خلاصة نقض كتاب العثمانية
قال أبو جعفر الإسكافي:
لولا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد لم نحتج إلى نقد ما احتجَّت به العثمانية؛ فقد علم الناس كافةً أن الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم، وعرف كل أحدٍ علو أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم وظهور كلمتهم وقهر سلطانهم وارتفاع التقيَّة عنهم، والكرامة والجائزة لمن روى الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر، وما كان من تأكيد بني أمية لذلك وما وَلَّده المحدثون من الأحاديث طلبًا لما في أيديهم، فكانوا لا يألون جهدًا في طول ما ملكوا أن يُخملوا ذكر عليٍّ عليه السلام وولدِه ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم ويحملوا على سَبِّهم ولَعنِهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلة عددهم وكثرة عدوهم فكانوا بين قتيل وأسير وشريد وهارب ومُستخفٍ ذليلٍ وخائف مُترقِّب، حتى إن الفقيه والمُحدِّث والقاصَّ والمتكلم لَيُتَقَدَّمُ إليه ويُتوعد بغاية الإيعاد وأشد العقوبة ألَّا يذكروا شيئًا من فضائلهم ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم، وحتى بلغ من تَقيَّة المحدث أنه إذا ذكر حديثًا عن عليٍّ عليه السلام كنَّى عن ذكره فقال: قال رجلٌ من قريش، وفعل رجل من قريش، ولا يذكر عليًّا ولا يتفوه باسمه.
قال أبو جعفر: وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولًا أو دينًا لهوًى فيحملون الناس على ذلك حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأُبَيِّ بن كعب، وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة بني مروان بولد عليٍّ عليه السلام وشيعته، وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها وكف المُعلِّمِين عن تعليمها، حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأُبيٍّ ما عرفوها ولظنُّوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان لإلف العادة وطول الجهالة؛ لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة وطالت عليهم أيام التسلط وشاعت فيهم المخافة وشملتهم التقية اتفقوا على التخاذل والتساكت، فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم وتنقص في ضمائرهم وتنقض من مرائرهم حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها. ولقد كان الحجاج ومن ولاه كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي — عليه السلام — وفضائله وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم أَحرَصَ منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأُبي؛ لأن تلك القراءات لا تكون سببًا لزوال مُلكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل عليٍّ وولده وإظهار محاسنهم بوارهم وتسليط حُكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى الله أن يزيد أمره وأمر ولده إلا استنارةً وإشراقًا، وحبهم إلا شغفًا، وشدة ذكرهم إلا انتشارًا وكثرةً، وحُجتهم إلا وضوحًا وقوَّةً، وفضلهم إلا ظهورًا، وشأنهم إلا علوًّا، وأقدارهم إلا إعظامًا، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء، وبإماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا به وبهم من الشر تحول خيرًا، فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون ولا ساواه فيه القاصدون ولا يلحقه الطالبون. ولولا أنها كانت كالقِبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسُّنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرفٌ واحد؛ إذ كان الأمر كما وصفناه.
قال: فأمَّا ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر بكونه أول الناس إسلامًا، فلو كان هذا احتجاجًا صحيحًا لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة، وما رأيناه صنع ذلك؛ لأنه أخذ بيدِ عُمر ويدِ أبي عبيدة بن الجراح وقال للناس: قد رِضيتُ لكم أحد هذَين الرجلَين فبايعوا منهما من شئتم. ولو كان هذا احتجاجًا صحيحًا لما قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتةً وقى الله شرها. ولو كان احتجاجًا صحيحًا لادَّعى واحدٌ من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام، وما عرفنا أحدًا ادَّعى له ذلك. على أن جمهور المُحدِّثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عِدَّة من الرجال منهم علي بن أبي طالب وجعفر أخوه وزيد بن حارثة وأبو ذر الغِفاري وعمرو بن عنبسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وخبَّاب بن الأرت. وإذا تأملنا الروايات الصحيحة والأسانيد القوية الوثيقة وجدناها كلها ناطقة بأن عليًّا عليه السلام أول من أسلم.
فأمَّا الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلامًا، فقد رُوي عن ابن عباس خلاف ذلك بأكثر مما رَوَوا وأشهر، فمن ذلك أنه قال: أول من صلى من الرجال عليٌّ عليه السلام.
وقال: فرض الله تعالى الاستغفار لعليٍّ عليه السلام في القرآن على كل مسلم بقوله تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، فكلُّ من أَسلَم بعد عليٍّ فهو يَستغفِر لِعليٍّ.
وقال: السبَّاق ثلاثة: سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق صاحب يس إلى عيسى، وسبق علي بن أبي طالب إلى محمد ﷺ. فهذا قول ابن عباس في سبق عليٍّ إلى الإسلام، وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر. على أنه قد رُوي عن الشعبي خلاف ذلك، قال: قال رسول الله ﷺ لعلي: هذا أول من آمن بي وصدَّقني وصلى معي.
قال: فأمَّا الأخبار الواردة بسبقه إلى الإسلام المذكورة في الكتب الصحاح والأسانيد الموثوق بها، فمنها ما رُوي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أول شيء علمته من أمر رسول الله ﷺ أني قَدِمتُ مكة مع عمومة لي وناس من قومي، وكان في أنفسنا شراء عطر فأُرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب، فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فبينا نحن عنده جلوس إذ أقبل رجل من باب الصفا وعليه ثوبان أبيضان وله وَفرةٌ إلى أنصاف أذنَيه جعدة أشم أقنى أدعج العينَين كث اللحية براق الثنايا أبيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر، وعلى يمينه غُلامٌ مُراهِقٌ أو مُحتلمٌ حَسنُ الوجه، تَقْفُوهما امرأةٌ قد سَتَرَت محاسنها، حتى قصدوا نحو الحَجَر فاستلمه واستلمه الغلام ثم استَلَمَته المرأة، ثم طاف بالبيت سبعًا والغلام والمرأة يطوفان معه، ثم استقبل الحجر فقام ورفع يدَيه وكبر، وقام الغلام إلى جانبه وقامت المرأة خلفهما فرفعت يدَيها وكبَّرَت، فأطال القنوت ثم ركع وركع الغلام والمرأة ثم رفع رأسه فأطال ورفع الغلام والمرأة معه يصنعان مثل ما يصنع. فلما رأينا شيئًا ننكره ولا نعرفه بمكة أقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل، إن هذا الدين ما كُنَّا نعرفه فيكم؟ قال: أجل والله. قلنا: فمن هذا؟ قال: هذا ابن أخي، هذا محمد بن عبد الله، وهذا الغلام ابن أخي أيضًا، هذا علي بن أبي طالب، وهذه المرأة زوجة محمد، هذه خديجة بنت خويلد، والله ما على وجه الأرض أحدٌ يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.
وعن معقل بن يسار قال: كنت أوصل النبي ﷺ، فقال لي: هل لك أن تعود فاطمة؟ قلت: نعم يا رسول الله. فقام يمشي متوكِّئًا (عليَّ) وقال: أما إنه سيحمل ثِقَلها غَيرُك ويكون أَجرُها لك. قال: فوالله لكأنه لم يكن عليَّ من ثقل النبي ﷺ شيء، فدخلنا على فاطمة فقال لها عليه الصلاة والسلام: كيف تجدينك؟ قالت: لقد طال أسفي واشتد حزني، وقال لي النساء: زوَّجك أبوك فقيرًا لا مال له! فقال لها: أما ترضين أني زوَّجتُك أقدم أمتي سلمًا وأكثرهم علمًا وأفضلهم حلمًا؟ قالت: بلى، رَضيتُ يا رسول الله.
وعن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله ﷺ لما زوَّج فاطمة دخل النساء عليها فقلن: يا بنت رسول الله، خطبك فلان وفلان فردهم عنك وزوَّجك فقيرًا لا مال له! فلما دخل عليها أبوها رأى ذلك في وجهها، فسألها فذكرت له ذلك، فقال: يا فاطمة، إن الله أمرني فأَنكَحتُك أقدمهم سلمًا وأكثرهم علمًا وأعظمهم حلمًا، وما زوَّجتُك إلا بأمرٍ من السماء، أما عَلِمتِ أنه أخي في الدنيا والآخرة؟!
وعن السُّدي: أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة فردهما رسول الله ﷺ وقال: لم أُومَر بذلك. فخطبها عليٌّ فزوَّجه إياها وقال لها: زوَّجتك أقدم الأُمة إسلامًا. وذكر تمام الحديث. قال: وقد رَوَى هذا الخبر جماعةٌ من الصحابة منهم: أسماء بنت عُميس، وأم أيمن، وابن عباس، وجابر بن عبد الله.
وعن أبي رافع قال: أتيت أبا ذر بالربذة أُودِّعه، فلما أَردتُ الانصراف قال لي ولأناسٍ معي: ستكون فتنة، فاتقوا الله، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتَّبعوه، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول له: أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصِّديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنِين، والمال يعسوب الكافرِين، وأنت أخي ووزيري وخير من أترك بعدي تقضي دَيْني وتنجز موعودي.
وعن عباد بن عبد الله الأسدي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كذاب، وقد صليتُ قبل الناس سبع سنين.
وروت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت: سمعت عليًّا يخطب على منبر البصرة ويقول: أنا الصديق الأكبر، آمَنتُ قبل أن يؤمن أبو بكر، وأَسلَمتُ قبل أن يسلم.
وروى حبة بن جوين العُرني أنه سمع عليًّا يقول: أنا أول رجلٍ أسلم مع رسول الله ﷺ.
وعن حكيمٍ مولى زاذان قال: سمعت عليًّا يقول: صليت قبل الناس سبع سنين، وكُنَّا نسجد ولا نركع، وأول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: أُمرت به.
وعن جابر بن عبد الله قال: صلى رسول الله ﷺ يوم الاثنين، وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء وبعده. وعن أنس بن مالك: استنبئ النبي ﷺ يوم الاثنين، وأسلم عليٌّ يوم الثلاثاء وبعده.
وروى أبو رافع أن رسول الله ﷺ صلى أول صلاة صلاها غداة الاثنين، وصلَّت خديجة آخرتها ويومَها ذلك، وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء غَداةَ ذلك اليوم.
قال: وقد رُوي برواياتٍ مختلفةٍ كثيرةٍ متعددةٍ عن زيد بن أرقم وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك: أن عليًّا أول من أسلم.
وروى سلمة بن كهيل عن رجاله أن رسول الله ﷺ قال: أولكم ورودًا على الحوض أولكم إسلامًا، عليُّ بن أبي طالب.
وعن ابن عباس قال: سَمِعتُ عمر بن الخطاب وهو يقول: كُفُّوا عن علي بن أبي طالب؛ فإني سمعت من رسول الله ﷺ فيه خصالًا لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب كان أحبَّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس، كنت ذات يوم وأبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله ﷺ نطلبه، فانتهينا إلى باب أم سلمة فوجدنا عليًّا متكئًا على نجاف الباب، فقلنا: أردنا رسول الله ﷺ، فقال: هو في البيت، رُوَيدكم! فخرج رسول الله ﷺ فسرنا حوله، فاتكأ على عليٍّ وضرب بيده على مَنكِبه فقال: أَبشِر يا علي بن أبي طالب، إنك مخاصَم وإنك تخصم الناس بسبعٍ لا يجاريك أحد في واحدةٍ منهن: أنت أول الناس إسلامًا وأعلمهم بأيام الله.
وروى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله ﷺ أنه قال: لقد صلت الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبع سنين، وذلك أنه لم يُصلِّ معي رجلٌ فيها غيره.
قال أبو جعفر:
فأمَّا ما رواه الجاحظ من قوله ﷺ: «إنما تبعني حُرٌّ وعبد.» فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر وبلالًا، وكيف وأبو بكر لم يَشترِ بلالًا إلى بعد ظهور الإسلام بمكة! فلما أظهر بلالٌ إسلامه عذَّبه أمية بن خلف، ولم يكن ذلك حال إخفاء رسول الله ﷺ الدعوة ولا في ابتداء أمر الإسلام. وقد قيل إنه عليه الصلاة والسلام إنما عنى بالحر علي بن أبي طالب، وبالعبد زيد بن حارثة.
وعن الشعبي قال: قال الحجاج للحسن، وعنده جماعة من التابعين، وذكر علي بن أبي طالب: ما تقول أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول! هو أول من صلى إلى القبلة وأجاب دعوة رسول الله ﷺ وإن لعليٍّ منزلةً من ربه وقرابةً من رسوله، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد! فغضب الحجاج غضبًا شديدًا وقام عن سريره فدخل بعض البيوت وأمر بصرفنا. قال الشعبي: وكنا جماعة ما منا إلا من نال من عليٍّ مقاربةً للحجاج، غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله.
وعن محمد بن عبيد الله قال: قال رجل للحسن: ما لنا لا نراك تُثني على علي وتُقرِّظه؟ قال: كيف وسيف الحجاج يقطر دمًا؟ إنه لأول من أسلم، وحسبكم بذلك.
قال: فهذه الأخبار. وأمَّا الأشعار المَرويَّة فمعروفةٌ كثيرةٌ منتشرة، فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مُجيبًا للوليد بن عقبة بن أبي مُعيط:
وقول خُزَيْمَةَ بن ثابِت في هذا:
وقول أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر:
وقول أبي الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير:
وقول سعيد بن قيس الهمْداني يرتجز بِصِفِّينَ:
وقول زُفَر بن يزيد بن حُذيفة الأسدي:
قال: والأشعار كالأخبار إذا امتنع في مجيء القبيلَين التواطؤ والاتفاق كان ورودهما حُجة. فأمَّا قول الجاحظ: فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معًا، فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامة أبي بكر؛ لأنه احتج بالسبق وقد عدل الآن عنه.
