من كتاب استحقاق الإمامة
قال أبو عثمان:
بعون الله تعالى نقول وإليه نقصد وإيَّاه ندعو وعلى الله قصد السبيل:
اعلم — رحمنا الله تعالى وإياك — أن الشيعة رجلان: زَيديٌّ ورافضيٌّ. وبقيَّتهم بِدَدٌ
لا
نظام لهم. وفي الإخبار عنهما غنًى عمَّن سواهما.
قال علماء الزيدية: وجدنا الفضل في الفِعل دون غيره، ووجدنا الفضل كله على أربعة أقسام،
أولها: القِدم في الإسلام حيث لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه، ثُمَّ الزهد
في
الدنيا فإن أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة وآمنهم على نفائس الأموال وعقائل النساء
وإراقة الدماء، ثُمَّ الفقه الذي به يعرف الناس مصالح دنياهم ومراشد دينهم، ثم المشي
بالسيف
كفاحًا في الذب عن الإسلام وتأسيس الدين وقتل عَدوِّه وإحياء وَليِّه. فليس وراء بذل
المهجة
واستفراغ القوة غايةٌ يطلبها طالب أو يرتجيها راغب. ولم نجد فعلًا خامسًا فنذكره. فمتى
رأينا هذه الخصال مجتمعةً في رجلٍ دون الناس كُلِّهم وجب علينا تَفضيلُه عليهم وتَقديمُه
دونهم. وذاك أنَّا سَألْنا العلماء والفقهاء وأصحاب الأخبار وحُمَّال الآثار عن أَوَّل
الناس إسلامًا، فقال فريقٌ منهم: عليٌّ، وقال فريقٌ منهم: أبو بكر، وقال آخرون: زيد بن
حارثة، وقال قومٌ: خَبَّابٌ. ولم نجد قولَ كلِّ واحدٍ من هذه الفرق قاطعًا لعُذرِ صاحبِه
ولا ناقلًا له عن مذهبه. وإن كانت الرواية في تقديمِ عليٍّ أَشهَر واللفظ به أَكثَر
وأَظهَر. وكذلك إذا سألناهم عن الذابِّين عن الإسلام بمُهجِهم والماشِين إلى الأقران
بسيوفهم وجدناهم مُختلفِين، فمن قائلٍ: عليٌّ، ومن قائلٍ: ابنا عفراء، ومن قائلٍ: أبو
دُجانة، ومن قائلٍ: محمد بن مسلمة، ومن قائلٍ: طلحة، ومن قائلٍ: البراء بن مالك. على
أن
لعليٍّ من قتل الأَقران والفرسان والأَكفاء ما ليس لهم، فلا أقل من أن يكون عليٌّ في
طبقتهم. وإن سألناهم عن الفقهاء والعلماء رأيناهم يعدُّون عليًّا وعمر وعبد الله بن مسعود
وزيد بن ثابت وأُبي بن كعب. على أن عليًّا كان أفقههم؛ لأنه كان يُسأل ولا يَسأل ويُفتي
ولا
يَستفتي ويُحتاج إليه ولا يَحتاج إليهم. ولكن لا أَقَل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم.
وإن
سألناهم عن أهل الزَّهادة وأصحاب التقشُّف والمعروفِين برفض الدنيا وخلعها والزهد فيها
قالوا: عليٌّ وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وأبو ذر وعمار وبلال وعثمان بن مظعون. على أن
عليًّا أزهدهم؛ لأنه شاركهم في خشونة الملبس وجُشوبة المأكل والرضا باليسير والتبلُّغ
بالحقير وظَلَفُ النفسِ عن الفُضول ومُخالَفة الشهوات، وفارَقَهم بأن مَلَك بيوت الأموال
ورِقاب العرب والعجم، فكان يَنضَح بيتَ المال في كلِّ جُمعةٍ ويصلي فيه ركعتَين، ورَقَع
سراويله بأَدم، وقطَع ما فضَل من ردائه عن أطرافِ أصابعه بالشَّفرة، في أمور ٍكثيرة.
مع أن
زهده أفضلُ من زهدهم لأنه أَعلمُ منهم، وعبادةُ العالم ليست كعبادةِ غيره، كما أن زَّلته
ليست كزَّلةِ غيره، فلا َأقلَّ من أن نَعُدَّه في طبقتهم. ولم نَجدْهم ذكروا لأبي بكر
وزيد
وخباب مِثلَ الذي ذكروا له من بذل النفس والغَناء والذبِّ عن الإسلام بالسيف، ولم نَجدْهم
ذكروا للزبير وابنَي عفراء وأبي دُجانة والبراء بن مالك مثل الذي ذكروا له من التقدُّم
في
الإسلام والزهد والفقه، ولم نجدهم ذكروا أبا بكر وزيدًا وخبَّابًا في طبقة ابن مسعود
وأُبي
بن كعب كما ذكروا عليًّا في طبقتهما، ولا ذكروا أبا بكر وزيدًا وخبابًا في طبقة معاذ
ابن
جبل وأبي الدرداء وأُبي بن كعب وعمار وبلال وعثمان بن مظعون كما ذكروا عليًّا في طبقتهم.
فلما رأينا هذه الأمور مُجتمعةً فيه، مُتفرقةً في غيره من أصحاب هذه المراتب وأهل هذه
الطبقات الذين هم الغايات، علمنا أنه أفضلهم، وإن كان كُلُّ واحدٍ منهم قد أخذ من كلِّ
خيرٍ
بنصيب فإنه لن يَبلُغ مَبلغَ من قد اجتمع له جميع الخير وصنوفه.
فهذا دليلُ هذه الطبقة من الزيدية على تفضيلِ عليٍّ — رضي الله تعالى عنه — وتقديمِه
على
غيره. وزعموا أن عليًّا كان أولاهم بالخلافة، إلا أنهم كانوا على غيره أقل فسادًا واضطرابًا
وأقل طعنًا وخلافًا؛ وذلك أن العرب وقريشًا كانوا في أمره على طبقات: فمن رجلٍ قد قتل
عليٌّ
أباه أو ابنه أو أخاه أو ابن عمه أو حميَّه أو صفيَّه أو سيدَه أو فارسه، فهو بين مُضطغنٍ
قد دام على حقده ينتظر الفرصة ويَترقَّب الدائرة، قد كشف قناعه وأبدى صفحته. ومن رجلٍ
قد
زَمَّل غيظه وأكمن ضِغنه، يرى سترهما في نفسه ومُداراة عدوه أَبلغَ في التدبير وأقرب
من
الظفر، فإنما يجزئه أدنى عِلَّة تحدث وأَوَّلُ تأويلٍ يَعرض أو فتنةٍ تَنجُم، فهو يَرصُد
الفرقة ويَترقَّب الفِتنة حتى يصول صَولة الأسد ويَروغ رَوَغان الثعلب فيَشفِي غليله
ويُبرد
ناره، وإذا كان العدو كذلك كان غيرَ مأمونٍ عليه سَرَف الغَضب وأن يُموِّه له الشيطان
الوثوب ويُزيِّن له الطلب؛ لأنه قد عرف مأتاه وكيف يَختلُّه من طريق هواه، فإذا كان القلب
كذلك اشتدَّت حفيظته ولم يَقْوَ احتراسه وكان بعرضِ هلكةٍ وعلى جناحِ تغرير؛ لأنه مُنقسم
الرأي مُتفرِّق النفس، قد اعتلج على قلبه غيظ الثأر على قرب عهده بأخلاق الجاهليَّة وعادة
العرب من الثأر وتذكُّر الأحقاد والإِحَن القديمة وشدَّة التصميم. ومن رجلٍ غمَّته حداثته
وأَنِف أن يلي عليه أصغر منه. ومن رجلٍ عَرَفَ شِدَّته في أَمرِه وقِلَّة اغتِفارِه في
دينه
وخُشونةَ مَذهبِه. ومن رجلٍ كَرِه أن يكون المُلك والنبوة يَثبُتان في نصابٍ واحد ويَنبُتان
في مغرسٍ واحد؛ لأن ذلك أقطع لأطماع قريش من أن يعود المُلك دُولةً في قبائلها، ومن قريش
خاصة في بني عبدِ منافٍ الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى؛ لأن الرحم كلما كانت أمس والجوار
أقرب والصناعة أشكل كان الحسد أشد والغيظ أفرط. فكان أقرب الأمور إلى محبتهم إخراج الخلافة
من ذلك المعدن؛ ترفيهًا عن أنفسهم من أَلَمِ الغيظ وكَمَد الحسد.
