كتاب التربيع والتدوير
قال أبو عثمان:
فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود مِنَّا، وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رَأيتُ أن أَكشِف قناعه وأُبدِي صفحته للحاضر والبادي وسُكَّان كلِّ ثَغر وكلِّ مِصر، بأن أسأله عن مائةِ مسألةٍ أهزأ فيها وأُعرِّف الناس مِقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة ليكفوا عنَّا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به. كأنه لم يسمع بقول النبي ﷺ في السائب بن صيفي: «هذا شَريكِي الذي لا يُشارَى ولا يُمارَى.» ولا بقول عثمان: إذا كان لك صديقٌ فلا تُمارِهِ ولا تُشارِهِ. ولا بقول ابن أبي ليلى: لا أُمارِي أخي، إمَّا أن أُكذبه وإما أن أُغضبه. ولا بقول ابن عمر: لا يصيب الرجل حقيقة الإيمان حتى يترك المِراء وهو مُحق. وكأنه لم يسمع بقول الشاعر:
ولم يسمع بقول الأول: «رَآهُ مُعِدًّا لِلخِلَافِ» البيت. ولا بقول الآخر:
وقالوا: فلانٌ أَخلفُ من بول الجمل؛ ولذلك قال الشاعر:
وقول رافع بن هُريم:
وقلت: وتقول الناس: ما هو إلا فلفلة، وما هو إلا زَنبَقة، وما هو إلا شرارة، وما لسانه إلا لسان ضَبَّة. ولم أَزَل أراك تُقدِّم العرض على الطول، وتزعم أن الأرض لم تُوصَف بالعرض دون الطول إلَّا لفضيلة العرض على الطول. وذلك كقول الشعراء ووصف العلماء، وقال الشاعر:
ولم يقل: كأن بلاد الله وهي طويلة. وقال آخر:
ولم يقل: الطويلة. وقال:
وقال الراجز:
ولم يقل: طولًا. وقُلت: لولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله الجنة بالعَرْض دون الطول؛ حيث يقول جل ثناؤه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. فهذه براهينك الواضحة ودلائلك الظاهرة، ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى أن ما عند الله خيرٌ لك مما عند الناس، وأن الطول الخفي أَحبُّ إليك من الطول الظاهر، لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق.
وأنا — أبقاك الله — أَتعشَّق إنصافك كما أَتعشَّق المرأة الحسناء، وأَتعلَّم خضوعك للحق كما أَتعلَّم التفقُّه في الدين، ولربما ظَننتُ أن جَوْرك إنصافُ قومٍ آخرين، وأن تعقُّدك سَماحُ رجالٍ مُنصفِين، وما أَظُنُّك صِرتَ إلى معارضة الحُجة بالشبهة ومُقابَلة الاختيار بالاضطرار واليقين بالشك واليقظة بالحُلم، إلا للذي خُصِصتَ به من إيثار الحق وأُلهِمتَه من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أَحوَج ما تكون إلى الإنكار أَذعَن ما تكون بالإقرار، وأَشَد ما تكون إلى الحيلة فقرًا أشد ما تكون للحُجة طلبًا، إلَّا أن ذلك بطرفٍ ساكن وصوتٍ خافض وقلبٍ جامع وجأشٍ رابط وبِنيةٍ حسنة وإرادةٍ تامَّة مع غَفلةِ كريمٍ وفِطنةِ عليم! إن انقطع خصمك َتغافَلتَ، وإن خرق تَرفَّقتَ، غيَر مَنخوب ولا مُتشغب ولا مدخول ولا مُشترك ولا ناقص النفس ولا واهن العزم ولا حسود ولا مُنافِس ولا مُغالِب ولا مُعاقب، تفل الحز وتُصيب المفصل وتُقرِّب البعيد وتُظهِر الخفي وتُميِّز المُلتبِس وتُخلِّص المُشكِل، وتُعطي المعنى حقه من اللفظ كما تُعطي اللفظ حقه من المعنى، وتُحب المعنى إذا كان حيًّا يلوح وظاهرًا يصيح، وتُبغضه إذا كان مُستهلكًا بالتعقيد ومستورًا بالتغريب. وتزعم أن شر الألفاظ ما أغرق المعاني وأخفاها وأَسرَّها وعمَّاها وإن راقت سَمْع الغُمر واستمالت قلب الريض. أعجب والألفاظ عندك ما رَقَّ وعذُب وخَفَّ وسَهُل، وكان موقوفًا على معناه ومقصورًا عليه دون ما سواه، لا فاضل ولا مُقصِّر ولا مُشترك ولا مُستغلق، قد جمع خِصال البلاغة واستوفى خِلال المعرفة. فإذا كان الكلام على هذه الصفة وأُلِّف على هذه الشريطة لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب، وصار السامع كالقائل والمُتعلِّم كالمُعلِّم، وخَفَّت المؤنة واستُغني عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحُجة، واستبدلوا بالخلاف وفاقًا وبالمُجاذبة مُوادعةً، وتهنئوا بالعلم وتشفَّوا ببرد اليقين واطمأنوا بثلج الصدور، وبان المُنصِف من المُعاند وتَميَّز الناقص من الوافر وذُمَّ المُخطل وعَزَّ المُحصل وبَدَت عَورةُ المُبطل وظَهرَت براءة المُحق.
وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقةُ ريحان، وكأنه خَوطُ بان، وكأنه قضيبُ خَيزران، وكأنه غُصنُ بان، وكأنه رُمحٌ رُديني، وكأنه صفيحةٌ يمانية، وكأنه سيفٌ هندواني، وكأنها جَانٌّ، وكأنها جَدلُ عنانٍ، فقد قالوا: وكأنه المُشترى، وكأن وجهه دينارٌ هِرَقْلِيٌّ، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث، وكأنه الشمس، وكأنها دارةُ قَمر، وكأنها الزهرة، وكأنها دُرَّة، وكأنها غَمامة، وكأنها مهاة. فقد تراهم وصفوا المُستدير والعريض بأكثر مما وصفوا به القضيف والطويل.
وقلت: وَجدْنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها على التدوير دون التطويل، وكذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر.
وقُلتَ: والرمح وإن طال فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصولًا ومُفصلًا، والطول لا يوجد فيه إلا موصولًا، وكذلك الإنسان وجميع الحيوان.
وقُلتَ: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما أُكره على تركيبه دون ما خُلي وسَومَ طبيعته، وعلى أن كلَّ مُربَّعٍ ففي جوفه مُدوَّر. فقد بان المُدوَّر بفضله وشارك المُطوَّل في حِصَّته. ومن العجب أنك تزعم أنك طويلٌ في الحقيقة ثم تَحتجُّ للاستدارة والعَرْض، فقد أَضربتَ عما عند الله صَفحًا، ولَهِجتَ بما عند الناس. فأمَّا حُور العِين فقد انفردتَ بحُسنه وذَهبتَ ببهجته وملحه، إلى ما أبانك الله به من الشُّكلة فإنها لا تكون في اللئام ولا تُفارق الكرام. وقال الشاعر:
وقال آخر:
فأما سواد الناظر وحُسن المحاجر وهَدَب الأشفار ورقَّة حواشي الأجفان، فعلى أصل عُنصرك ومجاري أعراقك. وأما إدراكُك الشخصَ البعيدَ وقراءتُك الكتابَ الدقيقَ ونقشَ الخاتمِ قبل الطبع وفَهْم المُشكل قبل التأمُّل، مع وَهَن الكبر وتقادُم الميلاد، ومع تخوُّن الأيام وتنقُّص الأزمان، فمن توتياء الهند وتَرْكِ الجماع، ومن الحميَّة الشديدة وطُولِ استقبالِ الخضرة. فأنت يا عَمُّ حين تُصلِح ما أفسد الدهر وتَسترجِع ما أخذت منك الأيام، لكما قال الشاعر:
حدِّثني كيف رأيتَ الطوفان، ومتى كان سَيْل العَرِم، ومذ كم مات عوج، ومتى تَبَلبَلَت الألسن، وما حبس غراب نوح، وكم لبثتم في السفينة، ومذ كم كان زمان الخُنان ويوم السلان ويوم خزاز ووقعة البيداء. هيهات! أين عادٌ وثمود، وأين طَسْم وجَديس، وأين أُميم ووبار، وأين جُرهم وجاسم، أيام كانت الحجارة رَطبةً وإذ كلُّ شيءٍ ينطق، ومذ كم ظَهرَت الجبال ونَضَب الماء عن اللحف، وأي هذه الأودية أقدم، أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة أم جيحان أم سيحان أم مكران، وأين تراب هذه الأودية، وأين طين ما بين سفوح الجبال إلى أعاليها، في أيِّ بحرٍ كُبِسَت وفي أيِّ هَبْطةٍ شًحنَت، وكم نشأ لذلك من أرضٍ وحدَثَ من عين؟
وخَبِّرني عن الأبدال، أهم اليوم بالعرج أم ببيسان أم كما كانوا مُتفرِّقِين، وخَبِّرني أَكلُّهم مَوالٍ أم كلهم عربٌ أم هم أخلاط، وما فعل صاحب إنطاكية ولِم أقيم سَلمان بعد بلال، ومن جُعل بعد سلمان، ومن عشائرهم وأين دُورهم وأين أهلوهم، وكيف لم يَتقدَّموهم ويَتفقَّدوهم، وكيف صارت بَيْسَان لسانَ الأرض يوم القيامة! وكيف صارت كبد الحوت أول طعام أهل الجنة، ولِمَ تُسمَّى نونا، وهل الرجفة من حرَكتِه، وهل الزلزلة من تنقُّله، وما الخَسْف، وكيف شاهَدتَ المَسْخ على طول الأيام، آنقَلَبَت خِلْقتهم أم صار ذلك ضربةً واحدة، وهل عاشوا أم أُبلسوا أم ترُكوا ثلاثًا ثم أُبطِلوا، وهل كانوا يتعارفون بعد المسخ ويعرفون بعض ما قد نزل بهم بعد القلب؟
وخَبِّرني عن بحار بنطس، وعن قبيس وعن الأصم وعن المظلم، وعن جبل الماس، وعن الباكي، وعن قاف، وأين كنت عام الجحاف، ومذ كم كان زمن الفِطَحْل، وأين كان ملك الأزد، وأين كان من ملك الإشكان، وأين كان من ملك بني ساسان، وأين كان خره أردشير من استاشف، وأين كان أبرويز من أنو شروان، وأين جُذيمة من تُبَّعْ، وأين الفَتِجَبْ من بلهره، وأين بغبور من قيصر؟ وخَبِّرني عن الفراعنة، أهم من نسل العمالقة؟ وعن العمالقة، أهم من قوم عاد؟ وخَبِّرني أهم من عادٍ الأولى أو من عادٍ الأخرى؟ وخَبِّرني عن عطارد الهندي وجوابه لعطارد السماوي حين هبط إليه من فلكِه، وهل جرى بينهما إلا ما سمعنا، ومذ كم كان ذلك؟
وخَبِّرني: كيف كان أصل الماء في ابتدائه في أول ما أُفرغ في إنائه، أكان بحرًا أُجاجًا استحال عذبًا زُلالًا، أم كان زُلالًا عذبًا استحال أُجاجًا بحرًا؟
خَبِّرني: كيف صار الماء أَبعَد من الفلك ولا يكون إلا في بطن الأرض، وهو أشبه بالهواء كما أن الهواء أشبه بالنار، وكيف يكون أحق بالوسط والأرض أَبعَد من سِيَة الفلك، وكيف طمع — جُعلت فداك — الدهري في مسألة العَلَاة والمطرقة وفي البيضة والدجاجة، مع تقادُم ميلادك ومرور الأشياء على بَدنك، وكيف كان بدء أمر البُدِّ في الهند، وعبادة الأصنام في الأمم، وقصة عمرو بن لُحي في العرب؟