قال أبو جعفر: ويُقال لهم لسنا نحتاج من ذكر سَبْق عليٍّ عليه السلام إلا إلى مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس، ودعواكم أنه أسلم وهو طفل دَعوًى غير مقبولة إلا بحُجة. فإن قلتم: ودعواكم أنه أسلم وهو بالغ دعوًى غير مقبولة إلا بحُجة، قلنا: قد ثبت إسلامه بحكم إقراركم، ولو كان طفلًا لكان في الحقيقة غير مسلم؛ لأن اسم الإيمان والإسلام والكفر والطاعة والمعصية إنما يقع على البالغِين دون الأطفال والمجانِين، وإذا أطلقتم وأطلقنا عليه اسم الإسلام فالأصل في الإطلاق الحقيقة. كيف وقد قال النبي ﷺ: أنت أول من آمن بي وأنت أول من صدَّقني؟ وقال لفاطمة: زوَّجتك أقدمهم سلمًا، أو قال إسلامًا. فإن قالوا: إنما دعاه النبي ﷺ إلى الإسلام على جهة العرض لا التكليف، قلنا: قد وافقتمونا على الدعاء، وحُكم الدعاء حُكم الأمر والتكليف، ثم ادَّعيتم أن ذلك كان على وجه العرض، وليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء إلا لحُجة.
فإن قالوا: لعله كان على وجه التأديب والتعليم كما يُعتمَد مثل ذلك مع الأطفال! قلنا: إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الإسلام بأهله أو عند النشوء عليه والولادة فيه، فأمَّا في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك، لا سيما إذا كان الإسلام غير معروف ولا معتاد بينهم. على أنه ليس في سُنة النبي ﷺ دعاء أطفال المُشركِين إلى الإسلام والتفريق بينهم وبين آبائهم قبل أن يبلغوا الحُلم. وأيضًا فمن شأن الطفل اتباع أهله وتقليد أبيه والمضي على منشئه ومولده. وقد كانت منزلة النبي ﷺ حينئذٍ منزلةَ ضيقٍ وشدةٍ ووَحدة، وهذه منازل لا ينتقل إليها إلا من ثبت الإسلام عنده بحُجة ودخل اليقين قلبه بعلمٍ ومعرفة.
فإن قالوا: إن عليًّا كان يألف النبي ﷺ فوافقه على طريق المساعدة له! قلنا: إنه وإن كان يألفه أكثر من أبوَيه وإخوته وعمومته وأهل بيته، لم يكن الإلف لِيُخرِجه عما نشأ عليه، ولم يكن الإسلام مما غُذي به وكُرِّرَ على سمعه؛ لأن الإسلام هو خلع الأنداد والبراءة ممن أشرك بالله، وهذا لا يجتمع في اعتقادِ طفل. ومن العجب قول العباس لعفيف بن قيس: ننتظر الشيخ وما يصنع! فإذا كان العباس وحمزة ينتظران أبا طالب ويَصدُران عن رأيه، فكيف يُخالِفه ابنه ويُؤثِر القلة على الكثرة ويُفارق المحبوب إلى المكروه والعِز إلى الذُّل والأمن إلى الخوف على غير معرفةٍ ولا علمٍ بما فيه؟
- القسم الأول: الذين قالوا: أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة. عن شداد بن أوس قال: سألت خبَّاب بن الأرتِّ عن إسلام علي فقال: أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، ولقد رأيته يُصلي قبل الناس مع النبي ﷺ وهو يومئذٍ بالغٍ مُستحكم البلوغ. وعن الحسن: إن أول من أسلم عليُّ بن أبي طالب وهو ابن خمس عشرة سنة.
- القسم الثاني: الذين قالوا: إنه أسلم وهو ابن أربع عشرة سنة. عن حذيفة بن اليمان قال: كُنَّا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعليٌّ من أبناء أربع عشرة سنة قائمٌ يُصلي مع النبي ﷺ ليلًا ونهارًا، وقريش يومئذٍ تُسافِه رسول الله ﷺ ما يَذبُّ عنه إلا علي. وعن جرير بن عبد الحميد قال: أسلم عليٌّ وهو ابن أربع عشرة سنة.
- القسم الثالث: الذين قالوا: أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة. عن محمد بن علي أن عليًّا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنة. وعن محمد بن علي الباقر قال: أول من آمن بالله علي بن أبي طالب وهو ابن إحدى عشرة سنة، وهاجر إلى المدينة وهو ابن أربع وعشرين سنة.
- القسم الرابع: الذين قالوا: إنه أسلم وهو ابن عشرِ سنين. عن محمد بن إسحق قال: أَوَّلُ ذَكرٍ آمن وصدَّق بالنبوة عليُّ بن أبي طالب وهو ابن عشرِ سنين، ثم أسلم زيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر وهو ابن ست وثلاثين سنة، فيما بلغنا.
- القسم الخامس: الذين قالوا: إنه أسلم وهو ابن تِسعِ سنين. عن الشعبي قال: أول من أسلم من الرجال عليُّ بن أبي طالب وهو ابن تسعِ سنين، وكان له يوم قبض رسول الله ﷺ تِسعٌ وعشرون سنة.
قال أبو جعفر: فهذه الأخبار كما تراها. فإما أن يكون الجاحظ جهلها أو قصد العناد.
فأما قوله: فالقياس أن نأخذ بأوسط الأمرَين من الروايتَين فنقول إنه أسلم وهو ابن سبعِ سنين. فإن هذا تحكمٌ منه ويَلزمُه مثله في رجل ادَّعى قِبَل رجل عشرةَ دراهم فأنكر ذلك وقال: إنما يستحق قِبَلي أربعة دراهم، فينبغي أن نأخذ الأمر المُتوسِّط ويلزمه سبعةُ دراهم؟! ويلزمه في أبي بكر حيث قال قوم: كان كافرًا، وقال قوم: كان إمامًا عادلًا، أن نقول: أَعدلُ الأقاويل أوسطُها، وهو منزلة بين المنزلتَين، فنقول: كان فاسقًا ظالمًا! وكذلك في جميع الأمور المُختلَف فيها!
فأما قوله: وإنما يُعرف حق ذلك من باطله بأن نُحصِي سِنِي ولاية عثمان وعمر وأبي بكر وسِنِي الهجرة ومقام النبي ﷺ بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر. فيقال له: لو كانت الروايات مُتفِقةً على هذه التأريخات لكان لهذا القول مساغ! لكن الناس قد اختلفوا في ذلك، فقيل: إن رسول الله ﷺ أقام بمكة بعد الرسالة خمس عشرة سنة، رواه ابن عباس. وقيل: ثلاث عشرة سنة، رُوي عن ابن عباس أيضًا، وأكثر الناس يَروُونه. وقيل: عشر سنين، رواه عروة بن الزبير، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب. واختلفوا في سن رسول الله ﷺ، فقال قوم: كان ابنَ خمسٍ وستين سنة، وقيل كان ابنَ ثلاثٍ وستين سنة، وقيل كان ابنَ سِتين. واختلفوا في سِن عليٍّ عليه السلام، فقيل: كان ابنَ سبعٍ وستين، وقيل: كان ابنَ خمسٍ وستين، وقيل: ابن ثلاثٍ وستين، وقيل ابن ستين، وقيل: ابن تسعٍ وخمسين.
فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال؟ وإنما الواجب أن يُرجع إلى إطلاق قولهم: أَسلَم عليٌّ. فإن هذا الاسم لا يكون مُطلقًا إلا على البالغ كما لا يُطلَق اسم الكافر إلا على البالغ. على أن ابن إحدى عشرةَ سنةً يكون بالغًا ويُولَد له الأولاد؛ فقد رَوَت الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن أَسَن من ابنه عبد الله إلا باثنتَي عشرة سنة، وهذا يُوجِب أنه احتلم وبلغ في أقل من إحدى عشرة سنة. ورُوي أيضًا أن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بإحدى عشرة سنة. فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات رسول الله ﷺ غيرَ مُسلمٍ على الحقيقة ولا مُثابٍ ولا مُطيعٍ بالإسلام لأنه كان يومئذٍ ابن عشر سنين. رواه هُشيم عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: تُوفِّي رسول الله ﷺ وأنا ابن عشر سنين.
قال أبو جعفر:
هذا كله مبنيٌّ على أنه أسلم وهو ابن سَبعٍ أو ثمان، ونحن قد بيَّنا أنه أسلم بالغًا ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة. على أنَّا لو نَزَلْنا على حكم الخصوم وقلنا ما هو الأشهر والأكثر من الرواية وهو أنه أسلم وهو ابن عشر، لم يلزم ما قاله الجاحظ؛ لأن ابنَ عشرٍ قد يَستجمِع عقله ويعلم من مبادئ المعارف ما يُستخرج به كثيرٌ من الأمور المعقولة، ومتى كان الصبي عاقلًا مُميِّزًا كان مُكلَّفًا بالعقليَّات، وإن كان تكليفه بالشرعيات موقوفًا على حدٍّ آخر وغايةٍ أخرى. فليس بِمنكَرٍ أن يكون عليٌّ عليه السلام وهو ابن عشر قد عَقَل المعجزة فلزمه الإقرار بالنبوة وأسلم إسلامَ عالمٍ عارفٍ لا إسلامَ مُقلِّدٍ تابع. وإن كان ما نَسَّقه الجاحظ وعدَّده من معرفة السحر والنجوم والفصل بينهما وبين النبوة، ومعرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز، وما لا يُحدِثه إلا الخالق، والفرق بينه وبين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة، ومعرفة التمويه والخديعة والتلبيس والمُماكَرة، شرطًا في صحة الإسلام، لما صَحَّ إسلام أبي بكر ولا عمر ولا غيرهما من العرب! وإنما التكليف لهؤلاء بالجُمَل وبمبادئ المعارف لا بدقائقها والغامض منها. وليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتَح الرجال وجرَّب الأمور ونازَع الخصوم! وإنما يفتقر إلى صحة الغريزة وكمال العقل وسلامة الفطرة. ألا ترى أن طفلًا لو نشأ في دارٍ لم يُعاشر الناس بها ولا فاتَح الرجال ولا نازَع الخصوم ثم كَمُل عقله وحَصَلَت العلوم البديهية عنده لكان مُكلَّفًا بالعقليَّات؟
فأما توهمه أن عليًّا عليه السلام أسلم عن تربية الحاضن وتلقين القَيِّم ورياضة السائس، فلعمري إن محمدًا ﷺ كان حاضنه وقيِّمه وسائسه، ولكن لم يكن منقطعًا عن أبيه أبي طالب، ولا عن إخوته طالب وجعفر وعقيل، ولا عن عمومته وأهل بيته، وما زال مُخالطًا لهم مُمتزجًا بهم مع خِدمته لمحمد ﷺ، فما باله لم يَمِل إلى الشرك وعبادة الأصنام لمُخالَطة إخوته وأباه وعمومته وأهله وهم كثير ومحمد ﷺ واحد؟ وأنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كَثرةٍ وفيهم واحدٌ يذهب إلى رأيٍ مُفرَدٍ لا يوافقه عليه غيره منهم، فإنه يكون إلى ذَوِي الكثرة أَميَل وعن ذي الرأي الشاذ أبعد! وعلى أن عليًّا عليه السلام لم يُولد في دار الإسلام، وإنما وُلد في دار الشرك ورُبي بين المُشرِكين وشاهَد الأصنام وعايَن بعينَيه أهله ورَهطَه يعبدونها. فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجالٌ ولقيل إنه وُلد بين المُسلمِين، فإسلامه عن تَلقينِ الظئر وعن سماعِ كلمةِ الإسلام ومُشاهَدةِ شِعاره؛ لأنه لم يسمع غيره ولا خطر بباله سواه. فلما لم يكن وُلد كذلك ثبت أن إسلامه إسلام المُميِّز العارف بما دخل عليه. ولولا أنه كذلك لما مدحه رسول الله ﷺ بذلك ولا أرضى ابنته فاطمة لمَّا وَجَدتْ من تزويجه بقوله لها: زوَّجتك أقدمهم سِلمًا، ولا قرن إلى قوله: وأكثرهم عِلمًا وأعظمهم حِلمًا. والحلم العقل، وهذان الأمران غاية الفضل. فلولا أنه أسلم إسلامَ عارفٍ عالمٍ مُميِّز لما ضَمَّ إسلامه إلى العلم والحِلم اللذَين وصفه بها، وكيف يجوز أن يمدحه بأَمرٍ لم يكن مُثابًا عليه ولا مُعاقبًا به لو تركه؟ ولو كان إسلامه عن تلقينٍ وتربيةٍ لما افتخر هو عليه السلام على رءوس الأشهاد ولا خَطَب على المنبر وهو بين عَدوٍّ محاربٍ وخاذلٍ مُنافقٍ فقال: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، صَلَّيتُ قبل الناس سَبعَ سنين، وأَسلمتُ قبل إسلام أبي بكر، وآمنتُ قبل إيمانه. فهل بلغكم أن أحدًا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو ادَّعاه لغيره أو قال له: إنما كنت طفلًا أسلمت على تَربيةِ محمد ﷺ لك وتَلقينِه إيَّاك كما يتعلم الطفل الفارسية والتركية منذ يكون رضيعًا، فلا فخر له في تعلُّم ذلك وخصوصًا في عصر قد حارَب فيه أهلَ البصرةِ والشامِ والنهروانِ وقد اعتَورَته الأعداء وهَجَته الشعراء؟ فقال فيه النعمان بن بَشير:
وقال فيه أيضًا بعض الخوارج:
وقال عِمْرَانُ بن حِطَّان يمدح قاتله:
فلو وجد هؤلاء سبيلًا إلى دحض حُجته فيما كان يفخر به مِن تَقدُّم إسلامه لبدءوا بذلك وتركوا ما لا معنى له. وقد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سَبْقه إلى الإسلام، فكيف لم يَرُدَّ على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق شاعرٌ واحدٌ من أهل حربه؟ ولقد قال في أمهات الأولاد قولًا خالف فيه عمر فذَكَروه بذلك وعابُوه، فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به — مما لا فخر فيه عندهم — وعابوه بقوله في أمهات الأولاد؟
ثم يُقال له: خَبِّرنا عن عبد الله بن عمر وقد أجازه النبي ﷺ يوم الخندق ولم يُجِزه يوم أُحُد، هل تميَّز ما ذَكرتَه؟ وهل كان يعلم فرق ما بين النبي والمُتنبِّئ ويَفصِل بين السحر والمعجزة إلى غيره مما عَددتَ وفَصلتَ؟ فإن قال: نعم، وتجاسر على ذلك، قيل له: فعليٌّ عليه السلام بذلك أَولَى من ابن عمر؛ لأنه أَذكَى وأَفطَن بلا خلافٍ بين العقلاء، وأنَّى يُشَك في ذلك وقد رَوَيتم أنه لم يُميِّز بين المِيزان والعُود بعد طول السن وكثرة التجارب؟ ولم يميز أيضًا بين إمام الرشد وإمام الغي، فإنه امتنع عن بيعةِ عليٍّ عليه السلام وطَرَق على الحجَّاج بابه ليلًا ليبايع لِعبد الملك كي لا يبيت تلك الليلة بلا إمام — زَعَم — لأنه رُوي عن النبي ﷺ أنه قال: «من مات ولا إِمامَ له مات مِيتةً جاهليَّة.» وحتى بلغ من احتقار الحجَّاج له واسترذاله حَالَه أن أخرج رجله من الفراش وقال: أَصفِق بيدك عليها؟! فذلك تمييزه بين الميزان والعود، وهذا اختياره في الأئمة؟! وحال عليٍّ عليه السلام في ذكائه وفطنته وتوقُّد حسه وصدق حَدْسه معلومة مشهورة، فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر ويقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ ونَسَّقها وأظهر فصاحته وتَشادُقه فيها، فعليٌّ بمعرفة ذلك أحقُّ وبصحة إسلامه أَولَى. وإن قال: لم يكن ابن عمر يعلم ويعرف ذلك، أبطل إسلامه وطعن في رسول الله ﷺ حيث حكم بصحة إسلامه وأجازه يوم الخندق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قال: لا أُجِيز إلا البالغ العاقل؛ ولذلك لم يُجِزه يوم أُحُد.
