الفصل الثاني
في حالةِ المنافع العمومية في الأزمان القديمة وأنها كانت بسيطة سهلة لا تحتاج إلى كبير شيء.
***
الذي يُسْتَبَان من كلام المؤرخين والمخططين للبلاد أن الأرض الخصبة في مادة الزراعة كانت رأس مال الزارع، يَسْتَثْمِرها ويستولي على فائدتها، فإن الحَرَّاثِينَ والعَمَلة في القرى والبلاد كانوا مِلْكًا لمالك الأرض بالتبعية لها، أو أَرِقَّاء بالشراء، وكذلك المواشي والسباخ وآلات الحراثة كانت أيضًا مِلْكًا لِرَب الأرض، فكان العبيد والفلاحون المستعبدون يَحْرِثون الأرض ويُسَوُّونَها ويَبْذُرونها إلى أن يَحْصِدوها ويَنْقلوا مَحصُولها إلى بَيْت سَيِّدِهم، وكانت نظارة الفلاحة ومباشَرة الزراعة منوطة بأكبر عبيد السيد، أو عتقاء ممن يستنجبه منهم، وليس لهذا المباشِر — ولو معتوقًا — مُرَتَّبٌ خاص في نظير عَمَله، بل معيشته في بيت سيده كالعبد وعَلَيْه مَطْعمه ومَلْبسه في نظير الانتفاع بخدمته، فإذا جَسَرَ المعتوق وخَرَجَ من بيت سَيِّدِه المتربي فيه لا يجد من يقوم بشئونه، فكانت الحرية في تلك الأوقات مَشْئُومة على العَتْقَى وأمثالهم، هذا ما يَخُصُّ الزراعة من المنافع العمومية في تلك الأزمان.
وأما الصناعات فكانت أيضًا قاصرة على الأمور اللزومية، وموكولة لتشغيل الأَرِقَّاء، فكانوا يصطنعون ما تَدْعُو الحاجة إليه للمَلْبس والمَطْعم وما أشبه ذلك مما تَسْتَدْعِيه الحاجة فقط، وأما لوازم الزينة والتجمل فكانت تُجْلَب من بعض ممالك أجنبية أَكْثَر تَمَدُّنًا من الممالك المجلوب إليها، فكانوا يشترون المنسوجات الصناعية الساذجة من مصانع ليست كثيرة الآلات المُتَفَنِّنة الأدوات، وكانت تشغيلات الأقدمين قليلة وعملياتهم هَيِّنة، فكانوا يَسْتَخْرجون المعادن ويصطنعون الأسلحة وآلات الحرب المعروفة في تلك الأزمان.
وكانت هذه الأشغال أيضًا وإدارتها من وظائف العبيد والمماليك، وكان التعامل بين الأهالي في تلك الأزمان بالرقيق، فإذا اقتضى الحال للاقتراض لم يكن القَدْر المقترض دراهم ولا دنانير؛ إذ لم تكن النقود رُءُوسَ أموالهم، بل يَقْتَرِض بَعْضُهم من بعض قَدْرًا مُعَيَّنًا من الأعيان والأصناف ويستعيرونها، ويدفعون لصاحبها في نظير قَرْضِه أو عاريته قَدْرًا مُعَيَّنًا، ولم يكن عندهم أَخْذٌ وإعطاء جسيم ولا تجارة مهمة إلا مع الأجانب، فإذا تَوَفَّرَتْ عند إنسان منهم بضاعة أو فَرْع من الفروع اللازمة لجهة من الجهات البرانية وأراد الربح؛ شارك عليها تاجرًا أجنبيًّا، واشترط عليه شروطًا ملائمة لعادة البلاد، وجَعَل الربح بينه وبين شريكه العامل بأن يعطيه جزءًا من الربح قليلًا أو كثيرًا بحَسَب خَطَر السفر ومَشَاقِّه، فكانت التجارة أيضًا عندهم بسيطة كالزراعة والصناعة، فإذا كانت منافعهم العمومية على هذه الكيفية فلا يُتَصَوَّر أن يَعُود على الحكومة منهم كبير إيراد.