وخَبِّرني عن عَنَاق بنت آدم، وعن ميسرة ومسرة، وعن مهنة ومهنينة، وعن بهيا وطبحيا، ومذ كم عمرت جزيرة العرب، ومذ كم بادت يونان، وعن فصل ما بين السند والهند، والهند والميد، وعن جميع من هلك بالرُّعاف، وعمَّن أفناهم النمل، وعمَّن أجحف بهم السيل، وعن أصحاب النعمان كم صنفهم، وما تقول في الرجم السماوي أكان من عظام البَرَد أم كحجارة الطير الأبابيل التي خُلِقت من سجيل؟
وخَبِّرني: عن معنى الفرات على حقه وصدقه، وعن نضوب البحر، وعن تنقُّص الأرض، ولم عمل الفلك في هذا العالم وليس بينهما شبه! وهلا عمل فيه بقدرةٍ منه، وهل يجوز أن يعمل شيء في شيء إلا والآخر يعمل فيه؟ وخَبِّرني: مذ كم كان الناس أمةً واحدةً ولغاتهم متساوية، وبعد كم بطنٍ اسودَّ الزنجي وابيض الصقلبي، ولِم صار اللون أسرع تنقصًا من الجمود، ولم كان الولد يجيء على شَبَه ما في أبيه من الأُمورِ الحادثةِ في بدنه غير القديمة في أصل تركيبه ومع ذلك لم يولد صبي قط في العرب مجنونًا، وما هذه الخاصية التي منعت من هذا المعنى؟ وفي كم تمَّت لكل فرقةٍ بعد التبلبل لُغتها واستفاض لسانها؟
وخَبِّرني عن بناء سور الأُبُلَّةِ وعمن حَيَّر الحيرة، ومن أنشأ بنيان مصر، ومن صاحب كردبنداذ ومدينة سمرقند؟ وخَبِّرني: عن البناء الذي يُضاف بالمدائن إلى سام، أهو لسام؟ وعن تدمر، أهو لسليمان! وأين ملك أخاذ بن عمري من ملك نمروذ الخاطئ، وأين وقع ملك ذي القرنَين من ملك سليمان؟
وقد كُنت — أطال الله بقاءك — في الطولِ زاهدًا وعن القِصر راغبًا، وكنتُ أمدحُ المربوع وأحمد الاعتدال، ولا والله أن يقوم خير الاعتدال بِشَرِّ قِصَر العمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم، فأما اليوم فيا ليتني كُنتُ أقصر منك وأَضوَى، وأقل منك وأقمى، وليس دعائي لك بطول البقاء طلبًا للزيادة، ولكن على جهة التعبُّد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك، فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك، فإلى هذا المعنى أذهب. وقد زعموا — جُعلت فداك أن كل ما طال عمره من الحيوان زائد في شدة الأركان وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالوِرْشَان، والضِّباب، وحُمر الوحش، وكلحم النسر لمن أكله، ولحم الحية لمن استحلَّه، فإن كان هذا الأمر حقًّا وكان هذا العلاج نافعًا وكُنت له مستعملًا وفيه متقدِّمًا وتراه رأيًا وإن كنت عنه غنيًّا، أخذنا منه بنصيب وتعلقنا منه بسبب. وكيف لي بذلك وأنا صغير الأُذن وأُذنك أُذن أبي سهيل، وأنا دقيق العُنق وعُنقك عُنق قاسم التمار، وأنا صغير الرأس ورأسك رأس جالوت. وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاوُر النقصان والزيادة إياك. جوهرك فلكي، وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء ومعك دليل الفناء. فأنت عِلَّة للمُتضاد وسبب للمُتنافِي. وما ظنك بخَلْق لا تَضُره الإحالة ولا يُفسِده التناقض …؟!
جُعلت فداك، ما لقي منك الذهب، وأي بلاءٍ دخل بك على الخمر، كانا يتيهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن وبأن الدهر يُحدث لهما الجِدَّة إذا أحدث لجميع الأشياء الخُلوقة، فلما أربى حُسنك على حُسنهما وغَمَر طول عمرك أعمارهما ذُلًّا بعد العز وهانا بعد الكرامة، وما لي فيك قولٌ إلا قول الأعرابي حين ضل الطريق في الظُّلمة فلما عرف قصده عند طلوع القمر رفع رأسه شاكرًا وهو يقول: ما أقول! أقول رفعك الله وقد رفعك، أم أقول جمَّلك الله وقد جمَّلك، أم أقول عمَّرك الله وقد عمَّرك؟ … ولكن أقول: وهل أنطق إن نطقت إلا رجيعًا، وأقول ما قلت إلَّا لغوًا. وقد زعم ناس ممن ينتحل الاعتبار ويتعاطى الحكمة ويطلب أسرار الأمور أنه ليس شيء مما يُساكِن الإنسان في منزله ورَبعِه وفي داره وموضع مُنقَلَبه إلا والإنسان يَفضُله في طول العمر وفي البقاء على وجه الدهر، كالحمام والدجاج والسنانير والكلاب والبقر والغنم والحمير والخيل والجواميس والإبل. وزعموا أن أقصرها أعمارًا العصافير، وأن أطولها أعمارًا البغال، وأن العلة في طول بقاء البغل قلة السِّفاد، وفي قِصر عمر العصافير كثرة السِّفاد. وأن مما يقضي بهذه العلة ويُثبِت هذه القضية ما يَعُمُّ الخِصيان من طول العمر، ويَعُم الفحولة من قِصَر العمر. وما أرى — حفظك الله — بهذا القياس بأسًا في ظاهر الرأي، وما أجده بعيدًا في أغلب الظن، ولو كُنتُ أَقتُل ذلك علمًا وأعلمه يقينًا لكان أحب الأمور إليَّ أن يكون لي فيه سلفُ صدق وإمامُ لا يَغلط، وأن أحكيه عن مَعدل وأسنِده إلى مَقنع! فقُلْ نسمع وأَشِر نَتبع!
يُعجبني — جُعلت فداك — منك بغض الشهرة ودبيبك في غِمار الحَشْوية استغناءً بنفسك، وصونًا لقدْرك، ومعرفةً بما أُعطيتَ، وثقةً بالذي أُوتيتَ. وما أَقلَّ — بحمد الله — ما سَبقَك به إبليس، وما أَيسرَ ما فاتك به آدم. فزاد الله شاكرك نعمةً وناصرك عِزة. وقد ذَكَرَت الرواة في المُعمِّرين أشعارًا وصنعت في ذلك أخبارًا، ولم نجد على ذلك شهادةً قاطعة ولا دلالةً قائمة، ولا نقدر على ردِّها بجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليلٌ يثبتها، وقد تعرف ما في الشك من الحَيرة، وما في الحَيرة من القلق، وما في القلَق من النصَّب، وما في النصَّب من طول الفكرة، وما في طول الفكرة من الوحشة، وما في طول الوحشة من التعرُّض للوساوس والخفقة، وما في إتعاب القلب وإنضاء النفس من كَلال الحد، وما في الإلحاح من دواعي الضجر، وما في الجهل من النقص، وما في نزاع النفس من الكَد. فافتح لبيتك بابًا نسترح إليه، وأقم له عَلمًا نقف عنده. فقد عَلمتَ ما ذكروا من عمر نابغة بني جعدة، ومالك ذي الرقيبة، ونصر بن دُهمان، وابن بقيلة الغساني، والربيع بن ضبيع، ودُوَيْد بن نهد، وأنت — أبقاك الله — تعرف ميلاد آبائهم وأجدادهم وقبائلهم وعمائرهم وأصولهم وأجذامهم، فخبِّرني أكذبوا أم صدقوا؟ أم اقتصدوا أم أسرفوا؟
فأمَّا ما رَوَوا لأجسام الناس من الطول والعَرض، وثَبَّتوا لهم من السمن والعظم والضخم سوى ما نطق به الكتاب عن أجسامِ عاد، فالشاهد على كذِبهم حاضر، والدليل على فسادِ عقولهم ظاهر، كالذي رأينا من أقدار سيوف الأشراف وأزِجَّة رماح الفرسان، وكتِيجان الملوك التي في الكعبة، وكضِيق أبوابهم وقِصر سمك عتب درجهم في قصورهم العادية ومدنهم العُدْمُلِيَّةِ، ويدل على ذلك الجُرون التي كانت مقابرهم وأبواب مدافنهم في بطون أرضيهم وشعف جبالهم ومطاميرهم ومواضع قناديل كنائسهم ومجالسهم وبيوت عباداتهم وملاعبهم من قمم رءوسهم. ولو حضرنا من الشواهد على ما ادَّعوا من أعمارهم مثل الذي حضرنا من الشواهد على تكذيبهم في طول قاماتهم إذًا لما عنَّيناك ولا ابتَذلْناك، وعلى أنه لو كان السبب في طول قاماتهم وضخم أبدانهم تقادُم ميلادهم وحِدَّة قوة الأرض قبل أن تُخلق وشبابها قبل أن تَهرَم، لكان ينبغي لمن كان قبلهم أن يكون أعظم منهم، ولكان نقصان من بعدهم ممن يلي عصرهم ومن يلي أولئك على حساب ذلك.
وخبِّرني أبقاك الله من كان باني ريام، ومن أنشأ كعبة نجران، ومن صاحب غُمدان، ومن باني تدمر، ومن صاحب الهرمين، ومنذ كم بُنيت مأرب، وأين كان الأبلق الفرد من المُشقَّر، وأين قصر النوبهار من قصر سنداد، ومن صاحب عقرقوف، ولم قضيت — جعلت فداك — لِخُمَعَةَ الإيادية على بنت الخُس ولابن شرية على شِقٍّ وللنخار على ابن النطاح ولابن الكيس على ابن لسان الْحُمَّرةِ، وأين كانت الزباء من ملكة سبأ، وأين خاتون من بوران، وأين جُلندي من أسباد، وأين حذيم من أفعى، وأين كان لقيم من لقمان، وأين كان كُرز بن علقمة من مُجَزِّزِ المُدلجي، وأين كان رافع المخش من دعيميص الرمل؟
وخبِّرني عن عظامة أقاليم الخراب وعن خلاء شق الجنوب، أذلك قائم مذ دار الفلك وكان النمو، أو الدول بينهما مقسومة والأيام عليهما موقوفة! ولم قدَّمتَ إقليم دوس على إقليم بابل؟ وخبِّرني عن الشهب أتكون نهارًا أم تكون ليلًا؟ ولم قدَّمتَ الروم في الصنعة على أهل الصين، ولم قدَّمتَ تُبَّتْ على الزابج، ولم فضَّلتَ السكون على الحركة، ولم جعلت الكون فسادًا والافتراق اجتماعًا؟ قد وجدتك — جُعلت فداك — خِفتَ أن تكون ابن صائد، ورَجوتَ أن تكون الدجال، ولعلك دابة الأرض، وما أدري لعلك سوشي! ولَستَ، بحمد الله، الخضر. والذي لا أشك فيه أنك غير المسيح، وأظن روحك روح شيقرة بل روح بلعذبون، بل روح دلالا، وأنك الأركون المُنتظر.
واحتمل لي مسألةً واحدةً ولا أعود، وسأجعلها طويلة ولا أزيد: كم بين وُد وسُواع ويَغوثَ ويَعوق، وبين مَناة والعُزى والغبغب وعائم، وبين مناف ونهم وسعد ومنهب، ومذ كم نكح أساف نائلة، ومذ كم مُسخا في الكعبة؟ وخَبِّرني عن برهوت وبلهوت، وعن الجابية وموضع الطاغية، وعن سيف الصاعقة، ومن ألقى ذلك إلى الرافضة، وما كان مال قارون، وما كان كنز النطف، ولمن كانت البليهة، وما قرط مارية، وما أصل مال ابن جُدعان، وكيف كان مشورة أمه؟ وخَبِّرني عن ذلك المال الذي من أخذ منه ندم ومن تركه ندم.
