السراري والإماءُ
شرع الإسلام العتق ولم يشرع الرق.
فلم يكن للعتق أثر في شرائع الحضارات التي سبقت ظهور الإسلام، أما الرق فقد كان معروفًا معترفًا به في كل حضارة قديمة، وكان حكماء الأمم يقرونه ويرتبون نظام المجتمع على بقائه، ومنهم حكماء في طبقة أفلاطون وأرسطو من فلاسفة اليونان. وكان رؤساء الأديان يعتبرونه قضاء عادلًا من الله، ويأمرون العبد بطاعة السيد، والإخلاص له، كما يطيع ربه، ولو لم يكن على دينه، وكان ساسة الأمم يحمون حق السيد على عبده ولا يعرفون للعبد حقًّا تحميه الدولة، حتى حق الحياة.
ولا يخطرنَّ على البال أن الرق نظام مهجور في العصور الحديثة، بطل وامتنع بعد تحريم بيع الرقيق وشرائه منذ أواسط القرن التاسع عشر. فإن الواقع أن الرق على أصوله التي أنشأته في عصور الهمجية باقٍ إلى القرن العشرين، وسيبقى بعدها ما بقيت الحروب، وبقيت عادات الأسر، وإجلاء سكان البلاد المغزوة من ديارهم، إلى أمد أو إلى غير أمد.
فالأسير اليوم هو الرقيق الأول بعينه وبالصفة القانونية التي يخولها آسروه أثناء أسره: يسخره الآسرون في أعمالهم، ويجردونه من الحقوق المدنية بينهم، ويعطونه من القوت ما يمسك الرمق أو يعينه على خدمتهم. ولا تفك عنه هذه القيود إلا إذا تبودل الأسرى بين المعسكرين المتقاتلين.
فكل ما استحدث من نظام الرق بعد تحريم البيع والشراء، فإنما هو أثر من آثار التطور في قيام الدولة الحديثة، وبعد أن كان العالم القديم يخضع لدولة واحدة، أو تتصارع فيه دولتان متناظرتان، متناحرتان، لا تهدأ الحرب بينهما فترة تسمح بالتفاهم على تبادل الأسرى، ولا تقع بينهما هدنة تتيح للأسير أن يرجع إلى قومه حتى تلحق بها حرب جديدة، يحل فيها فريق من الأسرى محل فريق.
فالذي تغير من نظام الأسر في العصر الحديث إنما هو عدد الدول في العالم، واضطرارها إلى التهادن والتعاقد بينهما فترات أطول من الفترات الأولى بين الدول القليلة الغابرة، وما كان نظام الرق ليتغير كثيرًا أو قليلًا، لو بقيت الدولة الواحدة غالبة على العالم، أو بقيت فيه الدولتان على عداء لا هوادة فيه.
فلما ظهر الإسلام جاء بالعتق ولم يجئ بالرق، وسبق التطور الدولي إلى تقرير فك الأسرى عند الأعداء، وتقرير المن بتسريح الأسرى عنده، وصنع خير ما يصنعه الشارع في ذلك الزمن، فإنه الصنيع الذي لم تلحقه حضارة القرن العشرين بما هو أكرم منه وأجدى.
فمن الحسن في شريعة القرآن إطلاق الأسير أو قبوله فدائه: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد: ٤].
وإذا أراد الأسير أن يفتدي نفسه بأجره من عمل يعمله، حسن بمالكه أن يقبل منه ذلك وأن يعينه بماله، وما آتاه الله من كسبه: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور: ٣٣].
وفرض الإسلام العتق كفارة لذنوب كثيرة، فمن ظاهر من زوجته — أي قال لها: إنها حرام عليه كظهر أمه — فلا يتحلل من ظهاره إلا بتحرير رقبة يملكها: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا [المجادلة: ٣].
ومَن حنث في يمينه فكفارة اليمين صدقة بالمال أو صدقة بالتحرير: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: ٨٩].
ومَن قتل خطأ وجب عليه مع الدية تحرير رقبة: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ [النساء: ٩٢].
ويحسن تحرير الرقاب في غير ما ورد النص عليه حيثما وجب الشكر على النعمة، والتوبة من الذنب، وحسن الجزاء على الولاء.
•••
والنساء المملوكات أقدم في التاريخ من الرجال المملوكين، فقد أوشك الزواج في كثير من القبائل البدائية أن يكون كله سبيًا واغتصابًا من نساء القبائل أخرى، ولم تدع الحاجة قديمًا إلى استرقاق الرجال، إلا بعد وجود الأعمال التي توكل إلى الأسرى، ويترفع عنها المقاتلون الأحرار، فكان استرقاق الأسرى ثقلًا على مالك الرقيق، يتحاماه أو يتخلص منه بقتله، وكانت المرأة تُقتنى للمعاشرة أو لخدمة البيت والمرعى، وهي خدمة سبقت ما يستخدم فيه الرجال من الصناعات ومطالب المعاش.
وتعتبر قضية الإماء والسراري جزءًا من قضية الرق على عمومه، لولا أن المرأة المستعبدة تنفرد بمشكلاتها التي سبقت مشكلات الرق في المجتمعات البدائية؛ لأن سبي النساء أقدم من تسخير الرجال في العبودية، ولأن مشكلات الإماء على اتصال وثيق بمشكلة المرأة في بيتها وفي بيئتها الاجتماعية، ولم تكن حقوق الزوجات الحرائر في القدم تفضل كثيرًا نصيب الإماء المستعبدات.