وفي الحقيقة كانت حكوماتهم أيضًا بسيطة، لا تحتاج إلى كثرة المصارف لا سيما في أوقات الصلح، فكانت مناصب الحكام القضائية والمَلَكِيَّة والعسكرية ليس لها مُرَتَّب ولا ماهية لا سيما عند الرومانيين، فكانت دولتهم لا تحتاج إلا إلى قليل من الخراج، نَعَمْ في أوقات الحروب والأخطار إذا احتاجت الحكومة إلى أمور ضرورية لتجهيز جيوش لحرب الأعداء؛ استعانوا بأهل الوطن، فكان يُعِينُهُم من الأهالي كل من يَحْتَرِم أوطانه ويَصْدُق في مَعَزَّتِه لبلاده ومَحِلِّ ميلاده، فيُهْدُون إلى الحكومة برسم تشريف الوطن ما يَكْفِي للحاجة، بدون إلحاح من أهل الحكومة ولا لجاجة.
ومن المعلوم من التاريخ أن الدولة الرومانية كانت في تلك الأزمان مُقَارِنة ومعاصِرَة للدولة القرطاجنية؛ أي: التونسية، التي كانت إذ ذاك لها السلطنة العظمى في الأقطار المغربية، فكان كل من الدولتين منافسًا للآخر، وكانت العداوة الفاشيَة بينهما شديدة، ولا تكاد الحروب تَنْقَطِع بينهما للمجاورة والمنافرة والمنافسة، كما هو جارٍ الآن بين بعض الدول المتأخرة، وتسمى الحروب التي كانت بينهم بالحروب البونيقية؛ أي: المغربية، المشهور منها ثلاثة: فالحرب البونيقي الأول كان قبل الميلاد بأربع وستين سنة ومائتين، ومكث اثنتين وعشرين سنة، أخذ فيه الرومان من القرطاجنيين جزيرتي صقلية وسردينية، وصارت قرطاجنة تَدْفَع لرومية خراجًا مُقَرَّرًا، وقد تَعَلَّم الرومانيون من القرطاجنيين في هذه الحرب صناعة السفن البحرية الحربية ذات المجاذيف.
وفي هذه الأوقات صَدَرَ أَمْر من مجلس رومية بأن يُرَتَّب للعساكر المشاة جامكية، وكانوا قبل ذلك غير مجمكين، فبادر أعيان الأهالي ووجوه الناس بإهدائهم لخزينة الجمهورية مقدارًا جسيمًا من متاعهم؛ للإعانة على مرتبات العساكر الوقتية، فجمعوا ما عندهم من النحاس غير المشغول ووسقوا العربات من ذلك وبعثوا به إلى الخزينة بوصف الإعانة الوطنية، فكان يومُ إرساله من أفخر الأيام الموسمية، واحتفل أناس كثيرون للتفرج على مَوْكِب هذه الهدية الوطنية العجيبة، فمن هذا يُفْهَم أن احتياجات تلك الأيام كانت سَهْلة بسيطة كما أَسْلَفْناه، ولم تَكُن كاللوازم في أيامنا هذه، وكذلك في الحرب الثاني البونيقي الذي ابتدأه الرومانيون مع القرطاجنيين سنة ٢١٩ قبل الميلاد ومكث ثمان عشرة سنة.
وكان سِرُّ عسكر قرطاجنة أنيبال، وكان شجاعًا باسلًا هَجَمَ على رومة أشد هجوم، وهَزَمَ جيوش الرومانيين في الوقائع العظيمة، وكاد يأخذ رومية، ولكن دخل وقْتُ الشتاء، فانزوى أنيبال في مدينة يُقَالُ لها: قبوة؛ ليقضي فيها فَصْل الشتاء مع جُنْدِه فَتَعَوَّد جُنْدُه على اللذات والشهوات وفَتَرَتْ هِمَّتُهُم بالانهماك على ذلك، وكان في أثناء هذه المدة قد اغْتَنَمَ الرومانيون الفرصة بتجميع عساكرهم المشتَّتة، فهجموا على جند القرطاجنيين ومع ذلك انْهَزَمَ جُنْدُهُمْ وَفَرَّ أميرهم.