فصل منها: وضَربٌ آخر من الناس هَمجٌ هامج ورِعاعٌ
مُنتشِر لا نظام لهم ولا اختبار عندهم، أعرابٌ أجلافُ وأشباه الأعراب يفترقون. لا تُدفع
صَولتُهم إذا هاجوا ولا يُؤمَن هَيْجهم إذا سكنوا، وإن أخصبوا طغَوا في البلاد وإن أجدبوا
آثَروا العناد، وهم مُوكلون ببغض القادة وأهل الثراء والنعمة، يَتمنَّون الغلبة ويَشمَتون
بالعَثْرة، ويُسرُّون بالجَولة ويَترقَّبون الدائرة. وهم كما وُصفوا: الطِّغام والسِّفْلة.
وفيهم قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في دعائه: نعوذ بالله من قومٍ إذا اجتمعوا
لم
يُملكوا، وإذا افترقوا لم يُعرفوا، فهؤلاء هؤلاء. وضَربٌ آخر قد فقهوا في الدين وعرفوا
سبب
الإمامة قد قمعهم الحق فانقادوا له بطاعة الربوبية وطاعة المحبة وعرفوا المِحنة وعرفوا
العدل، ولكنهم قليلٌ في كثير، ومُختار كلِّ زمانٍ وإن كثروا فهم أقل عددًا وإن كانوا
أكثر
فقهًا.
فلمَّا كان الناس عند عليٍّ وأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وأهل السابقة من المُهاجرِين
والأنصار على الطبقات التي ذكَرْنا والمنازل التي نزَّلنا والمراتب التي رتَّبنا، وبالمدينة
مُنافقون يعضُّون عليهم الأنامل من الغيظ، وفيهم بِطَانةٌ لا يَألُونَهُم خبالًا، لا
يخفى
عليهم موضع الشَّدَّة وانتهاز الفرصة، وهم في ذلك على تقيَّة، وافق ذلك ارتداد من حول
المدينة من العرب وتوعُّدهم بذلك في شَكَاة النبي
ﷺ وصح به الخبر. ثُمَّ الذي كان من
اجتماع الأنصار حيث انحازوا من المهاجرِين وصاروا أحزابًا وقالوا: مِنَّا أميرٌ ومنكم
أمير.
أشفق عليٌّ أن يُظهِر إرادة القيام بأمر الناس مَخافةَ أن يَتكلَّم مُتكلمٌ أو يُشغب
مُشاغب
ممن وصفنا حاله وبيَّنَّا طريقته فيُحدث بينهم فرقة، والقلوب على ما وصفنا والمنافقون
على
ما ذكرنا وأهل الردة على ما أخبرنا ومذهب الأنصار على ما حكينا، فدعاه النظر للدين إلى
الكف
عن الإظهار والتجافي عن الأمر، وعلم أن فضل ما بينه وبين أبي بكر في صلاحهم لو كانوا
أقاموه
لا يعادل التغرير بالدين ولا يفي بالخطار بالأنفس؛ لأن في التهيُّج البائقة وفي فساد
الدين
فساد العاجلة والآجلة، فاغتفر الخمول ضنًّا بالدين وإيثارًا للآجلة على العاجلة، فدلَّ
ذلك
على رَجاحةِ حِلمه وقِلةِ حرصه وسَعةِ صَدرِه وشدَّة زُهدهِ وفَرْطِ سماحِه وأصالةِ رأيه.
ومتى سخت نفس امرئٍ عن هذا الخطب الجليل والأمر الجزيل ينزل من الله تعالى بغاية منازل
الدين، وإنما كانت غايته في أمرهم أَربَح الحالَين لهم وأَعوَد القصدَين عليهم، وعَلِم
أن
هلكتهم لا تقوم بإزاء فَرقِ ما بين حاله وحال أبي بكر في مصلحتهم، وقد علم بعد ذلك أن
مُسَيْلِمَةَ قد أطبق عليه أهل اليمامة ومن حولها من أهل البادية، وهم القوم الذين لا
يُصطلى بنارهم ولا يُطمع في ضعفهم وقِلةِ عَددِهم، فكان الصواب ما رآه عليٌّ من الكف
عن
تحريكِ الهرج إذ أبصر أسباب الفِتن شارعةً وشواكلَ الفساد باديةً، ولو هَرَج القوم هَرْجةً
أو حدثت بينهم فرقةٌ كان حربُ بَوارهم أَغلبَ من الطمع في سلامتهم. وقد كان أبو بكر وعمر
وأبو عبيدة وفضلاء أصحابه يعرفون من تلك الآراء شبيهًا بما يعرفه عليٌّ، فعَلِموا أن
أول
أحكام الدين المبادرة إلى إقامة إمام المُسلمِين لئلَّا يكونوا نَشَرًا ولئلَّا يجعلوا
للمُفسدِين عِلةً وسببًا، فكان أبو بكر أصلح الناس لها بعد عليٍّ. فأصاب في قيامه والمسلمون
في إقامته وعليٌّ في تسويغه والرضاء بولايته مِنةً على الإسلام وأهله. فلمَّا قمع الله
تعالى أهل الردة بسيف النقمة وأباد النفاق وقتل مُسَيْلِمَةَ وأُسر طُليحة ومات أصحاب
الأَوتار ونُفيت الضغائن، راح الحق إلى أهله وعاد الأمر إلى صاحبه.
فصل منه: وإنما ذَكَرتُ لك مذهب مَن لا يجعل القرابة
والحسب سببًا إلى الإمامة دون من يجعل القرابة سببًا من أسبابها وعلةً من عللها؛ لأني
قد
حَكيتُه في «كتاب الرافضة» وكان ثَمَّ أَوقَع به وأَليَق، وكَرِهتُ المُعاد من الكلام
والتَّكرار لأن ذلك يغني عن ذكره في هذا الكتاب، وهو مسلكٌ واحد وسبيلٌ واحد، وإنما قَصَدتُ
إلى هذا المَذهبِ دون مَذهبِ سائر الزيدية في دلائلهم وحُججهم لأنه أَحسنُ شيء رأيته
لهم،
وإنما أحكي لك من كلِّ نِحلةٍ قول حُذَّاقهم وذَوِي أَحلامِهم لأن فيه دلالةً على غيره
وغِنًى عما سواه.
