الفصل الأول
في تعريف المنافع العمومية بالمعنى العرفي الصناعي ومنه يُفْهَم الانقسام إلى ما ذُكِرَ.
***
اعْلَمْ أن ما عَبَّرْنَا عنه هنا بالمنافع العمومية، يُقَال له في اللغة الفرنساوية: أندوستريا؛ يعني: التقدم في البراعة والمهارة، ويُعْرَف بأنه فَنٌّ به يستولي الإنسان على المادة الأولية التي خَلَقَهَا الله تعالى لِأَجْلِه، مما لا يمكن أن يَنْتَفِعَ بها على صورتها الأولية، فيُجَهِّزُها بهيئات جديدة، يستدعيها الانتفاع، وتدعو إليها الحاجة؛ كتشغيل الصوف والقطن للباس الإنسان وكبيعهما، فبهذا المعنى يقابل الأوندستريا، وتكون عبارة عن تقديم التجارة والصناعة، فيقال: الملك الفلاني يَشُوق الزراعة والأوندستريا؛ أي: التجارة والصناعة؛ يعني: يسعى في تقديم المنافع العمومية، وتُطْلَق بمعنى آخر أَعَمَّ مِن الأول، فتُعْرَف بأنها فَنُّ الأعمال والحركات المساعِدة على تكثير الغنى والثروة وتحصيل السعادة البشرية، فتَعُمُّ التشغيلات الثلاثة: الزراعية، والتجارية، والصناعية وتقديمها، فتكون مَجْمَع فضائل المنافع العمومية، وكثرة التصرف والتوسيع في دائرتها، ثم إن براعة المنافع العمومية بالمعنى العام متولدة مِنْ كَوْن الإنسان له اخْتِيَار وَمَيْل إلى ما فيه نَفْعُه، وإلى قضاء وَطَرِه، وإلى تحصيل حوائجه المعاشية، وأنه محلٌّ لهذه الفضائل.
وَقَدْ سَبَقَ في الفصل الأول من الباب الأول بعض ما يَتَعَلَّق بالفضيلة، ونقول هنا: إن الفضيلة صفة نفسية متمكنة في نفس الإنسان، ينشأ عنها العمل الصالح، ويُدِيمُها ارتياح النفس إليها، فبها تصل النفس إلى أعلى درجات الكمال، وتستعد إلى الحصول على نَيْل المحْمَدة، فبهذا تكون أيضًا مُسْتَعِدَّة لِفِعْل الخَيْر العَامِّ للجميع، فحركة الفضيلة بهذا المعنى ليست حركة اختيار، فليس صاحب الفضيلة مَنْ يَنْهَمِك بجميع حواسِّه على بَذْل كُلِّ هِمَّتِه في المنفعة الأهلية؛ لأن وجود مِثْل هذا الإنسان في الدنيا مستحيل، وإنما الفاضل هو من يكون هَوَاهُ مائلًا بِحَسَب الإمكان إلى المنافع العمومية واستحسانه؛ لذلك فبهذا يكون أَقْرَبَ من درجة الكمال بِقَدْر ما يَلْزَم أن يَتَجَنَّب بالفضيلة عن المثالب وارتكاب الدنايا.
ومن أركان الفضيلة الشجاعة وقوة الجسم والعقل، وهذه الصفات مهمة جدًّا في الفضيلة، فهي الوسائل التي تَلْزَم لِحِفْظ الإنسان وتحسين حَالِه؛ لأن الشجاع يَدْفَع الضيم عن نَفْسه، ويَذُبُّ عن دَمِهِ وعِرْضِه وحُرِّيَتِهِ ومُلْكِه بِقَدْر استطاعته، وبِعَمَلِهِ وشُغله يَكْتَسِبُ عِيشَتَهُ الهنية، ويتمتع باللذات المباحة بالهدوء والطمأنينة، وتكون نفسه دائمًا متمتعة بالسلم والراحة، بعيدة عن الغضب والانتقام، فإذا أُصِيبَ بنكبة ولم يَكُن تَدَارَكَهَا بحزمه وتَبَصُّرِه تَجَلَّدَ عليها غاية التَّجَلُّد والصَّبْر؛ ولهذا عَدَّ أرباب الآداب القوة والشجاعة من أعظم الأركان.