ففي أثناء هذه الحرب والاحتياج للإمدادات العسكرية والذخائر تضايق الرومانيون، واضطرت الحكومة أن تَجْمَع عساكر جديدة، وأن تُجَهِّز سُفُنًا حربية؛ لتقاوِم قوة القرطاجنيين، وتتمكن من مُنَازَلَتِهِمْ، فاحتاجت رومة إلى الإعانات الضرورية، وتَحَيَّرَتْ في طريقة تحصيلها، وكانت حكومتهم إذ ذاك منوطة برؤساء، يقال لهم القناصل، منقادين لمجلس الحكومة الذي بيده الحل والعقد والأمر والنهي، فالتمس هؤلاء الرؤساء من مجلس رومية أن يَفْعَلَ كما جَرَتْ به العادة بأن يَحْمِل الأهالي على أن يدفعوا بحسب اقتدارهم ما يكفي في دَفْع مرتبات شَهْر للسفن البحرية من ماهيات وتعيينات، ومع أن هذا طَلَبٌ هَيِّن ومقدار يسير في حَدِّ ذَاتِهِ لَمَّا عَلِمَ به الأهالي اغْبَرَّتْ خواطرهم وتَكَدَّرُوا وتوقفوا فيه، وقالوا: نَحْنُ نعين الوطن باللائق والمناسب، ونَبْذُل ما عندنا من الأموال والرجال، ولكن قد أَخَذَت الدولة عبيدنا وفَلَّاحينا الذين يباشرون الزراعات، ومن وَقْتِ دخولهم في العساكر البرية والبحرية تَعَطَّلَت الزراعة والفلاحة، ولم يَبْقَ لنا إلا أنفسنا وأراضينا، فنحن قد تَعَطَّلْنَا بالكلية وتَضَعْضَعَ حالُنا وضاعت أموالنا، ولو كان عندنا شيء ما بَخِلْنَا به على أوطاننا، فلما اسْتَشْعَرَ رؤساء الدولة وأمراؤها بأعذار أهل الفلاحة الْتَمَسَ أَحَد الرؤساء من مجلس رومية أن جميع أعضاء هذا المجلس يتَطَوَّعون لخزينة الحكومة بجميع ما عندهم من الذهب والفضة والنحاس، ولا يُبْقُوا منه شيئًا إلا ما في أصابعهم من خواتم الذهب وما في أصابع نسائهم وأولادهم من ذلك، وأنه لا مانع من أن لا يَدَعُوا عندهم إلا النقود اليسيرة للمصارف الضرورية؛ ليقتدي بهم جميع الأهالي، ولتكون هذه المكارم الوطنية معدودة في مَآثِرِهِمْ ومأثورةً في مَنَاقِبِهِمْ، فأجاب جميع الأعضاء إلى هذا الالتماس الممدوح عن طِيبِ نَفْس وانشراح خاطر، ولم يَتَأَخَّرْ منهم أحد عن ذلك، وتَفَرَّقَ المجلس بالتواطؤ على التنجيز.