قالوا: وقد يكون الرجل أفضل الناس ويلي عليه من هو دُونه من الفضل حتى يُكلفه الله تعالى
طاعتَه وتقديمَه إمَّا للمصلحة، وإمَّا للإشفاق من الفتنة كما ذكرنا وفسَّرنا، وإمَّا
للتغليظ في المِحنة وتشديد البَلْوى والكُلفة كما قال الله تعالى للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى، والملائكة
أفضل من آدم فقد كلَّفهم الله تعالى أغلظ المِحن وأشد البلوى؛ إذ ليس في الخضوع أشد من
السجود على الساجد، والملائكة أفضل من آدم لأن جبريل وميكائيل وإسرافيل عند الله تعالى
من
المُقرَّبين قبلِ خَلقِ آدم بدهرٍ طويلٍ لما قَدَّمَت من العبادة واحتَملَت من ثقل الطاعة.
وكما مَلَّك الله تعالى طالوت على بني إسرائيل وفيهم يومئذٍ داود عليه السلام وهو نبيهم
الذي أخبر الله عنه كما في القرآن بقوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا. ثم صنيع النبي
ﷺ حين ولَّى زيد بن حارثة على جعفر الطيَّار يوم مؤتة، وولَّى أسامة على أكثر
المهاجرين وفيهم أبو بكر وعمر وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وسعد بن أبي وقاص، ذَوو أخطار
وأقْدار من البدريِّين والمُهاجرِين والسابقِين الأولِين.
فصل منه: ولو تُرك الناس وقُوى عقولهم وجماح طبائعهم
وغلبة شهواتهم وكثرة جهلهم وشدَّة نزاعهم إلى ما يُرديهم ويُطغيهم حتى يكونوا هم الذين
يَحتجِزون من كل ما أفسدهم بقدْر قُواهم، وحتى يقفوا على حد الضار والنافع، ويعرفوا فضل
ما
بين الداء والدواء والأغذية والسموم، كان قد كلَّفهم شططًا وأسلمهم إلى عدوهم وشَغلَهم
عن
طاعته التي هي أجدى الأمور عليهم وأنفعها لهم، ومن أجلها عدَّل التركيب وسوَّى البنية
وأخرجهم من حد الطفولة والجهل إلى حد البلوغ والاعتدال والصحة وتمامِ الأَداةِ والآلة؛
ولذلك قال عز ذكره: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ. ولو أن الناس تركهم الله تعالى والتجربة وخلاهم وسَبْر الأمور
وامتحان السموم واختبار الأغذية — وهم على ما ذكرنا من ضعف الحيلة وقلة المعرفة وغلبة
الشهوة وتسلط الطبيعة مع كثرة الحاجة والجهل بالعاقبة — لَأَثَّرَت فيهم السموم ولَأفناهم
الخَلط ولَأجهزَ عليهم الخَبط ولَتولَّدت الأدواء وترادَفَت الأسقام حتى تصير منايا قاتلةً
وحتوفًا مُتلفة؛ إذ لم يكن عندهم إلا أخذها والجهل بحدودها ومنتهى ما يجوز منها والزيادة
فيها وقِلَّة الاحتراس من توليدها. فلما كان ذلك كذلك عَلِمنا أن الله تعالى حيث خلق
العالم
وسُكانه لم يخلقْهم إلا لصلاحهم، ولا يجوز صلاحُهم إلا بتنقيتهم، ولولا الأمرُ والنهيُ
ما
كان للتنقية وتعديل الفطرة معنًى.
ولمَّا أن كان لا بدَّ للعباد من أن يكونوا مَأمورِين مَنهيِّين بين عدوٍّ عاصٍ ومطيعٍ
وليٍّ، عَلِمنا أن الناس لا يستطيعون مُدافَعة طبائعهم ومُخالَفة أهوائهم إلا بالزجر
الشديد
والتوعُّد بالعقاب الأليم في الآجل بعد التنكيل في العاجل. إذ كان لا بدَّ من أن يكون
لكونهم مأمورين منهيين من العمل معجلًا والجزاء الأكبر مؤجلًا، وكان شأنهم إيثار الأدنى
وتسويف الأقصى. وإذا كانت عقول الناس لا تبلغ جميع مصالحهم في دنياهم، فهم عن مصالح دينهم
أعجز؛ إذ كان علم الدين مُستنبطًا من علم الدنيا، وإذا كان العلم مباشرة أو سببًا
بالمباشرة، وعِلم الدين غامضٌ لا يُتخلَّص إلى معرفته إلا بالطبيعة الفائقة والعناية
الشديدة مع تلقين الأئمة؛ ولأن الناس لو كانوا يبلغون بأنفسهم غاية مصالحهم في دينهم
ودنياهم لكان إرسالُ الرسل قليلَ النفعِ يسيرَ الفَضل، وإذا كان الناس — مع منفعتهم بالعاجل
وحبهم للبقاء ورغبتهم في النماء وحاجتهم إلى الكفاية ومعرفتهم بما فيها من السلامة —
لا
يبلغون بأنفسهم معرفة ذلك وإصلاحه، وعِلْمُ ذلك جليٌّ ظاهرٌ سببه متصلٌ بعضه ببعض كدَرْك
الحواس وما لاقاها، فهُم عن التعديل والتجوير وتفصيل التأويل والكلام في مجيء الأخبار
وأصول
الأديان أعجز وأجدر ألَّا يبلغوا منه الغاية ولا ينالوا منه الحاجة؛ لأن علم الدنيا أمران:
إمَّا شيءٌ يلي الحواس، وإمَّا شيءٌ يلي علم الحواس، وليس كذلك الدين.
فلمَّا كان ذلك كذلك علمنا أنه لا بدَّ للناس من إمامٍ يُعرِّفهم جميع مصالحهم، ووَجدْنا
الأئمة ثلاثة: رسول، ونبي، وإمام. فالرسول نبيٌّ إمامٌ، والنبي إمام وليس برسول، والإمام
ليس برسول ولا نبي. وإنما اختلفت أسماؤهم ومراتبهم لاختلاف المُقوِّمات والطبائع، وعلى
قدر
ارتفاع بعضهم عن درجة بعض في العزم والتركيب، وبتغير الزمان يتغير الغرض وتتبدل الشريعة.
فأفضل الناس الرسول، ثم النبي، ثم الإمام. فالرسول هو الذي يشرع شريعة ويبتدئ الملة ويُقيم
الناس على جُمَل مراشدهم؛ إذ كانت طبائعهم لا تحتمل في ابتداء الأمر أكثر من الجُمَل.
