من كتابه في النساء
قال أبو عثمان:
إنَّا لما ذكرنا في كتابنا هذا الحب الذي هو أصل الهوى، والهوى الذي يتفرع منه العشق،
والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمدًا على فراشه، وأول ذلك إدخال الضيم
على
مروءته واستشعار الذلة لمن أطاف بعشيقته، ولم نُطنِب مع ذلك في ذكر ما يَتشعَّب من أصلِ
الحب من الرحمة والرقة وحب الأموال النفيسة والمراتب الرفيعة وحب الرعية للأئمة وحب
المُصطنَع لصاحب الصنيعة مع اختلاف مواقع ذلك من النفوسِ ومع تفاوُت طبقاته في العواقب،
احتجنا إلى الاعتذار مع ذِكْر العشق المعروف بالصَّبابة والمُخالَفة على قوة العزيمة،
ليجعل
ذلك القدر جُنَّةً دون من حاول الطعن على هذا الكتاب وسَخَّف الرأي الذي دعا إلى تأليفه
والإشادة بذكره؛ إذ كانت الدنيا لا تنفك من حاسدٍ باغٍ، ومن قائلٍ مُتكلِّف، ومن سامعٍ
طاعن، ومن مُنافسٍ مُقصِّر، كما أنها لا تنفك من ذوي سلامةٍ متسلم، ومن عالمٍ مُتعلِّم،
ومن
عظيمِ الخطَر حَسَن المحضر شديدِ المُحاماةِ عن حقوق الأدباء قليلِ التسرع إلى أعراض
العلماء. وإنما العشق اسم لما فضَلَ عن المقدار الذي اسمُه حُب، وليس كل حُبٍّ يُسمَّى
عشقًا، وإنما العشق اسمٌ للفاضل عن ذلك المقدار كما أن السرف اسمٌ لما زاد على المقدار
الذي
يُسمَّى جُودًا، والبخل اسمٌ لما ينقص عن المقدار الذي يُسمَّى اقتصادًا، والجبن اسم
لما
قَصَر عن المقدار الذي يُسمَّى شجاعةً.
وهذا القول ظاهر على ألسنة الأدباء مُستَعمَل في بيان الحكماء. وقد قال عروة بن الزبير:
والله إنِّي لأعشق الشرف كما تُعشق المرأة الحسناء. وذكر بعض الناس رجلًا كان مُدَفَّعًا
محرومًا ومنحوس الحظ ممنوعًا، فقال: ما رأيت أحدًا عشِق الرِّزقَ عِشقَه ولا أبغضه الرزقُ
بُغضَه. فذكر الأول عشق الشرف وليس الشرف بامرأة، وذكر الآخر عشق الرزق والرزق اسم جامع
لجميع الحاجات. وقد يَستعمِل الناس الكناية وربما وضعوا الكلمة بَدَل الكلمة يريدون أن
يُظهِروا المعنى بألين اللفظ، إما تنويهًا وإمَّا تفصيلًا، كما سَمَّوا المعزول عن ولايته
مصروفًا، والمُنهزم عن عدوه منحازًا. نعم، حتى سَمَّى بعضهم البخيل مُقتصِدًا ومُصلِحًا،
وسَمَّى عامل الخراج المُتعدِّي بحق السلطان مُستقصِيًا.
ولمَّا رأينا الحب من أكبر أسباب الشر، اجتنبنا أن نذكر أبواب السبب الجالب للخير
ليُفرق
بينه وبين أبواب السبب الجالب للشر حتى نذكر أُصولهما وعِللهما الداعية إليهما والمُوجبة
لكونهما. فتأمَّلنا شأن الدنيا فوجدنا أكبر نعيمها وأكملَ لذاتِها ظفر المحب بحبيبه والعاشق
بطليبه، ووجدنا شِقوة الطالب المُكدِّي وغَمه في وزن سَعاة الطالب المنجح وسروره، ووجدنا
العشق كلما كان َأرسَخ وصاحبه به َأكلَف فإن موقع لذة الظَفر منه َأرسَخ وسروره بذلك
َأبهَج.
فإن زعم زاعم أن موقع لذة الظفر بالعدو المُرصَد أحسن من موقع لذة الظفر من العاشق
الهائم
بعشيقته!