فكل عضو من أعضاء المجلس شَرَعَ في المسارعة والمسابقة؛ ليَفْتَخِر بِتَقَيُّدِ اسمه وعَطِيَّتِه بالدفاتر قَبْلَ غَيْرِه، فتزاحموا على كُتَّاب الخزينة أن يَكْتُبوا ما تَعَهَّدَ كل منهم بِدَفْعه على سبيل الإعانة، واقتدى بأرباب المجلس من عَدَاهم من أهالي المملكة الرومية، فبهذه الإعانات تَمَكَّن الرومانيون من قَهْر أعدائهم وحماية مُدُنِهم من جهة قرطاجنة، فبواسطة إعانات الرومانيين ومكارم أخلاق أهاليهم ومفاداتهم أوطانَهُم بِبَذْل الأموال والأرواح؛ شَنُّوا الإغارة عليها بالجأش القوي والجيش الجرار في الحرب الثالث، الذي صار الشروع فيه من سنة مائة وتسع وأربعين قبل الميلاد، فحاصر الرومانيون قرطاجنة وهَجَمُوا عليها برًّا وبحرًا مدة ثلاث سنين، فأخذوها عنوة وسَلَبُوا أموالها وقَتَلُوا من فيها من السكان وحرقوا المدينة، فمن ذلك الوقت زالت دولة القرطاجنيين بزوال قرطاجنة التي كانت دائمًا قرينة رومية ومعاصرة لها في الفخر.
ولم يكن في ذلك العهد ممالك قوية تُعَادِل قوتي هاتين المملكتين حتى تُعْتَبَر الموازنة، فما أَحْسَنَ إدارةَ الممالك في هذه الأعصر الجديدة وما بين ملوكها من المعاهدات والمشارطات واعتبار الميزان السياسي واعتماده؛ لمحافظة الحقوق المِلْكِيَّة وحقوق الدول والملل بعضها على بعض، فإن هذا حِصْن حصين لحفظ ذات الممالك بقطع النظر عن حفظ تيجان الملوك، فالمملكة الضعيفة في هذا العهد مأمونة الدوام ما لم يُلِمَّ بها أحوال بوليتيقية أهلية؛ بها تَخْرُج عن حدود المشارطات، فمَحْض القوة في إحدى ممالك هذا العصر لا يسوغ لها تَغَلُّبًا على غيرها بدون وَجْه لِمَنْع الآخرين ذلك بعقد المشارطات القوية، وهذا أيضًا مما يُعَدُّ من التقدمات العصرية في النظامات المَلَكِيَّة، ولو تَمَدَّنَت الممالك الإسلامية المنافرة سياستها لسياسة الدول المتمدنة، كممالك التتار ودَخَلَتْ في النظام العمومي؛ لصانت أوطانها من إغارة مَنْ جَاوَرَهَا بالتعلل بخشونتها، والاستيلاء عليها لِقَصْد تمدينها وتحسين حالها، ففي الأزمان السابقة كانت الشهرة في الدنيا لمدينة رومية ومدينة قرطاجنة؛ لقوة الدولتين، ولم يُسَاو هاتين المدينتين مدينة أخرى.
ويقال: لو لم تكن رومية موجودة لكانت قرطاجنة أول مدن الدنيا، ولولا وجود الإسكندرية بموقعها العجيب لكانت قرطاجنة ثاني مدينة من مدن الدنيا، فإنها كانت حَسَنَة الوضع جيدة الموقع لوجودها بين بوغاز جبل طارق بالأندلس وبوغاز القسطنطينية، وبهذا كانت إذ ذاك مَرْكَز التجارة، وكان أهلها سبعمائة ألف نفس أرباب زراعة وصناعة وفنون كثيرة، وكان يَغْلُب عليهم التقدم في الزراعة والملاحة؛ لأن هذه الأمة القرطاجنية كانت محتاجة إلى الأسفار ونقل البضائع من بلادها، وجَلْب ما ليس عِنْدَها من الخارج إلى الداخل، وكانت مُولَعَة بالفتوحات وتوسيع دائرة مُلْكِها، فقد اسْتَوْلَت على سائر مُدُن أفريقيا، وسَخَّرَتْ من أوروبا جزيرة سردينية وجزيرتَيْ مايورقة ومينورقة وغيرهما من بلاد الأندلس ومن فرنسا، وكان لها المحالفات والمعاهدات مع ملوك البلاد التي بينها وبينهم معاملات، فَخَرَّبَها الرومانيون لَمَّا أعيتهم وأتعبتهم، فكان تدميرها وخرابها مِمَّا يُعَابُ به عليهم.
