مشكلات البيت
الأسرة وحدة اجتماعية تحتاج كغيرها من الوحدات إلى نظامها الخاص الذي تعول عليه في جمع شملها، وإصلاح شأنها، وحل المشكلات والخلافات التي تعرض لأعضائها.
ولكنها أحوج من سائر الوحدات إلى الدقة والحكمة في نظامها الخاص بها؛ لأنه نظام يناسبها دون غيرها، ولا يتكرر على مثالها في وحدة من وحدات المجتمع، أو فئة من فئاته.
فالشركة التجارية — مثلًا — وحدة اجتماعية، لها نظامها الخاص بها، وقد تكون لها أنظمتها المختلفة على حسب تأليفها، ولا بد لها ولنظائرها جميعًا من روح المودة، وصدق المعونة، لحسن الانتظام وتحقيق المصلحة المتبادلة.
إلا أنها قد تعول في أهم أعمالها على أرقام الحساب، وشروط الاتفاق لتسيير تلك الأعمال وتيسيرها.
أما الأسرة فلا ينفعها أن تعول في علاقاتها على الشروط التي يفصل فيها وازع القضاء، أو وازع الشرطة، ولا مساك لها إن لم تتماسك بينها بنظام يغنيها عن تحكيم القانون، أو تحكيم الشرطة، في كل خلاف يطرأ على علاقاتها.
فإن الخلاف والوفاق في الأسرة يدوران على دخائل النفوس، ولفتات الشعور، ولمحات البشاشة والعبوس، وقد يبدأ الخلاف وينتهي في لحظة، وقد ينشأ في كل ساعة تتبدل فيها أذواق الطعام والكساء، ودواعي الزيارة والاستقبال بين الأهل والصحاب. ولا يوجد بين الناس نظام عام يلجأ إليه المختلفون على أمثال هذه الأمور، كلما طرأت في لحظة من لحظاتها، وهي مما يطرأ في جميع الأوقات.
كذلك لا تترك هذه الخلافات بغير ضابط يتداركها، وينفع أبناء الأسرة عند احتياجهم إلى الانتفاع به في حينه.
فلا غنى لهذه الوحدة عن نظامها، وأول المقتضيات العامة في نظام كل وحدة أن يكون لها رئيسها المسئول عنها.
ورئيس الأسرة المسئول عنها هو الزوج: عائل البيت وأبو الأبناء، ومالك زمام الأمر والنهي فيه.
إذا جاء الخلل من هذا الرئيس، فنتيجة هذا الخلل كنتيجة كل خلل يصيب الوحدة من رئيسها، ويزول الرئيس، وتزول الوحدة، ولكن لا يزول النظام، ولا تزول الحاجة إليه. فإن نظام الدولة لا يزول لخلل رؤسائها، ونظام المحاكم لا يزول لخلل قضاتها، ونظام الشركات لا يزول لعجز مدير لها، أو لخيانته واختلاسه.
نظام الأسرة باقٍ، وحاجته إلى الولي الذي يتولاه باقية، وللذين هم في ولاية هذا الرئيس أن يحاسبوه إذن بحساب الشريعة العامة، حيثما يُجدي هذا الحساب.
•••
ولا جدال حول نظام الأسرة في حق الأب على أبنائه الصغار إذا خالفوه، واستوجبوا عقابه، فليس يقدح في هذا الحق من وجهته العامة أن الآباء الصالحين قليلون، وأنه ليس كل جزاء يوقعه الأب بأبنائه عدلًا وصلاحًا. وإنما مناط حقه على علاته أن إلغاءه أخطر من الخلل في تنفيذه، وأنه لا يوجد في العالم آباء مثاليون ولا أبناء مثاليون.
وهذا هو بعينه مناط الحق في أمر الزوج والزوجة حول نظام الأسرة. فليس في العالم زوج مثالي ولا زوجة مثالية، وليس تصرف الزوج بصواب في كل حال، ولا اعتراض الزوجة عليه بصواب في كل حال. ولكن الصواب في كل حال أن يكون للوحدة الاجتماعية نظام، وأن يكون للنظام رئيس يتولاه.
وإنها لخطة واحدة من ثلاث: أن يكون كل خلاف بين الزوجين سببًا لانطلاق المرأة من بيتها، أو أن يحضر القاضي أو الشرطة كل خلاف ويفصلوا فيه بالجزاء، أو أن يعهد إلى عائل البيت بتدارك الخلاف بوسائله بين أحضان البيت، وهو المسئول عما يجنيه وعما يؤدى إليه، إذا بلغ الكتاب أجله وتعذر الوفاق.
وأسلم الخطط الثلاث، وأقربها إلى المعقول والواقع، هي خطة القرآن الكريم.
وتجمعها كلها هاتان الآيتان من سورة النساء: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [الآية: ٣٤، ٣٥].
•••
فالنصيحة الحسنة أول ما يعالج به الرجل خلافه مع زوجته، فإن لم تنجح، فالقطيعة في المنزل دون الانقطاع عنه، فإن لم تنجح فالعقوبة البدنية بغير إيذاء، فإن خيف الشقاق فالتحكيم بين الأقربين من الطرفين.
ومن الضمان للزوجة في جميع هذه الخلافات أنها تملك أن تدفع عنها النشوز من زوجها إذا خشيت إعراضه: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: ١٢٨].
وسبيل الصلح كسبيل الصلح الذي يلجأ إليه الزوج، وهو التحكيم.
