهما، فسُقْنَا في الحاجر ساعة، فقلت للشريف: ما تقول لي إيش أنت تطلب بنا؟ فقال البدوي: كان أودع ناسًا من العرب سخلة في الحجاز من إحدى عشرة سنة، وهو يطلب وديعته، قال: فَقُلْتُ له: ضَيَّعْتَ عليَّ دينارين وأتعبتنا، فقال لي: الدينار الواحد معي، والآخر اشتريت به هذا الحمار، فإن وَجَدْنَا شيئًا وإلا رَدَدْنَا لك مالك، فَسِرْنَا إلى أبيات عرب هناك، فجلسنا بعيدًا، وتَقَدَّمَ الأعرابي ونادى: يا أبا فلان، فكَلَّمَه إنسان، فقال: مَنْ تكون، أو قال مَن تريد؟ فقال: الله تعالى يَعْلَم أني كُنْتُ أَوْدَعْتُ لك بوادي الصفراء في الحجاز في السنة الفلانية سخلة، قال: فجاء الرجل الذي كَلَّمَه ونحى القرمزية عن رأس البدوي، ونظر إلى شجة في رأسه، وقال: والله أنت هو وأبو فلان مات وأنا أخوه، اقْعُد حتى تَرُوح إِبِلُنا، فقعدنا حتى راحت الإبل عليهم، فعزل البدوي منها تِسْع نُوقٍ، وقال: اللهُ تعالى يَعْلم أن السخلة وَلَدَتْ وَوَلَدَ أولادها، فبِعْنَاهَا واشترينا تلك الناقة، فولَدَتْ وتَوَالَدَتْ، فالذي كان منها ذكورًا بِعْنَاه، وأَبْقَيْنا الإناث، وأَخْرَجْنَا عنك الزكاة، وأَخْرَج صُرَّة زرقاء مربوطة بخيط من شعر، فقال: هذا مِنْ ثَمَن الذكور فَفَتَحْنَاها فوَجَدْنَا فيها، إما قال: تسعة عشر دينارًا، أو قال: اثنين وثلاثين دينارًا، غاب عني أيهما قال لطول المدة، فقال الأعرابي: أما هذا الذهب فَخُذُوه، ولا حاجة لي به، وتكفيني النياق، فقلنا: والله ما نأخذ إلا الدينارين، فأخذناهما ورَجَعْنَا.» انتهى، فانظر إلى قيمة قَدْر الأمانة عند عَرَب البادية المؤتَمَنِين، والتعفف من المتوسطين، وسماحة الأعرابي الذي أراد أن يَتْرُك الذهب لهم، فلا يُدْرَى أي الفرق الثلاثة أَكْرَم وأَعْظم مروءة، فعلى العاقل أن يَتَمَسَّك بكل فضيلة يتَمَدَّح بها، وتَبْيَضُ بها صَحِيفَتُه دنيا وأخرى من كل ما يُحْرِز المنافع العمومية دنيوية أو دينية، مما يكون به لأهل مِلَّتِه تمام النظام، وتَعُود مَنْفَعَتُه عاجلًا أو آجلًا على قوة دولة الإسلام.
وقد أَسْلَفْنَا في الفصل الأول من الباب الأول في بيان المنافع العمومية ما يَتَعَلَّق بفعل الصدقات الجارية، وأن مِنْ جُمْلَتها بناء العمائر الخيرية، وأن كثيرًا من الأمراء تَشَبَّثوا بذلك، ونقول الآن: إن مِنْ جُمْلَة مَنْ اجْتَهَدَ في فِعْل الخير الجاري على الدوام ما فَعَلَتْهُ صاحبة الدولة والعصمة والدة الخديو الأكرم وَلِي النعمة، فإن بناءها المسجد المنير للقطب الشهير ولي الله تعالى الشيخ صالح أبو حديد هو مِنْ أعظم الخيرات، لا سيما ما أَجْرَتْهُ عليه من الأوقاف الدارة والوظائف البارة، ومثل ذلك شروع حَضْرَتِها السنية في بناء مسجد القطب الرفاعي الجاري فيه العمل الآن أمام السلطان حسن، فإنه أيضًا صار توسيعه بما لا مزيد عليه من الدور المُتَّخَذَة له بالشراء، وتطييب خواطر أربابها مع الجد والاجتهاد في العمارة التي يَظْهَر أنها تصير ضخمة جدًّا، وتنافس جامع السلطان حسن المواجه لها، مع ما سيرصد عليها من الأوقاف الجزيلة، مما أرادت حضرتها العلية تَحْصِيله، ومن المعلوم أن لحضرتها المشار إليها من جزيل الخيرات ما لا يُحْصَى، ومن جميل المَبَرَّات ما لا يُسْتَقْصَى، والرأفة الكاملة الكافلة بالتعطف على كل فقير، والتلطف بجَبْر كُلِّ كَسِير، وتوزيع الصدقات على الجم الغفير، فهي سَارَّةُ مِصْرِهَا، وأين منها زُبَيْدَة في عَصْرِهَا.