ثم يقال له: إن ما تقوله في بلوغِ عليٍّ عليه السلام الحد الذي يَحسُن فيه التكليف العقلي، بل يجب، وهو ابن عشرِ سنين، ليس بأعجب من مجيء الولد لستة أشهر، وقد صحح ذلك أهل العلم واستنبطوه من الكتاب وإن كان خارجًا عن التعارف والتجارب والعادة! وكذلك مجيء الولد لِسنتَين خارج أيضًا عن التعارف والعادة، وقد صحَّحه الفقهاء والناس. ويُروى أن مُعاذًا لما نهى عُمرَ عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلامًا قد نَبتَت ثَنيَّتاه، فقال أبوه: ابني ورب الكعبة. فثبت ذلك سُنةً يعمل بها الفقهاء. وقد وجدنا العادة تقضي بأن الجارية تحيض لاثنتَي عشرةَ سنةً وأنه أقلُّ سِنٍّ تحيض فيه المرأة، وقد يكون في الأقل نساءٌ يَحِضن لعشرٍ ولتسع، وقد ذكر ذلك الفقهاء، وقد قال الشافعي في اللعان: لو جاءت امرأة بحَمل وزوجها صبي له دون عشرِ سنين، لم يكن ولدًا له؛ لأن من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يُولد له، وإن كان له عشرُ سنين جاز أن يكون الولد له، وكان بينهما لِعانٌ إذا لم يُقِرَّ به. وقال الفقهاء أيضًا: إن نساء تِهامةَ يَحِضن لتسعِ سنين لِشدَّة الحَرِّ ببلادهن.
قال أبو جعفر:
إن مثل الجاحظ — في فضله وعلمه — لا يخفى عليه كذب هذه الدعوى وفسادها، ولكنه يقول ما يقول تعصُّبًا وعنادًا. وقد روى الناس كافةً افتخار عليٍّ عليه السلام بالسبق إلى الإسلام، وأن النبي ﷺ استنبئ يوم الاثنين وأسلم عليٌّ يوم الثلاثاء، وأنه كان يقول: صَلَّيتُ قبل الناس سَبعَ سنين، وأنه ما زال يقول: أنا أَوَّل من أسلم، ويفتخر بذلك ويفتخر له به أولياؤه ومادحوه وشيعته في عصره وبعد وفاته، والأمر في ذلك أشهر من كل شهير، وقد قدمنا منه طَرفًا. وما عَلِمْنا أحدًا من الناس — فيما خلا — استَخفَّ بإسلام عليٍّ عليه السلام ولا تَهاوَن به ولا زعم أنه أسلم إسلامَ حدثٍ غريرٍ وطفلٍ صغير. ومن العجب أن يكون مثل العباس وحمزة ينتظران أبا طالب وفعله لِيصدُرا عن رأيه ثم يُخالِفه عليٌّ ابنه لغيرِ رغبةٍ ولا رهبة، يُؤثِر القلة على الكثرة، والذل على العزة، من غيرِ علمٍ ولا معرفةٍ بالعاقبة! وكيف ينكر الجاحظ والعثمانية أن رسول الله ﷺ دعاه إلى الإسلام وكَلَّفه التصديق؟! ورُوي في الخبر الصحيح أنه كَلَّفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعامًا وأن يدعو له بني عبد المطلب، فصنع له الطعام ودعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم ولم يُنذِرهم ﷺ لكلمة قالها عمه أبو لهب. فكلفه اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام وأن يدعوهم ثانيةً، فصنعه ودعاهم، فأكلوا، ثُمَّ كلمهم ﷺ فدعاهم إلى الدين ودعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب، ثُمَّ ضَمِن لمن يُوازِره منهم وينصره على قَولِه أن يجعله أخاه في الدين ووَصِيَّه بعد موته وخليفَته من بعده. فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده وقال: أنا أَنصُرك على ما جئت به وأُوازِرك وأُبايعك. فقال لهم لما رأى منهم الخِذلان ومنه النصر، وشاهَد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعاين منهم الإباء ومنه الإجابة: هذا أَخِي ووصيِّي وخليفتي من بعدي. فقاموا يسخرون ويضحون ويقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمَّره عليك! فهل يكلَّف عمل الطعام ودعاء القوم صغيرٌ غير مميز وغرٌّ غير عاقل؟ وهل يُؤتَمن على سر النبوة طفلٌ ابن خمسِ سنين أو ابن سبع؟ وهل يُدعى في جُملة الشيوخ والكهول إلَّا عاقل لبيب؟ وهل يضع رسول الله ﷺ يده في يده ويعطيه صفقة يمينه بالأُخوَّة والوصيَّة والخلافة إلَّا وهو أهلٌ لذلك بالغٌ حَدَّ التكليف مُحتملٌ لولاية الله وعداوة أعدائه؟ وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله ولم يُر مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه وهو كأحدهم في طبقته وكبعضهم في معرفته؟ وكيف لم يَنزع إليهم في ساعةٍ من ساعاته فيقال: دعاه بعض الصِّبا وخاطر من خواطر الدنيا وحملته الغِرَّة والحداثة على حضور لهوهم والدخول في حالهم؟ بل ما رأيناه إلا ماضيًا على إسلامه مُصمِّمًا في أمره محقِّقًا لقوله بفعله، قد صَدَّق إسلامه بعفافه وزهده، ولَصِق برسول الله ﷺ من بينِ جميعِ من بحضرته؛ فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته. وقد قَهَر شهوته وجاذَب خواطره، صابرًا على ذلك نفسه لما يرجو من فوز العاقبة وثواب الآخرة. وقد ذكر هو في كلامه وخطبه بدء حاله وافتتاح أمره حيث أسلم لما دعا رسول الله ﷺ الشجرة فأقبلت تخد الأرض فقالت قريش: ساحرٌ خفيُّ السحر، فقال علي عليه السلام: يا رسول الله، أنا أول من يؤمن بك، آمنتُ بالله ورسوله وصَدَّقتُ بك فيما جِئتَ به، وأنا أشهد أن الشجرة فَعلَت ما فَعلَت بأمر الله تصديقًا لنبوتك وبرهانًا على صحة دعوتك. فهل يكون إيمان قط أصح من هذا الإيمان وأوثق عقدة وأحكم مرة؟ ولكن حَنَق العثمانية وغيظهم وعصبيَّة الجاحظ وانحرافه مما لا حِيلة فيه.
ثم ليَنظُر المُنصِف وليَدَع الهوى جانبًا لِيعلَم نعمة الله على عليٍّ عليه السلام بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه، فإنه لولا الألطاف التي خُص بها والهداية التي مُنحها لما كان إلا كبعضِ أقاربِ محمد ﷺ، فقد كان ممازجًا له كمُمازَجته ومُخالِطًا له كمُخالَطة كثيرٍ من أهله ورهطه، ولم يستجب منهم أحدٌ إلا بعد حين، ومنهم من لم يستجب له أصلًا؛ فإن جعفرًا كان مُلتصِقًا به ولم يُسلم حينئذٍ، وكان عتبة بن أبي لهبٍ ابن عمه وصهره زوج ابنته ولم يُصدِّقه بل كان شديدًا عليه، وكان لخديجة بنون من غيره ولم يسلموا حينئذٍ وهم ربائبه ومعه في دارٍ واحدة، وكان أبو طالب أباه في الحقيقة وكافله وناصره والمحامي عنه ومن لولاه لم تَقُم له قائمة ومع ذلك لم يُسلم — في أغلب الروايات — وكان العباس عمَّه وصِنو أبيه وكالقرين له في الولادة والمنشأ والتربية ولم يَستجِب له إلا بعد حينٍ طويل، وكان أبو لهب عمه وكَدَمه ولحمه ولم يُسلم وكان شديدًا عليه. فكيف يُنسَب إسلام علي عليه السلام إلى الإلف والتربية والقرابة واللُّحمة والتلقين والحضانة والدار الجامعة وطول العشرة والأُنس والخلوة، وقد كان كل ذلك حاصلًا لهؤلاء أو لكثيرٍ منهم ولم يَهتدِ أحدٌ منهم إذ ذاك؟ بل كانوا بين جَحدٍ وكُفر، ومنهم من مات على كفره، ومن أبطأ وتأخر وسُبق بالإسلام وجاء سكيتًا وقد فاز بالمنزلة غيره. وهل يدلُّ تأمُّل حال عليٍّ عليه السلام — مع الإنصاف — إلَّا على أنه أسلم لأنه شاهد الأعلام ورأى المعجزات وشم ريح النبوة ورأى نور الرسالة وثبت اليقين في قلبه بمعرفةٍ وعلمٍ ونظرٍ صحيح لا بتقليدٍ ولا حميةٍ ولا رغبةٍ ولا رهبة، إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة …؟!
قال أبو جعفر:
ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف هذا الفصل، ويقفوا على قول الجاحظ والأَصَم في نُصرة العثمانية واجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل وتهجينها؛ فمرةً يُبطلان معناها، ومرةً يتوصلان إلى حطِّ قدْرها. فليَنظُر في كل بابٍ اعترضا فيه أين بلغت حيلتهما وما صنعا في احتيالهما في قصصهما وسجعهما؟ أليس إذا تأمَّلتَها علِمتَ أنها ألفاظٌ مُلفَّقة بلا معنى وأنها عليهما شجًى وبلاء؟ وإلَّا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد ويُغني كيد الكائد الشانئ لمن قد جلَّ قدْره عن النقص وأضاءت فضائله إضاءة الشمس؟
وأين قول الجاحظ من دلائل السماء وبراهين الأنبياء، وقد عَلِم الصغير والكبير والعالم والجاهل ممن بلغه ذكر عليٍّ عليه السلام وعَلِم مبعث النبي ﷺ أن عليًّا لم يُولد في دار الإسلام، ولا غُذِّيَ في حجْر الإيمان، وإنما استضافه النبي ﷺ إلى نفسه سنة القحط والمجاعة وعُمرُه يومئذٍ ثماني سنين فمكث معه سبعَ سنين حتى أتاه جبريل بالرسالة فدعاه وهو بالغٌ كامل العقل إلى الإسلام، فأسلم بعد مُشاهَدة المعجزة وبعد إعمال النظر والفكرة. وإن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبعَ سنين قبل الناس كلهم، فإنما يعني ما بين الثمان والخمس عشر، ولم يكن حينئذٍ دعوةٌ ولا رسالةٌ ولا ادِّعاء نبوة، وإنما كان رسول الله ﷺ يتعبد على ملة إبراهيم ودين الحنيفية ويتحنَّث ويُجانب الناس ويَعتزل ويطلب الخلوة وينقطع في جبل حراء، وكان عليٌّ عليه السلام معه كالتابع والتلميذ، فلما بلغ الحُلم وجاءت النبي ﷺ الملائكة وبشَّرته بالرسالة دعاه فأجابه عن نظرٍ ومعرفةٍ بالأعلام المعجزة. فكيف يقول الجاحظ أن إسلامه لم يكن مقتضبًا! وإن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة لِما كان يُمرَّن عليه من التعبد مع رسول الله ﷺ قبل الدعوة لَيكونن طاعة كثير من المُكلَّفِين أفضل من طاعة رسول الله ﷺ وأمثاله من المعصومِين! لأن العصمة عند أهل العدل لطفٌ يمنع من اختُص به من ارتكاب القبيح. فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل، فوجب أن يكون ثوابه أنقص من ثوابِ من أطاع مع (عدم) تلك الألطاف.
وكيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره، وقد جاء في الخبر أنه أسلم يوم الثلاثاء واستنبئ النبي ﷺ يوم الاثنين؟ فمن هذه حاله لم تَكثُر حُجج الرسالة على سمعه، ولا تَواتَرَت أعلام النبوة على مشاهَدته، ولا تطاول الوقت عليه لتخف محنته ويسقط ثقل تكليفه، بل بان فضله وظهر حسن اختياره لنفسه؛ إذ أسلم في حال بلوغه وما عانى نوازع طبعه ولم يؤخر ذلك بعد سماعه.