قد — والله — عافانا الله بك وابتلى، وأنعم بك وانتقم، فدحًّا لمن زَهِد فيك، وسَقيًا لمن رَغِب إليك، وويلٌ لمن جهل فضلك، بل الويل لمن أنكر فضلك. إنك — جُعلتُ فداك — كما لم تكن فكنت فكذا لا تكون بعد أن كنت، وكما زدت في الدهر الطويل فكذا تنقص في الدهر الطويل؛ إذ كل طويل فهو قصير، وكل متناهٍ فهو قليل، فإياك أن تظن أنك قديم فتَكفُر، وإيَّاك أن تُنكر أنك مُحدَث فتُشرك؛ فإن للشيطان في مثلك أطماعًا لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عِللًا لا يجدها في غيرك.
ولَستَ — جُعلتُ فِداك — كإبليس، وقد تَقدَّم الخبر في بقائه إلى انقضاء أمر العالم وفنائه، ولولا الخبر لما قدَّمتُه عليك ولا ساويتُه بك، وأنت أَحَق من عُذر وأَوْلى من سُتر، ولو ظهر لي لَمَا سألتُه كسؤالي إياك، ولما ناقلُته الكلام كمناقلتي لك، وإن كان في التجاذُب مثلك فهو في النصيحة على خلافك؛ ولأنك إن مَنعتَ شيئًا فمن طريق التأديب أو التقويم، وهو إن مَنَع مَنَع بالغِش والإرصاد، وأنتَ على حالٍ أَشكَل، ونحن نرجع إلى أصل ونلتقي إلى أبٍ ويجمع بيننا دين.
وخَبِّرني عن الشق، وعن واقواق، وعن النسناس، وعن دوالباي، وعن الكركدن، وعن عنقاء مغرب، وعن الكبريت الأحمر، وعن ثور الله في الأرض؟ وحدِّثني عن شعب رضوى، وعن جبال حسمى، ومتى ترى الماء الأسود والجو الأكلف والطين الأزرق، وكيف ذلك النمر، وهل يظمأ ذلك الأسد، وهل باض الخُفاش، وهل أمنت الحُبارى، ومتى تتعلم ما في الجفر وتحكم ما في الزبر، وما فعل فحل وبار، ونعاج أبي المرقال، وما الحُجة في الرجعة، والقول في المُناسخة، ومن أين قلتم بالبَداء، ومن أين جعلتم العلا فعلًا والزيادة فلتًا، وما القول في النفس؟
وخَبِّرني ما السحر وما الطلسم، وما الدنهش وما الخلقطير، وما الهيكل، وما الطوالق، وما قولهم في اللبان الذكر، وفي مراعاة المشتري، ولم توحشوا من الناس ولِمَ باتوا بالبراح وأقاموا بالخراب واغتسلوا بالماء القراح، ولم قدَّموا التصديق وأخرجوا الصرة، ولم أجابوا وأكرموا، ولم منعوا وقتلوا؟!
وخَبِّرني عن جوهر الأرض وعن جميع الفِلِز أشيءٌ مفروغ من خلقه أم أرض يستحيل إليه، ولِمَ عمل بعض السم في العَصَب وبعضه في الدم وبعضه فيهما جميعًا، ولِمَ كان بعضه سم نجاز وبعضه سم جهاز، ولم صار لا يقتل مع العادة وقتل قبل العادة، أَلِأن الطبائع تُنكر الشيء الغريب أم لأنه ضِدٌّ في نفسه، وكيف صار مع ريق الأفعى ريقُ بعض الناس في القتل وفي أيهما سُم، ولم خالف البيش في العصب والدم، ولم يقتل العقرب إنسانًا ويقتله آخر، ولِمَ صارت الأفعى قاتلة وتأكلها القنافذ ولا تَضُرها وتأكلها الأروى فلا تتأذَّى بها، ولِمَ صارت الهندية تقتل كل شيء ولا يقتلها شيء ولا يستمرئها شيء، ولِمَ خالف النيل جميع الأودية في النقصان والزيادة، ولِمَ بلغت جريته الشمال، ولِمَ صار أقصاه كأدناه، ومتى يُدال منه ومتى يحوله الأمام …؟!
وقد عَلِمتُ — جُعلتُ فداك — أن الخبر إذا صح أصله وكان للناس عِلة في نشره وكان في الدلالة على الحق كالعِيان وفي الشفاه كالسَّماع، على أن الخبر لا يُعرف به تَكيُّف الأمور لكن يُعرف به جُمل الأشياء، إلا خَبرَك فإنك لا تحتاج إلى إشارة ولا إلى إعادة ولا إلى (عِلة ولا إلى) تَفسيرٍ حتى يقوم خبرك في الشفاه وفي كيفية الشيء مَقام العِيان. وقد كُنتُ أَتعجَّبُ من محمد بن عبد الملك وأقول: ما تقولون في رجل لم يقل قط بعد انقضاء خصومته وذهاب خصمه: لو كُنتُ قلت كذا كان أفضل، أو كُنتُ لم أقل كذا كان أمثل. فما بال عفوه أكثر من جهدكم وبديهته أبعد من أقصى فكرتكم؟ فلمَّا رَأيتُك عَلِمتُ أنك عذابٌ صبه الله على كل رفيع، ورحمةٌ أنشأها لكل وضيع.
فخبِّرني ما كان بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون، وما دار في ذلك بينك وبين أرسطاطاليس، وأي نوع اعتقدت، وأي شيء اخترت؟ فقد أبت نفسي غيرك وأبت أن تشتفي إلا بخبرك، ولولا أني كَلِف برواية الأقاويل ومُغرَم بمعرفة الاختلاف، وأني أستجيز مسألتك عن كل شيء وابتذالك في كل أمر، لما سَمِعتُ من أحدٍ سواك، ولما انقَطعتُ إلى أحدٍ غيرك.
فإن كُنتُ لم أقصر عن الغاية، ولم أتجاوز حد النهاية، فبما أعرف من يُمن مكالمتك وبركة مُكاتبتك، ومن حُسن تقويمك وجَودة تثقيفك. وإن كُنتُ قد أَخطأتُ الطريق، وجاوزتُ حَدَّ المِقدار، فما كان ذلك عن جَهلٍ بفضلك ولا إنكارٍ لحقك، ولكن حدود الأشياء إذا خَفِيَت ومقاديرها إذا َأشكَلَت، ولم يكن مع الناظر فيها مثل تمامك، ولا مع المُتكلف لها مثل كمالك، دخل عليه من الخَلَل بقَدْر عجزه، وسلم منه بقَدْرِ نفَاذِه، نعم، ولو كان من العلماء المَوصوفِين والأُدباء المذكورِين.
ومن المُزاح — جُعلتُ فداك — باب مكر وجنس خدع، يتكل المرء في إساءته إلى جليسه وإسماعه لصديقه على أن يقول: مَزحتُ، وعلى أن يقول عند المحاكمة: عَبثتُ، وعلى أن يقول: من يغضب من المزاح إلا كز الخُلق، ومن يرغب عن المُفاكهة إلا ضَيِّق العَطن. وبعد، فمتى َأعدَّت النفس عذرًا كانت إلى القبيح أسرع، ومتى لم تجده كانت عنه أبطأ. ومن أسباب الغلط فيه ومن دواعي الخطأ إليه أن كثيرًا ممن تمازحه يضحك وإن كُنتَ قد أَغضبتَه، ولا يقطع مُزاحك وإن كُنتَ قد أوجعتَه، فإن حقَد ففي الحِقد الداء، وإن عجِل فذلك البلاء.
فإن قُلتَ: فما أدخلك في شيء هذا سبيله وهكذا جَوهره وطريقه؟ قُلتُ: لأني حين أَمِنتُ عقاب الإساءة ووَثقتُ بثواب الإحسان، وعَلِمتُ أنك لا تَقُص إلا على العَمْد، ولا تُعذِّب إلا على القَصْد، صار الأمن سائقًا والأمل قائدًا. وأيُّ عمل أردُّ وأي مَتجر أَربحُ مما جمع السلامة والغنيمة والأمن والمثوبة. ولو كان هذا ذنبًا لكُنتَ شريكي فيه، ولو كان تقصيرًا لكُنتَ سببي إليه؛ لأن دوام التغافُل شبيه بالإهمال، وترك التعريف يُورث الإغفال، والعفو المتتابع والبشر الدائم يُؤمِّنان من المكافأة ويَذهبان بالتحفظ؛ ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان رضي الله عنه: عمر كان خيرًا لي منك، رهَّبني فاتقاني وأعطاني فأغناني. فإن كُنتُ اجترأتُ عليك فلم أجترئ عليك إلا بك، وإن كُنتُ أخطأت فلم أخطئ عليك إلا لك؛ لأن حسن الظن بك والثقة بعفوك سبب في قلة التحفُّظ وداعية إلى ترك التحرُّز.
وبعدُ، فمن وَهَب الكبير فكيف يقف عند الصغير، ومن لم يزل يعفو عن العَمْد كيف يعاقب على السهو؟ ولو كان عِظَم قَدْري هو الذي عظَّم ذنبي لكان عِظَم قَدْرك هو الذي شفع لي، ولو استَحقَقتُ عقابك بإقدامي عليك مع خوفي لك لاستَوجبتُ عفوك عن إقدامي عليك بحسن ظني بك. على أني متى أَوجَبتُ لك العَفو فقد أَوجبتُ لك الفضل، ومتى أَضفتُ إليك العِقاب فقد وَصفتُك بالإنصاف، ولا أَعلمُ حال الفضل إلا أَشرفَ من حال العدل، ولا الحال التي تُوجِب لك الشكر إلا أرفع من الحال التي تُوجِب لك الصبر. وإن كنت لا تَهَب عقابي لحرمتي فهَبْه لأياديك عندي، فإن النعمة تشفع في النعمة، فإن لم تفعل ذلك للحُرمة فافعله لحُسن الأُحدوثة، وإن لم تفعل ذلك لحسن الأُحدوثة فعُد إلى حسن العادة، وإن لم تفعله لحسن العادة فأْتِ ما أنت أَهلُه. واعلم أني وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قَضَى لي عليك، ومتى ارتفعنا إلى عقلك حَسَّن العفو عني عندك. وفَصْل ما بيننا وبينك وفَرْق ما بين أقدارنا وقَدْرك أنَّا نُسيء وتَغفر، ونُذنب وتَستر، ونَعْوجُّ وتُقوِّم، ونَجهل وتَحلم، وإنَّ عليك الإنعام وعلينا الشكر، ومن صفاتك أن تفعل ومن صفاتنا أن نَصِف، فإذا فَعلتَ ما تَقدِر عليه من العِقاب كُنتَ كمن فعل ما يقدر عليه من التعرُّض، وصرت ترغب عن الشكر كما رغبنا عن السلم، وصار التعرُّض لعفوك بالأمن باطلًا، والتعرُّض لعقابك بالخوف حقًّا، ورَغِبتَ عن النُّبل والبهاء وعن السؤدد والسناء، وصِرتَ كمن يَشفي غيظًا أو يُداوي حقدًا أو يُظهر القُدْرة أو يحب أن يُذكر بالصولة. ولم نجدهم — أبقاك الله — يَحمَدون القدرة إلا عند استعمالها في الخير، ولا يَذمُّون العجز إلا لما يفوت به من إتيان الجميل. وأنَّى لك بالعقاب وأنت خيرٌ كُلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهَجتَ الجُود لأهله، وهل عندك إلا ما في طبعك، وكيف لك بخلاف عادتك، ولِمَ تستكره نفسك على المكافأة وطباعُها الصفح، ولِمَ تكدُّها بالمُنافسة ومَذهبُها المُسامحة؟! فسبحان من جعل أخلاقك وَفْق أعراقك وقولك وَفْق عملك، ومن جعل ظنك أكثر من يقيننا، وفراستك أَثبتَ من عِياننا، وعفوك أرجح من جهدنا، وبداهتك أجود من تفكُّرنا، وفعلك أرفع من وصفنا، وغيبتك أهيب من حضور السادة، وعَتْبك أشَد من عقاب الظلمة. وسبحان من جعلك تعفو عن المُتعمِّد، وتتجافى عن عقاب المُصِر، وتتغافل عن المُبادئ، وتصفح عن المُتهاون، حتى إذا صِرت إلى من ذَنبُه نسيانٌ وتوبته إخلاص وهفوته بِكر وشفيعه الحُرمة، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، ولا الإنعام إلا منك، ولا العلم إلا من تأديبك، ولا الأخلاق إلا من تقويمك، ومن لم يُقصِّر في بعض طاعتك إلا لما رأى من احتمالك، ولا نسي بعض ما يجب لك إلا لما داخله من تعظيمك، صِرتَ تَتوعَّد بالصَّرم وهو دليل كل بلية، وتستعمل الإعراض وهو قائدُ كلِّ هلكة. وقد عَلِمت أن عتابك أشد من الصريمة، وأن تأنيبك أغلظ من العقوبة، وأن مَنْعك إذا مَنعتَ في وزن إعطائك إذا أَعطيتَ، وأن عقابك على حسن ثوابك، وأن جَزَعي من حرمانك في وزن سروري بفوائدك، وأن شَيْنَ غضبك كزَيْنِ رضاك، وأن موت ذكري بانقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك، وما لي اليوم عملٌ أنا إليه أسكن ولا شفيع أنا به أَوثَق من شدة جزعي من عَتبك وإفراط هَلَعي من خوفك، ولستَ ممن إذا جاد بالصفح ومَنَّ بالعفو لم يكن لصاحبه منه إلا السلامة وإلا النجاة من الهلكة، بل تُشفِع ذلك بالمراتب الرفيعة والعطايا الجزيلة والعِز في العشيرة والهَيبة في الخاصَّة والعامَّة، مع طِيب الذكر وشَرَف العقب ومَحبَّة الناس.