قلنا: إنَّا قد رأينا الكرام والحلماء وأهل السؤدد والعظماء ربما جادوا بفضلهم من
لذة
شفاء الغيظ ويعدون ذلك زيادةً في نبل النفس وبُعد الهمة وعلو القدر، ويجودون بالنفيس
من
الصامت والناطق وبالثمين من العُروض، وربما خرج من جميع ماله وآثر طيب الذكر على الغنى
واليسر. ولم نَرَ نفس العاشق تسخو بمعشوقه ولا يجود لشقيق نفسه ولا لوالد ولا لِولدٍ
بارٍّ
ولا لذي نعمةٍ سابغةٍ يخاف سلبها وصرفَ إحسانِه عنه بسببها، ولم نَرَ الرجال يَهَبُون
للرجال إلا ما لا بال له في جنب ما يَهَبُون للنساء، حتى كان العطر والصبغ والخضاب والكحل
والنتف والقص والتحذيف والحلق وتجويد الثياب وتنظيفها والقيام عليها وتعهُّدها مما لم
يَتكلَّفوه إلا لَهُنَّ، ولم يَتقدَّموا فيه إلا من أَجلِهِنَّ، وحتى كأن الحيطان الرفيعة
والأبواب الوثيقة والستور الكثيفة والخِصيان والظئورة والحَشْوة والحواضِن لم تُتَّخَذ
إلا
للصَّون لهن والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن.
فصل منه: وبابٌ آخر وهو أنَّا لم نجد أحدًا من الناس
عَشِق والدَيه ولا ولده، ولا من عشق مراكبه ومنزله، كما رأيناهم يموتون من عِشقِ النساء
الحرام. قال الله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ
النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، فقد دلَّ تبارك وتعالى
على جملة أصناف ما خولهم من كرامته وما عليهم من نعمته، ولم نَرَ الناس وَجَدوا بشيءٍ
من
هذه الأصناف وَجْدَهم بالنساء، ولقد قَدَّم ذِكرهنَّ في هذه الآية على قَدْر تَقدُّمِهن
َّفي قلوبهم.
فإن قال قائل: فقد نجد الرجل الحليم والشيخ الركين يسمع الصوت المُطرِب من المُغنِّي
المُصيب فينقله ذلك إلى طبع الصبيان وإلى أفعال المجانين فيَشُق جيبه ويَنقُض حبوته ويَفدي
غيره ويَرقُص كما يرقص الحَدَث الغَرير والشابُّ السَّفِيه، ولم نجد أحدًا فعل ذلك عند
رؤيةِ مَعشوقِه!
قلنا: أمَّا واحدة فإنه لم يكن لِيدَعَ التشاغل بشمِّها وبرشفها وباحتضانها وتقبيل
قدمَيها والمواضع التي وَطئِت عليها ويتشاغل بالرقص المُبايِن لها والصُّراخ الشاغل عنها.
فأمَّا حل الحبوة والصُّراخ عند رؤية الحبيبة فإن هذا ما لا يحتاج إلى ذكره لوجوده وكثرة
استعمالهم له، فكيف وهو إن خلا بمعشوقه لا يظن أن لذة الغناء تشغله بمقدار العُشر من
لذَّته، بل ربما لم يخطر له ذلك الغناء على بال. وعلى أن ذلك الطرب مجتازٌ غيرُ لابثٍ
وظاعنٌ غيرُ مُقيم، ولذة المُتعاشقَين راكدةٌ أبدًا ومقيمةٌ غيرُ ظاعنة، وعلى أن الغناء
الحَسَن من الوجه الحسن والبدن الحسن أحسن، والغناء الشهي من الوجه الشهي والبدن الشهي
أشهى، وكذلك الصوت الناعم الرخيم من الجارية الناعمة الرخيمة. وكم بين أن تفدي إذا شاع
فيك
الطرب مملوكك وبين أن تفدي أَمَتَك؟ وكم بين أن تسمع الغناء من فمٍ تشتهي أن تُقبِّله
وبين
أن تسمعه من فمٍ تشتهي أن تَصرِف وجهك عنه! وعلى أن الرجال دُخَلاء على النساء في الغناء،