وقد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورًا ورئيسًا معروفًا يجتمع إليه كثيرٌ من أهل مكة فينشدون الأشعار ويتذاكرون الأخبار ويشربون الخمر، وقد سمع دلائل النبوة وحجج الرسالة وسافر إلى البلدان ووصلت إليه الأخبار وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر والإسلام عليه أسهل والخواطر على قلبه أقل اعتلاجًا، وكل ذلك عونٌ لأبي بكر على الإسلام ومُسهِّل إليه سبيله. ولذلك لما قال النبي ﷺ: أتيت بيت المقدس، سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعِه فصدَّقه وبان له أمره وخَفَّت مؤنته لِما تَقدَّم من معرفته بالبيت. فخرج إذًا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب. وفي ذلك رَوَيتم عنه ﷺ أنه قال: ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا وكان له تَردُّد ونَبْوَةٌ إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والإسلام. فأين هذا وإسلام من خُلِّي وعقله وأُلجِئ إلى نظره مع صغرِ سنه واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته في ضد ما دخل فيه، والغالب على أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو؟ فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة ولم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته وغالب خواطره وخرج من عادته وما كان غذي به لصحةِ نظره ولطافةِ فكره وغامضِ فهمه، فعظُم استنباطه ورجَح فضله وشرُف قدْر إسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تَنعَّم فيها بنعيمٍ حدثًا ولا كبيرًا، وحمَى نفسه عن الهوى، وكَسَر شِرَّةَ حداثته بالتقوى، واشتغل بِهمِّ الدين عن نعيم الدنيا، وأشغل هم الآخرة قلبه ووَجَّه إليه رغبته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يُسلم عليه أحدٌ غيره.
وما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي ﷺ كمنزلة هارون من موسى، وأنه وإن لم يكن نبيًّا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكًا ولمنهاجهم مُتَّبعًا. وكانت حاله كحال إبراهيم عليه السلام. فإن أهل العلم ذكروا أنه لمَّا كان صغيرًا جَعلَته أمه في سَرَبٍ لم يطَّلع عليه أحد، فلما نشأ ودرج وعقل قال لأُمه: من ربي؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب أبي؟ فزَبرَته ونَهرَته، إلى أن طلع من السَّرَبِ فرأى كوكبًا فقال: هذا ربي، فلما أَفَل قال: لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازِغًا قال: هذا ربي، فلما أَفَل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالِّين، فلما رأى الشمس بازغةً قال: هذا ربي هذا أكبر، فلما أَفلَت قال: يا قوم إنِّي بريءٌ مما تشركون، إنِّي وَجَّهْت وجهي للذي فَطَر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المُشركِين. وفي ذلك يقول الله جل ثناؤه: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، وعلى هذا كان إسلام الصدِّيق الأكبر عليه السلام. لسنا نقول: إنه كان مُساويًا له في الفضيلة! ولكن كان مُقتدِيًا بطريقه على ما قال الله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
وأما اعتلال الجاحظ بأن له ظَهرًا كأبي طالب ورِدْأً كبني هاشم، فإنه يوجب عليه أن يكون مِحنة أبي بكر وبلال وثوابُهما وفَضْل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ﷺ؛ لأن أبا طالب ظَهْره وبني هاشم رِدْؤه! وحسبك جهلًا من معاندٍ لم يستطع حَط قَدْر عليٍّ عليه السلام إلا بِحطِّه من قدْر رسول الله ﷺ! ولم يكن أحدٌ أَشَد على رسول الله ﷺ من قراباته الأدنى منهم فالأدنى، كأبي لهبٍ عمه، وامرأةِ أبي لهبٍ وهي أم جميل بنت حرب بن أمية وإحدى أولاد عبدِ مناف، ثم ما كان من عُقبة بن مُعيط وهو ابن عمه، وما كان من النضر بن الحارث وهو من بني عبد الدار بن قُصي وهو ابن عمه أيضًا، وغير هؤلاء ممن يطول تَعداده. وكلهم كان يطرح الأذى في طريقه وينقل أخباره ويرميه بالحجارة ويرمي الكَرْش والفَرْث عليه. وكانوا يُؤذون عليًّا عليه السلام كأذاه، ويجتهدون في غمه ويستهزئون به. وما كان لأبي بكر قرابةٌ تُؤذيه كقرابة علي، ولمَّا كان بين عليٍّ وبين النبي ﷺ من الاتحاد والإلف والاتفاق أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله ﷺ خوفًا من سيفه، وأنه صاحب الدار والجيش وأمره مُطاع وقوله نافذ، فخافوا على دمائهم منه فاتَّقُوه وأمسكوا عن إظهار بُغضِه وأظهروا بُغض عليٍّ عليه السلام وشنآنه، فقال رسول الله ﷺ في حقه — في الخبر الذي رُوي في جميع الصحاح: «لا يحبك إلا مؤمن ولا يُبغِضك إلا منافق.» وقال كثير من أعلام الصحابة — كما رُوي في الخبر المشهور بين المُحدِّثِين: ما كُنَّا نعرف المُنافقِين إلا بِبُغض عليِّ بن أبي طالب. وأين كان ظهر أبي طالب عن جعفر وقد أزعجه الأذى عن وطنه حتى هاجر إلى بلاد الحبشة وركب البحر؟ أيتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليًّا وخذل جعفرًا؟
قال أبو جعفر:
أما ما ذكر من كثرة المال والصَّديق واستفاضة الذكر وبُعد الصيت وكبر السن، فكله عليه لا له؛ وذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب وأخلاقها حفظ الصديق والوفاء بالذِّمام والتهيُّب لذي الثروة واحترام ذي السن العالية، وفي كل هذا ظهرٌ شديدٌ وسندٌ وثقةٌ يُعتمد عليها عند المِحن؛ ولذلك كان المرء منهم إذا تَمكَّن من صديقه أبقى عليه واستحيا منه وكان ذلك سببًا لنجاته والعفو عنه. على أن عليَّ بن أبي طالب إن لم يكن شَهَره سِنه فقد شَهَره نسبه وموضعه من بني هاشم، وإن لم يَستفِض ذكره بلقاء الرجال وكثرة الأسفار استفاض بأبي طالب! فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بُعد الصِّيت كهاشم، ولا أبو قحافة كأبي طالب، وعلى حَسَب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن ويَبعُد صِيت الحَدَث على الشيخ. ومعلومٌ أيضًا أن عليًّا على أعناق المُشركِين أثقل؛ إذ كان هاشميًّا، وإن كان أبوه حامِيَ رسول الله ﷺ والمانع لحَوْزته، وعليٌّ هو الذي فتح على العرب باب الخلاف واستهان بهم بما أظهر من الإسلام والصلاة وخالف رهطه وعشيرته وأطاع ابن عمه فيما لم يُعرف من قبلُ ولا عُهِد له نظير، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، ثم كان بعدُ صاحب رسول الله ﷺ ومُشتكَى حُزنه وأنيسه في خلوته وجليسه وأليفه في أيامه كلها، وكل هذا يُوجِب التحريض عليه ومُعاداة العرب له.
ثم أنتم — معاشر العثمانية — تُثبتون لأبي بكر فضيلةً بصحبة الرسول ﷺ من مكة إلى يثرب ودخوله معه في الغار، فقلتم مَرتبةٌ شريفة وحالةٌ جليلة؛ إذ كان شريكه في الهجرة وأنيسه في الوحشة! فأين هذه من صحبة عليٍّ له في خلوته وحيث لا يجد أنيسًا غيره ليله ونهاره أيام مُقامه بمكة يَعبُد الله معه سرًّا ويَتكلَّف له الحاجة جهرًا، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه، ويُشفق عليه ويحوطه، وكالولد يَبَر والده ويعطف عليه؟ ولما سُئلت عائشة: من كان أَحَب الناس إلى رسول الله ﷺ؟ قالت: أمَّا من الرجال فعلي، وأمَّا من النساء ففاطمة.
قال أبو جعفر:
أما القول فممكن، والدعوى سهلة، سيما على مثل الجاحظ، فإنه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد. فمعناه نَزْر، وقوله لغو، ومطلبه سجع، وكلامه لعب ولهو. يقول الشيء وخلافه، ويُحسِّن القول وضده، ليس له من نفسه واعظ، ولا لدعواه حَدٌّ قائم. وإلا فكيف تجاسر على القول بأن عليًّا حينئذٍ لم يكن مطلوبًا ولا طالبًا؟ وقد بيَّنا بالأخبار الصحيحة والحديث المرفوع السند أنه كان يوم أسلم بالغًا كاملًا مُنابذًا بلسانه وقلبه لمُشركي قريش، ثقيلًا على قلوبهم، وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب، وصاحب الخلوات برسول الله ﷺ في تلك الظلمات، المُتجرِّع لغُصَص المَرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما، والمُصطلِي لكل مكروه، والشريك لنبيِّه في كل أذًى، قد نهض بالحمل الثقيل، وبان بالأمر الجليل. ومن الذي كان يخرج ليلًا من الشعب على هيئة السارق ويُخفي نفسه ويضائل شخصه حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش كمطعم بن عدي وغيره، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح، وهو على أَشدِّ خوفٍ من أعدائهم كأبي جهل وغيره لو ظَفِروا به لأراقوا دمه. أعليٌّ كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر؟ وقد ذكر هو عليه السلام حاله يومئذٍ فقال في خطبة له مشهورة: «فتعاقدوا على ألَّا يعاملونا ولا يناكحونا، وأوقدت الحرب علينا نيرانها واضطُررنا إلى جبلٍ وَعْر، مؤمنًا يرجو الثواب وكافرًا يحامي عن الأصل.» ولقد كانت القبائل كلها اجتَمعَت عليهم وقطعوا عنهم المادة والمِيرة، فكانوا يتوقعون الموت جوعًا صباحًا ومساءً، لا يرون وجهًا ولا فرجًا، قد اضمحل عزمهم وانقطع رجاؤهم. فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المِحن بعد محمد ﷺ إلا عليٌّ عليه السلام وحده؟ وما عسى أن يقول الواصف والمُطنِب في هذه الفضيلة من تَقصِّي معانيها وبلوغ غاية كُنهها وفضيلة الصابر عندها؟ ودامت هذه المحنة عليهم ثلاثَ سِنين حتى انفَرجَت عنهم بقصة الصحيفة، والقصة مشهورة.
وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في عليٍّ عليه السلام أنه قبل الهجرة كان وادعًا رافهًا لم يكن مطلوبًا ولا طالبًا، وهو صاحب الفراش الذي فدا رسول الله ﷺ بنفسه ووَقَاه بِمُهجتِه واحتَمَل السيوف ورُضِخ بالحجارة دونه؟ وهل ينتهي الواصف وإن أطنب، والمادح وإن أسهب، إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة والإيضاح بمَزيَّة هذه الخصيصة؟
فأما قوله: إن أبا بكر عُذِّب بمكة، فإنَّا لا نعلم أن العذاب كان واقعًا إلا بعبد أو عَسيف أو لمن لا عشيرة له تمنعه! فأنتم في أبي بكر بين أَمرَين، تارةً تجعلونه دخيلًا ساقطًا وهجينًا رذيلًا ومُستضعَفًا ذليلًا، وتارةً تجعلونه رئيسًا مُتَّبَعًا وكبيرًا مُطاعًا! فاعتمدوا على أحد القولَين لِنُكلِّمكم بحَسَب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب لكان عَمَّارٌ وخبَّابٌ وبِلالٌ وكل مُعذَّبٍ بمكة أفضل من أبي بكر؛ لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه! كقوله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، قالوا: نزلت في خباب وبلال. ونزل في عمار قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وكان رسول الله ﷺ يمرُّ على عمار وأبيه وأمه وهم يُعذَّبون، يُعذِّبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم، فيقول: صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة. وكان بلال يُقلَّب على الرمضاء وهو يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ. وما سمعنا لأبي بكر في شيءٍ من ذلك ذكرًا. ولقد كان لعليٍّ عليه السلام عنده يدٌ غراء — إن صحَّ ما رَوَيتموه في تعذيبه — لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر. ضرب نوفلًا فقطع ساقه، فقال: أُذكِّرك الله والرحم! فقال: قد قطع الله كل رحم وصهر إلا من كان تابعًا لمحمد. ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه. وصمد لعمير بن عثمان التيمي فوجده يروم الهرب وقد ارتَجَّ عليه المسلك، فضربه على شراسيفِ صَدره فصار نصفه الأعلى بين رِجلَيه. وليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما ويجتهد، لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل عليٍّ عليه السلام. فبان عليٌّ بفعله دونه.
قال أبو جعفر:
لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان والخطأ أقعده، والخِذلان أصاره إلى الحَيرة، فما عَلِم وعَرف حتى قال ما قال، فزعم أن عليًّا عليه السلام قبل الهجرة لم يُمتحن ولم يُكابد المشاق، وأنه إنما قاسى مَشاقَّ التكليف ومِحَن الابتلاء منذ يوم بدر، ونسي الحصار في الشعب وما مُني به منه، وأبو بكر وادعٌ رافهٌ يأكل ما يريد ويجلس مع من يحب مُخلَّى سريه طيبةً نفسه، ساكنًا قلبه، وعليٌّ يُقاسي الغَمَرات ويُكابد الأهوال ويجوع ويظمأ، ويَتوقَّع القتل صباحًا ومساءً؛ لأنه كان هو المُتوصِّل المحتال في إحضارِ قُوتٍ زهيدٍ من شيوخ قريش وعقلائها سِرًّا ليقيم به رَمَق رسول الله ﷺ وبني هاشم وهم في الحصار ولا يأمن في كل وقتٍ مفاجأة أعداء رسول الله ﷺ له بالقتل كأبي جهل بن هشام وعقبة بن أبي مُعيط والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها. ولقد كان يُجيع نفسه ويُطعم رسول الله ﷺ زاده، ويُظمئ نفسه ويسقيه ماءه، وهو كان المُعلِّل له إذا مرض، والمُؤنِس له إذا استوحش. وأبو بكر بنَجوةٍ عن ذلك لا يمَسُّه مما يمسهم ألم، ولم يَلحَقه مما يَلحقُهم مَشقَّة، ولا يعلم بشيءٍ من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ثلاثَ سِنينَ مُحرَّمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم، محبوسِين محصورِين ممنوعِين من الخروج والتصرف في أنفسهم. فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسي هذه الخصيصة ولا نظير لها؟ ولكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يَسُوغ له لفظه وتتسق له خطابته ما يضيع من المعنى ويرجع عليه من الخطأ.