ولولا
أن في طاقة الناس قبول التلقين وفَهْم الإشارة لكانوا هَملًا ولترُكوا نَشَرًا وحشرًا
ولَسَقط عنهم الأمر والنهي، ولكنهم قد يُفضِّلون بين الأمور إذا أُورِدت عليهم وكُفُوا
مؤنة
التجربة وعلاج الاستنباط، ولن يبلغوا بذلك القَدْر قَدْر المُستغنِي بنفسه المُستبِد
برأيه
المُكتفِي بفطنته عن إرشاد الرسل وتلقين الأئمة. وإنما جاز أن يكون الرسول مَرَّةً عربيًّا
ومَرةً عجميًّا وليس له بيتٌ يخطره ولا شرفٌ يُشهَر مَوضِعه؛ لأنه حيث كان مُبتدِئ الملة
ومُخرِج الشريعة كان ذلك أَشهَر من شرف الحَسَب المذكور وأَنبَه من البيت المُقدم، ولأنه
يحتاج من الأعلام والآيات والأعاجيب إلى الظاهر المعقول والواضح الذي لا يُخَيَّل أن
يُشتَهَر مثله في الآفاق ويستفيض في الأطراف حتى يَصدع عقل الغبي ويضعف طبع العاقل وينقض
عزم المعاند ويُنبِّه من طول الرقدة ويُخضع الرقاب ويضرع الخدود حتى يتواضَعَ له كل شرف
وينحلَّ له كل أنف، فلا يحتاج حاله معه إلى مال ولا قَدْره إلى حسب. وعلى قدر جهل الأمة
وغباء عقولها وسُوء رغبتها وخُبث عادتها وغِلَظ مِحنتها وشدَّة حَيرتها، تكون الآيات:
كفلْق
البحر والمشي على الماء وإحياء الموتى وقَصْر الشمس عن جَرْيها. ولأن النبي ليس برسول
ولا
مُبتدِئ مِلَّة ولا مُنشِئ شريعة، إنما هو للتأكيد والبشارة كبشارة النبي بالرسول الكائن
على غابر الأيام وطول الدهر، وتوكيد المُبشِّر يحتاج من الأعلام إلى دون ما يحتاج إليه
المُبتدِئ لأصل الملة والمُظهِر لغرض الشريعة الناقل للناس عن الضلال القديم والعادة
السيئة
والجهل الراسخ؛ فلذلك اكتُفِي بشهرة أعلامه وشرائعه من شهرة بيته وشرف حسبه؛ لأنه لا
ذكر
إلا وهو خاملٌ عند ذكره، ولا شرف إلا وهو وضيعٌ عند شرفه.
فصل منه يحكي فيه قول مَن يجيز أكثر من إمام واحد: زعم
قومٌ أن الإمامة لا تجب لرجلٍ واحدٍ بعينه من رهطٍ واحد ولا لواحدٍ من عرض الناس وإن
كان
أكثرهم فضلًا وأعظمهم عن المسلمين غَناءً بعد أن يكون فردًا في الإمامة لا ثاني له، وأن
الناس إن ترُكوا أن يقيموا إمامًا واحدًا جاز لهم ذلك، ولم يكونوا بتركه ضالِّين ولا
عاصِين
ولا كافرين، فإن أقاموه كان ذلك رأيًا رَأوه وغيَر مُضيّق عليهم تركه، ولهم أن يُقيموا
اثنين، وجائزٌ لهم أن يقيموا أكثر من ذلك، ولا بأس أن يكونوا عَجَمًا ومَوالِيَ، ولكن
لا بدَّ من حاكم واحدًا كان أو أكثر على حال. ولا يجوز أن يكون الرجل حاكمًا على نفسه
وقائمًا
عليها بالحدود. ولم يقل أحد البتةَ إن من الحكم والحاكم بُدًّا، ولكنهم اختلفوا في جهاتهم
ومعانيهم، وقالوا: وأي ذلك كان من إقامة الواحد والاثنين أو أكثر من ذلك، فعلى الناس
الكَفُّ عن مَحارمِهم وترك الأصل والتناجي فيما بينهم والتخاذل عند الحادثة تَنُوبهم
من
عدوٍّ يَدهَمُهم من غيرهم أو خاربٍ يُخيف سبلهم من أهل دعوتهم، وعليهم فيما شجر بينهم
إعطاء
النُّصفة من أنفسهم بالغًا ما بلغ في عُسر الأمر ويُسره، وعلى كلِّ رجلٍ في داره وبيته
وقبيلته وناحيته ومِصره إذا كان مأمونًا ذا صلاح إذا ثبت عنده على أخيه أو صاحبه أو جاره
أو
حاشيته من خدمه حَدٌّ أو حُكمٌ جناه جانٍ عليهم على نفسه أو ظلمٌ رَكِبه من غيره إقامة
ذلك
الحكم أو الحد عليه إذا أمكنه مُستحِقه، إلا أن يكون فوقه كافٌّ قد أجزى عليه، وعلى
الُمجترِح للذنب المُوجِب على نفسه الحد والمُستحِق له إمضاءُ الحكم في بدنه وماله
والإمكانُ من نفسه، وألَّا يعوذ بقوةٍ ولا يَروغَ بحيلةٍ ولا يسخط حكم التنزيل فيما نزل
به
وفيما هو بسبيله من مالٍ أو غيره، وإنما يجب ذلك إذا كان على الفريقَين من القَيِّم والجاني
يمكنه ما كلَّفه الله من ذلك، فإن أبى القيِّم إقامة الحق والحد على الجاني بعد استيجابه
والإمكان من نفسه لإقامة الحد عليه فقد عصى الله تعالى، ولم يُؤتِ في ذلك الأمر نفسه؛
لأن
الله تعالى قد بيَّنه له وأوجبه عليه وقرَّره حين أوضح له الحُجة وقَرَّب له الدلالة
وطَوَّقه المعرفة ومكَّنه من الفعل.
وقد بسطنا العذر لذوي العَجْز في صدر الكلام، وإن أبى الجاني المُستحِق للحكم والحد
الإمكانَ من نفسه وماله وما هو بسبيله، فقد عصى الله تعالى في ذلك كما عصاه في ركوبه
ما
أوجب عليه الحدَّ، ولم يُؤت من ربه لما ذكرنا من إيضاح الحُجة وإثبات القُدرة.
فصل منه: وقد علمنا أن من شأن الناس الهرب إذا خافوا
نزول المكروه والامتناع من إمضاء الحدود بعد وجوبها عليهم ما وجدوا السبيل إلى ذلك، وهذا
سببُ إسقاطِ الأحكام والتَّفاسُد. وقد أُمِرنا أن نترك أسباب الفساد ما استطعنا، وبالنظَر
للرعيَّة ما أَمكنَنا، فوَجَب علينا عند الذي قلنا أنَّا لو لم نُقِم إمامًا واحدًا كان
الناس على ما وصفنا من التسُّرع إلى الشر إذا طَمِعوا والهرب إذا خافوا. وهذا الأمر قد
جرت
به عامَّة المعرفة وفُتحت عندنا فيه التجربة. قلنا عند ذلك: إن الإمامة لا تجب على الناس
من
طريق الظنون وإشفاق النفوس، وقد رأينا أعظم منها خطرًا وقدْرًا ونفعًا في كلِّ جهةٍ على
خلافِ ذلك، وهو رسول الله
ﷺ بعثه الله إلى أمة وقد علم أنهم يزدادون من كُفرهم — من
قِبل ذلك الرسول — كُفرًا بجحدهم له وإخراجِهم إيَّاه وقَصدِهم قَتْله، ثم لا يكون ذلك
مانعًا له من الإرسال إليهم والاحتجاج به عليهم لمكان عِلْمِه أنهم يزدادون فسادًا وبغيًا؛
إذ كان قَدَّم لهم ما به ينالون مصالح دينهم ودنياهم، وإنما على الحكيم أن يأتي الأمر
الحكيم عَرَف ذلك عارفٌ أم جَهِله جاهل، وعلى الجواد ذي الرحمة في جوده ورحمته أن يفعل
ما
هو أَفضلُ في الجود وأَبلغُ في الإحسان وألطفُ في الإنعام من إيضاح الحُجة وتسهيل الطُّرق
والإبلاغ في الموعظة مع ضمان الوعد بالغاية من الثواب والدوام واللذة، والتوعُّد بغاية
العقاب في الدوام والمكروه، إلى عباده الذين كلفهم طاعته وأهلِ الفاقةِ إلى عائدته ونظره
وإحسانه، فإن قَبِل ذلك قابلٌ فقد أصاب حظَّه، وإن أبى ذلك فلنفسه ظَلَم. وقد صنع الله
به
ما هو أَصلَحُ وإن لم يَستصلِح العبد نفسه.