كما رأينا رجالًا ينوحون فصاروا دُخَلاء على النوائح. وبعدُ، فأيُّما أحسن وأملح وأشهى
وأغنج! أن يغنِّيك فحلٌ مُلتَفُّ اللِّحية كثُّ العارضَين أو شيخٌ مُتخلِّع الأسنان مُغضَّن
الوجه، ثم يُغنِّيك إذا هو تَغنَّى بشعر ورقاء بن زهير:
رَأَيْتُ زُهَيْرًا تَحْتَ كَلْكَلِ خَالِدٍ
فَأَقْبَلْتُ أَسْعَى كَالعَجُولِ أُبَادِرُ
أم تُغنِّيك جاريةٌ كأنها طاقةُ نرجسٍ أو كأنها ياسَمينةٌ أو كأنها خُرطت من ياقوتةٍ
أو
من فِضَّةٍ مَجلُوةٍ بشعر عكاشة بن محصن:
مِنْ كَفِّ جَارِيَةٍ كَأَنَّ بَنَانَها
مِنْ فِضَّةٍ قَدْ طُرِّقَتْ عُنَّابًا
وكَأَنَّ يُمْنَاهَا إذَا نَطَقَتْ بِهِ
أَلْقَتْ عَلَى يَدِهَا الشِّمَالِ حِسَاَبًا
فصل منه: فأمَّا الغِناء المُطرِب في الشعر الغَزَل
فإنما ذلك من حقوق النساء، وإنما ينبغي أن تُغنِّي بأشعار الغزل والتشبيب والعشق والصبابة
بالنساء اللواتي فيهن نَطقَت تلك الأشعار وبهن شبَّب الرجال ومن أجلهن تَكلَّفوا القول
في
التشبيب. وبعدُ، فكلُّ شيءٍ وطبقه وشكله ولفقه حتى تخرج الأمور موزونةً معتدلةً ومتساويةً
مُخلَّصة. ولو أن رجلًا من أدمث الناس وأشدهم تخليصًا لكلامه ومحاسنه لنفسه، ثم جلس مع
امرأة لا تُزَنُّ بمنطق ولا تُعرف بحسن حديث، ثم كان يَعشقُها، ما كان الناتج بينهما
من
الأحاديث والمُتلاقِح بينهما من المعاني والألفاظ إلا ما كان يجري بين دَغْفَل بن حنظلة
وبين ابن لسان الحُمَّرَة، وإنما هذا على قَدْر تمكُّن الغزل في الرجل.
فصل منه: والمرأة أيضًا أرفع حالًا من الرجل في أمور،
منها: أنها التي تُخطب وتُراد وتُعشق وتُطلب، وهي التي تُفدى وتُحمى. قال عنبسة بن سعيد
للحجاج بن يوسف: أيفدي الأمير أهله؟ قال: والله إن تَعُدُّونني إلا شيطانًا. والله لربما
رأيتُني أقبِّل رِجلَ إحداهُن.
فصل منه: وإنما يملك المولى من عبده بدنه، فأما قلبه
فليس له عليه سلطان. والسلطان نفسه وإن ملك رقاب الأمة فالناس يختلفون في جهة الطاعة،
فمنهم
من يطيع بالرغبة، ومنهم من يطيع بالرهبة، ومنهم من يطيع بالمحبة، ومنهم من يطيع بالديانة.
وهذه الأصناف وإن كان أفضلها طاعة الديانة فإن تلك المحبة ما لم يُمازجْها هَوًى لم يَقوَ
صاحبها على قوة العشق. وفي الأثر المستفيض والمثل السائر: «إنَّ الهَوى يُعمِي ويُصِم.»
فالعِشق يقتل.
فصل منه: ومما يُستدَل به على تعظيم شأن النساء أن
الرجل يُستحلف بالله الذي لا شيءَ أعظمُ منه وبالمشيء إلى بيت الله وبصدقةِ ماله وعتقِ
رقيقه، فيَسهُل عليه ولا يأنف منه، فإن استُحلِف بطلاقِ امرأته تَربَّد وجهه وطَار الغضب
في
دماغه ويَمنَع ويَعصي ويَغضب ويَأبى، وإن كان المُحلِّف سلطانًا مهيبًا، وإن لم يكن يحبُّها
ولا يستكثر منها وكانت نفسُها قبيحةَ المنظرِ دقيقة الحسَب خفيفةَ الصداق قليلةَ النشب،
وليس ذلك إلا لما قد عظَّم الله تعالى من شأنِ الزوجات في صُدورِ الأزواج.