وقد سَبَقَ في الفصل الأول من الباب الأول ذِكْرُ ما فَعَلَه من الخير العميم، وحُسْن الصنيع الجسيم حَضْرة خليل أغا باش أغاوات الجهة السامية المشار إليها من المدرسة والتكية؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى مما ازداد به وَجْه مصر ضياءً وتَلَأْلَأَ، هكذا هكذا وإلا فَلَا لا وكُنَّا قَدْ ذَكَرْنا في الفصل المذكور ما أنشأه من الخيرات الأمير الجليل والشريف النبيل سعادة راتب باشا بالجامع الأزهر، ثم بَلَغَنَا فيما بعد أنه أَنْشَأَ مسجدًا جليلًا بالإسكندرية، ومدرسة جليلة عمومية بالإسكندرية أيضًا، وأَرْصَدَ لذلك ما فيه الكفاية لِدَوَامِهِ، وأَرْصَدَ جرايات لها وَقْع كبير على الأضرحة والمشاهد والمقاري بالمحروسة، وأحيا تكية للنساء العجائز الفقراء مُرْصَدَة على إحدى وعشرين امرأة، كان أَنْشَأَهَا المرحوم عبد الرحمن كَتْخُدَا ثم دَثَرَتْ، وبَلَغَنَا أن حضرة الباشا المشار إليه مُصَمِّم على تجديد مارستان للفقراء والضعفاء، وأوقف الأمير المذكور من أراضيه وعقاراته على ذريته، وشَرَطَ أنها تئول من بعدهم إلى محالِّ خيراته توسيعًا لها زيادة، هكذا يكون الكرم الواسع من الأشراف أهل الديانة والصيانة والعفاف، أَطَالَ الله بَقَاه، ومن الأسواء حَفِظَه وَرَقَاه، وكثير من الأمراء والأعيان ممن لا تُعْلَم حقيقة أَوْقَافِهم الخيرية إلا إجمالًا، تَصَدَّى لفعل الخيرات على قَدْرِ حاله، وبَذَلَ فيها جزءًا عظيمًا مِنْ مَالِه، فالحمد لله الذي وَفَّق كثيرًا من الأمراء والأهالي المصريين رجالًا ونساء بالمحروسة أو بالأقاليم على التشبث بأسباب الخير العميم، والناس — كما يُقال — على دين ملوكهم، وهو أدب قديم، ومع أن هذه الخيرات تُعَدُّ نَوْعًا من المنافع العمومية إلا أن هناك خيرات أَعَم منها نَفْعًا وأَتَم وَقْعًا؛ كالشركات السلمية الشرعية، وجمعية الافتراضات المرعية، فإنها نافعة كُلَّ النفع لِفَكِّ المضايَقات عن أرباب الاحتياجات من أهل الصناعة والزراعة لِسَدِّ خِلَّتِهِمْ، والقيام عند الاقتضاء بقضاء حاجتهم، فإن هذه الشركات السلمية والجمعيات الاقتراضية مِنْ أَهَمِّ الأمور، ومُفَرِّجة على الجمهور، وبها تَتَقَدَّم التجارة والزراعة، وتَرْقَى الدولة والملة في المالية واللوازم الأهلية إلى أَوْج الفخار ودرج الاعتبار، كما بَيَّنَّا ذلك في الفصل الأول من الباب الأول.