قالوا: فإذا كان الله تبارك وتعالى عالمًا بأن القوم يزدادون فسادًا عند إرسال الرسل،
وكان غير صارف لهم عن الإرسال إليهم؛ إذ كان قد عدل خَلْقهم ومكَّنهم من مصلحتهم، فما
بال
الظن والحُسبان بأن الناس يتفاسدون ويتنازعون إذا لم يُقيموا إمامًا واحدًا يوجب فرضًا
لم
ينطق به كتاب ولم يؤُكِّده خبر، وقد رأينا العلم بأن الناس يتفاسدون ولا يُردُّ به
فرض؟!
فصل منه: وقالوا: قد رأينا أهل الصلاح والقَدْر عند
انتشار أمر السلطان وغَلَبة السِّفْلة والدُّعَّار وهَيْج العوامِّ يقوم منهم العدد اليسير
في الناحية والقبيلة والدرب والمحلَّة فيُقيم لهم حد المُستطِيل ويقمع شذوذ الدُّعَّار
حتى
يستريح الضعيف ويأمن الخائف وينتشر التاجر ويُكبِر جانبَهُم الداعرُ، وإنما صلاح الناس
بقَدْر تعاوُنهم وتخاذُلهم، مع أن الناس لو تركهم المُتسلِّطون عليهم وأُلجئوا إلى أنفسهم
حتى يتحقق عندهم أَلَّا كَافِيَ إلَّا بَطشُهم وحِيلُهم، وحتى تكون الحاجة إلى الذب
والحراسة والعلم بالمكيدة هي التي تحملهم على مَنعِ أنفسهم، لذَهَبَت عادة الكفاية وضعُف
الاتكال ولَتعوَّدوا اليقظة ولَدَرِبُوا بالحِراسةِ واستثاروا دَفِينَ الرأي؛ لأن الحاجة
تُفتِّق الحِيلَة وتَبعَث على الرويَّة، وكان بالحَرِيِّ أن يَصلُح أَمْرُ الجميع؛ لأن
طمَع
الراعي إذا عاد بأسًا صَرفَه في البغيِ وكان ذاك مُنبِّهًا للنائم ومُشحذًا لليقظان وضراوةً
للمُواكِل ومَزجرةً للبُغاة حتى يَنبُت عليه الصغير ويَتفحَّل معه الكبير.
فصل منه: وزعم قوم أن الإمامة لا تجب إلا بأحد وجوه
ثلاثة: إما عقلٌ يدل على سببها، أو خبرٌ لا يكذب مثله، أو أنه لا يحتمل شيئًا من التأويل
إلا وجهًا واحدًا. قالوا: فوجدنا الأخبار مختلفة، والمختلف متدافع، وليس في المتدافع
والمتكافئ بيان ولا فضل. فمن ذلك قول الأنصار، وهم شطر الناس أو أكثرهم، مع أمانتهم على
دين
الله تعالى وعلمهم بالكتاب والسنة حيث قالوا عند وفاة النبي
ﷺ: مِنَّا أمير ومنكم
أمير. فلو كان قد سبق من رسول الله
ﷺ في ذلك أمرٌ ما كان أحدٌ أَعلمَ به منهم ولا
أَخلقَ للإقرار والعمل بما يلزم الصبر عليه منهم، بعد الذي ظهر من احتمالهم في جنب الله
تعالى والجهاد في سبيله والنصرة لنبيه
ﷺ، مع الإيواء والإيثار بعد المُواساة ومحاربة
القريب والبعيد والعرب قاطبةً وقريش خاصةً، ثم الذي نطق القرآن به من تزكيتهم وتفضيلهم
بحب
رسول الله
ﷺ لهم ولقبِه لهم وثنائه عليهم وهو يقول: «أما والله ما علمتكم إلا
لتقِلون عند الطمع وتكثُرون عند الفزع.» في أمورٍ كثيرة. ثم لم يكن قولهم: مِنَّا أمير
ومنكم أمير، من سَفيهٍ من سُفَهائهم ضَرَّى إليه أمثاله منهم، فإن لكلِّ قومٍ حَسَدةً
وجُهالًا وأحداثًا وسرعانًا من حَدثٍ تبعثه الغَرارة والأشَر، أو رجلٍ يحب الجاه والفتنة،
أو مُغفَّل مخدوع، أو غِرٍّ ذي حميَّة يُؤثِر حَسبَه ونسبه على دين الله تعالى وطاعة
نبيه
ﷺ. ولا كان ذلك القول إذ كان من عِليتهم في الواحد الشاذ القليل، بل كان في ذوي
أحلامهم والقدم منهم. ثم كان المرشح والمأمول عندهم سعد بن عبادة سيدًا مطاعًا ذا سابقةٍ
وفضلٍ وحِلمٍ ونجدةٍ وجاهٍ عند رسول الله
ﷺ واستعانةٍ به في الحوادث والمُهم من
أمره، ثم كان في الدهم من الأنصار والوجوه والجمهور من الأوس والخزرج، فكيف يكون سَبَق
من
النبي
ﷺ في هذا أمر يقطع عهدًا ويوجب رضًا وهؤلاء الأمناء على الدين والقُوَّام به
قد قاموا هذا المقام وقالوا هذا المقال. قالوا: فإن قال قائل: فإن القوم كانوا على طبقات:
من ذاكرٍ مُتعمِّد، أو ناسٍ قد كان سقط عن ذكره وحفظه، ومن رجلٍ كان غائبًا عن ذلك القول
والتأكيد الذي كان من النبي
ﷺ في إقامةِ إمامٍ يُقدَّم في أيام وفاته، ومن رجلٍ قدم
في الإسلام لم يكن من حُمَّال العلم، فأذكرهم أبو بكر وعمر فذكروا، ووعظاهم فاتعظوا،
فقد
كان فيهم الناشئ الفاضل الذي يزجره الذكر وينزع إذا بُصِّر، والمُعتمِد الذي لم يبلغ
من
لَجاجِه وتتايُعه وركوبِ رَدعِه ما تُؤثر معه التصميم على حُسن الرجوع عند الموعظة الحسنة
والتخويف بفساد العاجل، في كثيرٍ ممن لم يكن له في الإسلام القدْر النبيه إما للغفلة
وإما
للإبطاء عنه وإما للخمول في قومه مع إسلامه وصحة عَقده، فداواهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة
يوم السقيفة حين قالوا: نحن الأئمة وأنتم الوزراء. وحيث روَوا أن النبي
ﷺ قال:
الأئمة من قريش. فلما استُرجعوا رجعوا. قلنا: الدليل على أن القوم لم يرَوا في كلام أبي
بكر
وعمر حُجة عليهم، وأن انصرافهم عما اجتمعوا له لم يكن لأنهم رَأَوا أن ذلك القول من أبي
بكر
وعمر وأبي عبيدة بن الجراح حُجة، غَضبُ رئيسهم وخروجه من بين أظهرهم مُراغمًا في رجالٍ
من
رهطه مع تركه بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتشنيعه عليهم بالشام، وقد قال قيس بن سعد بن