فصل منه في ذكر الولد: وبابٌ آخر، وهو أنَّا لو خيَّرنا
رجلًا بين الفقر أيام حياته، وبين أن يكون ممتَّعًا بالباه أيام حياته، لاختار الفقر
الدائم
مع التمتُّع الدائم. وليس شيء مما يُحدِث الله لعباده من أصنافِ نعمه وضروبِ فوائده أبقى
ذكرًا ولا أجل خطرًا من أن يكون للرجل ابنٌ يكون وَليَّ بناته وساترَ صورةِ حرمه وقاضيَ
دَينِه ومُحييَ ذِكرِه، مُخلصًا في الدعاء له بعد موته، وقائمًا بعده في كل ما خلَّفه
مَقام
نفسه، فمن أقل أسفًا على ما فارق ممن خلَّف كافيًا مُجرِّبًا وحائطًا من وراء المال موفورًا
ومن وراء الحُرم حاميًا ولِسلفه في الناس مُحيِيًا. وقال رجلٌ لعبد الملك بن مروان وذكر
ولدًا له: أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك، وأرى بنيك فيك ما أراك في أبيك. ونظر شيخٌ
وهو عند المهلب إلى بنيه قد أقبلوا فقال: آنس الله بكم الإسلام؛ فوالله إن لم تكونوا
أسباطَ
نُبوةٍ إنكم لأسباطُ مَلحمةٍ. وليست النعمة في الولد المُحيي والخَلَف الكافي
بصغيرة.
فصل منه: وبابٌ آخر، وهو أن الله تعالى خلق من المرأة
ولدًا من غير ذَكَر، ولم يخلق من الرجل ولدًا من غير أنثى، فخَصَّ بالآية العجيبة والبرهان
المُنير المرأة دون الرجل، كما خلق المسيح في بطنِ مريمَ من غيرِ ذَكَر.
فصل منه في ذكر القرابات: وأما أنا فإني أقول: إن
تباغُض الأقرباء عارضٌ دخيلٌ وتحابَّهم واطدٌ أصيل، والسلامة من ذلك أَعَم والتناصر أَظهَر
والتصادُق في المَودَّة أكثر؛ فلذلك القبيلة تنزل معًا وترحل معًا وتحارب من ناوأها معًا،
إلا الشاذ النادر، كخروج غنًى وباهلة من عطفان، وكنزولِ عبسٍ في بني عامر، وما أشبه ذلك.
وإلا فإن القرابة يدٌ واحدةٌ على من ناوأهم وسيفٌ واحدٌ على من عاداهم، وما صلاح شأن
العشائر إلا بتقارُب ساداتهم في القَدْر وإن تفاوتوا في الرياسة والفضل، كما قال في الأثر
المستفيض: «لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا.» وحال العامَّة في ذلك
كحال
الخاصَّة.
فصل منه: وقضيةٌ واجبة: إن الناس لا يُصلِحهم إلا رئيسٌ
واحدٌ يَجمع شَملَهم ويَكفيهم ويَحميهم من عدوهم ويمنع قَويَّهم عن ضعيفهم، وقليلٌ لهم
نظامٌ أقوى من كثيرٍ لا نظامَ لهم ولا رئيسَ عليهم؛ إذ قد عَلِم الله سبحانه وتعالى أن
صلاحَ عامَّةِ البهائم في أن يجعل لكلِّ جنسٍ منها فَحلًا يُورِدها الماء ويُصدِرها
وتَتبعُه إلى الكلأ، كالعَير في العانة والفحل في الإبل والهجمة، وكذلك النحل العَسَّالة
والكراكي، وما يحمي الحُجور في المُروج إلا الحصان، فجعل منها رؤساءَ متبوعةً وأذنابًا
تابعة، ولو لم يُقِم الله للناسِ الوَزَعة من السلطان والحُماة من الملوك وأهلِ الحِياطة
عليهم من الأئمة لَعادوا نَشَرًا لا نظامَ لهم ومُستكلبِين لا زاجرَ لهم، ولكان من عَزَّ
بَزَّ ومن قَدَر قَهَر، ولما زال الشر راكدًا والهَرْج ظاهرًا حتى يكون التغابُن والبَوار،
وحتى تنطمس منهم الآثار، ولكانت الأنعام طعامًا للسباع وكانت عاجزةً عن حمايةِ أنفسها
جاهلةً بكثير من مصالحِ شأنها، فوصل الله تعالى عجزها بِقوةِ من أَحوجَه إلى الاستمتاعِ
بها
ووصل جهلها بمعرفةِ من عَرَف كيف وَجهُ الحِيلة في صَونها والدفاعِ عنها. وكذلك فَرَض
على
الأئمة أن يحوطوها بالحِراسة لها والذِّيَاد عنها ويَرُد قويَّها عن ضعيفها وجاهلها عن
عالمها وظالمها عن مظلومها وسفيهها عن حليمها، فلولا السائس ضاع المَسوس، ولولا قُوةُ
الراعي لهَلَكَت الرعيَّة.
