من رسالته في مدح النبيذ
قال أبو عثمان:
أنا — أبقاك الله — الطالب المشغول والقائل المعذور، فإن رأيتَ خطأً فلا تُنكر، فإني بصدده وبعرضٍ منه، بل في الحال التي تُوجِبه والسبب الذي يؤدِّي إليه، وإن سَمِعت تسديدًا فهو الغريب الذي لا تجده اللهم إلا أن يكون من بركة مُكاتَبتك ويُمن مُطالَبتك، ولأن ذكرك يَشحَذ الذهن ويُصوِّرك في الوهم ويجلو العقل، وتأميلك ينفي الشغل. ولا يُعجِبني ما رأيتُ من قلة إطنابك في هذا النبيذ وقِلَّة تَلهِّيك بهذا الشراب. وأنتَ تجد من فَضْل القول وحُسن الوصف ما لا يُصاب عند خطيب ولا يُوجَد عند بليغ. وأنت ولو مَشَيتَ الخُيَلاء وحَفَرتَ العُظَماء وأَرغَبتَ الشُّعراء وأَعطَيتَ الخُطَباء ليكون القول منهم موصولًا غَيرَ مقطوع، ومبسوطًا غيرَ مَقصور، لكنت — بعدُ — مقصِّرًا في أمره مفرِّطًا في واجب حَقِّه، فلا تأديبَ الله قَبِلتَ ولا قَولَ الناصح سَمِعتَ. سمعت قول الله تبارك وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، وقال الأول: «استَدِم النعمة بإظهارها واستَزِد المواهب بإدامة شكرها.» بل كيف أَنِستَ بالجُلساء وأَرسَلتَ إلى الأطباء ولم يكن في قُربك ما يُغنيك وفي النظر إليه ما يَشْفيك، ولِم مَلكتَ نفسك دون أن تَهذِي، ولِم رأيتَ الوقار مُروءةً قبل أن تَستخِف، ولِم كان الهذيان به هو الجِد، والسخف هو المروءة، والتناقض هو الصحة؟ وإلَّا بأيِّ شيءٍ خُصصتَ وبأيِّ معنًى أتيت، ولِم لم تخلع فيه العذار ولِم لم تخرج فيه عن كل مقدار، وأي شيء أَجرَبَ جِلدك وأمات حالَك وأَضعَف مَسرَّتَك وأَوحشَ منك رفيقك إلا العُقوبة المَحضة وإلا الغَضب والعِقاب، وحَرَمَك الثواب إلا التهاون في أمره وقِلَّة الرعاية لحقه؟ وكيف صارت أمراضي أمراضَ الأغنياء وأمراضُك أمراضَ الفقراء إلا لمعرفتي بفضله واستِخفافِك بقدره؟ ألا ترى أني مُنقرسٌ مَفلوجٌ وأنت أجربُ مبثورٌ، فإن تُبتَ فما أقرب الفرج وأسرع الإجابة. وسنَفرُغُ لك إن شاء الله قريبًا وتفلح سريعًا، وإن أَصرَرتَ وتَتايَعتَ وتَمادَيتَ أتاك — والله — من سِفلة الأدواء وزُوي عنك من عِلية الأمراض ما يضعك موضعًا لا ارتفاع معه، ويُلزق بعَقِبِك عارًا لا زوال له، ثم تتبع أشياخك السُّبة وتتبعهم المَذمَّة. علم الله أنه استطرفك واستملحك واستحسن قَدَّك واسترجح عقلك وأحسن بك ظنًّا ورآك لنفسه أهلًا ولاتخاذه موضعًا وللأنس به مكانًا، وأنت لاهٍ عنه زارٍ عليه متهاونٌ به، قد أقبلتَ على ديوانك تشتغل بمُلازمتِه وتدع ما يجب عليك من صفاته والدعاء إلى تعظيمه، بل هل كُنتَ من شيعته والذابِّين عن دولته والمعروفِين بالانقطاع إليه والانبتات في حَبْله إلا أن يكون عندك التقصير لحقه والتهاوُن بأمره اللازم ونهي الناس عنه، ولو خَرَجتَ إلى هذا لخَرَجتَ من جميع الأخلاق المحمودة والأفعال المَرضيَّة. وأحسب أنك لا تُعظمه ولا تَرِقُّ له، ولو لم تتعصب إلا لجماله وحسنه ولو لم تحافظ على نقائه وعتقه لكان ذلك واجبًا وأمرًا معروفًا، فكيف مع المناسبة التي بينكما والشكل الذي يجمعكما، إن كان بعضك لا يصون بعضًا وأنت لا تُعظم شقيقًا، فأنت — والله — من حفظ العشيرة أبعد ولمعرفة الصديق أنكر. ولقد نُعِيتَ إلى لُبِّك وأَثكَلتْني حفاظك وأَفسَدتَ عندي كل صحيح، وقد كان يُقال: «لا يزال الناس بخير ما تَعجَّبوا من العجب.» قال الشاعر:
وقال بكر بن عبد الله المزني: «كُنَّا نتعجَّب من دهر لا يتعجَّب أهله من العجب، فقد صِرنا في دهرٍ لا يَستحسن أهله الحَسن، ومن لم يَستحسِن الحَسن لم يَستقبِح القبيح.» وقال بعضهم: «العَجَب ترك التعجُّب من العجب.» ولم أقل ذلك إلا لأن تكون به ضنينًا وبما يجب له عارفًا، ولكنك لم تُوفر حقه ولم تعرف نصيبه، فإن قُلتَ: ومن يقضي واجب حقه وينتهض بجميع شكره؟ قلنا: فهل أَعذرتَ في الاجتهاد حتى لا يُذَم إلا تعجُّبك؟ وهل استَغرقتَ الاعتذار حتى لا تُعاب إلا بما زاد على قوتك! ولولا أنك عينُ الجُود لم نطلبه منك، ولولا ظنك لم نحمَدْك عليه، ولولا معرفتُك بفضله لم نَعجَب من تقصيرك في حقه، ولولا أن الخطأ فيك أَقبَح والقبيح منك أَسمَج وهو فيك أَبيَن والناس فيه أَكلَف والعيون إليه أَسرَع لكان كِتابنا كِتابَ مُطالَبة، ولم يكن كتابَ مُعاتَبة، ولَشغلَنا الحِلم لك عن الحِلم عليك، والقول لك عن القول فيك. وقد كُنتُ أَهابُك بفضل هيبتي لك، وأجترئ عليك بفضل بسطك لي، فمنعني حرص الممنوع وخوف المُشفِق وأمن الواثق وقناعة الراضي.
وبعدُ، فمن طلب ما لا يُجاد به وسأل ما لا يُوهَب مثله ممن يجود بكلِّ ثمينٍ ويَهَب كلَّ خطير، فواجبٌ أن يكون من الردِّ مشفقًا وبالنُّجْح مُوقنًا. وإن كان — أبقاه الله — أهلًا لأن يَمنَع، وكنت — حفظك الله — أهلًا لأن تَبذُل، وجب أن يكون باذلًا مانعًا وساكنًا مطمئنًّا، إلا أن يكون الحرب سجالًا والحالات دُوَلًا. ولهذه الخصال ما وقع الطلب وشاع الطمع. فإن مَنعتَ فعُذرُك مبسوطٌ عند من عرف قَدْرك، وإن بَذلتَ فلم تَعْدُ الذي أنت أهلُه عند من عرف قَدْرك، إلا أنه لا يجود بمثله إلا غَنيٌّ عن جميع الناس أو عاقلٌ فوقَ جميعِ الناس. وكيف لا أطلب طلب الجريء المُتهوِّر وأُمسِك إمساك الهائب المُوقِّر وليس في الأرض خَلقٌ يُغتفَر في وصفه المُحال غيره، ولا يُستحسن الهذيان سواه! على أن من الهذيان ما يكون مفهومًا، ومن المحال ما يكون مسموعًا، فمن جَهل ذلك ولم يَعرفه وقصَّر ولم يَبلُغه فليسمع كلام اللهفان والثكلان والغضبان والغَيران ومُرقِّصة الصبيان والمُنعظ إذا دنا منه الحلقى حتى إذا استوهبك لم تهب له منه حتى تقف له وقفةً وتطرقه ساعةً، ثم تستحسن وتستشير، ثم تُشفق على مستوهبه وتَعجب من شاربه، ثم تُطيل الكتاب بالامتنان وتُسطر فيه بتعظيم الإنعام، مع ذكر مناقبه ونشر محاسنه بقدر الطاقة، وإن لم تبلغ الغاية، فاعرف وَزنَه وأشِد بطِيبه وأَرِّخ ساعته وأَشهِد في الناس يومه. وما ظنُّك بشيءٍ لا تَقدِر أن تَسرُد في ذكره وتُفرِط في مَدحِه وتقصيرك واضح في كونه مكتوبًا في طعمه موجودًا في رائحته؛ إذ كان كل ممدوح يَقصُر عن مدحه وقَدْره ويَصغُر في جنبه، ولو لم يُستدَل على سَعادة جَدِّك وإقبالِ أَمرِك وأن لك زِيَّ صدقٍ في المعلوم وحظًّا في الرزق المقسوم، وأنك ممن تبقى نعمه ويدوم شكره ويفهم النعمة ويُربِّيها ويدرأ عنها ويستديمها، إلا أنه إن وقع في قَسْمك