فأما قوله: وعلموا أن العاقبة للمتقين، ففيه إشارة إلى معنًى غامض قصده الجاحظ، يعني ألَّا فضيلة لعليٍّ عليه السلام في الجهاد لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور وأن العاقبة له، وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته، وليس بحقٍّ ما قاله؛ لأن رسول الله ﷺ أعلم أصحابه جُملةً أن العاقبة لهم ولم يُعلِم واحدًا منهم بعينه أنه لا يُقتل، ولا عليًّا ولا غيره، وإن صحَّ أنه كان أعلمه أنه لا يُقتل فلم يُعلِمه أنه لا يُقطع عُضوٌ من أعضائه، ولم يُعلِمه أنه لا يمسه ألم الجُرح في جسده، ولم يُعلِمه أنه لا يناله الضرب الشديد! وعلى أن رسول الله ﷺ قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر وهو يومئذٍ بمكة أن العاقبة لهم كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك! فإن لم يكن لعليٍّ والمجاهدين فضيلة في الجهاد وبعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك، فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المَشاقِّ قبل الهجرة لإعلامه إياه بذلك! فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر، وأنه قال له: أُرسِلتُ إلى هؤلاء بالذبح وإن الله سيُغنِمنا أموالهم ويُملِّكنا ديارهم. فالقول في الموضعين مُتساوٍ ومُتفِق.
قال أبو جعفر:
ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم وأشدهم مِحنةً إلَّا بقوله: لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول ﷺ بها. وهذه الحُجة لا تخص أبا بكر وحده؛ لأن عليًّا أقام معه هذه المدة وكذلك طلحة وزيد وعبد الرحمن وبلال وغيرهم، وقد كان الواجب عليه أن يخصَّ أبا بكر وحده بحُجة تدل على أنه كان أغلظ الجماعة وأشدهم مِحنةً بعد رسول الله ﷺ، فالاحتجاج في نفسه فاسد. ثم يقال له: ما بالُك أَهمَلتَ أَمْر مَبيتِ عليٍّ على الفراش بمكة ليلة الهجرة؟ هل نَسِيته أم تَناسَيته؟ فإنها المِحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التي متى امتَحنَها الناظر وأجال فِكره فيها رأى تحتها فضائلَ مُتفرِّقة ومناقبَ مُتغايِرة؛ وذلك أنه لما استقر الخبر عند المُشركِين أن رسول الله ﷺ مُجمِعٌ على الخروج من بينهم للهجرة إلى غيرهم قصدوا مُعاجَلته وتعاقدوا على أن يُبيِّتوه في فراشه وأن يضربوه بأسيافٍ كثيرةٍ بيد كلِ صاحبِ قبيلةٍ من قريشٍ سيفٌ منها ليضيع دمه بين الشعوب ويتفرق بين القبائل، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلةً واحدةً بعينها من بطون قريش، وتحالفوا على تلك الليلة واجتمعوا عليها. فلمَّا علم رسول الله ﷺ ذلك من أمرهم دعا أَوثَق الناس عنده وأَمثَلَهم في نفسه وأَبذَلَهم في ذات الله لمُهجته وأسرعهم إجابةً إلى طاعته، فقال له: إن قريشًا قد تحالَفَت على أن تُبيِّتني هذه الليلة، فامضِ إلى فراشي ونم في مَضجَعي والتفَّ في بُردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج، وإني خارجٌ إن شاء الله. فمنعه أوَّلًا من التحرز وإعمال الحيلة، وصَدَّه عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه إلى أن يُعرِّض نفسه لظُبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحَنَق والضغينة. فأجاب إلى ذلك سامعًا مُطيعًا طيبةً بها نفسه، ونام على فراشه صابرًا محتسبًا واقيًا له بمهجته، ينتظر القتل. ولا نعلم فوق بذل النفس درجةً يلتمسها صابر ولا يبلغها طالب، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ولولا أن رسول الله ﷺ علم أنه أهلٌ لذلك لما أَهَّله، ولو كان عنده نقصٌ في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه واختير لذلك لكان من اختاره ﷺ منقوصًا في رأيه مُضرًّا في اختياره، ولا يجوز أن يقول هذا أحدٌ من أهل الإسلام، وكلهم مُجمِعون على أن الرسول ﷺ عمل الصواب وأحسن في الاختيار. ثُمَّ في ذلك إذا تأمَّل المُتأمِّل وجوهٌ من الفضل:
منها أنه وإن كان عنده في موضع الثقة، فإنه غير مأمونٍ عليه ألَّا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقاه من الأعداء.
ومنها أنه وإن كان ضابطًا للسر ثقة عند من اختاره، فغير مأمونٍ عليه الجُبن عند مُفاجأة المكروه ومُباشرة الأهوال، فيفرُّ من الفراش فيُفْطَن لموضع الحِيلة ويُطلب رسول الله ﷺ فيُظفر به.
ومنها أنه وإن كان ثقةً ضابطًا للسر شُجاعًا نَجْدًا، فلعله غير مُحتمِل للمبيت على الفراش؛ لأن هذا أمرٌ خارج عن الشجاعة إذ كان قد أقامه مقام المكتوف الممنوع، بل هو أشد مَشقةً من المكتوف الممنوع؛ لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه أنه لا سبيل له إلى الهرب، وهذا يجد السبيل إلى الهرب وإلى الدفع عن نفسه ولا يهرب ولا يدافع.
ومنها أنه وإن كان ثقة عنده ضابطًا للسر شُجاعًا مُحتمِلًا للمَبيت على الفراش، فإنه غير مأمونٍ أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة والعذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده ويصير إلى الإقرار بما يعلمه، وهو أنه أخذ طريق كذا، فيُطلب فيُؤخذ.
فلهذا قال علماء المسلمين: إن فضيلة عليٍّ تلك الليلة لا نعلم أحدًا من البشر نال مثلها إلا ما كان من إسحق وإبراهيم عند استسلامه للذبح. ولولا أن الأنبياء لا يَفضُلهم غيرهم لقلنا إن مِحنةَ عليٍّ أعظم؛ لأنه قد رُوي أن إسحق تلكأ لما أمره أن يَضطجِع وبكى على نفسه، وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة؛ ولذلك قال له: فانظر ماذا ترى. وحالُ عليٍّ بخلاف ذلك لأنه ما تلكَّأ ولا تمنَّع ولا تغيَّر لونه ولا اضطَرَبَت أعضاؤه. ولقد كان أصحاب النبي ﷺ يشيرون عليه بالرأي المخالف لِما كان أَمَر به وتَقدَّم فيه فيتركه ويعمل بما أشاروا به، كما جرى يوم الخندق في مُصانعته الأحزاب بثُلث تمر المدينة فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه. وهذه كانت قاعدته معه وعادته بينهم. وقد كان لعليٍّ أن يَعتلَّ بِعِلةٍ وأن يقف ويقول: يا رسول الله، أكون معك أحميك من العدو وأذب بسيفي عنك، فلستَ مُستغنيًا في خروجك عن مثلي، ونجعل عبدًا من عبيدنا في فراشك قائمًا مقامك يتوهم القوم برؤيته نائمًا في بردك أنك لم تخرج ولم تفارق مركزك. فلم يقُل ذلك ولا تحبَّس ولا توقَّف ولا تلعثم؛ وذلك لعلم كلِّ واحدٍ منهما أن أحدًا لا يصبر على ثقل هذه المِحنة ولا يَتورَّط هذه الهَلَكة إلا من خَصَّه الله تعالى بالصبر على مَشقَّتها والفوز بفَضيلتها.
وله من جنس ذلك أفعالٌ كثيرةٌ، كيوم دعا عمرو بن عبد ود المُسلمِين إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم عنه لِمَا علِموا من بأسه وشدته، ثُمَّ كَرَّر النداء فقام عليٌّ فقال: أنا أَبرُز إليه! فقال له رسول الله ﷺ: إنه عمرو! قال: نعم، وأنا علي! فأمره بالخروج إليه، فلما خرج قال ﷺ: برز الإيمان كله إلى الشرك كله. وكيوم أُحُد حيث حمى رسول الله ﷺ من أبطال قريش وهم يقصدون قتله فقتلهم دونه حتى قال جبريل: يا محمد، إن هذه هي المُواساة! فقال: إنه مني وأنا منه. فقال جبريل: وأنا منكما. ولو عَدَدْنا أيامه ومقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأَطَلْنا وأَسهَبْنا.
قال أبو جعفر:
هذا فرقٌ غير مُؤثِّر؛ لأنه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش فلا فرق بينه وبين ما ذُكر في نص الكتاب ولا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة. أرأيت كون الصلوات خمسًا؟ وكون زكاة الذهب ربع العشر؟ وكون خروج الريح ناقضًا للطهارة؟ وأمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه، هل هو مخالف لما نُصَّ في الكتاب عليه من الأحكام؟ هذا مما لا يقوله رشيد ولا عاقل! على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب، وإنما قال: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ، وإنما علمنا أنه أبو بكر بالخبر وما ورد في السير، وقد قال أهل التفسير: إن قوله تعالى: وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ كناية عن علي لأنه مكر بهم، وأول الآية: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أُنزِلَت في ليلة الهجرة، ومكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش، ومكر الله تعالى هو منام عليٍّ على الفراش، فلا فرق بين الموضعَين في أنهما مذكوران كنايةً لا تصريحًا. وقد روى المفسرون كلهم أن قول الله تعالى: مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ أُنزِلَت في علي ليلة المبيت على الفراش، فهذا مثل قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا فرق بينهما.
قال أبو جعفر:
هذا هو الكذب الصراح والتحريف والإدخال في الرواية ما ليس منها، والمعروف المنقول أنه ﷺ قال له: اذهب فاضطجع في مَضجَعي وتَغشَّ ببردي الحضرمي، فإن القوم سيَفقِدونني ولا يَشهَدون مَضجَعي، فلعلهم إذا رأوك يُسكِّنهم ذلك حتى يُصبحوا، فإذا أَصبَحتَ فاغدُ في أداء أمانتي. ولم ينقل ما ذكره الجاحظ، وإنما ولَّده أبو بكر الأصم وأخذه الجاحظ ولا أصل له. ولو كان هذا صحيحًا لم يصل إليه منهم مكروه، وقد وقع الاتفاق على أنه ضُرب ورُميَ بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تَضوَّر، وأنهم قالوا له: رأينا تضورك، فإنا كُنَّا نرمي محمدًا ولا يَتضوَّر. ولأن لفظة المكروه — إن كان قالها — إنما يُراد بها القتل، فهب أنه أَمِن القتل كيف يَأمَن من الضرب والهوان ومن أن ينقطع بعض أعضائه وإن سَلِمَت نفسه؟ أليس الله تعالى قال لنبيه: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ؟ ومع ذلك فقد كُسرت رَباعيته وشُج وجهه وأُدميت ساقه؛ وذلك لأنها عصمةٌ من القتل خاصة، وكذلك المكروه الذي أُومن عليٌّ منه — إن كان صح ذلك في الحديث — إنما هو مكروه القتل. ثم يُقال له: وأبو بكر لا فضيلة له أيضًا في كونه في الغار! لأن النبي ﷺ قال له: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا، ومن يكن الله معه فهو آمنٌ لا محالة من كل سوء، فكيف قلت: «ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك؟» فكل ما يُجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أَورَده، فنقول له: هذا ينقلب عليك في النبي ﷺ؛ لأن الله تعالى وعده بظهور دينه وعاقبة أمره! فيجب على قولك ألَّا يكون مُثابًا عند الله تعالى على ما يَحتمِله من المكروه ولا ما يُصيبه من الأذى؛ إذ كان قد أيقن بالسلامة والفتح في عِدَتِهِ!
قال أبو جعفر:
إن أبا عثمان يجرُّ على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة، ولقد كان في غُنية عن التعلُّق بما تعلق به؛ لأن الشيعة تزعم أن هذه الآية بأن تكون طعنًا وعيبًا على أبي بكر أَوْلى من أن تكون فضيلة ومنقبة له؛ لأنه لما قال: لَا تَحْزَنْ، دلَّ على أنه قد كان حَزِن وقَنِط وأَشفَق على نفسه، وليس هذا من صفات المُؤمنِين الصابرِين، ولا يجوز أن يكون حُزنه طاعةً لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة؛ فلو لم يكن ذنبًا لم يَنهَ عنه. وقوله: إِنَّ اللهَ مَعَنَا أي إن الله عالم بحالنا وما نُضمِره من اليقين أو الشك، كما يقول الرجل لصاحبه: لا تُضمِرن سوءًا ولا تنوِيَن قبيحًا؛ فإن الله تعالى يعلم ما نُسِرُّه وما نُعلِنه. وهذا مثل قوله تعالى: وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا أي هو عالم بهم. وأمَّا السكينة، فكيف يقول إنها ليست راجعة إلى النبي ﷺ وبعدها قوله: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا؟ أترى المُؤيَّد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله ﷺ؟ وقوله: إنه مُستغنٍ عنها، ليس بصحيح. ولا يستغنى أحد عن ألطاف الله وتوفيقه وتأييده وتثبيت قلبه. وقد قال الله تعالى في قصة حُنين: وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثم وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثم أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ. وأمَّا الصحبة فلا تدلُّ إلا على المرافقة والاصطحاب لا غير، وقد تكون حيث لا إيمان كما قال الله تعالى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ، ونحن وإن كُنَّا نعتقد إخلاص أبي بكر وإيمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة إلا أنَّا لا نَحتجَّ له بمثل ما احتجَّ به الجاحظ من الحُجج الواهية، ولا نَتعلَّق بما يَجُر علينا دواهي الشيعة ومَطاعِنها!