فصل منه: وانفراد السيد بالسيادة كانفراد الإمام
بالإمامة، وبالسلامة من تنازُع الرؤساء تَجتمِع الكلمة وتكون الأُلفة ويَصلُح شأن الجماعة،
وإذا كانت الجماعة انتَهَتِ الأعداء وانقَطَعتِ الأهواء.
فصل منه: ولسنا نقول — ولا يقول أَحدٌ ممن يعقل — إن
النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقةٍ أو طبقتَين أو بأكثر، ولكنا رأينا ناسًا يُزْرون عليهِن
أَشدَّ الزِّراية ويَحتقِرونهن أَشدَّ الاحتقار ويَبخَسونهن أَكثرَ حُقوقِهن، وإن من
العجز
أن يكون الرجل لا يستطيع تَوفيرَ حقوقِ الآباء والأعمام إلا بأن يُنكِر حُقوقَ الأُمهات
والأخوال؛ فلذلك ذَكَرْنا جُملةَ ما لِلنساء من المَحاسِن، ولولا أن ناسًا يَفخَرون
بالجَلَد وقوة المُنَّة وانصرافِ النفس عن حب النساء حتى جعلوا شِدةَ حب الرجل لأَمَتِه
وزَوجتِه وولده دليلًا على الضعف وبابًا من الخَوَر لَما تَكلَّفْنا كثيرًا مما شَرَطْناه
في هذا الكتاب.
فصل منه: في ذِكرِ العِشق: ورجلان من الناس لا يَعشقان
عِشق الأعراب: أحدهما الفقير المُدقِع فإن قلبه يُشغل عن التوغُّل فيه وبلوغ أقصاه،
والمَلِكُ الضخمُ الشأن لأن في الرياسة الكُبرى وفي جواز الأمر والنهي وفي مِلكِ رِقابِ
الأُمم ما يشغل شَطرَ قُوى العقل عن التوغُّل في الحُب والاحتراق في العِشق.
فصل منه: كثيرًا ما يعتري العُشَّاق والمُحبِّين غيرَ
المُحترقِين كالرجل تكون له جاريةٌ وقد حلَّت من قلبه محلًّا وتمكَّنت منه تمكُّنًا ولا
يجتث أصل ذلك الحب الغَضْبةُ تَعرِض وكثرة التأذِّي بالخلاف يكون منها، فيجد الفَتْرة
عنها
لبعض هذه الحالات التي تَعرِض فيظن أنه قد سلا أو يظن أنه في عزائه عنها على فقدها مُحتملًا
بيعها إن كانت أَمةً أو طلاقها إن كانت زوجة، فلا يَنشَب ذلك الغضب أن يزول وذلك الأذى
أن
يُنسى، فتَتحرَّك له الدفائن ويُثمِر ذلك الغرس فيُتبعها قَلْبه، فإمَّا أن يَسترجِع
الأَمَة من مُبتاعِها بأَضعافِ ثمنها أو يَسترجِع الزوجة بعد أن نُكحت، فإن تَصَبَّر
وأمكنه
الصبر لم يَزَل مُعذَّبًا، وإن أطاع هواه واحتمل المكروه فهذا هو العَقابِيل والنُّكْس.
فلْيَحذَر الحازم الفَتْرة يجدها في حُبِّ حبيبه والغَضْبةَ التي تُنسيه عواقبَ
أمره.