وكان في نصيبك لكان ذلك أعظم البُرهان وأوضح الدلالة، بل لا نقول إنه وقع اتِّفاقًا وغرسًا نادرًا حتى يكون التوفيق هو الذي قُصد به والصنع هو الذي دل عليه، ولو لم تملِك غيره لكنت غنيًّا، ولو مَلكتَ كل شيء سواه لكُنتَ فقيرًا. وكيف لا يكون كذلك وهو مُستراحُ قلبك، ومجالُ عقلك، ومَرتَع عينك، وموضعُ أُنسك، ومُستنبطُ لذَّتك، وينبوعُ سرورك، ومِصباحُك في الظلام، وشِعارُك من جميع الأقسام. وكيف وقد جمع أُبَّهة الجلال، ورشاقة الخِلال، ووَقار البَهاء، وشَرفَ الخير، وعِز المُجاهَدة، ولذَّة الاختلاس، وحلاوة الدبيب …؟!
وسأَصِف لك شَرَفَ النبيذ في نفسه وفضيلَتَه على غيره، ثم أَصِف فَضل شَرابِك على سائرِ الأشربة، كما أَصِف فَضل النبيذ على سائرِ الأنبذة؛ لأن النبيذ إذا تَمشَّى في عِظامِك والتَبَس بأجزائك ودَبَّ في جَنانِك منحك صِدقَ الحِس وفراغ النفس وجعلك رَخِيَّ البال خَليَّ الذرع قليلَ الشواغل قريرَ العينِ واسعَ الصدرِ فسيحَ الهمِّ حَسَنَ الظن، ثم سَدَّ عليك أبواب التُّهَم وحَسَّن دونك الظَّن وخواطرَ الفهم، وكفاك مُؤنة الحراسة وأَلَم الشَّفَقة وخَوفَ الحِدثانِ وذُل الطمَع وكَدَّ الطَّلب وكل ما اعترض على السرور وأَفسَد اللذة وقاسَم الشهوة وأَخَل بالنعمة. وهو الذي يَرُدُّ الشيوخ في طبائع الشُّبان ويَرُدُّ الشُّبان في نشاط الصِّبيان، وليس يَخاف شاربُه إلا مُجاوَزة السرور إلى الأَشَر ومُجاوَزة الأَشَر إلى البطر، ولو لم يكن من أياديه ومِنَّته ومن جميل آلائه ونِعَمه إلا أنك ما دُمتَ تَمزُجُه بِرُوحك وتُزاوِج بينه وبين دَمِك فقد أعفاك من الجِد ونَصَبه، وحَسَّن إليك المُزاح والفُكاهة، وبغَّض إليك الاستقصاء والمُحاوَلة، وأزال عنك تَعقُّد الحشمة وكَدَّ المُروءة، وصار يومه جمالًا لأيام الفكرة وتسهيلًا لمُعاوَدة الرويَّة، لكان في ذلك ما يوجب الشكر ويُطيب الذِّكر. مع أن جميع ما وصفناه وأخبرنا به عنه يقوم بأيسر الجرم وأقل الثمن. ثم يُعطيك في السفر ما يُعطيك في الحضر، وسواءٌ عليك البساتين والجنان، ويَصلُح بالليل كما يَصلُح بالنهار، ويطيب في الصحو كما يطيب في الدجن، ويلذُّ في الصيف كما يلذُّ في الشتاء، ويجري مع كل حال، وكل شيءٍ سواه فإنما يَصلُح في بعض الأحوال. ويدفع مضرَّة الخمار كما يجلب منفعة السرور. إن كُنتَ جذلًا كان بارًّا بك، وإن كُنتَ ذا همٍّ نفاه عنك. وما الغيثُ في الحرث بأَنفعَ منه في البدن، وما الريش السجام بأدفأ منه للمقرور. ويُستمرأ به الغذاء، ويُدفع به ثقل الماء، ويُعالج به الأدواء، ويُحمر به الوجنتان، ويُعدل به قضاء الدين. إن انفَردتَ به ألهاك، وإن نادَمتَ به ساواك. ثم هو أَصنعُ للسرور من زلزل، وأَشدُّ إطرابًا من مخارِق، وقَدْر احتياجهما إليه كقَدْر استغنائه عنهما؛ لأنه أصل اللذات وهما فرعه، وهو أَوَّل السرور ونتاجه، ولله دَرُّ أول من عَمِله وصنعه، وسَقيًا لمن استنبطه وأظهره، ماذا دبر وعلى أي شيءٍ دل وبأيِّ معنًى أنعم وأيَّ دفينٍ أثار وأيَّ كَنزٍ استخرج؟! ومن استغناء النبيذ بنفسه وقِلة احتياجه إلى غيره أن جميع ما ساواه من الشراب يُصلِحه الثلج ولا يطيب إلا به، وأول ما