ثم الفضيلة ثلاثة أقسام: شخصية، ومنزلية، وأهلية؛ فالفضائل الشخصية ما ينبغي أن يتصف بها كل إنسان؛ لتكون وسيلة لِحِفْظه ومادةً لِصَوْنِه، ومنها يَنْتِج حِفْظ العائلة، والجمعية المركبة من أفراد الناس والفضائل المنزلية هي سلوك الطريقة النافعة في العمل لجمعية العائلة، المعتبر إقامتها في منزل واحد؛ كالاقتصاد في المصارف، وبر الوالدين، وحُسْنِ العِشْرة مع الأزواج، وحُسْن تربية الأولاد، ومَحَبَّة الإخوة بعضهم لبعض، وأداء حقوق السيد لخادمه، والخادم لسيده، فجميع الفضائل الشخصية والمنزلية متلازمة ومتصادقة على حِفْظ النوع البَشَرِيِّ وتحسين حَالِهِ، وهي مخلوقة مع الإنسان من أَصْل الفطرة، والفضائل الأهلية متكاثرة بتكاثر منافع الجمعية المدنية، وراجعة إلى أَصْل واحد وهو العدل العمومي، والإنصاف المشترك بين أعضاء الجمعية، المُسْتَلْزِم جميع فضائل الجمعية.
ومن هذا يُفْهَم أن الفضائل من حيث هي مقولة بالتواطؤ محدودة لا تَقْبَل تغييرًا ولا تبديلًا، فالاقتصاد فضيلة مُحَقَّقَة، إن حَصَلَ فيها الشطط قَرُبَتْ من البخل، والشجاعة إن تَجَاوَزَتْ حَدَّهَا استحالت إلى المجازَفة، والكرم إن تَجَاوَزَ حَدَّه عاد إسرافًا، والصبر إن زاد عن قانونه أَضْعَفَ الشهامة، والحِلْم إذا اشْتَدَّ صار جُبْنًا، وإنما قد يَعْتَرِي هذه الفضائل بعض تَكَيُّف على حسب مُقْتَضَيَات الأحوال، فإن قَوْل الصدق في بعض الأوقات قد يكون مُضِرًّا، وتكون المُدَارَاة واجبةً، وكذلك ينبغي مع فلان أن لا يَصْنَع إلا العدل، ومع إنسان آخر قد يكون العدل مَحْضَ ضَرَرٍ، وقد يكون الحِلْم في هذا اليوم فضيلة، ويكون في غدٍ مُضِرًّا، فمراعاة الأوقات والأحوال واجبة في الجمعية التأنسية، ولله دَرُّ القائل في هذه المعاني:
فالفضائل عليها مَدار سلوك الجمعية التأنسية ونجاح أعمالها وتنعيم أحوالها، وضِدُّها يَضُرُّ بتقدم الجمعية، فلا أَضَرَّ على الجمعية من فساد الأخلاق، فإنه ينشأ عنه الكبر والدعوى وعدم الاستقامة؛ لأن الغني المتكبر مَثَلًا يَذْهَل في نشوء لَذَّتِه عن أن المال خَيَال زائل، فيَجْسُر ويَجْرَأُ بالتكبر على غيره، ويَظُنُّ أنه بَعِيد عن صروف الدهر فيقع فيها، فالعاقل يُقَيِّد نِعْمَتَه بقيد التواضع والانكسار، ويُدَبِّرُها بقانون الفضيلة لِتَدُومَ، فبهذا يكون مُسْتَقِيمَ الحال، حيث الاستقامة قَوَام الفضائل وعليها مَدَارُها، وهي مُعَدِّل حركة النفْس وخلوص النية التي يَحْسُن بها الأعمال، فهي روابط جميع الفضائل المدنية، وعبارة عن حُسْن السلوك في التعامل وأداء الحقوق للعباد بعضهم على بعض، فلا يَشِينها إلا هَوَى النفس، فالعقل يَقْمَع الهوى ويَصُدُّه والخُلُق الحَسَن يُنَفِّر منه، والإنسان المتهاون بحقوق الجمعية المدنية لا يُعْتَبَر إلا عَدِيمَ الاستقامة، وأنه لا يَعْرِف ما يَجِب له وما يَجِب عليه في حق الجمعية، فليست استقامة الإنسان إلا احترام حقوقه باحترام حقوق غَيْره، والحصول على منافعه بالوفاء بمنافع غيره، فإذا عَرَفَ هذا الحساب سَهُلَ عليه حُسْن المعاملة، فالاستقامة في الإنسان علامة اتساع عَقْله واعتدال مِزَاجه؛ لأن المستقيم في الغالب قد يُفَوِّتُ مَنْفَعَة عاجلة بقصد أن لا يَهْدِم مَنْفَعة آجلة، وأما غير المستقيم فإنه قد تَفُوتُه المنفعة العظمى الآجلة بِحِرْصِه على منفعة هينة عاجلة.