ويخطئ بعض المفسرين فيحسب أن العقوبة بالقطيعة والهجر في المضاجع، تروع المرأة بما ينالها من الإيلام الحسِّي، وفوات المتعة الجسدية؛ إذ كانت حكمة القرآن الكريم أبلغ من ذلك، وأنفع في هذه الخصومة الزوجية، وإنما تردع هذه العقوبة المرأة لأنها تذكرها بالمقدرة التي توجب للرجل الطاعة في أعماق وجدانها، وهي مقدرة العزم والإرادة والغلبة على الدوافع الحسية. وبهذه المقدرة يستحق الرجل من المرأة أن يُطاع، فلا تشعر بالغضاضة من تسليمها له بهذه الطاعة.
أما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها، ويشق عليها هجره إياها، ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه، وهو الفراش، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع، وإنما يتحقق بهجر في الفراش نفسه، وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى. وربما يكون سببًا لزيادة الجفوة، وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع والبيت الذي هو فيه؛ لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية، فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر، ويزول اضطرابها الذي أثارته الحوادث قبل ذلك. فإذا هجر المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجا أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب، ويهبط بها من نشز المخالفة إلى صف الموافقة.
والذي نراه — وذكرناه في كتابنا عن عبقرية محمد — أن الأستاذ رحمه الله قد أخطأه المراد الدقيق في هذه العقوبة النفسية، وأن الحكمة في إيثارها أعمق جدًّا من ظاهر الأمر كما رآه الأستاذ. فأبلغ العقوبات ولا ريب هي العقوبة التي تمس الإنسان في غروره، وتشككه في صميم كيانه في المزية التي يعتز بها ويحسبها مناط وجوده وتكوينه. والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل، ولكنها لا تأسى لذلك ما علمت أنها فاتنة له، وأنها غالبته بفتنتها، وقادرة على تعويض ضعفها، بما تبعثه فيه من شوق إليها ورغبة فيها. فليكن له ما شاء من قوة فلها ما تشاء من سحر وفتنة، وعزاؤها الأكبر عن ضعفها أن فتنتها لا تُقاوم، وحسبها أنها لا تقاوم بديلًا من القوة والضلاعة في الأجساد والعقول. فإذا قاربت الرجل مضاجعة له، وهي في أشد حالاتها إغراء بالفتنة ثم لم يبالها، ولم يؤخذ بسحرها، فما الذي يقع في وقرها، وهي تهجس بما تهجس به في صدرها؟ أفوات سرور؟ أحنين إلى السؤال والمعابثة؟ كلا، بل يقع في وقرها أن تشك في صميم أنوثتها، وأن ترى الرجل في أقدر حالاته جديرًا بهيبتها وإذعانها، وأن تشعر بالضعف ثم لا تتعزى بالفتنة ولا بغلبة الرغبة. فهو مالك أمره إلى جانبها، وهي إلى جانبه لا تملك شيئًا إلا أن تتقرب إلى التسليم، وتفر من هوان سحرها في نظرها قبل فرارها من هوان سحرها في نظر مضاجعها. فهذا تأديب نفس وليس بتأديب جسد. بل هذا هو الصراع الذي تتجرد فيه الأنثى من كل سلاح؛ لأنها جربت أمضى سلاح في يديها، فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها، فإنما تكابر ضعفها حين تلوذ بفتنتها، فإذا لاذت بها فخذلتها، فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذاك. وهنا حكمة العقوبة البالغة التي لا تقاس بفوات متعة، ولا باغتنام فرصة، للحديث والمعابثة، إنما العقوبة إبطال العصيان، ولن يبطل العصيان بشئ كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه، وغاية قوة من يعصيه، والهجر في المضاجع هو بمثابة الرجوع إلى هذا الإحساس.
•••
ولا اعتراض لأحد من المتقدمين أو المتأخرين على عقوبة من هذه العقوبات جميعًا فيما خلا العقوبة البدنية، وهو — فيما يبدو لأيسر نظرة — اعتراض متعجل في غير فهم وعلى غير جدوى، وليس هذا الاعتراض بالجائز إلا على وجه واحد، وهو أن العالم لا تُخلق فيه امرأة تستحق التأديب البدني، أو يصلحها هذا التأديب. وإنه لسخف يجوز أن يتحذلق به من شاء على حساب نفسه، إظهارًا لدعوى النخوة والفروسية في غير موضعها. وليس بالجائز أن يتحذلق به على حساب الشريعة أو الطبيعة، ولا على حساب كيان الأسرة وكيان الحياة الاجتماعية.
•••
إن المقام مقام عقوبة بل مقام العقوبة بعد بطلان النصيحة وبطلان القطيعة. ولم يخل العالم الإنساني رجالًا ونساء ممن يعاقبون بما يُعاقب به المذنبون، فما دام في هذا العالم امرأة من ألف امرأة تصلحها العقوبة البدنية، فالشريعة التي يفوتها أن تذكرها ناقصة، والشريعة التي تؤثر عليها هدم الأسرة مقتصرة ضارَّة، واللغط بهذه الحذلقة نفاق رخيص، والتماس للسمعة الباطلة بأخبث أثمانها. وقد أجازت الشرائع عقوبة الأبدان للجنود، ولها مندوحة عنها بقطع الوظيفة، وتأخير الترقية والحرمان من الإجازات والحريات، فإذا امتنع العقاب بغيرها لبعض النساء، فلا غضاضة على النساء جميعًا في إباحتها. وما يقول عاقل: إن عقوبة الجناة تغض من الأبرياء، وإلا لوجب إسقاط جميع العقوبات من جميع القوانين.
وسنرى فيما يلي من بيان القيود التي أحيطت بها هذه العقوبة أنها في حكم الإسلام جد كريهة، وما أُبيحت إلا لاتقاء ما هو أكره منها، وهو الطلاق.