نثني عليه به ونذكر منه أنه كريم الجوهر، شريف النفس، رفيع القَدْر، بعيد الهم. وكذلك طبيعَتُه المعروفة، وسَجيَّتُه الموصوفة، وأنه يَسُر النفوس، ويُحبِّب إليها الجود، ويُزيِّن لها الإحسان، ويُرغِّبها في التوسع ويُورثها الغنى وينفي عنها الفقر، ويملؤها عزًّا، ويَعِدُها خيرًا، ويُحسن المُسارَّة، ويصير به البيت خِصبًا، والجناب مَريعًا ومأهولًا مغشيًّا، وليس شيء من المأكول والمشروب أجمع للظرفاء ولا أشد تألُّفًا للأدباء ولا أَجلَب للمُؤنسِين ولا أدعى إلى خلاف المُمتنعِين ولا أَجدَر أن يُستدام به حديثهم ويخرج مكنونهم ويطول به مجلسهم منه، وأن كلَّ شرابٍ وإن كان حلا ورق وصفا ودَقَّ وطاب وعذُب وبرَد ونفَح فإن استطابتك لِأَوَّلِ جرعةٍ منه كثيرٌ ويكون من طبائعك أوقع، ثم لا يزال في نُقصانٍ إلا أن يعود مكروهًا وبليةً إلا النبيذ، فإن القدح الثاني أسهل من الأول، والثالث أيسر، والرابع ألذ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، إلى أن يسلمك إلى النوم الذي هو حياتك أو حَدُّ أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلُّبًا، وأخذه بالرأس تعسُّفًا، حتى يميت الحِس بِحدَّته، ويَصرعَ الشارب بسَوْرته، ويُورث البهر بكظته، ولا يسري في العروق لغِلظته، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل في الصميم. ولا والله حتى يُغازل العقل ويُعارضه، ويُداعبه ويُخادعه، فيَسُرُّه ثم يهُرُّه، فإذا امتلأ سرورًا وعاد ملكًا محبورًا خاتله السُّكر وراوغَه، وداراه وماكَره، وهازَله وغانَجه. وليس كما يغتصب السكر ويعتسف الذاذي ويفترس الزبيب، ولكن بالتفتير والغمز والحيلة والختل وتحبيب النوم وتزيين الصمت. وهذه صفةُ شرابك إلا ما لا نحيط به من نعوته بتبذُّل إلا ما يقبح منها الجهل به. وخيرُ الأشربة ما جمع المحمود من خِصالِها وخِصالِ غيرها. وشرابُك هذا قد أخذ من الخمر دبيبها في المفاصل وتمشِّيها في العظام ولونها الغريب، وأخذ بَردَ الماء ورقَّة الهواء، وحركة النار وحُمرة خَدِّك إذا خَجِلتَ، وصُفرةَ لونِك إذا فَزِعتَ، وبياض عارضَيك إذا ضَحِكتَ. وحسبي بصفاتك عِوضًا من كل حسن، وخلفًا من كل صالح. ولا تعجب إن كنت نهاية الهمَّة وغاية الأُمنية، فإن حُسن الوجه إذا وافق حُسن القوام، وشدة العقل، وجودة الرأي، وكثرة الفضل، وسَعَة الخلق، والمَغرِس الطيِّب، والنصاب الكريم، والطرف الناصع، واللسان المُفحِم، والمَخرَج السَّهل، والحديث المُونَّق، مع الإشارة الحسنة، والنُّبل في الجلسة، والحركة الرشيقة، واللهجة الفصيحة، والتمهُّل في المُحاوَرة، والهذَّ عند المُناقَلة، والبدية البديع، والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يوم الإيجاز، والإطناب يوم الإطناب، يفل الحَز ويُصيب المِفصَل، ويبلغ بالعفو ما يَقصُر عنه الجَهد، كان أكثرَ لتضاعُف الحسن وأَحَق بالكمال والحمد. وإن التاج بهيٌّ وهو في رأس الملوك أبهى، والياقوت الكريم حسن وهو في جيد المرأة الحسناء أَحسَن، والشعر الفاخر حَسنٌ وهو من الأعرابي أحسن، فإن كان من قول المنشد وقريضه ومن نحته وتحبيره فقد بلغ الغاية وقام على النهاية.