فقد اتفقت الأخلاق والعوائد والشرائع والأحكام على أن مكارم الأخلاق مُنْحَصِرَة في قوله ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»، وأن هذا الحديث قاعدة عظيمة في الدين؛ لأن الرجل الصالح المستقيمَ الحال لا يَقْتَصِر على الكف عن فِعْل الشر، بل يرى أن الحقوق الواجبة عليه فِعْل الخير والمعروف، فمَنْ لَمْ يَصْنَع المعروف في موضعه مع التمكن منه لا يُعَدُّ صالحًا، فالاستقامة تَنْهَى عن الشر، والصلاح يأمر بالخير، والاستقامة تُمْدَح، والمعروف يُعَظِّم، والاستقامة عبارة عن عَدَم التعرض لِفِعْل الشر، والمعروف العمد إلى فِعْل الخير، والمعروف يُسْتَحَق الشكر عليه، وأما الاستقامة فقد لا يَجِب الشكر عليها؛ لكونها فضيلة قاصرة، والمعروف فضيلة متعدية، فهو من الأعمال التي عليها مدار الجمعية المدنية.
وكُلَّمَا تَقَدَّمَتْ براعة المنافع العمومية تَقَدَّمَتْ الجمعية، واقتضى الحال مَيْل النفوس إلى التمتع بثمار المنافع الكاملة ودقائق المصنوعات الفاضلة، فالميل إلى التَّجَمُّل والتزين ومواد الطنطنة والأُبَّهة يَتَوَلَّد منه غِنَى جميع الأقاليم التشغيلية؛ لاتساع دوائر الأخذ والإعطاء وكمال الحُرِّية في ذلك، فبهذا تَتَّسِع دوائر الزراعة والتجارة والصناعة، باتساع الرخصة في الأقاليم بالمعاوَنات والمساعَدات من أرباب الحكومات المختلفة.
ولما كانت الدولة الإنكليزية قد أَحَسَّتْ أن مَنْبَع ثروة أهاليها لا تَنْتِج إلا من التجارة والصناعة، وأن كلا منهما يحتاج إلى الحرية التامة، وإلى الاستجلاب والتوزيع للبضائع المختلفة، واستحصال الأثمان، وتكثير أموال المملكة بتوزيعها بين الأهالي براحة جميعهم ليكونوا مشتركين في السعادة المالية، فَتَحَتْ هذه الدولة بلادًا واسعة في أقطار شاسعة في الهند وبلاد أمريكا وجزائر البحر المحيط الأكبر؛ لتقديم صناعتهم وتجارتهم بالأخذ والإعطاء؛ لِيَعُودَ ذلك كله بالفوائد الجمة على أهالي مملكتهم بالأصالة وعلى غيرها بالتبعية، وكذلك غَيْرهم من ممالك أوروبا كالإسبانيين والبرتغال والفرنساوية والفلمنك وغيرهم، ويُقَالُ لهذه الحركة التقدمية: أندوستريا قولنية؛ يعني: تجارة خارجية.
ومن المعلوم أن فروع التجارة والصناعة كثيرة، مُتَنَوِّعَة بِقَدْر ما في الأقاليم والممالك من طبيعة أرضها وأهلها، فكل إقليم يُوَافِقُه بعض الفروع دون بعض، ويُرَوَّج فيه ما لا يُرَوَّج في غيره، فالمنافع العمومية على اختلافها مبنية على المعاوضات والمبادلات بما تقتضيه أصول حرية البلدان، ومدار حركتها على ثلاثة أشياء ضرورية.
الأول: هو المواد والأجزاء الواقع عليها التشغيل؛ كالقطن والصوف والحديد ونحوه من كل ما يُصْطَنَع، والثاني: الآلات والأدوات التي يُسْتَعَان بها على الصناعة، وهذان الشيئان تحصيلهما أصعب من الثالث؛ الذي هو عبارة عن أُجْرة الأعمال ومكافأة العمال؛ لأنه — وإن كان في العادة يُدْفَع نقدًا ويُعْطَى عدًّا — إلا أن المشغولات إذا كانت رائجة ناضة فأجرة العمل تُعْتَبَر صِنْفًا، فلا مانع أن يُعْطَى الأجير من عَمَلِه وشغله؛ لِما قَدَّمْنَا أن قيمة العمل مجسمة للمصنوعات والمشغولات، لا سيما في هذه الأوقات الأخيرة التي صارت فيها الزراعة والتجارة والصناعة مبنيةً على أصول ومحاسبات دقيقة، فشتان بينها وبين ما كان يُعْمَل في قديم الزمان من إجراء المنافع العمومية، فإنها كانت ساذجة بسيطة لا تَسْتَدْعِي رأس مالٍ كما في أيامنا هذه، فلم يَتَفَكَّر المتقدمون فيما تَفَكَّر فيه المتأخرون من الدقائق اللطيفة، وتنعيم حال التجارة، وتطبيقها على أصول حسابية تكاد أن تكون منطقية، ولا تزال آخذةً في الدقة والرواج إلى غير نهاية بِحُسْن ترتيب الحكومات العادلة، وإعطاء الحرية الفاضلة، وعَمَل الميزانيات اللازمة، وإبعادِ الاحتكار.