من رسالته في صناعات القواد
قال أبو عثمان:
أرشدك الله للصواب، وعرَّفك فَضْل أولي الألباب، ووهب لك جميل الآداب، وجعلك ممن يعرف عِز الأدب كما يعرف زوائد الغِنى. دَخَلتُ على أمير المُؤمنِين المعتصم بالله فقلت له: يا أمير المؤمنِين، في اللسان عشرُ خصالٍ: أداة يظهر بها البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يُردُّ به الجواب، وشافع تُدرَك به الحاجة، وواصف تُعرف به الأشياء، وواعظ يُعرف به القبيح، ومُغرِّد تُردُّ به الأحزان، وخاصَّة تُزهي بالصنيعة، ومَلهًى يُونِّق الأسماع. وقال الحسن البصري: إن الله تعالى رَفَع درجاتِ اللسان؛ فليس من الأعضاء شيءٌ ينطق بِذكرِه غيره. وقال بعض العلماء: أفضل شيء للرجل عقلٌ يُولَد معه، فإن فاته ذلك فموتٌ يَجتَث أصله. وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلا ضالَّةٌ مُهمَلة، أو بهيمةٌ مُرسَلة، أو صورةٌ مُمثَّلة. وذُكِر الصمتُ والمنطقُ عند الأحنف فقال رجل: الصمتُ أَفضلُ وأَحمدُ. فقال الأحنف: صاحب الصمت لا يَتعدَّاه نفعه، وصاحب المَنطِق ينتفع به غيره، والمنطق الصواب أفضل. ورُوي عن النبي ﷺ أنه قال: «رحم الله امرأً أصلح من لسانه.» قال: وسمع عمر بن عبد العزيز رجلًا يتكلم فأبلغ في حاجته، فقال: هذا والله السحر الحلال. وقال مسلمة بن عبد الملك: إن الرجل يسألني الحاجة فتستجيب نفسي له بها، فإذا لحَن انصَرفَت نفسي عنها. وتَقدَّم رجلٌ إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير: إنَّ أَبِينا هلك، وإنَّ أَخُونا غصَبَنا ميراثه! فقال زياد: الذي ضَيَّعتَ من لسانك أَكثرُ من الذي ضَيَّعتَ من مالك. وقال بعض الحكماء لأولاده: يا بَنِيَّ، أَصلِحوا من ألسنتكم؛ فإن الرجل لَتَنُوبه النائبة فيستعير الدابة والثياب ولا يقدر أن يستعير اللسان. وقال شبيب بن شيبة: إذا رأى رجلًا يتكلم فأساء القول فقال: يا ابن أخي، المال الصالح خيرٌ من المال المُضاعَف. وقال الشاعر:
فحُضَّ يا أمير المُؤمنِين أولادك بأن يتعلموا من كل الأدب، فإنك إن أفردتهم بشيءٍ واحد ثم سُئلوا عن غيره لم يُحسِنوه. وذلك أني لقيت حزامًا حين قدم أمير المُؤمنِين من بلاد الروم فسألته عن الحرب كيف كانت، فقال: لقيناهم في مقدار صحن الإصطبل فما كان إلا بمقدار ما يحش الرجل دابَّته حتى تركناهم في أضيق من ممرغَة، فقتلناهم وجعلناهم كأنهم أنابير سرجين، فلو طرحت رَوْثة ما سقَطَت إلا على ذَنَب دابَّة. وعمل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسَألْتُ بختيشوع الطبيب عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار صحن البيمارستان فما كان إلا بمقدارِ ما يختلف الرجل مَقعدَين حتى تركناهم في أضيق من محقنَة، فقتلناهم، فلو طَرحتَ مِبضعًا ما سقط إلا على أَكحَل رجل. وعمل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت جعفر الخياط عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مِقدار سُوق الخلقان فما كان إلا بمقدار ما يَخيط الرجل درزًا أو درزَين حتى تركناهم في أضيق من جُرُبَّان، فقتلناهم، فلو طرحت إبرة ما سقَطَت إلا على رَأسِ رجل. وعَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت إبراهيم بن إسحق عن مثل ذلك — وكان زارعًا — فقال: لقيناهم في مقدار جَريبَين من الأرض فما كان إلا بمقدار ما يَسقي الرجل من سانية حتى تركناهم في أضيقَ من بابٍ وكأنهم أنابيرُ سُنبل، فقتلناهم، فلو طرح فدانٌ ما سقط إلا على ظَهرِ ثَور. وعَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت فرجًا الرُّخَّجِيَّ عن مثل ذلك — وكان خبَّازًا — فقال: لقيناهم في مقدارِ بيتِ التنُّور فما كان إلا بمقدار ما يَخبِز الرجل خمسةَ أرغفةٍ حتى تركناهم في أضيق من جُحر تَنُّور، فقتلناهم، فلو سقطت جمرةٌ ما وقعت إلا على جَفْنَة خبَّاز. وعَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت عبد الله بن عبد الصمد عن مثل ذلك — وكان مُؤدِّبًا — فقال: لقيناهم في مقدار صَحْن الكُتاب فما كان إلا بمقدار ما يقرأ الصبي إمامه حتى ألجأناهم إلى أضيق من رَقمٍ، فقتلناهم، فلو سقَطَت دواةٌ ما وقعت إلا في حِجْر صبي. وعَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت علي بن الجهم بن بريد عن مثل ذلك — وكان صاحب حمَّام — فقال: لقيناهم في مقدار بيتِ النارِ فما كان إلا بمقدار ما يغسل الرجل رأسه حتى تركناهم في أضيقَ من باب الأَتُون، فقتلناهم، فلو طرحت ليفةٌ ما وقعت إلا على رأسِ رجل. وعَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت الحسن بن أبي قمامة عن مثل ذلك — وكان كنَّاسًا — فقال: لقيناهم في مقدار سطح الإيوان فما كان إلا بمقدار ما يَكنس الرجل زِنبيلًا حتى تركناهم في أضيق من جُحر المخرج، ثم قتلناهم بقَدْر ما يشارط الرجل على كَنسِ كنيف، فلو رميت بابنة وردان ما سقَطَت إلا على فم بالُوعة. وعَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت أحمد الشرابي عن مثل ذلك — وكان خمَّارًا — فقال: لقيناهم في مثل صحن الشراب فما كان إلا بمقدار ما يُصفِّي الرجل دنًّا حتى تركناهم في أضيق من رَطليَّة، فقتلناهم، فلو رميت تفَّاحة ما وقَعَت إلا على أنفِ سَكران. وعَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت عبد الله بن طاهر عن مثل ذلك — وكان طبَّاخًا — فقال: لقيناهم في مقدار صحن المطبخ فما كان إلا بمقدار ما يشوي الرجل حَملًا حتى تركناهم في أَضيقَ من موقِدِ نار، فقتلناهم، فلو سقَطَت مِغرَفة ما وقَعَت إلا في قِدر. وعَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: وسألت — أطال الله بقاءك — محمد بن داود الطوسي عن مثل ذلك — وكان فرَّاشًا — فقال: لقيناهم في مقدار صحن بساط فما كان إلا بمقدار ما يفرش الرجل بيتًا حتى تركناهم في أَضيقَ من مِنصَّة، فقتلناهم، فلو سقطت مِخدَّة ما وقعت إلا على رأسِ رجلٍ. ثم عَمِل أبياتًا في الغزل فكانت:
قال: فضحك المعتصم حتى استلقى، ثم دعا مُؤدِّب ولده فأمره أن يأخذهم بتعليم جميع العلوم.