قال أبو جعفر:
أما كثرة المستجيبين، فالفضل فيها راجع إلى المجيب لا إلى المُجاب. على أنَّا قد علمنا أن من استجاب لموسى أكثر ممن استجاب لنوح عليهما السلام، وثوابُ نوحٍ أكثر بصبره على الأعداء ومُقاساة خلافهم وعنتهم. وأمَّا إنفاق المال، فأين مِحنة الغنى من مِحنة الفقر؟ وأين يعتدل إسلام من أسلم وهو غني إن جَاع أَكَل وإن أعيا ركِب وإن عَرِي لَبِس، قد وَثِق بيساره واستغنى بماله واستعان على نوائب الدنيا بثروته، ممن لا يجد قُوت يومه وإن وجد لم يستأثر به فكان الفقر شِعاره؟ وفي ذلك قيل: الفقر شِعار المؤمن. وقال الله تعالى لموسى: «يا موسى، إذا رَأيتَ الفقر مقبلًا فقل: مرحبًا بشعار الصالحين.» وفي الحديث: «إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخَمسمائةِ عام.» وكان النبي ﷺ يقول: «اللهم احشرني في زمرة الفقراء.» ولذلك أرسل الله محمدًا ﷺ فقيرًا، وكان بالفقر سعيدًا، فقاسى مِحنة الفقر ومُكابَدة الجوع حتى شدَّ الحجر على بطنه. وحسبك بالفقر فضيلةً في دين الله لمن صبر عليه؛ فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه لأنه مُنافٍ لمال الدنيا وأهلها، وإنما هو شعار أهل الآخرة. وأمَّا طاعة عليٍّ عليه السلام وكون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عِز محمدٍ عِزَّه وعِزَّ رهطه بخلافِ طاعةِ أبي بكر، فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك، وجهاد عبيدة بن الحارث، وهجرة جعفر إلى الحبشة، بل لعل مُحاماة المهاجرِين من قريش على رسول الله ﷺ كانت لأن في دَولِته دَولتَهم وفي نُصرته استجدادَ مُلكٍ لهم، وهذا يَجرُّ إلى الإلحاد ويفتح باب الزندقة ويُفضي إلى الطعن في الإسلام والنبوة.
قال أبو جعفر:
قد بيَّنا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة في الغار بما هو واضح لمن أنصف، ونزيد ههنا تأكيدًا بما لم نذكره فيما تقدم، فنقول:
- أحدهما: أن عليًّا عليه السلام قد كان أَنِس بالنبي ﷺ وحصَل له بمُصاحَبته قديمًا أُنسٌ عظيم وإلفٌ شديد، فلما فارقه عدِم ذلك الأُنس وحصل عليه أبو بكر، فكان ما يجده عليٌّ من الوَحشة وأَلَم الفُرقة موجبًا زيادة ثوابه؛ لأن الثواب على قَدْر المشقة.
- وثانيهما: أن أبا بكر كان يُؤثِر الخروج من مكة، وقد كان خرج من قبلُ فرُدَّ، فازداد كراهيةً للمقام. فلما خرج مع رسول الله ﷺ وافق ذلك هوى قلبه ومحبوب نفسه، فلم يكن له في الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة وعرَّض نفسه لوقْع السيوف ورأسه لرضْح الحجارة؛ لأنه على قدْر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب.
قال أبو جعفر:
كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مظعون وتضُرُّ به وهو فيهم ذو سَطْوة وقدْر وتترك أبا بكر يبني مسجدًا يفعل فيه ما ذكرتم، وأنتم الذين رَوَيتم عن ابن مسعود أنه قال: ما صلَّيْنا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب؟ والذي تذكرونه من بناء المسجد كان قبل إسلام عمر، فكيف هذا؟! وأمَّا ما ذكرتم من رِقَّة صوته وعِتق وجهه، فكيف يكون ذلك وقد روى الواقدي وغيره أن عائشة رأت رجلًا من العرب خفيف العارضَين، معروق الخدَّين، غائر العينَين، أجنى لا يُمسك إزاره، فقالت: ما رَأيتُ أشبه بأبي بكر من هذا؟! فلا نراها دلَّت على شيءٍ من الجمال في صفته.
قال أبو جعفر:
هذا الكلام وهُجر السَّكْران سواءٌ في تقارب المخرج واضطراب المعنى. وذلك أن قريشًا لم تقدر على أذى رسول الله ﷺ وأبو طالب حيٌّ يمنعه، فلما مات طلبته لتقتله، فخرج تارةً إلى بني عامر وتارةً إلى ثقيف، وتارةً إلى بني شيبان، ولم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلَّا مُستترًا حتى أجاره مطعم بن عدي. ثم خرج إلى المدينة فبَذلَت فيه مائةَ بعيرٍ لشدة حَنَقها عليه حين فاتها فلم تَقدِر عليه. فما بالُها بَذلَت في أبي بكر مائةَ بعيرٍ أُخرى وقد كان رد الجوار وبقي بينهم فردًا لا ناصر له ولا دافِع عنه يصنعون به ما يريدون؟ إمَّا أن يكونوا أجهل البرية كلها، أو يكون العثمانية أكذبَ جيلٍ في الأرض وأوقحه وجهًا، وهذا مما لم يُذكر في سيرة ولا رُوي في أَثَر ولا سمع به بشر ولا سَبق الجاحظَ به أحد.
قال أبو جعفر:
ما أعجب هذا القول إذ تدَّعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء وحُسن الاحتجاج، وقد أسلم ومعه في منزله ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يُدخله في الإسلام طوعًا برفقه ولطفِ احتجاجه ولا كَرهًا بقطع النفقة عنه وإدخال المكروه عليه، ولا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القَدْر ما يُطيعه فيما يأمره به ويدعوه إليه. كما رُوي أن أبا طالب فقد النبي ﷺ يومًا — وكان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه — فخرج ومعه ابنه جعفر يطلبانه، فوجده قائمًا في بعضِ شعاب مكة يُصلي وعليٌّ معه عن يمينه، فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر: تقدم وصِل جناح ابن عمك، فقام جعفر عن يسار محمد ﷺ، فلما صاروا ثلاثةً تقدَّم رسول الله ﷺ وتأَخَّر الأَخَوان، فبكى أبو طالب وقال:
فتذكر الرواة أن جعفرًا أسلم منذ ذلك اليوم؛ لأن أباه أمره بذلك وأطاع أمره. وأبو بكر لم يَقْدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الإسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة وخرج يوم أُحُد في عسكر المُشركِين ينادي: أنا عبد الرحمن بن عتيق، هل من مُبارز؟ ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح، وهو اليوم الذي دَخلَت فيه قريش في الإسلام طوعًا وكرهًا ولم يجد أحدٌ منها إلى ترك ذلك سبيلًا. وأين كان رفق أبي بكر وحسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة وهما في دارٍ واحدة؟ هلا رفق ودعاه إلى الإسلام فأسلم؟ وقد علِمتم أنه بقي على الكفر إلى يوم الفتح فأحضره ابنه عند النبي ﷺ وهو شيخٌ كبيرٌ رأسه كالثَّغَامة فنَفَر رسول الله ﷺ منه وقال: «غَيِّروا هذا.» فخَضَبُوه، ثم جاءوا به مرةً أُخرَى فأسلم. وكان أبو قحافة فقيرًا مُدقعًا سيئ الحال، وأبو بكر عندهم كان مُثرِيًا فائض المال فلم يُمكِنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة والإحسان. وقد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه — واسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد عبد ود العامرية — لم تسلم، وأقامت على شركها بمكة وهاجر أبو بكر وهي كافرة، فلما نزل قوله تعالى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ فطلَّقها أبو بكر. فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرباء أعجز. ومن لم يقبل منه أبوه وابنه وامرأته لا برفقٍ واحتجاجٍ ولا خوفًا من قطع النفقة عنهم وإدخال المكروه عليهم، فغيرهم أقل قبولًا منه وأكثر خلافًا عليه.
أخبرونا مَن هذا الذي أسلم في ذلك اليوم من أهل بيت أبي بكر إذا كانت امرأته لم تُسلم، وابنه عبد الرحمن لم يُسلم، وأبو قحافة لم يُسلم، وأخته أم فروة لم تُسلم، وعائشة لم تكن قد وُلدت في ذلك الوقت لأنها وُلدت بعد مبعث النبي ﷺ بخمس سنين، ومحمد بن أبي بكر وُلد بعد مبعث الرسول بثلاث وعشرين سنة لأنه وُلد في حجة الوداع، وأسما بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم مبعث رسول الله بنتَ أربعِ سنين، وفي رواية من يقول بنت سنتين. فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم؟! نعوذ بالله من الجهل والكذب والمكابرة. وكيف أسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء أبي بكر وليسوا من رهطه ولا من أترابه ولا من جلسائه ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة ولا أُنسٌ وَكِيد؟ وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة لم يدخلهما في الإسلام برفقه وحسن دعائه، وقد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثه؟ وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام وقد ذكرتم أنه أدَّبه وخرَّجه ومنه أخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها؟ فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم وهم منه بالحال التي وصفنا ودعا مَن لم يكن بينه وبينه أُنس ولا معرفة إلا معرفة عيان؟ وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب وقد كان شَكلَه وأقرب الناس شبهًا به في أغلب أخلاقه؟ وإن رجعتم إلى الإنصاف لتَعلمُن أن هؤلاء لم يكن إسلامهم إلا بدعاء الرسول ﷺ لهم وعلى يدَيه أسلموا. ولو فكَّرتم في حُسْن التأتِّي في الدعاء لَيَصِحَّنَّ لأبي طالب في ذلك — على شِركِه — أضعافُ ما ذكرتموه لأبي بكر؛ لأنكم رَوَيتم أن أبا طالب قال لعليٍّ: يا بُني الزَمْه، فإنه لن يدعوك إلَّا إلى خير. وقال لجعفر: صِل جناح ابن عمك. فأسلم بقوله. ولأجله أصفق بنو عبدِ منافٍ على نُصرة رسول الله ﷺ بمكة من بني مخزوم وبني سهم وبني جمح، ولأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب، وبدعائه وإقباله على محمد ﷺ أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد، فهو أحسن رفقًا وأيمن نقيبةً من أبي بكر وغيره، وما منعه عن الإسلام — إن ثبت أنه لم يسلم — إلا تَقيَّة. وأبو بكر لم يكن له إلا ابنٌ واحدٌ وهو عبد الرحمن فلم يمكنه أن يُدخله في الإسلام ولا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله ﷺ، وفيه أُنزل: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وإنما يُعرف حسن رفق الرجل وتأتِّيه بأن يصلح أوَّلًا أَمْر بيته وأهله ثم يدعو الأقرب فالأقرب؛ فإن رسول الله ﷺ لما بُعث كان أول من دعا زوجته خديجة، ثم مكفوله وابن عمه عليًّا، ثم مولاه زيدًا، ثم أم أيمن خادمته، فهل رأيتم أحدًا ممن كان يأوي إلى رسول الله ﷺ لم يسارع؟ وهل التاثَ عليه أحدٌ من هؤلاء؟ فهكذا يكون حسن التأتِّي والرفق في الدعاء. هذا ورسول الله مُقِل وهو من جُملة عِيالِ خديجة حين بعثه الله تعالى، وأبو بكر عندكم كان مُوسرًا وكان أبوه مُقْتِرًا، وكذلك ابنه وامرأته أم عبد الله، والمُوسِر في فطرة العقول أَوْلى أن يُتَّبَع من المُقتِر. وإنما حُسن التأتِّي والرفق في الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه، وما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم، وما صنع بُريدة بن الخصيب بأسلم لما دعاهم، قالوا: أسلم بدعائه ثمانون بيتًا من قومه. وأسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يومٍ واحد. وأمَّا من لم يسلم ابنه ولا امرأته ولا أبوه ولا أخته بدعائه فهيهات أن يُوصَف ويُذكر بالرفق في الدعاء وحُسن التأتِّي والأناة.
أمَّا بلال وعامر بن فُهيرة فإنما أعتقهما رسول الله ﷺ — روى ذلك الواقدي وابن إسحق وغيرهما — وأمَّا باقي مواليهم الأربعة فإن سامحناكم في دعواكم لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم إلا مائة درهم أو نحوها، فأيُّ فخرٍ في هذا؟ وأمَّا الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى أي لأن يعود، وقال غيره: نزلت في مصعب بن عمير.
أخبرونا على أيِّ نوائبِ الإسلام أنفق هذا المال، وفي أي وجهٍ وضعه! فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويُدرَس حتى يفوت حفظه ويُنسَى ذكره، وأنتم فلم تقفوا على شيءٍ أكثر من عتقه — بزعمكم — سِتَّ رقابٍ لعلها لا يبلغ في ثمنها في ذلك العصر مائة درهم. وكيف يُدَّعى له الإنفاق الجليل وقد باع من رسول الله ﷺ بعيرَين عند خروجه إلى يثرب وأخذ منه الثمن في مثل تلك الحال؟ وروى ذلك جميع المُحدِّثِين. وقد رَوَيتم أيضًا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيًّا موسرًا، ورَوَيتم عن عائشة أنها قالت: «هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم.» وقلتم إن الله تعالى أنزل فيه: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى، قلتم: هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة. فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة؟ وقد رَوَيتم أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباء، وأن النبي ﷺ رآهم ليلة الإسراء فسأل جبريل عنهم فقال: «هؤلاء ملائكة تأسُّوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض فإنه سينفق عليك ماله حتى يخلل عباءه في عنقه.» وأنتم أيضًا رَوَيتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ الآية، لم يعمل بها إلا عليُّ بن أبي طالب وحده مع إقراركم بفقره وقلةِ ذاتِ يده، وأبو بكر في الحال الذي ذكرنا من السَّعة أمسك عن مُناجاته فعاتب الله المُؤمنِين في ذلك فقال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ، فجعله سبحانه ذنبًا يتوب عليهم منه، وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة، فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفًا وأمسك عن مناجاة الرسول وإنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمَين؟ وأما ما ذكر من كثرة عياله ونفقته عليهم فليس في ذلك دليلٌ على تفضيله؛ لأن نفقته على عياله واجبة، مع أن أرباب السير ذكروا أنه لم يكن ينفق على أبيه شيئًا وأنه كان أجيرًا لابن جُدعان على مائدته يطرد عنها الذباب.