فلِله مَنْ بَيَّض من الأهالي صحائف أعماله النافعة، وجَعَلَ أنوار فِعَاله على آفاق وَطَنِه مُشْرقة ساطعة، وأما مَنْ بَخِلَ بذلك فَقَدْ خلا عن فضائل النفع العامِّ، وسَوَّدَ سطور صحائف أعماله بمداد الآثام، وأَخْجَلَ عَصْره الموجود فيه، حيث غَدَرَهُ وخَانَهُ بدون أن يُوَافِيَهُ أو يُصَافِيَهُ، بل كَدَّرَ رائق نَفْعِه وزلال صافيه، وهذا القَدْر من المكروه كافيه، فعلى وَلِيِّ الأمر العادل أن يُرْشِدَ بأفعاله السنية رَعِيَّتَه إلى سبيل الرشاد السنية، وأن يُعِينَهُم على ذلك بالحصول على كمال الحُرِّيَّة، متى وَجَدَ أن رَعِيَّتَه بتلك الحُرِّيَّة حَرِيَّة، حتى يُحِبَّ الناس أوطانهم، ويديموا شُكْرَهم لمن حَسَّنَ حالهم، وأَصْلَحَ شأنهم.
فالحمد لله الذي وَفَّقَ خديوي مصر الأكرم لِفِعْلِ ذلك بفك عهد المتعهدين للبلاد، وبتأسيس نظامات الدوائر البلدية المبني على تحرير رقاب أهالي النواحي من شِبْه الاستعباد، فإن هذا — لا محالة — قوام الإنصاف والعدالة، فإن مَنْ مَلَكَ أحرارًا طائعين كان خيرًا ممن مَلَكَ عبيدًا مُرَوَّعين، ولا شك أن قلوب الرعية هي خزائن مَلِكِها، فما أَوْدَعَه فيها فهو مُسْتَوْدَع في أنحاء مَسَالكها، ولا يكون الملك عَظِيمَ القَدْر إلا بأهالٍ دونه عَظَّمُوه، ولا تقوى قُوَّتُه إلا برجال أطاعوه، ولا تَشْرُف مَنْزِلَتُه إلا بعَوَامَّ اتضعوا له بالإزعان واتَّبَعُوه، فعليه أن يَمْنَحَهُم وسائل التعزيز والتكبير، وأن يَمْنَعَ عنهم رذائل التصغير والتحقير، فرُبَّ صغير تَرَفَّع عن دناءة الهمة وتَفَرَّغَ لجلائل التدبير، وعلى الملك أن يُعَامِلَ أحرار الناس بمَحْض المودة والعامة بالرغبة والرهبة، وأن يَسُوس السفلة بالمخالفة الصريحة، وأن يُحْسِن سياسة جميع رعاياه على اختلاف أنواعهم؛ لاجتناب الأسباب التي تَبْعَث قلوبهم على مَعْصِيته؛ ليقود أبدانهم إلى طاعته، فبهذا يَسْتَقيم أَمْره إلى مُدَّته، «وسأل» رَجُل بعض حكماء بني أمية: «ما كان سَبَب زوال نِعْمَتكم؟ فقال: قد قُلْتَ ما سُمِعَ، وإذا سَمِعْتَ فَافْهَمْ، إِنَّا شُغِلْنَا بِلَذَّتِنَا عن تَفَقُّدِ ما كان تَفَقُّدُه يَلْزَمُنَا، ووَثِقْنَا بوزرائنا فآثَرُوا مَرَافِقَهُمْ على مَنَافِعِنَا، وأَمْضَوْا أُمُورًا دُونَنَا، أَخْفَوْا عِلْمَهَا عَنَّا، وظُلِمَتْ رَعِيَّتُنَا فَفَسَدَتْ نياتهم لنا، ويَئِسُوا من إنصافنا، فَتَمَنَّوا الراحة لِغَيْرِنَا، وخَرِبَتْ معايشهم فخَرِبَتْ بيوت أموالنا، وتَأَخَّرَ عطاء جُنْدِنَا، فزالَتْ طَاعَتُهُمْ لَنَا، واسْتَدْعَاهُم مُخَالِفُونَا فتَظَاهَرُوا على أَمْرِنَا، فطَلَبَنَا أعْدَاؤُنا فعَجَزْنَا عنهم؛ لِقِلَّة أنصارنا، وكان أَوَّل زوال مُلْكِنَا استِتَار الأخبار عنا.» انتهى.