ثم بنى الرومانيون مدينة في آثارها بعد مدة من تدميرها، وسَمَّوْها قرطاجنة بِاسْم الأُولَى، ولم تَشْتَهِر المدينة الثانية إلا في زمن القيصر أغسطوس حتى صارت ثاني مدينة في العظم بعد رومية، وَبَقِيَتْ إلى صدر الإسلام، ثم هُدِمَتْ حتى لم يَبْقَ لها الآن أَثَرٌ، وإنما بُنِيَتْ بالقرب من محلها مدينة تونس، فانظر إلى حال الأمم القديمة، فإن دولة الرومانيين مع تقدمها في الفتوحات العظيمة لم يكن عندها تَقَدُّم في المنافع العمومية، وإنما إدارتها بسيطة، وكان عندها نَوْع من الرفق بالملة الرومانية وأهل الوطن الحقيقي؛ يعني: مَنْ له مزية عنوان الروماني، وكانت أقرب إلى الصدق في تأدية الحقوق لرعاياها لا سيما عَقِبَ الحروب.
فقد ذَكَرَ المؤرخون أنه كان لرومية حَرْب مع مملكة مَقْدُونيا في بلاد روم إيلي، فبعثت بولص أميلوس أَحَدَ قُوَّادِهَا إلى مقدونيا لقتال برشاوس ملك هذه البلاد، فهزمه القائد الروماني واغْتَنَمَ أمواله وعاد إلى رومية بالغنائم العظيمة، فلما تبين لحكومة رومية أن هذه الغنائم تقوم بمصارف الدولة وتكفي في مصالحها؛ رَفَعَتْ جميع المطالب المقررة على الأهالي إلى وقت الحاجة.
وبالجملة: فقد كان القدماء من الممالك والدول لا يعرفون اقتراض الحكومة من الأهالي أو غيرهم بالفوائض والأرباح كالجاري الآن اعتمادًا على ما يَتَحَصَّل من الأموال والعوائد، بل هذه الطريقة الاختراعية من مُسْتَحْدَثَات الدول المتأخرة الأروباوية، وإنما كانت طُرُق المتقدمين أنهم إذا اقْتَضَت الضرورة للمال فإن رؤساء الحكومة كعمال الأقاليم يعقدون مع أغنياء الأهالي عَقْد القرض والسلفة، في حالة ما إذا خَلَتْ خزينة الدولة عن الدراهم بالكلية، ولم يكن عقْد القرض باسم الحكومة بل هو اتفاق شخصي بين الحكام والمُقْرِضين؛ لاعتماد الحكام وأمانتهم، وكانوا يُعَيِّنُون للدفع ميعادًا، ويُحَدِّدُون له أجلًا مُسَمًّى، فكانت أمانة الحكام المقترضين ومكارم أخلاق الأغنياء المقرضين هي المسهلة لقضاء حوائج الدولة، بحيث لم تَكُن في أوقات الأخطار عُرْضة لأن تَقَع في الحيرة والمضايقة.