ولربما رَأيت الرجل حسنًا جميلًا وحُلوًا مليحًا وعتيقًا رشيقًا وفخمًا نبيلًا، ثم لا يكون موزون الأعضاء ولا مقدود الأجزاء، وقد يكون أيضًا الأقدار مُتساويةً غيرَ مُتقاربة ولا مُتفاوتة، ويكون قصدًا ومقدارًا عدلًا، وإن كانت هناك دقائقُ خفيَّة لا يراها إلا الألمعي، ولطائفُ غامضة لا يعرفها إلا الذكي. فأما الوزن المُحقَّق والتعديل المُصحَّح والتركيب الذي لا يفضحه التفرُّس ولا يَحصُره التعنُّت ولا يتعلل جاذبه ولا يطمع في التمويه ناعته، فهو الذي خُصِصتَ به دون الأنام ودام لك على الأيام. وكذا الحسن إذا كان حُرًّا مُرسلًا وعتيقًا مُطبقًا لا يَتحكَّم عليه الدهر ولا يُذبِله الزمان ولا يحتاج إلى تعليق التمائم ولا إلى الصَّون والكن ولا إلى المناقِش والكُحل، ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سُهِّل في العيون تسهيلًا وحُبِّب إلى القلوب تحبيبًا وقُرِّب إلى النفوس تقريبًا، حتى امتزج بالأرواح وخالط الدماء وجرى في العروق وتَمشَّى في العظم بحيث لا يبلغه السم ولا الوهم ولا السرور الشديد ولا الشراب الرقيق، لكان في ذلك المَزِيَّة الظاهرة والفضيلة البَيِّنة. ولو لم يكن لك إلا أنَّا لا نستطيع أن نقول في الجملة وعند الوصف والمدحة: هو أحسن من القمر وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث، ولهو أحسن من يوم الحلبة، وإنَّا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأن عنقه إبريق فضة، وكأن قدمه لسان حيَّة، وكأن وجهه ماويَّة، وكأن بطنه قبطيَّة، وكأن ساقه برديَّة، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبه خط بقلم، وكأن لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد، وكأن فاه خاتم، وكأن جبينه هلال، ولهو أطهر من الماء وأرق طباعًا من الهواء، ولهو أمضى من السيل وأهدى من النجم، لكان في ذلك البرهان النَّيِّر والدليل البَيِّن. وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فَضْل، والنهاية في كُلِّ شكل. وأما قول الشاعر:
وليس حُسنُك — أبقاك الله — الحُسْن الذي تبقى معه توبة، أو تَصِح معه عقيدة، أو يدوم معه عهد، أو يَثبت معه عزم، أو يُمهَل صاحبه للتثبُّت، أو يَتَّسِع للتخَيُّر، أو يُنهنِهه زجرٌ، أو يُهذِّبه خَوفٌ. هو — أعزك الله — شيءٌ ينقض العادة، ويُفسِح المُنَّة، ويعجل عن الرويَّة، ويَطرح بالعَرا، وتُنسَى معه العواقب، ولو أدركك عمر بن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر بن الحجاج، ولرَكِبك بأعظم مما رَكِب به جعدة السلمي، بل لَدَعَاه الشغل بك إلى ترك التشاغل بهما، والغيظ عليك إلى الرحمة لهما. فمن كان عيب حُسْنه الإفراط عليه من جهة الزيادة، كيف يَرُومُه عاقلٌ أو يَنتقِصه عالمٌ؟ فلا تعجب إن كُنتَ نهايةَ الهِمَّة وغايةَ الأُمنية، فإن حُسن الوجه إذا وافق حُسن القوام، وجودة الرأي، وكثرة العلم، وسَعَة الخُلق، والمَغرِس الطيب، والنِّصاب الكريم، والطرف الناصع، واللسان البَيِّن، والنعمة البهجة، والمخرج السهل، والحديث المُؤنَّق، مع الإشارة الحسنة، والنُّبل في الجِلسة، والحركة الرشيقة، واللهجة الفصيحة، والتمهُّل في المُجاوَرة، والهَذَّ عند المُناقَلة، والبديه البديع، والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يوم الإيجاز، والإطناب يوم الإطناب، يَفلُّ الحَز، ويُصيب المِفصَل، ويبلغ بالعفو ما يَقصُر عنه الجهد، كان أكثر لتضاعُف الحسن، وأَحَق بالكمال والحمد. والتاج بهيٌّ، وهو على رأس الملك أبهى. والياقوت كريمٌ حسن، وهو على جيد المرأة الحسناء أحسن. والشعر الفاخر حَسن، وهو من فم الأعرابي أَحسَن، وإن كان من قول المُنشد وقريضه ومن نَحْتِه وتحبيره فقد بلغ الغاية وقام على النهاية.
وما نَدري في أي الحالَين أنت أجمل، وفي أي المنزلتَين أنت أكمل: إذا فرَّقناك أم إذا جمعناك، وإذا ذكرنا كُلك أم إذا تأملنا بعضك؟ فأمَّا كَفُّك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يَحسُن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها، كما أصبحنا وما ندري: آلكأس في يدك أَحسنُ أم القلم أم الرمح الذي تحمله، أم المِخصَرة أم العِنان الذي تُمسكه، أم السَّوط الذي تُعلِّقه؟ وكما أصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن وأيها أجمل وأشكل: آللِّمة أم مِخَطُّ اللحية، أم الإكليل أم العصابة أم التاج، أم العمامة، أم القناع، أم القلنسوة؟! فأمَّا قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى أنها لم تُخلق إلا لمِنبرِ ثَغرٍ عظيم، أو ركابِ طِرْفٍ كريم. أمَّا فُوك فهو الذي لا ندري أَيُّ الذي تَتفوَّه به أحسن، وأَيُّ الذي يبدأ به أجمل: آلحديث، أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف. وعلى أننا ما ندري أَيُّ أَلسِنتك أبلغ، وأَيُّ بيانك أشفى، أقلمك أم خطك أم لفظك أم إشارتك أم عقدك. وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد؟ وأنت في ذلك فوقهم والحمد لله، وواحدهم وأعيذك بالله، وأنت تجوز الغاية، وتفوق النهاية.
وطباعُك — جُعلتُ فداك — طباع الخمر إلا أنك حلالٌ كُلك، وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت. وقد حَوَيتَ خِصال الياقوت إلا ما زادك الله عليه، وأَخَذتَ خِصال المُشتري إلا ما فضَّلك الله به، وجَمَعتَ خِلال الدُّرِّ إلا ما خُصِصت به دونه. فلك من كل شيء صَفوته ولُبابه وشَرفه وبهاؤه. وهل يضُرُّ القمرَ نباح الكلب، وهل يُزعزِع النخلة سُقوطُ البعوضة عليها؟
فأمَّا القول في المزاح فقد بقي أكثره ومضى أقله. وقد ذَهبَ الناس في المُزاح إلى مذاهبَ مُتضادة، وسلكوا منه في طرقٍ مختلفة: فزعم بعضهم أن جميع المُزاح خير من جميع الجِد، وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان وأن الحمد والذم بينهما نِصفان.
وسنأتي على هذه الأقاويل ثم نذكر ما نقول إن شاء الله.
فأمَّا المُحامي على الهَزل والمُفضِّل للمَزح، فإنه قال: أول ما أَذكُر من خِصال الهَزْل ومن فضائل المَزْح أنه دليلٌ على حُسن الحال وفراغ البال. وأن الجِد لا يكون إلا من فَضلِ الحاجة، والمَزح لا يكون إلا من فَضلِ الغنى. وأن الجِد غَضبٌ والمَزح جَمام. والجِد مَبغَضة والمَزح مَحبة. وصاحب الجِد في بلاءِ ما كان فيه، وصاحب المَزح في رخاءٍ إلى أن يخرج منه. والجِد مُؤلم وربما عرَّضك لِأَشدَّ منه، والمَزح مُلِذٌّ وربما عرَّضك لِأَلذ منه. فقد شارَكه في التعريض للخير والشر، وبايَنه بتعجيل الخير دون الشر. وإنما تشاغَل الناس ليفرغوا، وجَدُّوا لِيَهزِلوا، كما تَذلَّلوا ليَعِزُّوا وكَدُّوا ليستريحوا. وإن كان المُزاح إنما صار مَعيبًا والهَزْل إنما صار مذمومًا لأن صاحبه لا يكون مُعرَّضًا لمجاوزة القدر ومخاطرًا بمودة الصديق. فالجِد داعية إلى الإفراط كما أن المُزاح داعية إلى مُجاوَزة القَدْر. والتجاوٌز للحد قاطعٌ بين القرينَين في جميع النوعَين، فقد ساواه المُزاح فيما هو له وبايَنَه فيما ليس له. وإن كان المَزح قبيحًا لأنه يُورِث الجِد، فأَقبحُ من المَزح ما صيَّر المزح قبيحًا لأن الذي يكون بعده الجِدُّ، ولم يُصير الجِد قبيحًا لأن الذي بعده المزحُ، كان الجِد في هذا الوزن أَقبحَ من المزح، وكان المَزح على هذا التقدير أَحسَن من الجِد؛ لأن ما جعل الشيء قبيحًا أَقبحُ من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسنًا أَحسنُ من الشيء.
