القرآن والزمن
بقي القرآن الكريم في العالم الإسلامي نحو ألف وأربعمائة سنة قوة عاملة يعتصم بها في إقباله وإدباره، وفي عزته وانكساره، بل كان هو القوة العاملة التي نفعته حين فارقته جميع القوى التي تنتفع بها الأمم، فكان له قوة تعينه على التقدم والنماء كما كان له قوة تعينه على الثبات والمقاومة. وابتُلي المسلمون في أيام ضعفهم بسطوة الطامعين فيهم، وعداوة القادرين عليهم، فلا تعرف دولة من الدول الطاغية المتغلبة لم تفتح بلدًا من بلدان المسلمين، أو تدخله بالحيلة والمكيدة، ولا تعرف لهذه البلاد المغلوبة قوة تعوذ بها، وتأبى عليها أن تسلم بالهزيمة، وتنهضم في جوف الدول المحيطة بها، غير إيمانها بهذا الكتاب: إن الإيمان بالقرآن وقبول الخضوع لغير رب العالمين، نقيضان لا يجتمعان في قلب إنسان.
ونحن اليوم ننظر إلى الدول الغالبة، فلا نرى لأبنائها حيرة أشد من حيرتهم في البحث عن الإيمان الموجه والعقيدة الراجية: كلهم يريدون أن يستقروا على أمل في الحياة، وعلى فكرة واثقة بالعمل الصالح، والرجاء الموفق، والسعي المطمئن إلى هداه، وإلى المصير وإن كان لا يراه.
وعندنا نحن هذا الإيمان وهذه العقيدة الراجية: عندنا الإيمان متأصلًا، والعقيدة ناجية من تجارب الزمن، مختبرة بالمحن والشدائد، صالحة لكل أمس، كان في يوم من الأيام غدًا مجهولًا، قبل أن يُماط عنه حجاب الغيب، صالحة لكل غد نستقبله ونجهله اليوم، ولكننا لا نجهل أن الإيمان فيه قوة، وأن ديننا يمنحنا تلك القوة، وأننا على سنة القصد — على الأقل — حين نفيد مما في أيدينا ولا ننبذه جزافًا لنبحث عن سواه، وقد جرَّب غيرنا سواه حيث اضطرته فاقة العقيدة إلى التجربة المجهولة، فإذا هو في طريق العقيدة على غير اعتقاد، وإذا هو يشد الرحال ليبحث عن الزاد، ولا رحلة بغير زاد.
لقد كان هذا الدين حافظًا لنا في أمسنا، فما لنا لا نحفظه في يومنا وغدنا ولا شطط ولا مشقة؟ وماذا يُنكر اليوم أو الغد منه، وهو يسير معه حيث سار، ويمده من قوة ويسدده من عثار؟
إنه دين رب العالمين.
إنه دين إنسان العالمين! دين الإنسان الذي يستقبل ربه حيث يكون، وحينما يكون، فأين ولَّى فثمَّ وجه الله، ومتى ولَّى فثمَّ وجه الله، وثمَّ رب العالمين، رب كل أرض وكل سماء وكل منزل وكل حين.
إن «إنسان العالمين» يعيش اليوم كما عاش بالأمس، بل يعيش في يومه الحاضر أكثر مما عاش في أمسه الدابر؛ لأن الأمس قد كان أمس هذا العالم، وذلك العالم حيث لا يلتقي عالم وعالم، وأما «العالمون» فإنها لمن صنع التاريخ الذي لم تنقضِ عليه سنون.
•••
وقد آمن دين القرآن بالإنسان الحي في كل زمن، وأعطاه حقه مقترنًا بحق الحياة، غير موقوف على دساتير السلطان والمال، ولا على أصوات الانتخاب وندوات النواب: إنسان مسئول يملك حقه وواجبه بشفاعة واحدة هي شفاعة الحياة، لم يسبق دينه فيودعه ويعرض عنه، بل سبقه دينه عهودًا طوالًا ويسبقه بعد اليوم أطول مما سبقه من عهود.
ولا ضير على الدين أن يثبت ويستقر.
بل على الدين الصالح أن يثبت ويستقر.
وإنما الضير أن يفهمه زمن ولا يفهمه زمن، وأن يكون فيه حائل بينه وبين ضمير الإنسان في زمن من الأزمان. وتنزه دين القرآن عن هذا الجمود. فإنه لعلى الغاية مما يُطلب لدين ينتظم الملايين من العارفين والجاهلين مئات السنين، ويخلص بينهم إلى ضمير المؤمن بالله في كل عصر، وليس عليه من حسيب غير هداية الضمير.