فقد احتاجت دولة الرومانيين بعد مُضِيِّ سنوات من الإعانة التطوعية إلى الدراهم؛ لتتميم فتوحهم لقرطاجنة، وكانوا في خطب شديد يَخْشَوْن من عساكر أنيبال أمير القرطاجنيين، فإنه طالما أَزْعَجَهُم وهَدَّدَهُم حتى كاد يَفْتَح مُدُنَهم ويسترعيهم، ففي تلك الأوقات الخطرة اضْطُرَّ جميع حكامهم أن يَقْتَرِضُوا من بعض أغنياء الأهالي مقادير جسيمة من الأموال، فعاقدوهم على أن يدفعوها لهم على ثلاثة أقساط متساوية في ست سنين، فجعلوا لكل سنتين قسطًا، والتزم الحكام بالأقساط فَوَفَّوْا منها قِسْطَيْن في أثناء الحرب، وتصادف أن القسط الثالث حَلَّ أجَلُه ولم يكن في الخزينة الرومانية ولا عِنْد الحكام ما يَفِي به، فحضر المقرضون وطلبوه من الحكام فعجزوا عن دَفْعِه، فحضروا معهم مجلس رومية وطلبوا دَيْنَهم، فاعترف المجلس بجميع الديون مع عَجْز الخزينة عن دَفْعِها إذ ذاك، فحصل التراضي بين المجلس والدائنين على أن يأخذ أرباب الديون من أملاك الحكومة وأراضيها التي يمكن بَيْعُها بِقَدْر ما يفي بديونهم، ينتفعون بِغَلَّتِها ومحصولها، وقَوَّمُوها لهم بقيمة المِثْل، واشترطت لهم الحكومة أنه عند يسار الخزينة كُلُّ مَنْ أراد أن يتنازل عن الأرض التي أُعْطِيَتْ له يُرَخَّص له أن يَطْلُبَ دَيْنَه نقدًا بِقَدْر الثمن الذي أَخَذَهُ كبيع الوفاء، فاستلم أرباب الديون الأراضي وفَرِحُوا بها وبادروا باستغلالها، وهذه معدلة من الحكومة ومَكْرَمَة من أرباب الديوان من الأهالي الرومانية، ومع عدِّها في المآثر الجميلة لا تُسَاوِي مكارم الأخلاق العربية التي كان يَفْعَلُها من أصحاب رسول الله ﷺ كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف.
ولنَذْكُر هنا غزوة تبوك التي يقال لها غزوة العسرة؛ ليَظْهَر بها كيفية الإعانات الإسلامية، وسبب غزوة تبوك التي هي أرض بين الشام والمدينة المنورة، أن مُتَنَصِّرة العرب كَتَبَتْ إلى هرقل مَلِك الروم بأن النبي ﷺ هَلَكَ وأصابت أصحابه سنون أَهْلَكَتْ أموالهم، فبعث رجلًا من عظمائهم وجَهَّزَ معه أربعين ألفًا ليحارب أصحاب رسول الله ﷺ، فبلغه ﷺ أن الروم قد جَمَعَتْ جموعًا كثيرة بالشام وأنهم قَدِمُوا مقدماتهم إلى البلقاء، وكان ﷺ قَلَّمَا يَخْرُج في غزوة إلا كَنَّى عنها ووَرَّى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك؛ لبُعْد المشقة، وشدة الزمان بالحر، وكثرة العدو، وليأخذ الناس أُهْبَتَهُم، فأمر الناس بالجهاز وبَعَثَ إلى مكة وقبائل العرب ليستنفرهم، وحَضَّ أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، وأَكَّدَ عليهم في طلب ذلك.
وكانت آخر غزواته ﷺ، فأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه نفقة عظيمة لم يُنْفِقْ أَحَدٌ مثلها؛ حيث جهز عشرة آلاف مجاهد أنفق عليها عشرة آلاف دينار، غير الإبل وهي تسعمائة بعير، وغير الخيل وهي مائة فرس، وجهز الزاد وما يَتعَلَّق به، حتى ما تربط به الأسقية، وجاء أيضًا رضي الله عنه بألف دينار فصَبَّهَا في حجر النبي ﷺ فجعل رسول الله ﷺ يقلبها بيديه الشريفتين، ويقول: «ما ضَرَّ عثمانَ ما عمل بعد اليوم»، ويقول: «غفر لك يا عثمان ما أَسْرَرْتَ وما أَعْلَنْتَ»، وكان أَوَّلَ مَنْ جاء بالنفقة قبل عثمان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، جاء بجميع ماله وهو أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله ﷺ: «هل أَبْقَيْتَ لأهلك شيئًا؟ قال: أَبْقَيْتُ لهم الله ورسوله» وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله ﷺ: «هل أَبْقَيْتَ لأهلك شيئًا؟ فقال: النصف الثاني» وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بمائة أوقية من الفضة؛ ولهذا قيل: إن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما كانا خزانتين من خزائن الله في الأرض، يُنْفَقَان في طاعة الله تعالى.