وأمَّا الذي عدل بينهما فإنه زعم أن المَزح في موضعه كالجِد في موضعه، كما أن المنع في حقه كالبذل في حقه. قال: ولكل شيءٍ موضع وليس شيء يَصلُح في كل موضع. وقد قسم الله الخير على المَعدلَة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقَسَّطَ أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة وعلى الإعلان والتقيَّة، فأَمَر بالمداراة كما أمر بالمُباداة، وجوَّز المعاريض كما أمر بالإفصاح، وسوَّغ في المُباح كما شَدَّد في المفروض، وجعل المُباح جمامًا للقلوب وراحةً للأبدان وعونًا على مُعاودة الأعمال. فصار الإطلاق كالحَظْر والصبر كالشكر. وليس للإنسان من الخِيرة في الذكر شيءٌ إلا وله في النسيان مثله، ولا في الفطنة شيء إلا وله في الغفلة مثله، ولا في السراء شيء إلا وله في الضراء مثله، ولو لم يرزق الله العباد إلا بالصواب محضًا وبالصدق صرفًا وبمُر الحق صفحًا لهلك العوام وانتقض أمر الخواص. ولو ذُكِّر الإنسان كل ما أُنسيه لشقي، ولو جَدَّ في كل شيء لانتكَث. وقد يكون الذكر إلى الهلكة سُلَّمًا كما يكون النسيان للسلامة سببًا. وسبيل المزاح والجِد كسبيل المنع والبذل. وعلى ذلك مجرى جميع القبض والبسط. فهذا وما قبله جُمَل أقاويل القوم.
ونحن نعوذ بالله أن نجعل المَزح في الجُملة كالجِد في الجملة، بل نزعم أن بعض المَزح خيرٌ من بعض الجِد، وعامَّة الجِد خير من عامَّة المَزح، والحق أن يُنضح عن بعض المزح ويُحتجَّ لجمهور الجِد، وكيف لنا بِذَم جميع المَزح مع ما نحن ذاكرون. قال الشاعر: «وذُو بَاطِلٍ إنْ شِئْتَ أَلْهَاكَ باطِلُه.» وقال آخر:
وإن كانوا قد تسمَّوا بعابس وعباس وشتيم وكالح وقاطب وحَرب ومُرة وصخر وحَنظلة وحَزن وحجر وقِرد وخِنزير، فقد تسمَّوا بالضحاك والبطال وبسام وهزال ونشيط. وقد مَزَح رسول الله ﷺ، ولا يقال: كان فيه مُزاح، وكذلك لا يقال مزَّاح. وكذلك الأئمة ومَن هَزل في بعض الحالات من أهل الحلم والوقار. فمما رُوي عنه ﷺ قوله: «يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير؟» وقوله: «لا تدخل الجنة عجوز.» وقوله: «زوجك الذي في عينَيه بياض.» وقد كان عليٌّ رضي الله عنه يمزح. وقال عمر: إنَّا إذا خَلَونا كُنَّا كأَحَدِكم. وقد كان عُمر عَبوسًا قَطوبًا. وقد كان زياد مع كُلوحه وقُطوبه يُمازح أهله في الخَلا كما يَجِدُّ في المَلا. وكان الحجاج مع عُتوه وطغيانه وتمرُّده وشدة سلطانه يمازح أزواجه ويُرقِّص صبيانه. وقال له قائل: أيمازح الأمير أهله؟ فقال: والله إن تروني إلا شيطانًا، والله لربما رأيتني وإني أُقبِّل رجل إحداهن! فقد ذكرنا خير العالمِين وجِلَّة من خيار المُسلمِين وجبَّارًا عنيدًا وكافرًا لعينًا.
قد اعتذرنا في معصيتك والخلاف على مَحبَّتك مرة بالمَزح ومرةً بالنسيان، ومرةً بالاتكال على عفوك وعلى ما هو أَوْلى بك. على أني لم أُرِدْ بمزاحك إلَّا ضَحِك سنك. انظر هل هَرمتُ إلا في طاعتك، وهل أخلقني إلا مُعاناة خِدمتك؟ وفي الجملة إنَّا لو تعمَّدنا ثُمَّ أَصرَرنا ثم أَنكَرْنا لكان في فضلك ما يَتغمَّدُنا، وفي كَرَمِك ما يُوجِب التغافُل عنا. فكيف وإنما سهونا ثم تذكَّرنا ثم اعتذرنا ثم أطنبنا، فإن تقبل فحظك أَصبتَ ولنفسك نَظرتَ، وإن لم تقبل فاجهَد جَهدك، ثم اجهَد جَهدك، ولا أبقى الله عليك إن أَبقيتَ، ولا عفا عنك إن عَفوتَ، وأقول كما قال أخو بني منقر:
وقد رَعيتُ لك حق نبيذك وحسن شرابك، وإن كان فوق العيوق ودونه بيض الأنوق، وحق توتيائك وإن بعثت به ممزوجًا فكيف لو بعثت به خالصًا؟! وعليك بالجِد فإنه خيرٌ لك، ودع البيات فإنه أَمثلُ بك، فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الإخبار أني أشدُّ منك عقلًا، وأظهر منك حزمًا، وألطف كيدًا، وأكثر علمًا، وأوزن حلمًا، وأخف روحًا، وأكرم عينًا، وأقل غشًّا، وأجل قدًّا، وأبعد غورًا، وأجمل وجهًا، وأنصع ظرفًا، وأكثر ملحًا، وأنطق لسانًا، وأحسن بيانًا، وأجهر جهارةً، وأحسن إشارةً. وأنت رجل تشدو من العلم وتنتف من الأخبار، وتموه نفسك، وتغر من قدرك، وتتهيأ بالثياب، وتتنبل بالمراكب، وتتحبب بحسن اللقاء. ليس عندك إلا ذلك. فلم تزاحم البحار بالجداول، والأجسام بالأعراض، وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ …؟!
فأمَّا الباد والقامة فمن يَعدل بين القناة والكُرة، ومن يُمثل بين النخلة والدكَّان وبين رحى الطحان وسيف يمان! وإنما يكون التمثيل بين أَتَمِّ الخيرَين وأَنقصِ الشرَّين، وبين المتقاربَين دون المتفاوتَين. فأمَّا الخل والعسل، والحصاة والجبل، والسم والغذاء، والفقر والغنى، فهذا ما لا يخطئ فيه الذهن ولا يكذب فيه الحس. والخطأ ثلاثة: خطأ الحس، وخطأ الوهم، وخطأ الرأي. كل ذلك سبيله التنبيه والتذكير والتقويم والتأنيب، والعَمْد نوعٌ واحد وسبيله القمع والحظر والضرب والقتل، وأَوَّل ذلك أن يهجره صاحب الحكمة ولا يُطمِعه في وعظٍ ولا مُجالَسة. وقد رَأيتُ من يعاند الحق إذا كانت المعرفة به استنباطًا، ولم أَرَ من يعاند الحق إذا كانت المعرفة به عِيانًا. وأنت لا ترضى بجحد العِيان حتى تدعو إليه، ولا ترضى بالدعاء إليه حتى تعادي فيه، ولا ترضى بالعداوة فيه حتى تكون لك فيه الرئاسة، ولا ترضى بالرئاسة دون السابقة، ولا بالطارف دون التالد، ولا بالتالد دون الأعراق التي تَسري والمواليد التي تَنمي، ولا ترضى أن تكون أوَّلًا حتى تكون آخرًا، ولا بالمُداراة دون المُباداة، ولا بالجدال دون القتال. وحتى ترى أن التقيَّة حرام، وأن التقصير كفر.
وحتى لو كُنتَ إمام الرافضة لقُتلت في طرفة، ولو قُتلت في طرفة لهلكت الأمة؛ لأنك رجل لا عَقِبَ لك، والإمامة اليوم لا تَصلُح في الإخوة، ولو صَلحَت في الإخوة كانت تَصلُح في ابن العم، ثم إنها دنت من الأرحام بعد ذلك فصارت لا تَصلُح إلا في الولد، وفي هذا القياس أنها بعد أعوام لا تصلح إلا ببقاء الإمام نفسه آخر الأبد. وهذا هو عِلة أصحاب التناسخ وأنت رافضي، ولم يكن هذا عندك. فأهدِ إليَّ الآن من خالص التوتياء كما أَهديتُ إليك باب التناسخ. وأنت ترى القتل في حق المُعاندة شهادة، وترى أن مُباينة المُنصفِين في تعظيم العنود سعادة، وأن الرئاسة في دفع الحقائق مَرتبة، وأن الإقرار بما يَظهر للعيون ضَعَة، وأن الشُّهرة بالمبالغة رفعة. أظهر القوم عندك حُجة أَرفعُهم صوتًا، وأَخلقُهم للمثوبة أَصلبُهم وجهًا، وأَحسنُهم تقيةً أَقلُّهم حرجًا، وأَكثرُهم عندك إنصافًا أَشدُّهم شغبًا. تَعشَق المُتهور وتَكلَف بالجموح وتُصافي الوقاح. والأديب عندك من عاب أحاديث الجلساء، واعترض على نوادر الإخوان، وغَمَز في قفا النديم، ونَصَب للعالم، وأبغض العاقل، واستثقل الظريف، وحَسَد على كل نعمة، وأنكر كل حقيقة.
جُعِلتُ فِداك، إنما أخرجك من شيء إلى شيء، وأورد عليك الباب بعد الباب؛ لأن من شأن الناس ملالةَ الكثير واستثقالَ الطويل وإن كَثُرت محاسنه وجَمَّت فوائده، وإنما أَردتُ أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي؛ لأنك متى كنت للشيء منتظرًا وله متوقعًا كان أحظى لما يرد عليك وأشهى لما يُهدى إليك، وكُل مُنتظَر مُعظَّم، وكُل مأكول مُكرَّم. كل ذلك رغبةً في الفائدة، وصَبابةً بالعلم، وكَلفًا بالاقتباس، وشُحًّا على نصيبي منك، وضَنًّا بما أُؤمِّله عندك، ومُداراةً لِطباعك، واستِزادةً من نشاطك. ولأنك على كل حالٍ بشر، ولأنك متناهي القوة مُدبر.
خبِّرني: كيف كانت خدائع المُتنبئِين ومخاريق الكذابِين ممن قد كان ترشح للتنبؤ، ومن لم يظهر دعوته، ومن دعا واجتهد، ومن أجيب، ومن لم يُجَب. وصِف لي أبواب مصايدهم وأجناس كيدهم وحيلهم، وعن اعتمادهم على المُواطأة، وعن تقدُّمهم في الحُجة، وعمن ذهب في طريق التفهُّم، وعن أصحاب الزَّجر والتنجيم، وعن أصحاب الاسترحام، وعن إظهار الزهد وتحريم الاستمتاع، ومن وافق صورته وحاله بعض ما في البشارات المُتقدِّمة وما في الكتب الصحيحة، ومن اتفق له غير ذلك من الشبهة. فقل في شيث بن آدم، وقل في زرادُشت، وفي ماني، وفي فولس، وفيما ادُّعِيَ لمرقس ومتَّى ولوقا ويوحنا. وخبِّرني عن الأسود العَنسي، ومُسيلمة الحنفي، وطُليحة الأسدي، وبنت عُقفان، وربعي، وأمية بن أبي الصلت، وما قصة الطائرَين الأخضرَين، وما كان شأن الرماح. وخبرني عن سُلمى بن جندل، وما قال الهند في نزول البدِّ، وقصة ابن ديصان، وما قولُ عَبَدة الكيان وعُبَّاد قوة الهيولي وأصحاب البيضة، ومن عبد النجوم وثبت لها الحس والعلم والنفع والضر، ومن جعل كُلَّ داعٍ إلى الله بالصواب والعدل وصلة الرحم ونفي الجهل نبيًّا، ومن أنكر أصل النبوة البتَّة، وما تقول في حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان؟ وقل في الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، وهل يجوز أن يَكفُر نبي أو يُشرك أو يَضِل بعد هدايته، ويصير عدوًّا بعد ولايته، ويدلُّ الله على كذبه كما دل على صدقه؟ وكيف صار النبي عندكم يَعصي ويُخطئ والإمام لا يعصي ولا يخطئ؟ وكيف ساغ ذلك في جميع النبيِّين وأمكن في جميع المُرسَلِين، على كثرة عدد النبيِّين والمُرسَلِين، ولم يجز ذلك في إمامٍ واحدٍ مع قلةِ عددِ الأئمة مذ كانوا؟
وخَبِّرني: لِمَ تنصَّر النعمان ويزيد بن الحارث، وتهوَّد ذو نواس، وتَمجَّسَت ملوك سبأ؟ وكيف صارت العرب فرقًا بين مُحِلٍّ ومُحرم وأحمسي، سوى تفرُّقهم في الملل، وكيف لم نر أمة قط دهرية وقد علمنا أنه لا يجوز أن يتنبأ دهري؟ وكيف لم يَتدهَّر ملك، وكيف لم نجد قول الدهرية إلا في الخاص والشاذ والرجل النادر؟ ولِمَ كان لجميع أهل الأديان مملكةٌ وملوكٌ إلا الزنادقة؟ ولِمَ قتلهم جميع الأمم السالفة؟ ولم قَضَيت بهذا وقد رأينا المُصَدِّقيَّةَ والدِّينَاوَرِيَّة والتَّغزغزية! فإن قلت: لأن من لم يكن من دينه القتال ولا من غريزته البأس فهو مَسلوبٌ أو مُستَرَق. فما بال الروم تمنع أن تُسترَق وأن تُسلَب وليس من دينهم قِتالٌ ولا جِدالٌ ولا مُكافأةٌ ولا دفع.