وفي الصفحات التالية مثل لفهم آيات الكتاب على مدى ألف وثلثمائة سنة توالى فيها المفسرون ليفهموا آيات الحساب والعقاب بين الزوجين، وبدا من أساليبهم — لفظًا ومعنى — أنهم تغيروا مع الزمن شعورًا وفهمًا، ولم يمنعهم كتابهم أن يتغيروا، ولا هو بمانع أحدًا يتلوهم أن يتغير جهده من التغير، كيفما كان تغير الفهم والشعور في هذه الأمور.
وعلى هذا المثال نحتفظ بالقرآن، ونحتفظ بالزمن، ونعبر مئات السنين في بضع صفحات ولا يزال في الأمد متسع لأخرى من مئات السنين.
ونختار للمقابلة بين التفاسير آخر الآيات التي استشهدنا بها لشريعة القرآن في معاملة المرأة، وهي آيات النشوز في سورة النساء، نبدؤها بابن عباس ونختمها بالأئمة من أبناء القرن الثالث عشر، ولم يخالفهم من ظهر بعدهم من المفسرين إلى هذه الأيام.
•••
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: ٣٤، ٣٥].
قال حيان: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا يحيي بن بشر، سمع عكرمة يقول في قوله: وَاضْرِبُوهُنَّ ضربًا غير مبرح، قال: قال رسول الله ﷺ: «واضربوهن إذا عصينكم في المعروف، ضربًا غير مبرح».
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا يقول: «فإن أطاعتك فلا تبغِ عليها العلل.»
•••
قلت: هذا قول حسن، فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها، فإن كانت محبة للزوج، فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها، فيتبين أن النشوز من قِبَلها. وقيل: «اهجروهن» من الهجر وهو القبيح من الكلام؛ أي: غلظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره، قال معناه سفيان، ورُوي عن ابن عباس. وقيل: أي شدوهنَّ وثاقًا في بيوتهن، من قولهم: هجر البعير؛ أي: ربطه بالهجار، وهو حبل يشد به البعير، وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال. وفي كلامه في هذا الموضع نظر.
وقد ردَّ عليه القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه فقال: يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة، والذي حمله على هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق أتت الزبير بن العوام وكانت تخرج حتى عُوتب في ذلك. قال: وعتب عليها وعلى ضرتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربًا شديدًا، وكانت الضرة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي، وكان الضرب لها أكثر، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها: أي بنيَّة اصبري، فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة، ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوجها في الجنة. فرأى الربط والعقد، مع احتمال اللفظ، مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير.
وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر، كما فعل النبي ﷺ حين أسرَّ أمرًا إلى حفصة فأفشته إلى عائشة، وتظاهرتا عليه، ولا يبلغ به الأربعة أشهر التي ضرب الله أجلًا عذرًا للمولى.»
«الثامنة: وَاضْرِبُوهُنَّ أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولًا ثم بالهجران، فإن لم ينجعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه. والضرب في هذه الآية هو ضرب بالأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر لها عظمًا ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير. فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والأدب. وفي صحيح مسلم: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح» الحديث. أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج. أي: لا يُدخلن منازلكم أحدًا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء والأجانب. وعلى هذا يُحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله ﷺ فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال: «ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوان عندكم، لا تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا. ألا إن لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» قال: حديث حسن صحيح، فقوله: «بفاحشة مبينة» يريد: لا يدخلن من يكرهه أزواجهن، وليس المراد بذلك الزنا، فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد. فقال عليه السلام: «اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربًا غير مبرح» قال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه.»
ورُوي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعُذِل في ذلك، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يُسأل الرجل فيم ضرب أهله؟»
«التاسعة: قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي: تركن النشوز فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي: لا تبغوا عليهن بقول أو فعل. وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن، والتمكن من ذلهن، وقيل: المعنى: لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس بالهين.»
وَاضْرِبُوهُنَّ ضربًا غير مبرح، أو بوعظهن أولًا ثم بهجرانهن في المضاجع ثم بالضرب إذا لم ينجع فيهن الوعظ والهجران … فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بترك النشوز فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى، وهو من بغيت الأمر؛ أي: طلبته، أي: إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا ظلمهن. وإِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم. فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع.»