فصل منه: قال إبراهيم بن السندي: حدَّثني عبد الملك بن
صالح قال: بينا عيسى بن موسى قد خلا بنفسه، وهو قد كان استكثر من النساء حتى انقطع، إذ
مَرَّت به جاريةٌ كأنها جانٌّ وكأنها جدلُ عنانٍ، وكأنها جُمَّارة وكأنها قضيبُ فِضة،
فتَحرَّكَت نفسه وخاف أن تَخذله قُوَّته، ثُمَّ طَمِع في القوة لِطولِ الترك واجتماعِ
الماء، فلما صَرَعها وجلس منها ذلك المجلس خَطَر على باله: لو عجز كيف يكون حاله؟! فلما
فكَّر فَتَر، فأقبل كالمُخاطِب لِنفسه فقال: إنك لتُجلسيني هذا المجلس وتَحمليني على
هذا
المرَكَب ثُم تَخذليني هذا الخِذلان وتُغشِّيني مثل هذا الذُّل! ولولا حَيرة الخَجل لاستعمل
ما يقتل، وذلك أنه حين رأى أن أَبلغَ الحِيل في توهيمها أن العجز لم يكن من قِبَله أن
يقول
لها: تَعرِضين لي وأنت تَفِلة ثم لا تروجِين بأدبك ولا تستهدفين لسيدك ولا تُعينِين على
نفسك حتى كأنكِ عندَ عبدٍ يُشبِهك أو سُوقةٍ لا يَقدِر إلَّا على مِثلك، أما لو كُنتِ
من
بناتِ مُلوكِ العجم لأَلفاكِ سيدك على أجودِ صَنعةٍ وعلى أَحسنِ طاعة؛ إذ كلُّ رجلٍ ينبسط
للتمتُّع مع التَّفَل.
فصل منه: ولم أسمع ولم أقرأ في الأحاديث المُولَّدة في
شأن العُشاق وما صنع العشق في القلوب والأكباد والأحشاء والزفَرات والحنين وفي التدليه
والتوليه، ومتى تُسعد الدمعة ومتى يعتري العَينَ الجُمود.
فصل منه: ونحن وإن رأينا أن فضل الرجل على المرأة في
جُملة القول في الرجال والنساء أكثر وأظهر، فليس ينبغي لنا أن نُقصِّر في حقوق المرأة،
وليس
ينبغي لمن عظَّم حقوق الآباء أن يُصغِّر حُقوقِ الأمهات، وكذلك الإخوة والأخوات والبنون
والبنات، وأَنَا وإن كُنتُ أرى أن حق هذا أعظم فإن هذه أرحم.
فصل من احتجاجه للإماء: قال بعض من احتج للعِلة التي من
أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجال من أكثر المَهيرات أن الرجل قبل أن يَملِك الأَمَة
قد تأمَّل كل شيء منها وعَرَفه ما خلا حَظْوة الخَلْوة، فأَقدَم على ابتياعها بعد وقوعها
بالمُوافَقة، والحُرة إنما يُستشار في جمالها النساء، والنساء لا يُبصِرن من جمال النساء
وحاجات الرجال ومُوافَقتِهن قليلًا ولا كثيرًا، والرجال بالنساء أَبصَر، وإنما تَعرِف
المرأة من المرأة ظاهر الصفة، وأما الخصائص التي تقع بموافقة الرجال فإنها لا تعرف ذلك،
وقد
تُحسِن المرأة أن تقول كأن أنفها السيف وكأن عينَها عينُ غزالٍ وكأن عُنقَها إبريقُ فِضَّة
وكأن ساقَها جُمَّارة وكأن شعرها العناقيد وكأن أطرافها المَدارِي، وما أشبه ذلك. وهناك
أسبابٌ أُخَرُ بها يكون الحُب والبُغض.
فصل منه: وقد عَلِم الشاعر وعَرَف الواصف أن الجارية
الفائقة الحُسن أَحسنُ من الظَّبْية وأَحسنُ من البقرة وأَحسنُ من كلِّ شيءٍ تُشبَّه
به،
ولكنهم إذا أرادوا القول شبَّهوها بأَحسنِ ما يَجِدون. ويقول بعضهم: كأنها الشمس وكأنها
القمر. والشمس وإن كانت بَهيَّة فإنما هي شيءٌ واحد، وفي وَجهِ الجارية الحَسناءِ وخلقها
ضُروبٌ من الحُسن الغريب والتركيب العجيب، ومن يشك أن عين المرأة الحسناء أَحسنُ من عين
البقرة، وأن جِيدَها أَحسنُ من جيد الظبية، والأَمرُ فيما بينهما مُتفاوِت، ولكن لو لم
يفعلوا هذا وشِبهَه لم تَظهَر بلاغتهم وفطنتهم.