فَقَدْ كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تاجرًا كثير الأموال بعد أن كان فقيرًا، باع مَرَّة أرضًا له بأربعين ألف دينار وتَصَدَّق بها كلها، وتَصَدَّق مرة أخرى بتسعمائة جمل بأحمالها قَدِمَتْ من الشام، وأعان في سبيل الله بخمسمائة فرس عربية، وأوصى لكل رجل بَقِيَ من أهل بدر بأربعمائة دينار وكانوا يومئذ مائة رجل، وقُسِمَتْ تَرِكَتُهُ بعد موته على سِتَّةَ عشر سَهْمًا وكان كل سهم ثمانمائة ألف دينار، وعَيَّنَه عُمَرُ رضي الله عنه في جملة سِتَّة يصلحون للخلافة من بعده، فقام هو بأمر البيعة لعثمان وروى الأمر عن نفسه.
ومن هنا يُعْلَم أن تجارة العرب في الزمن القديم كانت رابحة عظيمة، ثم جاء العباس رضي الله عنه بمال كثير، وكذا طلحة رضي الله عنه، وبعثت النساء رضي الله عنهن بِكُلِّ ما يَقْدِرْنَ عليه من حُلِيِّهِنَّ، وتصدق عاصم بن عدي رضي الله عنه بسبعين وسقًا من تمر.
ولما ارتحل ﷺ عن ثنية الوداع التي بها المعسكر وهم ثلاثون ألفًا، متوجهًا إلى تبوك؛ عقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ورايته ﷺ العظمى للزبير رضي الله عنه، وساروا حتى نزلوا إلى تبوك فوجدوا عينها قليلة الماء، فاغترف رسول الله ﷺ غرفة من مائها فمضمض بها فاه، ثم بصقه ففارت عينها حتى امتلأت، وأقام ﷺ أيامًا، وأتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله ﷺ وأعطى الجزية، وأتاه أهل جربا وأذرح بالذال المعجمة والراء والحاء المهملة بلدتان بالشام، فأعطوا الجزية أيضًا، ولم يقع في هذه الغزوة قتال، ولكن فَتَحُوا في هذا السفر دومة الجندل، حيث بَعَثَ ﷺ خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسًا إلى مَلِكِهَا أُكَيْدِر وكان نصرانيًّا، فخرج خالد من تبوك وانصرف ﷺ منها إلى المدينة، فصالحه أُكَيْدِر على أَلْفَيْ بعير وثمانمائة فرس وأربعمائة دِرْع، فرَضِي خالد بالصلح ففُتِحَ له باب الحصن الذي كان على هذه القرية، وانطلق بأكيدر وأخيه إلى رسول الله ﷺ وكان ﷺ بالمدينة، فَلَمَّا قَدِمَ بهما صالحه ﷺ على إعطاء الجزية وخَلَّى سبيله وسبيل أخيه، فمن هذا يُفْهَمُ أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جَهَّزَ ثُلُثَ الجيش في هذه الغزوة.
وبالجملة: فمآثر الصحابة رضي الله عنهم في مكارم الأخلاق لا تُحْصَى ولا تُحْصَرُ، فالنسبة إليهم رضي الله عنهم لا يقال: إن سبب ذلك البساطة في الأخلاق وعدم كثرة المعاملات والأخذ والعطاء، فإنا نقول: إن أهل آسيا في تلك الأزمان كانت التجارة عندهم رابحة أيًّا ما كان نَوْعُها، فكان للعرب كُلَّ سَنَةٍ رحلتان رحلة الشتاء والصيف، ومن المعلوم أن الأسفار من وسائل التقدم ودليل عليه.