جُعِلتُ فِداك، أين كان عبد الله بن هلال الحميري صديق إبليس من كردباش الهندي، وأين كان يقع منهما صالح المديبري، وأين عبيد مُج من البطيحي، وأين عبد الوارث من الهُجيمي، وأين كان أبو منصور في المخاريق من جرمي، وأين بامونة من حَسْدَهْ، وأين قِشة اليهودي من كُشة، وما فصل ما بين الكهانة والشعبذة، وما فصل ما بين الحازي والعراف، وأين كان عزَّى سلمة من سطيح الدئبي، وأين كان الأبلق الأسدي من رياح بن كهيلة، وأين كاهن سعد هذيم من حُليس الخطاط. وحدِّثني عن ساحرة حفصة وساحرة عائشة، أقتلتاهما بإقرارٍ منهما أم بمعرفة منهما بكيفية السحر؟ وحدِّثني عن صاحب جُنْدَب بن زهير بإقرارٍ قتله أم عن معرفةٍ منه بمعنى السحر؟ وهل ثبت — جُعِلتُ فِداك — أن النبي ﷺ سُحر في جُفِّ طَلعةٍ ووُضِع تحت راعوفة البئر أم لا؟
وخَبِّرني: ما البحرباي، وما البارباي، وما الكروريات، وما الخواتيم، وما المناديل والسعي والأمر الذي كان في خاتم سليمان، وما السَّكينة التي كانت في التابوت، فقد اختلف المُفسِّرون فيها وزعموا أنها كانت رأسَ هِر. وما سعسف ياسينية، وما الفتل، وما التوجيه؟ وخَبِّرني: ما تأويل الزَّمزمة، وما فَعل المال الذي من أخذ منه ندم ومن لم يأخذ منه ندم. وخبِّرني عن قول الخليل في الوهم القديم؟
وخَبِّرني — جُعلت فِداك — عن قولك في الشعر الذي ننشده في المنام مما لم نسمع بأجود منه في اليقظة، وعن الشعر الذي نخترعه عن مُناقلة الكلام وموازنة الأمور وحال النوم، وحال الآفة والنقص وصاحبه مغمور أو شبيه بالمغمور ولا يجري عليه قلم ولا يُلام ولا يُشكر. ولِمَ صِرنا نتذكر الشيء المهم فلا نقدر عليه حتى ندعه فأيسنا منه أجمع ما نكون أنفسًا وأحسن ما نكون تذكُّرًا، ثم يعارضنا ويخطر على بالنا في حالِ سهر أو في حالِ نوم وأغنى ما نكون عنه وأقل ما نكون احتفالًا به! ولِم صرنا ننسى من القصيدة بيتًا أو آيةً من جميع السورة أو كلمة من جميع كلام الخُطبة، ولِم صار البلغم بالباء أولى منه بالتاء، ولِمَ كانت المِرَّةُ السوداء بالجيم أولى منها بالحاء، وكذلك القلب المانع من الحفظ. وهل بُد للحقيقة من خصائصِ أسبابٍ وأعيانِ علل؟ وإلا فقد يجوز أن تُنسى هذه القصيدة بَدلَ تلك، ولم صار بعض الناس أحفظ للنسب وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ للألفاظ. ولِمَ صِرنا لا ننسى السِّباحة وبالاكتساب عرفناها والعادة أن المُكتسَب قد يُنسى ويُجهل، وأن الضروريات لا تُجهل. وقل لي: لِمَ لَمْ تضرب السامري، ولِمَ لمْ تعض ماني وتمضه، ولِمَ لَمْ تبزق في وجه فرعون. أم إن الطبيعة التي هيبتك من هِشام بن خلف بن قوالة الكناني حين قال على رأس النعمان وأنت رجلٌ يمان هي التي منعتك من أن تَبزُق في وجه فرعون وأنت سَمعتَه يقول: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ ولم أزعم أنك رجلٌ يمان لِولادةٍ لك في قَحطان، كيف وأنت أقدم من قَحطان ومَعد بن عدنان، ومن القرون التي خَبَّر الله عن كثرتها وعن آبائها وأجدادها! ولكنك منهم بالهوى والنصرة، ولأنهم كانوا لك أحشامًا وصنيعةً.
وقل لِم صار جميع الحيوان يُسبِّح إلا الإنسان والقرد والعقرب والفرس الأعسر؟ وأي شيء عندك في آصف، وفي سفر آدم، وفي جراب موسى، وفي درسب، وفي شنلة، وفي كتاب الأسماء، وفي قولهم دعا فلان باسم الله الأعظم؟ وما تقول في ابن عقيب، وفي أشج بن عمرو، وفي شعيب وصالح، وفي السفياني، وفي الأصفر القحطاني؟
وخبِّرني — جُعلت فِداك — مُذ كم صنعت حساب الهسمرح، ومن صاحب خطوط الهند، وأين كتب قوم صنعة السند هند والأركند وحساب كلا سفر؟ ومذ كم عُمل الباب الجامع، ومذ كم عُمل الأرتماطيقي، ومن سَمَّى الجبر بالجبر، والجذر بالجذر، والنشاذر بالبارود، والأكدرية من أي شيء اشتُقَّت، وما تأويل الدحال، وما تأويل الجمل، ومن أَوَّل من عد إلى عشرة وجَعلَ العشرة مُنتهًى وغاية، ثم ضاعفها وجعل غايات الأعداد عشر العشرات وعشرات عشرات العشرات أبدًا، ثم كسر على العشرة مما دون أعدادها؛ لأن الأصابع عشرة، وكيف لم يجعل الغاية ما له نصف وثلث وربع وسدس وثمن، أم رأى أن التضعيف أبدًا لا يكون إلا للعشرات، فقد نجده في عشر العشرات، أم القول الأول الأشياء كلها عشرات، ولست أعرف — جُعلت فِداك — قوله إن الإنسان عشرة أشياء، كما لم أعرف قول الفزاري إن العقل كَرِيٌّ، وقد علمت أن القلب كري، وأن الرأس الذي جمع الحواس كري. فأمَّا العلم والقول وما أشبههما فإنَّا لا نعرف هذه الأمور إلا على خلاف الأجرام الموصولة والمقطوعة، وقد شَدوتُ مِن الموسيقى ولم أبلغ منه شهوتي.
جُعلت فِداك، كيف حِفظك لكتاب كاوريد، وقد خَبَّرني بعض المُتكلِّمِين أنه رأى بسيراف مجوسيًّا يحفظه وهو في ألفِ جلدٍ بخطٍّ مقارب. وكيف حِفظك لكتاب الطرف، وهل لَقِيتَ واضعه أيام أدخلك بلاد الروم نزول عُطارد؟ وخَبِّرني عن أسرار الهند، ألرجل بعينه أم لشورى؟ ولِمَ زعموا أن العقوق يُورث البرص، وهذا مما لا يُعرف في الطب. ومن صاحب الشطرنج، ومن صاحب كليلة ودمنة، ومن واضع الكوكلة، ومن طبع القلعة، ولِم صار الهندي والرومي لا يحفلان بالسندي في حال الأسر ويرغبان عنه في حال القتال. وقد اختلفوا علينا في النعال السندية، فزعم قومٌ أن صاحب كتاب الباه كان قصيرًا مُنكرًا وكان بالنساء مُستهترًا وأنه احتال بها لجسمه حتى وصلها برجله ليكون ثِخَنُها زائدًا في طوله، فلما طالت الأيام ومضت الدهور ظنَّ من لا علم له أنها اتُّخِذت للزينة أو لِضربٍ من المرفق. وقال آخرون: بل اتُّخِذت للعقارب ليلًا وللطين نهارًا، فلما طال عليها الدهر نُسي السبب، وذلك أن أكثر الرِّدَاغ لا تستغرق ثِخَنَها وإبرة العقرب لا تكاد تُجاوزها. وقال آخرون: بل إنما اتخذتها ملوكها لمكان أصواتها وصريرها استئذانًا على أزواجها وأمهات أولادها وعلى جميع محارمها لحالات تكنَّ عليها وأمور تَكنَّ فيها، فصار صريرها تدنأً واستئذانًا. وزعم إسماعيل بن عليٍّ أنك أنت الذي كُنتَ أَمرتَ باتخاذها وأَشرتَ بصنعها، وأنت تكتم السر الذي فيه، وأنك الذي علمتهم مضغ التانبول ودبغ تحمير الأسنان، وتطبيب النكهة، وأكل السعد لما أنت أعلم به، والتصندل لما لا يجوز المكاتبة فيه، وأنك أَوَّل من احتبى هناك واستاك وفرق شعره وعلَّم الخضاب أهله. وكيف وقد زَعمتَ أن الاحتباء إنما صار فيهم وفي العرب لأن نازلة العمد والصحاري وسكان الفيافي والبراري وكل من ليس لشماله مَرفَقة ولا لظهره مَسنَدة ولا لفخذه جُنة لا بدَّ أن يشتكي ظهره إذا طال انتصابه وكثر جلوسه، ومن احتاج احتال، ومن استغنى تبلَّد. فأَخرَجتَ لهم الحبكة للحَبوة حتى قامت لهم مكان المتكأ والمسند. فقد قال لك كسرى: فما بال الترك والخزر وجميع أهل الصحاري والعمد لا يعرفون الاحتباء، والحاجة واحدة والعقول سليمة، فلم أمسكت يومئذ عن الجواب؟ ألأنه استفهم استفهام الرادِّ أو نَفَستَ به على من شهد ذلك المشهد؟
وأنا — جُعلت فِداك أعلم أني أسمع ولا أعقل كيفية السمع، وأعلم أني أُبصِر ولا أعقل كيفية البصر، ولا أدري أمعدن العقل الدماغ والقلب بابه وطريقه، كما أن معدن اللون جميع النفس والعين بابه وطريقه، أم معدن العقل القلب دون الدماغ أو لعلهما موصولان غير مقطوعَين. وقد اعتل قوم للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس، واعتل قوم بالحس وبما يجدون في قلوبهم من الرعب والاضطراب وغير ذلك، فكيف القول فيه وعلام عَزَمتَ منه؟ وكيف صار الناظر يبتدي من جهة وإن كان يعرف الله فكيف عرفه، أباضطرار أم باكتساب؟ وكيف جهل سليمان موضع ملكة سبأ، وهو مَلِك وشأنه عظيم والجن له مُسخَّرة والطير له بُردٌ والريح له أداة، وكيف جَهِل يوسف مكان أبيه وحاله في الحزن عليه حاله وهو مَلِكٌ نبي، وكيف جهل أبوه مكانه وهو نبي، وليس أنبه من نبي، ومُلك هذا بالشام والآخر بمصر؟ وما تقول في أهل التيه وعن تردُّدهم أربعين عامًا في مكانٍ واحد وعقولهم معهم، وإنما يجولون ليقفوا على الطريق، فكيف أضل الجميع الطريق مع ارتفاع الذكر وشدة الطلب؟ وخَبِّرني عن كلام عيسى في بطن أمه ثم في المهد، وعن عقل يحيى في حال الصِّبا، أكانا في حالهما يَتعقَّلان ما لا يعلمان أم ينطقان بما يعلمان؟ وكيف عَلِما، أَبِتَجربةٍ واستنباطٍ وعن تمامِ أداةٍ وكمالِ آلة، أم من طريق الإلهام والإخراج من العادة؟
وقد تَعجَّب ناس من إطالتي ومن كثرة مسألتي، وتعجُّبي من تعجُّبهم أَشَد والذي كان من إنكارهم أعظم، ولو رغبوا في العلم رغبتي ورَأَوا فيه مثل رأيي وكانوا قرءوا كتابي إليك في شبيبتي وأيامَ شبابِ رغبتي، لَاستَقلُّوا من ذلك ما استكثروا ولَاستَقصَروا منه ما استطالوا. فإن أَذِنتَ لي أظهرتُه، وإن تَجِد عليَّ أَعلنتُه.