فصل منه: ورَأيتُ أكثر الناس من البُصراء بجواهر النساء
الذين هم جهابذةُ هذا الأمر يُقدِّمون المَجْدولة. والمجدولة من النساء تكون في مَنزلةٍ
بين
السمينة والممشوقة، ولا بدَّ من جودة القَد وحُسن الخَرط واعتدال المَنكِبَين واستواء
الظهر، ولا بدَّ من أن تكون كاسيةَ العِظام بين المُمتلئة والقضيفة، وإنما يريدون بقولهم
مجدولة: جودة العَصب وقِلة الاسترخاء وأن تكون سليمةً من الزوائد والفضول. ولذلك قالوا:
خَمْصمانة وسَيْفانة وكأنها جانٌّ وكأنها جدلُ عنانٍ وكأنها قضيبُ خيزران. والتثنِّي
في
مَشْيها أَحسنُ ما فيها، ولا يمكن ذلك الضخمة والسمينة وذات الفضول والزوائد، على أن
النحافة في المجدولة أَعَم، وهي بهذا المعنى أَعرَف، وهي بهذا المعنى تُحبَّب على السِّمان
الضِّخام وعلى الممشوقات والقِضاف، كما تُحبَّب هذه الأصناف على المجدولات. وقد وصفوا
المجدولة بالكلام المنثور فقالوا: «أعلاها قضيبٌ وأسفلها كثيبٌ.»
فصل منه: كما نُحب أن يخرج هذا الكتاب تامًّا ويكون
للأَشكال الداخلة فيه جامعًا، وهو القول فيما للذكور والإناث في عامَّة أصناف الحيوان
وما
أمكن من ذلك، حتى يحصل ما لكلِّ جنسٍ من الخصال المحمودة والمذمومة، ثم يجمَع بين المَحاسن
منها والمَساوئ، حتى يستبين لقارئ الكتاب نُقصان المفضول من رُجحان الفاضل بما جاء في
ذلك
من الكتاب الناطق والخبر الصادق والشاهد العدل والمثل السائر، حتى يكون الكتاب عربيًّا
أعرابيًّا وسُنيًّا جماعيًّا، وحتى يُجتنَب فيه العويص والطرق المُتوعِّرة والألفاظ
المُستَنكَرَة وتَلزِيقُ المُتكلفِين وتلفيقُ أصحاب الأهواء من المُتكلِّمِين، حتى نظرًا
لمن لا يعلم مقادير ما استَخْزَنَها الله من المنافع وغَشَّاها من البراهين وألزمها من
الدلالة عليه وأَنطَقَها به من الحُجة له فمنع من ذلك فَرْط الكَبوة وإفراطُ العِلَّة
وضَعفُ المُنة وانحلالُ القُوة، فلمَّا وافق هذا الكتاب مِنَّا هذه الحال وألفى قلوبنا
على
هذه الأشغال، اجتنبنا أن نقصد من جميع ذلك إلى فرق ما بين الرجل والمرأة، فلمَّا اعتزمنا
على ما ابتدأنا به وجدناه قد اشتمل على أبوابٍ يَكثُر عَددُها وتَبعُد غايتها، فرأينا
—
والله الموفِّق — أن نقتصر منه على ما لا يبلغ بالمُستمِع إلى السآمة وبالمألوف إلى
مُجاوَزة القدر. وليس ينبغي لكتب الآداب والرياضات أن يحمل أصحابها على الجِد الصِّرف
وعلى
العقل المَحض وعلى الحق المُر وعلى المعاني الصعبة التي تَستكِد النفوس وتَستفرِغ المجهود،
وللصبر غايةٌ وللاحتمال نهايةٌ، ولا بأس بأن يكون الكتاب مُوشَّحًا بِبعضِ الهَزْل. على
أن
الكتاب إذا كثُر هَزلُه سَخُف كما أنه إذا كثُر جِدُّه ثَقُل، ولا بدَّ للكتاب من أن
يكون
فيه بعض ما يُنشِّط القارئ وينفي النُّعاس عن المُستمِع. فمن وجد في كتابنا هذا بعض ما
ذكرنا، فليعلم أن قَصْدنا في ذلك إنما كان على جهة الاستدعاء لقلبه والاستمالة لسمعه
وبصره.
والله تعالى نسأل التوفيق.