عبادة
وهو يذكر خِذلان الأنصار لسعد بن عبادة واستبداد الرهط من قريش عليهم بالأمر:
وخَبَّرْتُمُونَا أَنَّمَا الأَمْرُ فِيكُمْ
خِلَافَ رَسُولِ اللهِ يَوْمَ التَّشَاجُرِ
وأنَّ وَزَرَاتِ الخِلَافَةِ دُونَكُمْ
كَمَا جَاءَكُمْ ذُو العَرْشِ دُونَ العَشَائِرِ
فَهَلا وزَيرًا وَاحِدًا تَجْتَبُونَهُ
بِغَيْرِ وِدَادٍ مِنْكُمُ وأَوَاصِرِ
سَقَى اللهُ سَعْدًا يَوْمَ ذَاكَ ولَا سَقَى
عَوَاجِلَهُ هَابَتْ صُدُورُ النَّوَابِرِ
وقال رجل من الأنصار، ودعاه عليٌّ رضي الله عنه إلى عونه ونصرته إما يوم الجمل أو
يوم
صفين:
مَا لِي أُقَاتِلُ عَنْ قَوْمٍ إذَا قَدِرُوا
عُدْنَا عَدُوًّا وكُنَا قَبْلُ أَنْصَارًا
وَيْلٌ لَهَا أُمَّةٌ لَوْ أنَّ قَائِدَهَا
يَتْلُو الكِتَابَ ويَخْشَى النَّارَ والعَارَ
أمَّا قُرَيْشٌ فَلَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِهِم
غَدْرًا وأَعْجَبَ فَي الإسْلَامِ آثَارًا
إلَّا تَكُنْ عُصْبَةٌ جَازُوا نَبِيَّهُمُ
بِالعُرْفِ عُرْفًا وبِالإنْكَارِ إنْكَارًا
أبَا عُمَارَةَ والثَّاوِي بِبَلْقَعَةٍ
فِي يَوْمِ مُؤْتَةَ لَا يَنْفَكُّ طَيَّارًا
أبو عمارة: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد كان يُكنى أبا يعلي. والثاوي في
يوم
مؤتة: جعفر بن أبي طالب. وقال رجلٌ من الأنصار من ولد أبي زيد القاري، وذكر أمر الأنصار
وأمر قريش:
دَعَاهَا إلَى اسْتِبْدَادِهَا وحُقُودِهَا
تَذَكُّرُ قَتْلَى فِي القَلِيبِ تَكَبْكَبُوا
هُنَالِكَ قَتْلَى لَا تُؤَدَّى دِيَاتُهُمْ
ولَيْسَ لِبَاكِيهَا سِوَى الصَّبْرِ مَذْهَبُ
فَإنْ تَغْضَبِ الأبْنَاءُ مِنْ قَتْلِ مَنْ مَضَى
فَواللهِ مَا جِئْنَا قَبِيحًا فَتَعْتَبُوا
فصل منه: قد حكينا قول من خالفنا في وجوب الإمامة
وتعظيم الخلافة، وفسرنا وجوه اختلافهم، واستقصينا جميع حُججهم إذ كان على عذر لمن غاب
عنه
خصمه وقد تكفل بالإخبار عنه في ترك الحَيطة له والقيام بحُجته، كما أنه لا عذر له في
التقصير عن إفساد ما يُخالفه وكشف خطأ من يُضاده عند من قرأ كتابه وتفهَّم حُجته؛ لأن
أقل
ما يُزيل عذره ويُزيح علته أن يكون قول خصمه قد استهدف لعقله وأضجر لسانه، وقد مكَّنه
من
نفسه وسلَّطه على إظهار عورته، فإذا استراح من شغب المُنازع ومداراة المُستمع لم يَبقَ
إلا
أن يقوى على خلافه أو يعجز عنه، ومن شُكر المعرفة بمعايبِ الناس ومَراشِدِهم ومَضَارِّهم
ومَنافِعِهم أن يَحتمِل ثِقَل مُؤنتِهم وتقريعِهم وأن يَتوخَّى إرشادَهم وإن جَهِلوا
فَضْل
من يُسدِي إليهم، ولن يُصان العلم بمثلِ بَذلِه، ولن تُستبقى النعمة فيه بمثلِ
نَشْره.
واعلم أن قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم؛ إذ كان مع التلاقي يقوى التصنُّع
ويكثُر التظالم وتَفرُط المَضَرة وتنبعث الحميَّة، وعند المزاحمة تشتد الغلبة وشهوة
المباهاة والاستحياء من الرجوع والأنفة من الخضوع، وعن جميع ذلك تَحدث الضغائن ويَظهر
التباين.
وإذا كانت القلوب على هذه الصفة وبهذه الحالة امتَنعَت من المعرفة وعَمِيَت عن الدلالة.
وليست في الكتب علةٌ تمنع من دَرْك البُغية وإصابة الحُجة؛ لأن المُتوحِّد بقراءتها
والمُتفرِّد بفهم معانيها لا يُباهي نفسه ولا يُغالب عقله ولا يُعز خصمه. والكتاب قد
يَفضُل
ويَرجُح على واضعه بأمور: منها أن الكتاب يُقرأ بكلِّ مكانٍ وفي كلِّ زمانٍ على تفاوُت
الأعصار وبُعد ما بين الأمصار، وذلك أَمرٌ يستحيل في الواضع ولا يُطمع فيه مع التنازُع،
وقد
يذهب العالِم وتَبقى كُتبه ويَفنَى ويَبقى أَثَره. ولولا ما رَسمَت لنا الأوائل في كتبها
وخلَّفَت من عجيب حكمها ودوَّنت من أنواع سِيَرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنَّا وفتحنا
بها
المُستغلق علينا فجَمَعْنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا ما لم نكن نُدركه إلا بهم، لقد
خَسَّ
حظنا في الحكمة وانقطع سبيلنا إلى المعرفة، ولو أُلجِئنا إلى قُدرِ قوَّتنا ومَبلغِ خواطرنا
ومُنتهَى تجاربنا بما أَدرَكَته حواسُّنا وشاهَدَته نُفوسُنا لَقلَّت المعرفة وقَصرَت
الهمة
وضَعُفَت المنة، فاعتَقَم الرأي ومات الخاطر وتَبلَّد العقل واستَبَدَّ بنا سوء العادة.
وأكثرُ من كُتبهم نفعًا وأَحسنُ مما تَكلَّفوا موقعًا كِتابُ الله تعالى الذي فيه الهُدى
والرحمة والإخبار عن كلِّ عِبرةٍ وتعريفِ كلِّ سيئةٍ وحسنة، فينبغي أن يكون سبيلنا فيمن
بعدنا سبيل من قبلنا فينا، مع أنَّا قد وجدنا من العِبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بَعدَنا
يجد من العبرة أكثر مما وجدنا. فما ينتظره الفقيه بفقهه والمُحتج لدينه والذابُّ عن مذهبه
ومُواسي الناس في معرفته وقد أمكن القول وأطرق السامع ونجا من التقيَّة وهَبَّت ريح
العلماء؟!