وقال المنصور يومًا: «ما كان أَحْوَجَنِي أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أَعَفُّ منهم، قيل: يا أمير المؤمنين، ومَنْ هُمْ؟ قال: هُمْ أركان المُلْك، لا يَصْلُح المُلْك إلا بهم، كما أن السرير لا يَصْلُح إلا بأربع قوائم إنْ نَقَصَتْ قائمة واحدة، وهي: أما أَحَدُهم فقاضٍ، لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة، يُنْصِف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج، يَسْتَقْضِي لي ولا يَظْلِم الرعية، فإني غَنِيٌّ عن ظُلْمِها، ثم عَضَّ على أصبعه السبابة، يقول في كل مرة: آه آه، قيل: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد، يَكْتُب بخبر هؤلاء على الصحة.» انتهى.
ومما مَنَّ الله سبحانه وتعالى على الديار المصرية أن خديويها الأكرم يُحْسِن انتخاب وكلائه، وينقدهم بعين البصر والبصيرة، وأنه بترتيبه لراحة الرعية الدوائر البلدية، وتنظيمه المجالس المَحْكَمية، وحُسْن تربيته لأبناء الرعية، وتقليدهم بالمناسب الإدارية؛ تستحوذ مصر — التي هي مَنْبَع كُلِّ خَيْر، وفَضْل ومَحَطُّ رحال كُلِّ شَرْقٍ وغَرْبٍ وبُعْدٍ وقُرْبٍ — على الفضائل العليا، ويَصْدُق عليها اسْمُها القديم وأنها أم الدنيا.
ومن أَمْعَن النظر في حُسْن تقسيمها في حلبة السياسة، وأَمْعَن التفكير في نظام تقويمها في رتبة الرياسة؛ وَجَدَها الآن على حالة أَحْسن تقسيمًا وتقويمًا مما كانت عليه في أيام أن كان كرسي الملك ودارِ الخلافة في تلك الأزمان، كما يُفْهَم مِنْ ذِكْر تخطيطها في تلك الأيام لبعض العلماء الأعلام، حيث يقول: لمصر وجهان قِبْلِي وبَحْرِي، فالقبلي هو أَجَلُّهما قَدْرًا، وأَطْوَلهما مَدًى، وأَكْثَرهما جدًى وهو الجيزة، وهي أَقْرَبُها إلى القاهرة غرْبِيَّ النيل، ويَقَعُ قُبالة القبلي منها بلاد طفيح شرْقِيَّ النيل في بَرِّ القاهرة، تصاقب بركة الحبش وبساتين الوزر، ثم يلي الجيزة مقبلًا في بَرِّها بلاد البهنسا، تصاقب البهنسا من غربها بلاد الفيوم وبينهما منقطع رمل، والفيوم هو الذي بَحْرُه دائمًا مُسْتَمِر، وينقسم به الماء في مقاسم، ولا يعرفون قسمة الماء إلا بالقصبات، ثم يلي البهنسا مقبلًا الأشمونين وفيها الطحاوية، ثم يليها بلاد منفلوط، ثم يليها بلاد أسيوط، ثم يليها بلاد أخميم شَرْقِيَّ النيل، ويقابِل دمنتها البرابي المشهورة في البلاد المضروب بها المثل على الألسنة، وهي وإن كانت شرقِيَّ النيل فكل بلادها ومزارعها غربِيَّ النيل، ثم يليها بلاد قوص، وقوص أيضًا شرقِيَّ النيل، وهناك جُلُّ العمارة ومَوْضِع الحرث والزرع، وفي غربِيِّ النيل قُبَالَتَهَا البلاد المعروفة بغرب قمولا، وهي من مضافات قوص