وستقول: ما دعاك إلى التنويه بذكري وتعريف الناس مكاني، وقد تعرف حِشمتي وانقباضي ونفوري واستيحاشي! ولولا أنك — جُعلت فِداك — مسئول في كل زمان والغاية في كل دهر لما تَفَرَّدتُك بهذا الكِتاب، ولما أَطمعتُ نفسي في الجواب. ولكنك قد كُنتَ أَذِنتَ في مثلها لهرمس، ثم لأفلاطون، ثم لأرسطاطاليس، ثم أَجبتَ معبد الجُهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عُبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار، وعلي بن خالد الأسواري، فتربيةُ كَفِّك والناشئ تحت جناحك أَحقُّ بذلك وأَوْلى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أَحرَص وبه أَعنَى.
وخَبِّرني عن القرسطون كيف أخرج أحد رأسَيه ثلثمائةَ رطلٍ زاد ذلك أم نقص ووزن جميعه ثلاثون رطلًا زاد ذلك أم نقص. وما تقول في السراب، وما تقول في الصَّدى، وما تقول في القوس، وما تقول في طريقة الحمرة، وفي طريقة الخضرة، وكيف اختَلَفَتا والهواء واحد وما يقابلهما واحد، وهل ذلك اللون حقيقة أم تخييل؟
وخَبِّرني عن لون ذَنَب الطاوس ما هو، أتقول بأنه لا حقيقة له وإنما يَتلوَّن بقدر المُقابَلة، أم تقول إن هناك لونًا بعينه والباقي تخييل! وما تقول في عسِّ الماء كيف اشتد صوته بلا باب والصوت لا بدَّ له من هواء، وإذا اشتد فلا بدَّ له من باب؟ وما تقول في خضر السماء، أهو خضر جلدها كما تقول، أم ذلك لحر الهواء كما يقول خصمنا؟ وهل تزعم أن الأفلاك ذات لون؟ فإن كان لها لون فقد احتملت جميع الأشكال، وهذا خلاف ما يقولون. وإن لم تكن ذات لون فالسماء إذًا غير الفلك، فهذا هذا. ونقول أيضًا إن كُنَّا لا نرى القُرى المستطيلة البنيان المُختلفة من البُعد إلا مُستديرة، فلعل الشمس مُصلَّبة والكواكب مُربَّعة. وما تقول في المَد والجَزر، أمن ملَكٍ يضع رجلًا ويرفع رجلًا؟ فإن كان كذلك فلعل مُدبِّر الفلك مَلَك، ولعل صوت الرعد صَوتُ زَجرِ مَلَك، فندع الفلسفة ونأخذ بقول الجماعة، أم نزعم أن المَد والجَزر من نفس الجواذب إذا جذب وإذا رفع؟! وما تقول في قول من زعم أن القمر مائي وأشبه الكواكب بطبيعة الأرض؟ فإنما يكون الجَزْر والمَد على مقاديرِ جذبِه للماء وإرساله له، ذلك معروف في منازله ومجاريه، يعرف ذلك أهل الجَزْر والمَد.
وخَبِّرني كيف صارت القِيافة في النسبة وفي الماء والجو والتربة، وليست القيافة تكلُّفًا وصنعةً، ولا عُرفت بالاستنباط والفكرة، فتكون لمن تعلم دون من يتعلم، نجدها في بني مدلج، ثم في خاص من خثعم، وكذلك خزاعة، وهي في قريش أقل، وهي في بني أسد أقل، وليس هؤلاء لأبٍ ولا يجمعهم بلد، وليس فيما بين البلدين قافةٌ وهي فيهم على هذه الصفة. وكيف لم يختلفوا في لغتهم فينطق بعضهم بالزنجية وبعضهم بالنبطية وبعضهم بالفارسية، فإن قُلتَ فارقهم المُعجم والشاعر والبكي والغرير، فإن الشاعر وإن كان القريض عليه أَسهَل وهو على القوافي أَقدَر فإنه يتروَّى الشعر ويَصنَعه ويَتفرَّد له ويُفكر فيه، وكيف صار الإنسان يعيش حيث تعيش النار ويموت حيث تموت النار، يصاب علم ذلك في الجباب وفي الغِيران، ولِم صار يُبصر النجوم من قعر البئر العميقة ولا يبصرها أبدًا إلا وهو خالص الظلمة. وخَبِّرني عن الظلام، أَجِسمٌ موجود عند زوال الضوء، أم تأويل قولنا ظلام إنما نريد به دفع الضوء؟! فإن كان الظلام معنًى، أفتُراه انقمع في الأرض وكمن عند انبساط الضوء وردع الشعاع، أم الأرض قُرصٌ للظلام كما أن عين الشمس قُرصٌ للضياء؟ وإن كان قائمًا فكيف لم يتنافيا، وإن كانا قد تداخلا فكيف لم نجدهما على منظر الأعيُن؟ ولو كان الأمر كذلك فنحن إذًا لم نَرَ ضياءً قط ولا ظلامًا.
وخَبِّرني — جُعلتُ فِداك — لِم زَعَمتَ أن الحِس للعَصب، وأن الشر عَصبٌ جامد، وأن الرئة لا حِس لها، وأن من أدام سفَّ اللِّبان لم يؤلمه المؤلم وأَلذَّه المُلذ، وكيف يلذ من لا يألم، ولو جاز ذلك لعَرفَ الصواب من يجهل الخطأ، ولعرف الصدق من يجهل الكذب. هذا ما عندي من العلم البَرَّاني وأنت أَبصرُ بالعلم الجُواني.
وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لِمَ كان الفرس لا طُحال له، ولِمَ صار البعير لا مَرارة له، ولِم كانت السمكة لا رئة لها، ولِمَ كانت حيتان البحر لا ألسنة لها، ولِمَ حاضت الأرنب ولِمَ اجترَّت، ولِمَ كان قضيبه من عظام، ولِمَ كانت علائق أجواف السبع أفرادًا إلا الكُلية. وزَعمتَ أنك تعرف في الخفاش سبعين أعجوبة، ونحن لا نعرف إلا سبعًا، وأنك تعرف في الذهب مائةَ خصلةٍ كريمة، والناس لا يعرفون إلا عشرًا، وأنك تعرف في البعير أَلفَ داءٍ ودواء، والأعرابُ لا تدَّعي إلا مائةَ داءٍ غير دواء.
جُعلتُ فِداك، قال رسول الله ﷺ: «كاد البيان أن يكون سِحرًا.» وقال: «إن من البيان لسحرًا.» وقال عمر بن عبد العزيز وسمع رجلًا يتكلم بكلامٍ بليغٍ عجيبٍ لطيفٍ رقيق: هذا — والله — السحر الحلال. وقال الناس لذي المَكر والخِلابة ولذي الرفق والتَّأتِّي: ما هو إلا ساحر، وقد سَحَر بكلامه. وقالوا للمرأة: ساحرة العينَين. وقد ذكر الله السَّحَرة في القرآن، وأخبر عن هاروت وماروت، وخَبَّر عن النفَّاثات في العُقد. وقال الناس: لهو أقبح من السحر، إذا أرادوا نفس المعنى المشبَّه به والمعنى المحمول عليه والسحر نفسه. وما الذي اشتُقَّت منه هذه المثال؟ ولِم تجدهم — أبقاك الله — سَمَّوا كُهَّان العرب سَحَرة، ولا العرَّاف ساحرًا، ولا الحازي، ولا صاحب الطَّرْق، ولا مَن كان معه رئيٌّ، ولا من ادَّعى تابعة من لَدُن عمرو بن لحيٍّ إلى يومنا هذا. وما قاله (الساحر) إذا عقد عُقدًا أو دفن صورة بالأندلس لرجل بفرغانة، وإذا صوَّر شمعتَين وخرطهما على مثال إنسانَين ودفنهما وخبَّأ مكانهما وقابل بين وجوههما تقابلًا بالمودة، وإن دابر بينهما تدابرًا بالعداوة. وقل لي من يتولى هذا له ومن يقوم له به ومن يتطوع به عليه، فإن قلت: الشيطان، فلِمَ فعل هذا له وأول شيطنته ألَّا يطيع من هو فوقه، فإن قلت: بالعزائم التي لا تُرد والأيمان التي لا تُدفع، فقد عزم الله عليه بالقرآن والتوراة والإنجيل فلم يجده يحفل بذلك ولا يرى له قدرًا ولا يكترث له ولا يراه سببًا. وأخبرني ما هذه العزيمة التي إذا سمع بها أجاب، وإذا ظَهرَت له أناب، ومن أين عرف الإنسان هذه العزيمة، ومن أين وقع عليها، ومن له بها، أهو صنعها أم صُنعت له، فإن يكن الشيطان هو الذي ابتدأه بها فقد ابتدأه إذًا بتعريف العزيمة قبل أن يعزم عليه، وقد تَطوَّع بأعظم الأمور، فما الذي يُحوِجه إلى العزيمة في أصغرها؟ فقل في هذا. وإن زَعَمتَ أن العازم صاحبه دون الشيطان، والعازم مسلم وإن كان مسلمًا، ولذلك أجاب العزيمة وعظم الإخلاف، فلِمَ يخبل له الأصحاء ويقتل المرضى ولِم يحبِّب ويُبغِّض، ولِم يُفرِّق بين المرء وأهله، وبين الولد البارِّ وأمه، ولِم يجتلب العفائف إلى الزُّناة، ولِم يُعذِّب ويقتل؟ وهذا متناقض.
ولِمَ قيل: أَعقُّ من ضَب وأَبرُّ من هرة، وهما جميعًا يأكلان أولادهما. ولِمَ عال الذئب أولاد الضبع إذا قُتلت أو ماتت حتى قال الشاعر: «حتى عال أوْس عيالها؟» وهل يفهم الضبع قولهم: خامِري أم عامر؟ وما بال الظبي لا يدخل كِناسَه إلا مُستدبرًا، وهل يجوز قولهم في نوم الذئب قال الشاعر:
ولِمَ نامت الأرنب مفتوحة العينَين، ولِم أكل الذئب صاحبه إذا رأى به دمًا، وما بال الجن والثيران، وما بال الشياطين والورشان، وهل في الحيَّات جنان، وما معنى قولهم: كأنما كُسِر فجُبِر. وما تأويل الحديث: «يؤخذ للجَمَّاء من القَرْناء»، «ويُكلَّف أن يَعقِد بين شعيرتَين»؟
ولِمَ زَعَمتَ أن عُمر نوحٍ أطول الأعمار مع قولك إن جميع الأنبياء قد حَذَّرَت من الدَّجَّال، وأن الدَّجالَ إنسان. وقد سَألتُك وإن كُنتُ أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلًا ولا كثيرًا، فإن أَردتَ أن تعرف حق هذه المسائل وباطلها وما فيها خرافةٌ وما فيها مُحالٌ وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فألزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي، وابتدئ بنفي التشبيه والقول بالبَداء واستبدل بالرفض الاعتزال، وأن أَتنكَّر منعك بعد التمكين والبَذل وبعد التقريع والشَّحذ، فلا يُبعِد الله إلا من ظَلَم.