فصل منه: واعلم أن قصد العبد بنعم الله تعالى إلى
مُخالَفته غيرُ مُخرِجٍ إنعام الله عليه ولا مُحوِّلٍ إحسانه إليه إلى غير معناه وحقيقته،
ولم يكن إحسان الله في إعطائه الأداة وتبيين الحُجة لينقلبا إفسادًا وإساءةً؛ لأن المُعان
على الطاعة عَصى بالمَعونة وأَفسَد بالإنعام وأساء بالإحسان. وفرقٌ بين المنعِم والمنعَم
عليه؛ لأن المنعَم عليه يجب أن يكون شكورًا ولحق النعمة راعيًا، والمنعِم مُنفرِد بحسن
الإنعام وشريك في جميل الشكر، ولأن المنعِم أيضًا هو الذي حبَّب الشكر إلى فاعله بالذي
قدَّم إليه من إحسانه وتولَّى من مَساره؛ ولذلك جعلوا النعمة لقاحًا والشكر ولادًا. وإنما
مَثَلُ إعطاء الآلة والتكليف لفعل الخير مَثلُ رجلٍ تصدَّق على فقير ليستر عورته ويقيم
من
أود صلبه وليصرف في منافعه، ولا يكون إنفاق الفقير ذلك الشيء في الفساد والخلاف والفواحش
لينقلب إحسان المُتصدِّق إساءة، وإنما هذا بصواب الرأي الذي لا ينقلب وإن أنجع صاحبه،
وقد
يُؤتَى الرجل مع حزمه ولا يكون مذمومًا ويخطئ بالإضاعة ولا يكون محمودًا.
فصل منه: ولم يكن الله تعالى لِيَضَع العدل ميزانًا بين
خلقه وعِيارًا على عباده في نظر عقولهم في ظاهرِ ما فَرضَ عليهم ويُسِر خلافه ويَستخفِي
بِضدِّه، ويعلم أن قضاءه فيهم غير الذي فطرهم على استحسانه وتحبَّب إليهم به في ظاهرِ
دينه،
والذي استوجب به الشكر على جميع خلقه.
فصل منه: وإن لم يكن العبد على ما وصفنا من الاستطاعة
والقدرة والحال التي هي أدعى إلى المصلحة ما كان متروكًا على طباعه ودواعي شهواته دون
تعديلِ طَبعِه وتَسويةِ تركيبه؛ ولذلك أسباب نحن ذاكروها وجاعلوها حُجةً في إقامة الإمامة
وأن عليها مَدارَ المصلحة، وأن طبع البشر يمتنع من الإخبار إلا على ما نحن ذاكروه. فنقول:
إنَّا لمَّا رأينا طبائع الناس وشهواتهم من شأنها التقلُّب إلى هلكتهم وفَسادِ دينهم
وذَهابِ دنياهم، وإن كانت العامَّة أسرع إلى ذلك من الخاصة فكلٌّ لا تنفك طبائعهم من
حملهم
على ما يُرديهم ما لم يُردَوا بالقمع الشديد في العاجل ومن القِصَاص من العادل، ثم التنكيل
في العقوبة على شر الخيانة وإسقاط القدر وإزالة العدالة مع الأسماء القبيحة والألقاب
الهجينة، ثم بالإخافة الشديدة والحبس الطويل والتغريب عن الوطن، ثم الوعيد بنار الأبَد
مع
فَوتِ الجنة. وإنما وضع الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوة العقل مادةً ولتعديل الطبائع
مَعونة؛ لأن العبد إذا فضَلَت قُوى طبائعه وشهواته على عقله ورأيه أُلفِيَ بصيرًا بالرشد
غيرَ قادرٍ عليه، فإذا احتَوشَته المخاوِف كانت مَوادَّ لزواجرِ عقلهِ وأوامرِ رأيه،
فإذا
لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشهوات وحب العاجل فضلٌ على زواجر العقل وأوامر الغي
كان
العبد مُمنعًا من الغي قادرًا عليه؛ لأن الغضب والحسد والبخل والجبن والغَيرة وحب الشهوات
والنساء والمُكاثرة والعُجب والخُيَلاء وأنواع هذه إذا قَوِيَت دواعيها لأهلها واشتدَّت
جواذبُها لصاحبها ثُمَّ لم يعلم أن فوقه ناقمًا عليه وأن له مُنتقمًا لنفسه من نفسه أو
مُقتضيًا منه لغيره، كان مَيلُه وذهابه مع جواذب الطبيعة ودواعي الشهوة طبعًا لا يمتنع
معه
وواجبًا لا يستطيع غيره. أوَما رأيته كيف يخرق في ماله ويُسرِع فيما أَثلَت له رجاله
وشدَّت
له أوائلُه من غير أن يرى للعِوَض وجهًا وللخلف سببًا في عاجل دينه ولا آجل دنياه حتى
يكون
والي المسلمين هو الذي يَحجُر عليه ليكون مَضَض الحَجْر وذُل الحَظْر وغِلظة الجَفْوة
واللقب القبيح وتسليط الأشكال مادةً للذي معه من معرفته وبقيَّة عقله!
فصل منه: وقد يكون الرجل معروفًا بالنَّزَق مذكورًا
بالطيش مُستهامًا بإظهار الصَّولة، حتى يتحامى كلامَه الصَّديق ويُدارِيَه الجليس ويَترُك
مجازاته الكريمُ لِلذي يعرفون من شدَّته وبوادرِ حِدَّته وشِدَّة تسعُّره والتهابه وكثرة
فَلَتاته، ثم لا يلبث أن يحضر الوالي الصَّليبُ والرجل المنيع فيُلفَى ذليلًا خاضعًا
أو
حليمًا وقورًا أو أديبًا رفيقًا أو صبورًا محتسبًا. وقد نجده يجهل على خصمه ويستطيل على
منازعه ويهمُّ بتناوله والغدر به، فإذا عرف له حُماةً تكفيه ورِجالًا تحميه وجاهًا يَمنَعه
ومالًا يَصُول به، طامَنَ له من شَخصِه وأَلَانَ له من جانبه وسكَّن من حركته وأطفأ نارَ
غضبه. أوَما علمت أن الخوف يطرد السُّكْر ويُميت الشهوة ويُطفئ الغضب ويحُط الكِبْر ويذكر
بالعاقبة ويُساعد العقل ويُعاون الرأي ويُنبت الحيلة ويبعث على الرويَّة حتى يعتدل به
تركيبُ من كان مغلوبًا على عقله ممنوعًا من رأيه بسُكر الشباب وسُكر الغنى وإهمال الأمر
وثِقةِ العِز وبَأْوِ القُدرة …؟!