إننا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم، ولَسْنا كالإماميَّة الذين يحملهم الهوى على جَحْد الأمور المعلومة، ولكننا ننكر تفضيلَ أحدٍ من الصحابة على عليِّ بن أبي طالب، ولسنا نُنكر غير ذلك، ونُنكر تعصب الجاحظ للعثمانية وقصده إلى فضائلِ هذا الرجل ومَناقبِه بالردِّ والإبطال. وأمَّا حمزة فهو عندنا ذو فضلٍ عظيمٍ ومقامٍ جليل، وهو سيد الشهداء الذين استُشهدوا على عهد رسول الله ﷺ. وأمَّا فضل عمر فغيرُ مُنكَر، وكذلك الزبير وسعد. وليس فيما ذُكِر ما يقتضي كون عليٌّ مفضولًا لهم أو لغيرهم، إلا قوله: «وكل هذه الفضائل لم يكن لعليٍّ فيها ناقة ولا جمل.» فإن هذا من التعصُّب البارد والحَيف الفاحش. وقد قَدَّمنا من آثارِ عليٍّ قبل الهجرة وما له إذ ذاك من المناقب والخصائص ما هو أعظم وأشرف من جميع ما ذُكر لهؤلاء. على أن أرباب السير يقولون إن الشجة التي شَجَّها سعد وإن السيف الذي سَلَّه الزبير هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي ﷺ وبني هاشم، وهو الذي سيَّر جعفرًا وأصحابه إلى الحبشة. وسَلُّ السيف في الوقت الذي لم يُؤمَر المسلمون فيه بِسلِّ السيف غيرُ جائز. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ، فتبين أن التكليف له أوقات، فمنها وقتٌ لا يَصلُح فيه سلُّ السيف ومنها وقتٌ يَصلُح فيه ويجب. فأمَّا قوله تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ، فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال. وأيضًا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردًا، وإنما قرن به القتال، ولم يكن أبو بكر صاحبَ قتالٍ وحرب، فلا تشمله الآية. وكان عليٌّ صاحبَ قتالٍ وإنفاقٍ قبل الفتح: أما قتاله فمعلومٌ بالضرورة، وأما إنفاقه فقد كان على حَسَب حاله وفقره، وهو الذي «أطعم الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا»، وأُنزلت فيه وفي زوجته وابنَيه سورةٌ كاملةٌ من القرآن، وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهمًا سرًّا ودرهمًا علانيةً ليلًا ثم أخرج منها في النهار درهمًا سرًّا ودرهمًا علانيةً فأُنزل فيه قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وهو الذي قدَّم بين يدَي نجواه صدقةً دون المسلمين كافَّة، وهو الذي تصدَّق بخاتمه وهو راكعٌ فأنزل الله فيه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.
لقد أُعطِي أبو عثمان مَقُولًا وحُرِم مَعقولًا، إن كان يقول هذا على اعتقادٍ وَجِد، ولم يذهب به مذهب اللعب واللهو، أو على طريق التفاصُح والتشادُق وإظهار القوة والسلاطة وذلاقة اللسان وحِدَّة الخاطر والقوة على جِدال الخصوم. ألم يعلم أبو عثمان أن رسول الله ﷺ كان أشجعَ البشر، وأنه خاض الحروب وثَبَت في المواقف التي طاشت فيها الألباب وبَلغَت القلوب الحناجر؟ فمنها يوم أُحُد ووقوفه بعد أن فرَّ المسلمون بأجمعهم ولم يَبقَ معه إلا أربعة: علي والزبير وطلحة وأبو دجانة، فقاتل ورمى بالنَّبل حتى فَنِيتْ نَبْله وانكَسرَت سِيَّة قوسه وانقطع وتره، فأمر عكاشة بن محصن أن يُوتِرها، فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: أَوتِر ما بلغ. قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ وطَويتُ منه شبرًا على سِيَّة القوس، ثم أخذها فما زال يرميهم حتى نَظرتُ إلى قوسه قد تحطَّمَت. وبارز أُبي بن خلف فقال له أصحابه: إن شئت عطف عليه بعضنا! فأبى وتناول الحربة من الحارث بن الصمة ثُمَّ انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير، قالوا: فتطايرنا عنه تطايُر الشعارين، فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور. ولو لم يَدُلَّ على ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلا قوله: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ، فكونه ﷺ في أخراهم وهم يُصعِدون ولا يلوون هاربِينَ دليلٌ على أنه ثَبَت ولم يَفِر. وثَبَت يوم حُنين في تسعةٍ من أهله ورهطه الأَدنَين، وقد فرَّ المسلمون كلهم والنفر التسعة مُحدِقون به: العباس آخذ بحَكَمة بَغلَته، وعليٌّ بين يدَيه مُصلَتٌ سيفُه، والباقون حول بغلته يَمْنة ويَسْرة، وقد انهزم المهاجرون والأنصار، وكلما فرُّوا أقدم هو ﷺ وصمَّم مُستقدمًا يلقى السيوف والنبال بنحره وصدره، ثُمَّ أخذ كفًّا من البطحاء وحَصَب المُشركِين وقال: شاهت الوجوه. والخبر المشهور عن عليٍّ وهو أشجع البشر: كُنَّا إذا اشتد البأس وحمِي الوطيس اتقَيْنا برسول الله ﷺ ولُذنا به. فكيف يقول الجاحظ أنه ما خاض الحروب ولا خالط الصفوف! وأيُّ فريةٍ أعظمُ من فريةِ من نَسب رسول الله ﷺ إلى الإحجام واعتزال الحرب! ثم أيُّ مناسبةٍ بين أبي بكر ورسول الله في هذا المعنى ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صاحب الجيش والدعوة ورئيس الإسلام والمِلَّة والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة وإليه الإيماء والإشارة، وهو الذي أَحنَق قريشًا والعرب وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم وعَيْب دينهم وتضليل أسلافهم، ثم وَتَرهم فيما بعدُ بِقتلِ رؤسائهم وأكابرهم؟ وحُقَّ لمثله إذا تَنحَّى عن الحرب واعتزلها أن يَتنحَّى ويعتزل؛ لأن ذلك شأن الملوك والرؤساء إذ كان الجيش منوطًا بهم وببقائهم، فمتى هلك الملك هلك الجيش، ومتى سلِم الملِك أمكن أن يبقى عليه مُلكُه وإن عَطب جيشُه بأن يستجد جيشًا آخر؛ ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملِك الحرب بنفسه، وخطَّئوا الإسكندر لما بارز فور ملك الهند ونسبوه إلى مُجانَبة الحكمة ومُفارقَة الصواب والحزم. فليقل لنا الجاحظ: أيُّ مَدخلٍ لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومَن الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل؟ وهل هو إلا واحدٌ من عرض المهاجرين حُكمه حُكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما؟ بل كان عثمان أكثر منه صيتًا وأَشرَف منه مَركبًا والعيون إليه أَطمَح والعدو عليه أَحنَق وأكلب. ولو قُتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يُؤثِّر قتلُه في الإسلام ضعفًا أو يُحدث وهنًا، أو يُخاف على المِلة لو قُتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تَندرِس وتُعفَّى آثارُها وتنطمس مَنارُها، ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حُكمه حُكم رسول الله ﷺ في مجانبة الحروب واعتزالها؟ نعوذ بالله من الخِذلان. وقد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفة وبالآثار وبالأخبار ممارسةٌ حال حروبِ رسول الله ﷺ كيف كانت وحاله عليه الصلاة والسلام فيها كيف كان، ووقوفه حيث وقف، وحربه حيث حارب، وجلوسه في العريش يوم جلس، وأن وقوفه ﷺ وقوف رئاسة وتدبير، ووقوف ظَهرٍ وسَندٍ يتعرَّف أمور أصحابه ويَحرُس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم وتخلُّفِه عن التقدُّم في أوائلهم؛ لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمَأنَّت قلوبهم ولم تَتعلَّق بأمره نفوسُهم فيَشتغِلوا بالاهتمام به عن عدوهم ولا يكون لهم فئةً يلجئون إليها وظهرًا يرجعون إليه، ويعلمون أنه متى كان خلفهم تَفقَّد أمورهم وعلم مواقِفَهم وآوى كل إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند النازلة في الكَرِّ والحملة، فكان وقوفه حيث وقف أَصلحَ لأمرهم، وأَحمَى وأَحرَس لبيضتهم، ولأنه المطلوب من بينهم؛ إذ هو مدبِّر أمورهم ووالِي جماعتهم. ألا تَرَون أن موقف صاحب اللواء موقفٌ شريف، وأن صلاح الحرب في وقوفه، وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته؟ فللرئيس حالات: الأولى: حالة يتخلف ويقف آخرًا ليكون سندًا وقوةً وردأً وعدَّةً، وليتولَّى تدبير الحرب ويعرف مواضع الخَلَل. والحالة الثانية: يتقدم فيها في وسط الصف ليقوِّي الضعيف ويشجِّع الناكس. وحالة ثالثة: وهي إذا اصطدم الفيلقان وتكافح السيفان، اعتمد ما يقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح، أو من مباشرة الحرب بنفسه، فإنها آخر المنازل وفيها تظهر شجاعة الشجاع النَّجْد وفسالة الجبان المُموِّه. فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله ﷺ وأين منزلة أبي بكر ليُسوِّي بين المنزلتَين ويناسب بين الحالتَين؟ ولو كان أبو بكر شريكًا لرسول الله في الرسالة وممنوحًا من الله بفضيلة النبوة، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمدًا ﷺ، لكان للجاحظ أن يقول ذلك. فأمَّا وحالُه حالُه، وهو أضعف المسلمين جَنانًا وأقلهم عند العرب تِرةً، لم يَرمِ قط بسهمٍ ولا سلَّ سيفًا ولا أراق دمًا، وهو أحد الأتباع غير مشهور ولا معروف ولا طالب ولا مطلوب، فكيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله ﷺ ومنزلته؟ ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أُحُد فرآه أبو بكر فقام مَغيظًا عليه فسَلَّ من السيف مِقدار إصبعٍ يروم البُروز إليه، فقال له رسول الله ﷺ: يا أبا بكر، شِم سيفك وأَمتِعنا بنفسك. ولم يَقُل له «وأَمتِعنا بنفسك» إلا لِعِلمه بأنه ليس أهلًا للحرب وملاقاة الرجال، وأنه لو بارز لقُتل.
وكيف يقول الجاحظ: لا فضيلة لمُباشَرة الحروب ولقاء الأقران وقتل أبطال الشرك؟ وهل قامت عُمُد الإسلام إلا على ذلك؟ وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك؟ أتُراه لم يسمع قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ! والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب، فكل من كان أشد ثبوتًا في هذا الصف وأعظم قتالًا كان أحب إلى الله، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابًا. فعليٌّ عليه السلام إذًا هو أحب المسلمين إلى الله؛ لأنه أثبتهم قَدمًا في الصف المرصوص، لم يَفِرَّ قطُّ بإجماع الأُمة، ولا بارزه قِرنٌ إلا قتله. وأَتُراه لم يسمع قول الله تعالى: وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، وقوله: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ! ثُمَّ قال سبحانه مؤكدًا لهذا البيع والشراء: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وقال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ. فمواقف الناس في الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن دَلَف إلى الأقران واستقبل السيوف والأسِنَّة كان أَثقَل على أكتاف الأعداء لِشدَّة نكايته فيهم ممن وقف في المعركة وأعان ولم يُقدِم، وكذلك من وقف في المعركة وأعان ولم يُقدِم إلا أنه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناءً وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك. ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرئاسة بقلة بسط الكف وترك الحرب، وأن ذلك يشاكل فعل النبي ﷺ، لكان أوفر الناس حظًّا في الرئاسة وأشدهم لها استحقاقًا حسان بن ثابت! وإن بطل فضل عليٍّ في الجهاد لأن النبي ﷺ كان أقلهم قتالًا — كما زعم الجاحظ — َلَيبطُلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق؛ لأن رسول الله ﷺ كان أقلهم مالًا! وأنت إذا تأمَّلتَ َأْمر العرب وقريش ونَظرتَ السير وقَرأتَ الأخبار عَرفتَ أنها كانت تطلب محمدًا ﷺ وتَقصِد قَصْده وتروم قَتلَه، فإن أعجزها وفاتها طَلَبَت عليًّا وأرادت قتله؛ لأنه كان أشبههم بالرسول حالًا وأقربهم منه قربًا وأشدهم عنه دفعًا، وأنهم متى قصدوا عليًّا فقتلوه أضعفوا أَمْر محمد ﷺ وكسروا شَوكَته؛ إذ كان أعلى من ينصره في البأس والقوة والشجاعة والنجدة والإقدام والبسالة. ألا ترى إلى قول عُتبة بن ربيعة يوم بدر وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليهم الرسول نفرًا من الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إلى قومكم، ثم نَادَوا: يا محمد، أخرج إلينا أَكفاءَنا من قومنا. فقال النبي ﷺ لأَهلِه الأَدنَين: قوموا يا بني هاشم فانصروا حَقَّكم الذي آتاكم الله على باطل هؤلاء، قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة؟ ألا ترى ما جَعلَت هند بنت عتبة لمن قَتلَه يوم أُحُد لأنه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر؟ ألم تسمع قول هند تَرثي أهلها:
وذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة وشرك في قتل أبيها عتبة، وأما عمها شيبة فإن حمزة تَفرَّد بقتله. وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أُحُد: إن قتلت محمدًا فأنت حُر، وإن قتلت عليًّا فأنت حُر، وإن قتلت حمزة فأنت حُر. فقال: أمَّا محمد فسيمنعه أصحابه، وأما عليٌّ فرجلٌ حَذرٌ كثير الالتفات في الحرب، ولكني سأقتُل حمزة. فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.