وبلادها، ثم أسوان وهي مِنْ عمل قوص، وواليها نائب عن واليها، ويخرج ما بين قوص وأسوان إلى صحراء عيذاب حتى ينتهي إلى عيذاب، وهي قرية حاضرة البحر، ومنها يتعدى إلى جدة، ويكون بها جند من قوص وواليها، وإن كان من قِبَل السلطان فإنه نائب لوالي قوص، ووالي قوص أَعْظم ولاة مصر وأَجَلُّهم، فهذه جملة الوجه القبلي، وفيه الصعيدان الأدنى والأعلى، والأدنى كل ما سَفُلَ عن الأشمونين إلى القاهرة، والأعلى كل ما علا عن الأشمونين إلى أسوان، وغالب زَرْعِه ورَفْعِه وجَلْب قُوتِه وحَلْب ضَرْعِه غَرْبِيَّ النيل، وما يوجد شَرْقِيَّ النيل قليل، وهو تَبَع لا متبوع، فأما الوجه البحري فهو كل ما سَفُل عن الجيزة إلى حيث مصب النيل في البحر الشامي بدمياط ورشيد، وهو أَعْرَض من الوجه القبلي، وبه الإسكندرية وهي مدينة مصر العظمى، فأما ما وَقَعَ منه شرقي النيل في بر القاهرة المتصل بها فأقربها منه الضواحي، وهي القرى التي أَمْرُها بِيَدِ والي القاهرة، ثم قليوب، ثم الشرقية ومدينتها بلبيس، وأما ما وَقَعَ غَرْبِيَّ أحد مَرْمَى النيل الفرقتين في هذا الوجه، فأَقْرَبُها إلى الجيزة جزيرة بني نصر ثم مَنْف، وكلاهما عَمَل واحد، والاسم لمَنْف، وهي كانت مدينة مصر العظمى زمن فرعون موسى، ثم أبيار وهي مِنْ عَمَل مَنْف أيضًا، ثم يليها بلاد الغربية ومدينتها محلة المرحوم، وهي عَمَل جليل مُتَّسِع يُضَاهِي قوص، ثم يليه أشموم وتُعْرَف بأشموم الرمان؛ لكثرة وجود الرمان بها، وهي بلاد الدقهلية والمرتاحية، ثم يليها دمياط حماها الله، وهي أحد الثغور والضالة المستنقذة بعد طول الدهور، وإليها أحد مَصَبَّي النيل، ثم ما هو غربي الفرقة الثانية من النيل، فأقربه إلى الجزيرة بلاد البحيرة ومدينتها دمنهور، وهذه البلاد تشتمل على بلاد مُقْفِرة، وطوائف من العرب، وبها بركة النطرون التي لا يُعْلَم في الدنيا أن يُسْتَغَلَّ من بقعة صغيرة نَظِيرَ ما يُسْتَغَلُّ منها، فإنها نحو مائة فدان تُغِلُّ نحو مائة ألف دينار، ثم يلي بلاد البحيرة مدينة الإسكندرية ثغر الإسلام المُفْتَرُّ، وحِمَى الملك المحضر، حَرَسَهَا الله تعالى، وهي مدينة لا يَتَّسِع لها عَمَل، ولا يكثر لها قرى، فهذه جملة الوجه البحري، ثم لم يَبْقَ ما تنبه عليه إلا قطيا وهي قرية في الرمل، جعلت لأخذ الموجبات، وحِفْظ الطُّرقات، وأَمْرُها مُهِمٌّ، ومنها يُطَالَع بكل وارد وصادر، وأما الواحات فجارية في إقطاع أمرائهم، يُوَلُّون عليها كل مقطع في إقطاعه ومغلها كأنه مصالحة، لعدم التمكن من استغلاله أسوةَ بقية ديار مصر، لوقوعه منطقًا في الرمال النائية والقفار النازحة، وهذه جملة نطق القاهرة المحيطة بمصر سُفْلًا وعُلُوًّا. انتهى.