فصل منه: وإنما أطنبت لك في تفسير هذه الأحوال التي
عليها الوجود والعِبرة لتعلم أن الناس لو تركوا شهواتهم وخلَّوا أهواءهم وليس معهم من
عقولهم إلا حِصَّة الغريزة ونصيب التركيب، ثُمَّ أُخْلُوا من المُرشدِين والمُؤدبِين
والمُعترضِين بين النفوس وأهوائها وبين الطبائع وغَلَبَتها من الأنبياء وخلفائهم، لم
يكن في
قُوى عُقولهم ما يُداوون به أدواءهم ويَجبُرون به من أهوائهم ويَقْوَون به لمحاربة طبائعهم
ويعرفون به من جميع مصالحهم، وأيُّ داءٍ هو أَردَى من طبيعةٍ تُردِي وشهوةٍ تُطغي، ومن
كان
لا يَعُدُّ الداء إلا ما كان مؤلمًا في وقته ضاربًا على صاحبه في سَوادِ ليله وبياضِ
نهارِه
فقد جَهِل معنى الداء، وجاهلُ الداءِ جاهلٌ بالدواء.
فصل منه: ولكنا نقول: لا يجوز أن يلي أمر المسلمين على
ظاهر الرأي والحزم والحيطة أَكثرُ من واحد؛ لأن الحكام والسادة إذا تقاربت أقدارهم وتساوت
غايتهم قَوِيَت دواعيهم إلى طلب الاستعلاء واشتَدَّت منافستهم في الغلبة. وهكذا جرب الناس
من أنفسهم في جيرانهم الأدنَين، في الأصهار وبين الأعمام، والمتقاربِين في الصناعات كالكلام
والنجوم والطب والفتيا والشعر والنحو والعَروض والتجارة والصباغة والفلاحة، أنهم إذا
تدانَوْا في الأقدار وتَقارَبوا في الطبقات قَوِيَت دواعِيهم إلى طَلَب الغَلَبة واشتَدَّت
جواذبهم في حُبِّ المُبايَنة والاستيلاء على الرياسة. ومتى كانت الدواعي أقوى كانت النفس
إلى الفساد أَميَل والعزم أَضعَف وموضع الرويَّة أَشغَل والشيطان فيهم أَطمَع، وكان الخوف
عليهم أَشدَّ وكانوا بمُوافَقة المُفسِد أحرى وإليه أقرب. وإذا كان ذلك كذلك فأصلح الأمور
للحُكَّام والقادة — إذا كانت النفوس ودواعيها ومجرى أفعالها على ما وصفنا — أن تُرفع
عنهم
أسباب التحاسُد والتغالُب والمُباهاة والمُنافَسة، وأن ذلك أدعى إلى صلاحِ ذاتِ البين
وأَمنِ البَيضةِ وحِفظ الأطراف. وإذا كان الله تبارك وتعالى قد كلف الناس النَّظَر لأنفسهم
واستيفاء النعمة عليهم وترك الخطر بالمَمْلكة والتغريرِ بالأُمة، وليس عليهم مما يُمكِنهم
أكثر من الحَيطةِ والتباعُد من التغرير، ولا حال أدعى إلى ذلك أَكثرُ مما وصفنا؛ لأنه
أشبه
الوجوه بتمام المصلحة والتمتُّع بالأمن والنعمة.
فصل منه: فلما كان ذلك كذلك عَلِمنا أنه إذا كان القائم
بأمور المسلمين بائن الأمر متفرِّدًا بالغاية من الفضل، كانت دواعي الناس إلى مُسابَقته
ومُجاراته أقل، ولم يكن الله ليطبع الدنيا وأهلها على هذه الطبيعة ويرُكِّب أهلها هذا
التركيب حتى تكون إمامة الواحد من الناس أصلح لهم إلا وذلك الواحد موجودٌ عند إرادتهم
له
وقصدهم إليه؛ لأن الله لا يُلزم الناس — في ظاهر الرأي والحَيطة — إقامةَ المعدوم وتشييدَ
المجهول؛ لأن على الناس التسليم وعلى الله تعالى قصد السبيل. وهل رأيتم مَلِكَين أو
سيِّدَين في جاهلية أو إسلام من العرب جميعًا أو من العجم لا يَتحيَّف أحدهما من سلطان
صاحبه ولا يُنهِك أطرافه ولا يُساجِله الحروب، إذ كلُّ واحدٍ منهما يطمع في حدِّ صاحبه
وطرفه لتقارب الحال واستواء القوى، كما جاءت الأخبار عن مُلوك الطوائف كيف كانت الحروب
راكدةً وأمرُهم مريجٌ، والناس نهبٌ ليس لهم ثَغرٌ إلا مُعطَّل ولا طَرفٌ إلا مُنكشِف،
والناس فيما بينهم مشغولون بأنفسهم عن ملوكهم، من عَزَّ بَزَّ، مع إنفاق المال وشغل البال
وشدة الخطر بالجميع والتغرير بالكل.
فصل منه: فإن قالوا: فما صفةُ أَفضلِهم؟ قلنا: أن يكون
أقوى طبائعه عقله، ثم يَصِلَ قوة عقله بِشدَّة الفحص وكثرة السماع، ثم يصل شدَّة فحصه
وكثرة
سماعه بحسن العادة، فإذا جمع إلى عقله علمًا وإلى علمه حَزمًا وإلى حَزمه عَزمًا، فذلك
الذي
لا بعده، وقد يكون الرجل دونه في أمور وهو يستحق مرتبة الإمامة ومنزلة الخلافة، غير أنه
على
حالٍ لا بدَّ من أن يكون أفضل أهل دهره؛ لأن من التعظيم لمقام رسول الله
ﷺ ألَّا
يُقام فيه إلا أشبه الناس به في كل عصر، ومن الاستهانة به أن يُقام فيه من لا يُشبهه
وليس
في طريقته، وإنما يُشبِه الإمامُ الرسولَ بأن يكون آخذًا بسيرته منه، فأمَّا أن يقاربه
أو
يدانيه فهذا ما لا يجوز ولا يسَع تَمنِّيه والدعاء به.
فصل منه: وإذا كان قول المهاجرِين والأنصار والذين جرى
بينهم التنافُس والمُشاحَّة على ما وصفنا في يوم السقيفة، ثم صنيع أبي بكر وقوله لطلحة
في
عمر، وصنيع عمر في وضع الشورى وتوعُّده لهم بالقتل إن هم لم يقيموا رجلًا قبل انقضاء
المُدَّة ونُجوم الفِتنة، ثُم صنيعُ عثمان وقَولُه وصَبرُه حتى قُتل دونها ولم يَخلعْها،
وأَقوالُ طلحة والزبير وعائشة وعليٍّ رضي الله تعالى عنهم، ليست بحُجَّة على ما قلنا،
فليست
في الأرض دلالةٌ ولا حُجةٌ قاطعة. وفي هذا الباب الذي وصفنا من حالاتهم وبيَّنَّا دليلٌ
على
أنهم كانوا يَرَون أن إقامة الإمام فريضة واجبة، وأن الشركة عنها مَنفيَّة، وأن الإمامة
تَجمَع صلاحَ الدين وإيثارَ خيرِ الآخرة والأولى.
فصل منه: وأيُّ مذهبٍ هو أَشنعُ وأيُّ قولٍ هو أَفحشُ
من قول من قال: لا بدَّ للشاهد من أن يكون ظاهرًا عدلًا مأمونًا، ولا يأمن أن يكون القاضي
جائرًا نطعًا فاجرًا؟ وهذا لا يُشبه حُكم الحكيم وصِفة الحليم ونظَرَ المُرشِد وترتيبَ
العالِم.