ولما قلنا من مُقاربةِ حالِ عليٍّ في هذا الباب لحالِ رسول الله ﷺ ومناسبتها إيَّاه ما وجدناه في السير والأخبار من إشفاق رسول الله ﷺ وحذره عليه ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال رسول الله ﷺ يوم الخندق وقد برز عليٌّ إلى عمرو ورفع يدَيه إلى السماء بمَحضرٍ من أصحابه: «اللهم إنك أخذت مني حمزة يوم أُحد، وعُبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليَّ عليًّا، رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين.» ولذلك ضَنَّ به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارًا في كلها يُحجِمون ويُقدِم عليٌّ فيسأله الإذن له في البراز، حتى قال له رسول الله ﷺ: إنه عمرو! فقال: وأنا علي! فأدناه وقبَّله وعمَّمه بعمامته وخرج معه خطواتٍ كالمُودِّع له القَلِق لحاله المُنتظِر لما يكون منه، ثُمَّ لم يَزَل ﷺ رافعًا يدَيه إلى السماء مُستقبِلًا لها بوجهه والمسلمون صُموتٌ حوله كأنما على رءوسهم الطير حتى ثارت الغَبرَة وسمعوا التكبير من تحتها فعلموا أن عليًّا قَتل عَمرًا، فكبَّر رسول الله ﷺ وكبَّر المسلمون تكبيرةً سمعها من وراء الخندق من عساكر المُشركِين؛ ولذلك قال حذيفة بن اليمان: لو قُسمَت فضيلة عليٍّ بقتل عمرٍو يوم الخندق بين المسلمين بأَجمعِهم لَوسِعَتهم. وقال ابن عباس في قوله تعالى: وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، قال: بعليِّ بن أبي طالب.
فيُقال للجاحظ: فعلى أيِّها كان مَشْي عليِّ بن أبي طالب إلى الأقران بالسيف؟ فأيما قُلتَ من ذلك بانت عداوتك لله تعالى ولرسوله، وإن كان مَشيُه ليس على وجهٍ مما ذَكرتَ وإنما كان على وجه النصرة والقصد إلى المسابقة إلى ثواب الآخرة والجهاد في سبيل الله وإعزاز الدين، كنتَ بجميع ما قلتَ معاندًا وعن سبيل الإنصاف خارجًا وفي إمام المسلمين طاعنًا. وإن تَطرَّق مثل هذا الوهم على عليٍّ لَيَتطرَّقن مثله على أعيان المهاجرين والأنصار أرباب الجهاد والقتال الذين نصروا رسول الله ﷺ بأنفسهم ووقَوْه بمُهجِهم وفدَوْه بأبنائهم وآبائهم، فلعل ذلك كان لِعلَّة من العِلل المذكورة! وفي ذلك الطعنُ في الدِّين وفي جماعة المُسلمِين! ولو جاز أن يُتوهَّم هذا في عليٍّ وفي غيره لما قال رسول الله ﷺ حكايةً عن الله تعالى لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.» ولا قال لعلي: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله.» ولا قال: «أوجب طلحة.» وقد عَلِمنا ضرورةً من دين الرسول ﷺ تَعظيمَه لعليٍّ تعظيمًا دينيًّا لأجل جهاده ونصرته. فالطاعن فيه طاعنٌ في رسول الله ﷺ إذ زعم أنه قد يكون جهاده لا لوجه الله تعالى بل لأَمرٍ آخر من الأمور التي عَدَّدها وبعثه على التفوُّه بها إغواء الشيطان وكَيدُه والإفراط في عداوة من أَمَر الله بمحبته ونهى عن بُغضه وعداوته. أتُرى رسول الله ﷺ خَفِي عليه من أمر عليٍّ ما لاح للجاحظ والعثمانية فمَدحَه وهو غير مُستحِق للمدح؟!
فيُقال له: فلعل إنفاق أبي بكر — على ما تزعم ٤٠ ألف درهم — لا ثواب له؛ لأن نفسه ربما تكون غير معتدلةٍ؛ لأنه قد يكون مطبوعًا على الجود والسخاء. ولعل خروجه مع النبي ﷺ يوم الهجرة إلى الغار لا ثواب له فيه؛ لأن أسبابه كانت مُهيِّجة ودواعِيه غالبة مَحبة الخروج وبُغض المقام. ولعل رسول الله ﷺ في دعائه إلى الإسلام وإكبابه على الصلوات الخمس في جوف الليل وتدبيره أمر الأمة لا ثواب له فيه؛ لأنه قد تكون نفسه غير معتدلة بل يكون في طباعه الرئاسة وحبها والعبادة والالتذاذ بها! ولقد نعجب من مذهب أبي عثمان أن المعارف ضرورية وأنها تقع طباعًا، ومن قوله بالتولُّد وحركة الحَجَر بالطبع، حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه، فزعم أنه ربما يكون جهاد عليٍّ وقتله المُشركِين لا ثوابَ له فيه لأنه فعله طبعًا! وهذا أطرف من قوله في المعرفة وفي التولُّد.
هذا راجعٌ على الجاحظ في النبي ﷺ؛ لأن الله تعالى قال له: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فلم يكن له في جهاده كبيرُ طاعةٍ أو كثيرُ طاعة! وكثيرٌ من الناس يَروِي عنه ﷺ: «اقتدوا باللذَين مِن بعدي: أبي بكر وعمر.» فوجب أن يَبطُل جهادهما! وقد قال للزبير: «ستُقاتل عليًّا وأنت ظالمٌ له.» فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله ﷺ. وقال في الكتاب العزيز: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ، قالوا: نزلت في طلحة. فأعلمه بذلك أنه يبقى بعده، فوجب ألَّا يكون لهما كبيرُ ثوابٍ في الجهاد! والذي صح عندنا من الخبر وهو قوله: «ستُقاتل بعدي الناكثِين.» أنه قاله لما وضَعَت الحرب أَوزارَها ودخل الناس في دين الله أفواجًا ووُضِعَت الجزية ودانت العرب قاطبة.
أَمر عمرو بن عبد ود أشهر وأكثر من أن يحتج له، فلْيتلمَّح كتب المغازي والسير ولْيَنظُر ما رَثَته به شعراء قريش لمَّا قُتل. فمن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازِيهِ، قال: وقال مسافع بن عبد مناف بن زهرة بن حذافة بن جمح يبكي عمرو بن عبد الله بن عبد ود حين قتله عليُّ بن أبي طالب مبارزةً لما جَزَع المُزار (أي قطع الخندق):
وقال هُبيرة بن أبي وهب المخزومي يعتذر من فراره عن عليِّ بن أبي طالب وتركه عَمْرًا يوم الخندق ويبكيه:
وقال هُبيرة بن أبي وهب يرثي عَمرًا ويبكيه:
وقال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عَمرًا:
وقال حسان أيضًا:
فهذه الأشعار فيه، بل بَعضُ ما قِيل فيه. وأما الآثار والأخبار فموجودةٌ في كتب السير وأيام الفرسان ووقائعهم، وليس أحدٌ من أرباب هذا العلم يذكر عَمرًا إلا قال: كان فارس قريش وشجاعها. وإنما قال له حسان: «ولقد لقيت غداة بدر عصبة.» لأنه شهد مع المُشركِين بدرًا وقتل قومًا من المُسلمِين ثم فر مع من فر ولحق بمكة. وهو الذي كان قال وعاهد الله عند الكعبة ألَّا يدعوه أحدٌ إلى واحدةٍ من ثلاثٍ إلا أجابه. وآثاره في أيام الفِجار مشهورةٌ تنطق بها كتب الأيام والوقائع، ولكنه لم يُذكر مع الفرسان الثلاثة وهم عتيبة وبسطام وعامر؛ لأنهم كانوا أصحاب غارات ونهب وأهل بادية، وقريش أهل مدينة وساكنو مَدَر وحَجَر لا يرون الغارات ولا ينهبون غيرهم من العرب، وهم مُقتصِرون على المُقام ببلدتهم وحماية حَرَمِهم؛ فلذلك لم يُشتَهر اسمه كاشتهار هؤلاء. ويقال له: إذا كان عَمْرٌو كما تذكر ليس هناك، فما باله لما جَزَع الخندق في ستةِ فُرسانٍ هو أحدهم فصار مع أصحاب النبي ﷺ على أرضٍ واحدةٍ وهم ثلاثةُ آلافٍ ودعاهم إلى البراز مِرارًا لم ينتدب أحدٌ منهم للخروج إليه ولا سمح منهم أحد بنفسه حتى وَبَّخهم وقَرَّعهم وناداهم: «ألستم تزعمون أنه من قُتل مِنَّا فإلى النار ومن قُتل منكم فإلى الجنة؟ أفلا يشتاق أحدكم أن يذهب إلى الجنة أو يقدم عدوه إلى النار؟» فجَبُنوا كلهم ونكَلوا ومَلَكهم الرعب والوهل؟ فإمَّا أن يكون هذا أشجع الناس كما قد قِيل عنه، أو يكون المسلمون كلهم أَجبَن العرب وأَذلَّهم وأَفشَلهم! وقد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده لما نكَل القوم بجَمعِهم عنه وأنه جال بفرسه واستدار وذهب يَمْنة ثُمَّ ذهب يَسْرة ثم وقف تجاه القوم فقال:
فلمَّا برز إليه علي أجابه فقال له:
ولعمري لقد سبق الجاحظَ بما قاله بعضُ جُهَّال الأنصار لما رجع رسول الله من بدر وقال فتًى من الأنصار شهِد معه بدرًا: إن قتلنا إلا عجائز صُلعًا! فقال له النبي ﷺ: لا تقل ذلك يا ابن أخ، أولئك الملأ.
كلُّ مَنْ دَوَّن أخبارَ قريش وآثار رجالها وصف الوليد بالشجاعة والبسالة، وكان مع شجاعته أيِّدًا يُصارع الفتيان فيَصرَعهم. وليس لأنه لم يشهد حربًا قبلها ما يجب أن يكون بطلًا شجاعًا؛ فإن عليًّا لم يشهد قبل بدر حربًا وقد رأى الناس آثاره فيها.
أما ثباته يوم أُحُد فأكثر المُؤرخِين وأرباب السير ينكرونه، وجمهورهم يَروِي أنه لم يَبقَ مع النبي ﷺ إلا عليٌّ وطلحة والزبير وأبو دُجانة. وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال: ولهم خامس وهو عبد الله بن مسعود. ومنهم من أثبت سادسًا وهو المقداد بن عمرو. وروى يحيى بن سلمة بن كُهيل قال: قلت لأبي: كم ثبت مع رسول الله يوم أُحُد؟ فقال: اثنان. قلتُ: من هما؟ قال: عليٌّ وأبو دُجانة. وهَبْ أن أبا بكر ثبت يومَ أُحُدٍ، كما يدَّعيه الجاحظ، أيجوز له أن يقول ثبت كما ثبت عليٌّ فلا فخر لأحدهما على الآخر، وهو يعلم آثار عليٍّ ذلك اليوم وأنه قَتَل أصحاب الأَلوِية من بني عبد الدار منهم طلحة بن أبي طلحة الذي رآه رسول الله في منامه أنه مُردِفٌ كبشًا فأوَّله وقال: كبش الكتيبة فقَتلتُه. فلما قتله عليٌّ مبارزةً — وهو أولُ قتيلٍ قُتل من المُشركِين ذلك اليوم — كبَّر رسول الله وقال: هذا كبش الكتيبة. وما كان منه من المُحاماة عن رسول الله وقد فرَّ الناس وأسلموه، فتَصمُد له كتيبةٌ من قريش فيقول: يا علي، اكفِني هذه. فيحمل عليها فيهزمها ويقتل عميدها، حتى سمع المسلمون والمشركون صوتًا من قبل السماء: «لا سيف إلا ذو الفِقار، ولا فتًى إلا علي.» وحتى قال النبي عن جبريل ما قال. أتكون هذه آثاره وأفعاله ثم يقول الجاحظ: لا فخر لأحدهما على صاحبه! ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحِين.
قال أبو جعفر:
ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر، فإنه لو تَسمعه الإماميَّة لأَضافَته إلى ما عندها من المثالب؛ لأن قول النبي له: «ارجع.» دليل على أنه لا يَحتمل مُبارزةَ أَحد؛ لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه — وأنت تعلم حُنُو الابن على الأب وتبجيله له وإشفاقه عليه وكَفَّه عنه — لم يَحتمل مُبارزة الغريب الأجنبي. وقوله له: «ومتِّعنا بنفسك» إيذانٌ له بأنه كان يُقتل لو خرج، ورسول الله كان أَعرَف به من الجاحظ. فأين حالُ هذا الرجل من حال الرجل الذي صَلِي بالحرب ومشى إلى السيف بالسيف فقَتَل السادة والقادة والفرسان والرَّجَّالة؟!
أما قوله إنه بذل الجهد، فقد صدق. وأمَّا قوله: لا حال أَشرفُ من حاله فقد أخطأ؛ لأن حال مَن بَلغَت قوته أضعاف قوته فأعملها في قتل المُشرِكين أشرف من حال مَن نَقصَت قوته عن بلوغ الغاية. ألا ترى أن حال الرجل أَشرفُ في الجهاد من حال المرأة، وحال البالغ الأَيِّد أَشرفُ من حال الصبي الضعيف؟