وقد بَقِيَت لي عليك مسائل وهي خاتمة الكتاب ومُنتهى المسائل: أيهما أحسن، قول بقراط مُفسَّرًا: «العمر قصير والصناعة طويلة والزمان جديد والتجربة خطأ والقضاء عسِر.» أم قول أفلاطون مُجمَلًا: «لولا أن في قولي إني لا أعلم تثبيتًا لأني أعلم لقلت إنِّي لا أعلم.» أم تواضع أرشخانس حيث يقول: «ليس معي من فضيلة العلوم إلا علمي بأني لست بعالم»؟ فانظر في آخر هؤلاء ثم انظر في قول ديمقراط: «عالم مُعانِد خير من عالمٍ مُنصفٍ جاهل.» وفي قول تلميذه الأول: «الجاهل لا يكون مُنصفًا والعالم لا يكون مُعاندًا وقد يكون العالم معاندًا.» ثم انظر قول ريسموس: «لولا العمل لم يُطلب علم، ولولا العلم لم يُطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلًا به أحبُّ إليَّ من أن أدعه زُهدًا فيه، وإن كان الجهل لا يكون إلا من نقصان في آلة الحس فإن المعاندة لَمِن زيادة في آلة الشر، ولأن أَترُك جميع الخير أحبُّ إليَّ من أن أفعل بعض الشر.» ثم انظر في قول تومقراط: «العلم رُوح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد والعمل مولود، وكان العمل لمكان العلم ولم يكن العلم لمكان العمل. فالسبب الجالب خيرٌ من السبب المجلوب، والغالب خيرٌ من المغلوب.» وانظر في قول أقليميون: «العلم كان من العمل والعمل غاية، والعلم رائد والعمل مرشد.» ثم انظر في قول أرسطاطاليس: ليس طلبي العلم طمعًا في بلوغ قاصيته ولا سبيلًا إلى غايته، ولكن ألتمس ما لا يَسَع جَهلُه ولا يَحسُن بالعاقل خِلافُه.» ثم انظر في قوله: «قد عَرَفتُ الأرثماطيقي، وأَيقنتُ معرفة الموسيقى، وعَرَفتُ المساحة، فلم يبق إلا علم الإِلَاهي ومعرفة الإصلاح.» ثم انظر في قول مورسطوس: «عَرفتُ أكثر المقصود، وأقل ما يُوقف عليه من المبسوط، وقليلُ الكثير كثير، وكثيرُ القليل كثير.»
ثم انظر في قول أفليمون: «ما أقل َّمَنفعةَ كثيرِ المعرفة مع شرف الطبيعة واقتصاد الشهوة.» ثم انظر قول تلميذه الأول: «غَلَبة الطبيعة تُبطل المعرفة وتُنسي العاقبة، ولو كانت المعرفة ثابتة لكانت هي الغالبة.» ثم انظر في قول تلميذه الثاني: «ليس بِعِلمٍ ما كان مغلوبًا وليس بفَهمٍ ما كان مغمورًا، بل لا يكون مغلوبًا إلا بالنقص والخبال ولا مغمورًا إلا بالغلبة والانتقاض.» ثم انظر في قول ماسرجس: «من قَصر عن طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهرة، كان حظه من الرغبة وحظه من الرهبة على مقدار حق الرهبة. ومن طَلَب العلم لِكَرم العلم والتمسه لِفَضل الاستبانة كان حظه منه بقدر كَرَمه وقَدْره، وانتفاعه به على حسب استحقاقه في نفسه.»
وقد اختلفوا في العقل بأكثر من اختلافهم في العلم، فمنعني من ذكره لك غموضه عليك واستتاره عنك، وعَلِمتُ أني لا أقدر أن أُصوِّره لك دون دهرٍ طويل، ولا أُضمِّنك معناه دون تربيبٍ كثير.
هذا الكتاب مُرْض مع ما فيه من الأخلاط من أشكالٍ وأضداد، ومن الجِد والهَزل، ومن الحَظْر والإطلاق، ومن الاستئناف والقطع، ومن التحفُّظ والتضييع، ومن التثبيت والتهاون. إذا أريد به تقريعُ مُعجَب أو تكشيف مُموه، أو امتحانُ مُشكل، أو تخجيلُ وقاح، أو قمعُ مُمار، أو ممازحةُ ظريف، أو مساءلة ُعالم، أو مدارسةُ حافظ، أو تنبيهًا على الطريق، أو تجديدًا للذهن.
والعقل — حفظك الله — أطولُ رَقدةً من العين، وأَحوجُ إلى الشحذ من السيف، وأَفقرُ إلى التعهُّد، وأَسرعُ إلى التغيُّر، وأَدْواؤه أقتلُ، وأطباؤه أقل، وعلاجه أَعضلُ. فمن تداركه قبل التفاقُم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقُم لم يُدرك شيئًا من حاجته. ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر ثم معرفة وجوه المطالب، ثم في الخواطر الغَثُّ والسمين، والفاسد والصحيح، والمُسرع إليك والبطيء عنك، والدقيق الذي لا يكاد يُفهم، والجليل الذي لا يلقى الفَهم. ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير، وعلى منازلها في التبايُن والتمييز. والمطالب طُرُق، ولِدَركِ الحقائق أبوابٌ، فمن أخطأها وانتظر كان أسوأ حالًا ممن لم يخطئها ولم ينتظر. وعلى قدر صحة العقل يصح الخاطر، وعلى قدر التفرُّغ يكون التنبُّه. هذا جماع هذا الباب وجمهوره وأقسامه وجملته. ثم من أنفع أسبابه الحفظ لما قد حَصَل والتقييد لما وَرَد والانتظار لما يَرِد ألَّا تُخلي نفسك من الفكرة إلا بقدر جَمام الطبيعة، وأن تعلم أن مكان الدرس من الحفظ كمكان الحفظ من العلم، وأن تعرف فضل ما بين طلب العلم للمُنافَسة والشهرة وبين طلبه للرغبة والرهبة، وأن تعلم أن العلم لا يجود بِمكنونِه ولا يسمح بِسرِّه ومخزونه إلا لمن رَغِب فيه لِكرمِ عنصره، وفَضَّله لحقيقة جوهره، ورَفعَه عن التكسُّب وصانه عن التبذُّل، وأنه لا يُعطيك خالص الحكمة حتى تُعطيه خالص المحبة. وكان يقال: «من شاب شِيبَ له.» وخَصلة ينبغي أن تعرفها وتصطنعها وتتَذكَّرها وتقف عندها، وهي أن تبدأ من العلوم بالمُهم، وأن تختار من صنوفه ما أنت له أَنشطُ والطبيعة به أعنى؛ فإن القبول على قدر النشاط، والبلوغ فيه على قدْر العناية. ثم من أفضل أسبابه تخليصُ أخلاطه وتمييزُ أجناسه والمعرفةُ بأقداره حتى تعطي كل معنًى حَقَّه من التقريب والرفعة، وقِسطه من الإبعاد والضَّعَة، وحتى لا تتشاغل إلا بالسمين الثمين وبالخطير النفيس، ولا تُلقي إلا الغث الخسيس والحقير السخيف، فإنك متى كنت كذلك لم ُتميِّز فَضْل ما بين النَّظَرَين، ولا فَرْق ما بين النعَتين. والكيْسُ كل الكيْسِ والحِذق كل الحِذق ألَّا تعجل ولا تُبطئ، وأن تعلم أن السرعة غير العجلة، وأن تعلم أن الأَناة خِلاف الإبطاء، وأن تكون على يقينٍ من دَرْك الحق إذا وَفَّيتَه شَرْطَه، وعلى ثقةٍ من ثوابِ النَّظَر إذا أَعطيتَه حَقَّه.
هذا جُملة العُذر في هذه الرسالة، وجملة الحُجة فيما قدَّمْنا من الافتنان والإطالة. فإن كُنَّا أصبنا فالصوابَ أَرِدنا وإلى غايته أَجرَينا، وإن كُنَّا قد أخطأنا فما ذلك عن فسادٍ من الضمير ولا عن قلةِ احتفالٍ بالتقصير. ولعل طبيعةً خانت، أو لعل عِلةً حدثت، أو لعل سهوًا اعترض، أو لعل شغلًا مَنَع.
خفض عليك أيها السامع، فإن الخطأ كثيرٌ غامر ومُستولٍ غالب، والصواب قليلٌ خالص ومقموعُ مُستخفٍ. فوجِّه اللائمة إلى أهلها وألزمها من هو أحق بها، فإنهم كثير ومكانهم مشهور. كنت أتعجَّب من كُلِّ فعلٍ خرج من العادة، فلمَّا خرجت الأفعال بأَسْرها من العادة صارت بأَسْرها عجبًا، فبدخول كلها في باب التعجُّب خرجت بأجمعها من باب العجب. وقد ذكر الله تعالى التعجُّب في كتابه، وقد تَعجَّب رسول الله ﷺ في زمانه، وفي الناس يومئذٍ الناقص والوافر والمَشوب والخالص والمستقيم والمُعوجُّ. قال الله تبارك وتعالى لنبيه: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، وقال: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ. واعلم أنه لم يَبقَ من المُتعجِّب القائل إلا نصيب اللسان، ولا من المستمع القائل إلا حِصَّة السمع. وأما القلوب فخاويةٌ قاسية وراكدةٌ جامدة، لا تسمع داعيًا ولا تجيب سائلًا، قد أغفلها سوء العادة واستولى عليها سلطان السَّكْرة. فدع عنك ما لَستَ منه فإن فيما أُورِده عليك شغلًا وهمًّا داخلًا.
اعلم أن الله تعالى قد مسخ الدنيا بحذافيرها، وسلخها من جميع معانيها، ولو مسخها كما مسخ بعض المشركين قردة، أو كما مسخ بعض الأمم خنازير، لكان قد بقَّى بعض أمورها وحَبَس عليها بعض أعراضها، كبقية ما مع القِرد في ظاهره من شبه الآدمي، وبقية ما مع الخنزير في باطنه من شبه البشري، لكنه — جل ذكره — مسخ الدنيا مسخًا مُتتبعًا ومُستقصًى مُستفرغًا، فبين حالَيهِما جميع التضاد، وبين معنَيهما غاية الخلاف. فالصواب اليوم غريبٌ وصاحبه مجهول. فالعَجَب ممن يُصيب وهو مغمور، ويقول وهو ممنوع! فإن صرتَ عونًا عليه مع الزمان قتلتَه، وإن أمسكت عنه فقد رَفدتَه، ولسنا نُريد منك النُّصرة ولا المعونة ولا التأنيس ولا التعزية، وكيف أطلب منك ما قد انقطع سَببُه واجتُثَّ أَصْله. وقد كان يُقال: «من طلب عيبًا وجده.» هذا في الدهر الصالح دون الفاسد. فإن أَنصفتَ فقد أَغربتَ، وإن جُرتَ فلم تَعدُ ما عليه الزمان. وَهَب الله لنا ولك الإنصاف وأعاذنا وإيَّاك من الظُّلم.
والحمد لله كما هو أَهلُه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.