والظاهر أن في عصر هذا المؤرخ كانت قصبات الصعيد الأعلى قوصًا وأخميمًا، ولم تكن جِرْجَا من القصبات المشهورة شهرةَ غيرها، وأنها صارت فيما بعد متصرفية، وقد أَنْزَل إلى ناحيَتِها السلطان الظاهر برقوق بعد واقعة بدر بن سلام هناك هوارة الصعيد في نحو سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة وكانت خرابًا ليعمروها، فأقطع هذه الناحية لإسماعيل بن مازن منهم، وأقام بها حتى قَتَلَه علي بن غريب، فولى بعده عمر بن عبد العزيز الهواري حتى مات، فولى بعده ابنه المعروف بأبي الشوشة، وفَخُمَ أَمْرُه وكَثُرَت أمواله، فإنه أَكْثَرَ مِنْ زراعة النواحي، وأقام دواليب السكر واعتصاره حتى مات، فتولى بعده أخوه يوسف بن عمر وهكذا، وهؤلاء الهوارة أَصْل ديارهم من عَمَل سرت بالمغرب إلى طرابلس، قَدِم منهم طوائف إلى أرض مصر، ونزلوا بلاد البحيرة وملكوها مِنْ قِبَل السلطان، ونَزَلَ منهم هوارة بالصعيد، كما ذَكَرْنَا، ونزلوا جهة جرجا التي نابت فيما بَعْد عن قوص وعن أخميم، وصارت ولاية في التقسيم، فتقاسيم مصر الآن أَكْثَر تنوعًا، وأَعْظَم استقصاء وتَتَبُّعًا وإن لم تَصِل فيما يَخُص العلم والعلماء دَرَجَة ذلك الزمن البعيد الذي يُعْلَم كثرة علمائه وفضلائه لمن طَالَع مثلًا الطالع السعيد في نجباء الصعيد، إلا أن المعارف الآن سائرة بسيرة مُسْتَجِدَّة في نظريات العلوم والفنون الصناعية التي هي جديرة بأن تسمى بالحكمة العملية والطرق المعاشية، ومع هذا فلم يزل التشبث بالعلوم الشرعية، والأدبية ومعرفة اللغات الأجنبية، والوقوف على معارف كل مملكة ومدينة؛ مما يُكْسِب الديار المصرية المنافع الضرورية ومحاسن الزينة، فهذا طراز جديد في التعلم والتعليم، وبَحْث مفيد يَضُم حديث المعارف الحالية إلى القديم، فهو من بدائع التنظيم، وإذا أَخَذَ حَقَّه مِنْ حُسْن التدبير والاقتصاد فيه اسْتَحَقَّ مرتبة التعظيم، ولا ينبغي لأبناء الزمان أن يعتقدوا أن زَمَنَ الخَلَف تَجَرَّدَ عن فضائل السَّلَف، وأنه لا يَنْصَلِح الزمان إذ صار عُرْضة للتَّلَف، فهذا من قبيل البهتان، فالفساد لاعتقاد ذلك لا فساد الزمان، كما قال الشاعر:
وإنما حصول مثل هذه الأوهام السوفسطائية ناشئ مِنْ فَهْم كلام العلماء الراسخين على خلاف المعنى المقصود منه، وأَخْذه على ظاهره، فإذا حَفِظَ الإنسان من جوهرة التوحيد قول الناظم:
أَخَذَه على ظَاهِرِه في أَمْر الدين والدنيا والمعاد والمعاش والترقي في الرفاهية والزينة، مع أنه خاصٌّ بالأمور الدينية، واتباع الأحكام الشرعية من الحلال والحرام دون المباح، كما أَوْضَحَهُ بَعْدُ قَوْلُهُ:
فيا ليت مَنْ تَمَسَّك بتلك الأفهام، وتَنَسَّكَ بمضامين تلك الأوهام استمسك بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وبقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فليس كُلُّ مُبْتَدَع مَذْمُوم، بل أَكْثَرُه مُسْتَحْسَن على الخصوص والعموم، فإن الله سبحانه وتعالى جَرَتْ عادته بِطَيِّ الأشياء في خزائن الأسرار؛ ليَتَشَبَّثَ النوع البشري بِعَقْلِه وفِكْرِه، ويُخْرِجها مِنْ حَيِّز الخفاء إلى حيز الظهور، حتى تَبْلُغ مَبْلَغ الانتشار والاشتهار:
فمُخْتَرَعَات هذه الأعصر المتلقاة عند الرعايا والملوك بالقبول كانتا من أَشْرَف ثمرات العقول، يَرِثُها على التعاقب الآخَرُ عن الأَوَّل، ويُبْرِزُها في قالب أَكْمل من السابق وأَفْضَل، فهي نَفْعٌ صِرْف لرفاهية العباد وعمارة البلاد، ومَنْ ذا الذي يُخَطِّئُ صواب رأي هذه الاستمدادت المعينة على المهمات المعاشية، بطرقها النافعة وأنوارها الساطعة، التي لظلام الأرجاء دافعة، وبسط الكلام على المخترعات كغيرها من المحسنات البديعات، مبسوطة في أَقْوم المسالك في مَعْرفة أحوال الممالك لحكيم السياسة خير الدين باشا، وعَمَل مَنْ طَبَّ لِمَنْ حَبَّ يُورِث القلب انتعاشًا مربع لبعضهم:
فما أشار به في كتابه من الإشارات القولية جُلُّه في مِصْرِنَا من قبيل الدلالات الوضعية، ودلالة الفعل في الأصول أقوى من دلالة القول، فما أَجْدَر ما تَجَدَّدَ الآن في مِصْرِنَا مِنْ حُسْن التنظيم، الْمُسْتَحِق مِنْ أهل الوطن كمال التبجيل والتعظيم مما به عَظُمَ قَدْر الوطن، وشَرُفَتْ مَنْزِلَتُه، ومَجُدَتْ فخامته، حيث استأثر بالفوائد الجمة، بِهِمَّة وأي هِمَّة، مما لا يَحْصُل إِلَّا مِن البررة المشفقين، ومن أبناء الوطن الصادقين مِمَّن رَوَّضَ نَفْسَه لخدمة الوطن الحقيقية من الراعي والرعية، وقد خرجوا من درجة التصغير والتحقير، إلى درجة الترفع والتكبير، بِصَرْف الهمة في حُسْن التدبير؛ لتنمية المنافع الوطنية الحسية والمعنوية.