ومن وجوه الخلاف بين رق المرأة ورق الرجل أن العتق بر كبير بالإنسان الذي سُلبت حريته، وهانت على الناس كرامته، ولكن العتق لا يئول بالجارية إلى حرية تُغبط عليها، وهي بلا عائل ولا زوج. وربما نقلها العتق من العبودية لسيد واحد إلى العبودية لكل سيد تأوي إليه، ولم يكفل لها رزقًا ولا عملًا أكرم من أعمال العبيد المسخرين، بغير حرية لها ولا اختيار.
وقد نظرت شريعة القرآن الكريم إلى الفارق بين الرجل والمرأة في أمر العتق، فعملت على نقل النساء المملوكات من رابطة العبودية إلى رابطة الزوجية، وأمرت المسلمين بتزويجهن والبِر بهن: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: ٣٢].
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء: ٣].
وفضَّلت الزواج بالجارية المملوكة على الزواج بسليلة البيوت من المشركات ولو حسن مرآها في العين: وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة: ٢٢١].
وفرضت لهن حقوقهن كما فرضت الحقوق للأزواج: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [الأحزاب: ٥٠].
وجعلت أصحاب المال ومن يملكونهم سواء فيما عندهم من رزق الله: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ فَهُمْ فِيهِ سَواء [النحل: ٧١].
وحرص الإسلام على البر بهن في عواطفهن وإحساسهن، كما حرص على البر بهن في أرزاقهن ومعيشتهن، فكان ﷺ ينهى المسلم أن يقول: «عبدي وأمتي» وإنما يقول: «فتاي وفتاتي» كما يتحدث عن أبنائه، وكانت وصيته بالصلاة والرقيق من آخر وصاياه ﷺ قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
•••
ولم يحصل أولئك المستضعفون من النساء والرجال على تلك المعاملة طوعًا لأوامر دين من الأديان قبل الإسلام، ولا تلبية لسعيهم، أو خوفًا من تمردهم وعصيانهم، ولم يكن أحد من أقوامهم يناصرهم أو يتقبل منهم شكايتهم. بل لم يكن من الأرقاء أنفسهم من يعتقد له حقًّا في شكواه، ويحسب أن الرق مظلمة أصابته بغير حقه. وقد أسلم بعض الأرقاء من العبيد والإماء فلم يزيدوا عددًا في صدر الدعوة الإسلامية على أصابع اليدين، ولم يكن لهم صوت مسموع في شريعة الجاهلية، ولا في شريعة الإسلام؛ إذ كانت شريعة الإسلام مما يتعلمه المسلمون من النبي، ولم تكن مما يعلمونه إياه. فمهما يأتِ به من آية مطاعة من آيات البِر بالنساء المستضعفات اللاتي لا سند لهن ولا عائل يرحمهن، فإنما هي آيته من الوحي السماوي تجري على نسق واحد من آياته كافة، في تشريع الحقوق وتعليم الفرائض والواجبات.
•••
وارتفع الإسلام بأتباعه إلى منزلة من الإنصاف للرقيق والرفق به، لم تبلغها الإنسانية بآدابها وقوانينها ودساتيرها وأنظمتها بعد أكثر من ألف سنة، ولكن المسلمين مع هذا قصروا في عهود شتى عن الشأو الرفيع الذي دعاهم دينهم إليه، وأبيحت بينهم النخاسة التي حرَّمها الدين، ونسيت بينهم الوصايا التي ذكرهم بها الكتاب والسنة، واستبيحت فيهم حقوق الأحرار والعبيد على السواء. إلا أن الشريعة القرآنية المطهرة عملت بينهم عملها، ولم تذهب آثارها سدى في حملتها. ومن آثارها ما يثبت بالإحصاء والمقارنة، كما يؤخذ من المقابلة بين عدد الأرقاء وبين حالتهم في بلاد الحضارة الإسلامية، وبلاد الحضارة الأوروبية والأمريكية، بغير حاجة إلى شرح طويل.
فكل من بقي من الأرقاء في البلاد الإسلامية بعد ثلاثة عشر قرنًا لا يزيدون على مليونين منهم أزواج وزوجات دخلوا في الأسر الحرة على سُنَّة المساواة والمؤاخاة. ومما له دلالته في هذا الصدد أن ارتفاع المهانة عن المماليك في العالم الإسلامي مكنهم غير مرة من إقامة الدول، وارتقاء المناصب، وولاية الوزارة والقيادة، ومصاهرة البيوتات من أصحاب الملك والإمارة، ولو لم تفارقهم مسبة الرق التي لُصقت بهم في كل بيئة غير البيئة الإسلامية، لما تمكنوا من الصعود في منازل الاجتماع إلى هذه القمة، ولا فارقوا قط منازل الموالي والعبيد.
وتنعقد المقابلة السريعة بين قسمة الرقيق في ظل الشريعة الإسلامية وقسمته في ظل الحضارة الغربية، فتسفر عن الفارق البعيد بينهما بالأرقام والحقائق والأوضاع.
فتجارة الرقيق خلال خمسين سنة جمعت في القارتين الأمريكيتين أمة كبيرة، تبلغ سلالتها اليوم ستة عشر مليونًا في الشمال والجنوب، وأهدرت بينهم جميع الحقوق حتى حق الحياة إلى زمن قريب. فكان من المناظر المألوفة شنق الزنجي بغير سؤال ولا محاكمة على قارعة الطريق، وكان إنصافهم — بعرف القانون — خطوة متأخرة في القرن العشرين لم تنفسح لهم في الزمن الأخير إلا بعد المطالبة والمواثبة، وبعد الاقتدار على الطلب مشمولًا بالتهديد، ومنه التهديد بالإضراب.
•••
هذه شريعة وتلك شريعة، بينهما من الزمن قرابة أربعة عشر قرنًا، ومن الجهود الإنسانية ثورات وأهوال وضحايا لا يحيط بها الإحصاء.