وهذا الشراب حَسَن وهو عندك أَحسَن، والهدية منه شريفةٌ وهي منك أشرف. وإن كنتَ قدَّرتَ أني إنما طلبته منك لأشربه أو لأسقيه أو لأهبه أو لأتحسَّاه في الخلا أو أُديرَه في الملا أو لأُنافِس فيه الأكفاء وأختبر زيادة الخُلَطاء أو لأبتذله لعُيون النُّدَماء أو أُعرِّضه لنوائب الأصدقاء، فقد أَسأتَ بي الظن وذَهبتَ من الإساءة بي في كلِّ فن، وقَصَّرتَ به فهو أَشَدُّ عليك، ووضعتَ منه فهو أَضرُّ بك. وإن ظَننتَ أني إنما أريده لأُطرف به معشوقةً أو لأستميل به هوى مَلِكٍ أو لأغسل به وَضَر الأفئدة أو أُودي به خطايا الأشربة أو لأجلو به الأبصار العَليلة أو أصلح به الأبدانَ الفاسدةَ أو لِأتطوَّل به على شاعرٍ مُفلق أو خطيبٍ مِصقَع أو أديب مدقع، ليُفتِّق لهم المعاني وليُخرِج المذاهب، ولما في جانبهم من الأجر وفي أعناقهم من الشكر، ولينقضوا ما قالت الشعراء في الحمد، وليرتجعوا ما شاع لهم من الذكر، فإني أريد أن أضع من قَدْرها وأن أكسر من بالها، فقد تاهت وتِيه بها. أو لأن أتفاءل برؤيته وأتبرَّك بمكانه وآنَس بقربه، أو لأَشفِي به الظمآن أو أجعله إكسيرَ أصحابِ الكيمياء، أو لأن أَذكُرك كلما رأيته وأُداعبَك كلما قابلتُه، أو لأجتلب به اليسر وأنفي العسر، أو لأنه والفقر لا يجتمعان في دارٍ ولا يُقيمان في رَبعٍ، ولأتعرف به حُسنَ اختيارك وأتذكَّر به جَودةَ اجتبائِك، أو لِأن أَستدِل به على خالصِ حُبك وعلى مَعرفتِك بفَضلي وقيامِك بواجبِ حَقِّي، فقد أَحسَنتَ بيَ الظن وذكرتَ من الإحسان في كلِّ فَن. بل هو الذي أصُونه صيانة الأعراض وأغار عليه غَيرة الأزواج. واعلم أنك إن أكثرتَ لي منه خرجتَ إلى الفساد، وإن أقللتَ أقمتَ على الاقتصاد، وأنا رجل من بني كنانة وللخلافة قرابة ولي فيها شُفعة وهم — بعدُ — جِنسٌ وعَصَبة، فأقل ما أصنع إن أكثرتَ لي منه أن أطلُب المُلك، وأقلُّ ما يصنعون بي أن أُنفَى من الأرض، فإن أقللتَ فإنك الولد الناصح، وأن أكثرتَ فإنك الغاشُّ الكاشح. والسلام.