ومما ينبغي للعاقل أن يُنَوِّه بِذِكْرِه، ولا يُخْرِجُه العارف مِنْ مرآة بَصِيرَتِه وفِكْرِه، أن ملوك الإسلام على كَثْرَتِهم، وإن كان يجب عليهم جميعًا أن يكونوا على قَلْب رَجُل واحد في تقديم أُبَّهَة الإسلام، وأن يَهْتَمُّوا بتأييد الأوطان المحمدية بالعلوم النافعة والمنافع العمومية لتَرْقَى الديار الإسلامية درجة الكمال العلية؛ إلا أن الأَوْلَى بالمسارعة في ذلك لسهولة سلوك أقوم المسالك الدولة العلية العثمانية والخديوية الجليلة المصرية، فإن حَصَلَ منهما براعة المخلص وحُسْن المقطع، على شاكلة براعة الاستهلال على وَجْه أَبْدَع، بَلَغَتْ شهامة الأوطان الإسلامية بالنسبة إلى قوة الدولة ونخوة الملة المحل الأرفع.
فأما تَشَبُّث الدولة المحروسة العلية بذلك الآن؛ فغَنِيٌّ عن البيان، وغَيْر مُحْتَاج إلى بُرْهَان:
وأما خديوينا الجليل فلا زال يُنْجِز ما وعد به عند الولاية، ويُجَدِّد عند انتهاز الفُرَص ما يستطيعه بكمال العناية، فكأن الفرصة تُنَاجِيه بقولها:
هل مِثْلُه وامق إن قَدَرَ يرمقها بصحيح النظر، وإلى ما تدعو يجيبها، ولكن ملء عَيْن حَبِيبِهَا، فلا يزال لسانه يلهج بمعنى القائل:
ولسان حال النصر الحقيقي يُنْشِد لنَيْل أَكْرَم مرام وأَعْظَم مَقْصِد:
وهاتف السعادة، يَحُثُّهُ على كمال نَيْل المجادة، وكَسْب السعادة، بقوله:
ولسان الاعتراف يبث على سبيل الإجمال ما فَعَلَه لوطنه من المحاسن والجمال بإنشاده:
ولا عجب لمن توفيق العزيز رَفِيقُه، أن يستمد القُطْر المصري جَمِيع ما يُعْجِبه من الكمالات ويروقه، كما قال بعضهم في هذا المعنى:
ولما كانت حسنات ولي النعم تُكَاثِر النجوم عَدَدًا والأنفاس مَدَدًا؛ هَتَفَ لسان الجميع عن خالص الود الشاكر على حُسْن الصنيع بالدعاء له بِبَسْط الأكف إلى المولى السميع، فقالوا: اللهم أَدِم علينا إحسانه العديد، وبَحْر إنعامه المديد، حتى لا يزال يقول طالِبُ رِفْدِه وإحسانه: هل مِنْ مَزِيد؟
وهذا آخر ما يَسَّرَ الله جَمْعَه جَمْعَ سلامة، مما يلوح عليه من القبول أَبْهَى علامة، وهو جدير باسم مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية.
والحمد لله وَلِيِّ النعمة، والصلاة والسلام على من هُدِيَتْ به الأمة، وعلى آلِهِ وأصحابه الذين تَلَأْلَأَتْ أنوارهم، وأضاءت في آفاق المعالي أَقْمَارُهُمْ، وتَفَتَّحَتْ للسعادة بصائرهم وأبصارهم، صلاةً وسلامًا دائِمَيْنِ إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.