•••
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله أن تضربها ضربًا غير مبرح ولا تكسر لها عظمًا، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله عنها الفدية، وقال سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال: قال رسول الله ﷺ: «ولا تضربوا إماء الله»، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله ﷺ فقال: زأرت النساء على أزواجهن فرخَّص رسول الله ﷺ في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله ﷺ نساء كثير يشتكين أزواجهن، فقال رسول الله ﷺ: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشتكين أزواجهن ليس أولئك بخياركم» رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود — يعني: أبا داود الطيالسي — حدثنا أبو عوانة، عن داود الأودي، عن عبد الرحمن السلمي، عن الأشعث بن قيس قال: «ضفتُ عمر رضي الله عنه فتناول امرأته فضربها فقال: يا أشعث، احفظ عني ثلاثًا حفظتهن عن رسول الله ﷺ: لا تسأل الرجل فيم ضرب امرأته، ولا تنم إلا على وتر، ونسي الثالثة» وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عوانة عن داود الأودي. وقوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي: إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها وهجرانها.
وقوله: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا تهديد للرجال إذا بغوا على النساء بغير سبب، فإن الله العلي الكبير وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.»
هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة والزوج يريدها، وترك الإجابة إذا دعاها لفراشه، وترك الصلاة — وفي رواية الغسل — والخروج من البيت إلا لعذر شرعي، وقيل: له أن يضربها متى أغضبته، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداعٍ قوي، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي الله تعالى عنه قالت: «كان الرجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكوهن إلى رسول الله ﷺ فخلى بينهم وبين ضربهن ثم قال: ولن يُضرب خياركم».»
•••
أقول: ومن هذه الأحاديث ما هو في تقبيح الضرب والتنفير عنه، ومنها حديث عبد الله بن زمعة في الصحيحين قال: قال رسول الله ﷺ: «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر الليل»، وفي رواية عائشة عن عبد الرزاق: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد، يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره»، يُذكِّر الرجل بأنه إذا كان يعلم من نفسه أن لا بد له من ذلك الاجتماع والاتصال الخاص بامرأته وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر، يتحد أحدهما بالآخر اتحادًا تامًّا فيشعرك منهما بأن صلته بالآخر أقوى من صلة بعض أعضائه ببعض. إذا كان لا بد له من هذه الصلة والوحدة التي تقتضيها الفطرة، فكيف يليق به أن يجعل امرأته، وهي كنفسه، مهينة كمهانة عبده، بحيث يضربها بسوطه أو يده، حقًّا إن الرجل الحي الكريم ليتجافى به طبعه عن مثل هذا الجفاء، ويأبى عليه أن يطلب منهن الاتحاد بمن أنزلها منزلة الإماء، فالحديث أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء، وأذكر أنني هُديت إلى معناه العالي قبل أن أطلع على لفظه الشريف، فكنت كلما سمعت أن رجلًا ضرب امرأته أقول: يا لله العجب، كيف يستطيع الإنسان أن يعيش عيشة الأزواج مع امرأة تُضرب، تارة يسطو عليها بالضرب، فتكون منه كالشاة من الذئب، وتارة يذل لها كالعبد، طالبًا منتهى القرب؟ لكن لا ننكر أن الناس متفاوتون، فمنهم من لا تطيب له هذه الحياة، فإذا لم تقدر امرأته بسوء تربيتها تكريمه إياها حق قدره ولم ترجع عن نشوزها بالوعظ والهجران، فارقها بمعروف وسرحها بإحسان إلا أن يرجو صلاحها بالتحكيم الذي أرشدت إليه الآية، ولا يضرب فإن الأخيار لا يضربون النساء وإن أبيح لهم ذلك للضرورة. فقد روى البيهقي من حديث أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنها قالت: كان الرجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكوهن لرسول الله ﷺ فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: «ولم يضرب خياركم»، فما أشبه هذه الرخصة بالحظر، وجملة القول أن الضرب سلاح مر، قد يستغني عنه الخيِّر الحر، ولكنه لا يزول من البيوت بكل حال، أو يعم التهذيب النساء والرجال.
هذا وإن أكثر الفقهاء قد خصوا النشوز الشرعي الذي يبيح الضرب إن احتيج إليه لإزالته، بخصال قليلة كعصيان الرجل في الفراش، والخروج من الدار بغير عذر، وجعل بعضهم تركها الزينة وهو يطلبها نشوزًا، وقالوا: «له أن يضربها أيضًا على ترك الفرائض الدينية كالغسل والصلاة، والظاهر أن النشوز أعم فيشمل كل عصيان سببه الترفع والإباء، ويقيد هذا قوله: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا قال الأستاذ الإمام: أي إن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها فابدءوا بما بدأ به الله من الوعظ، فإن لم يفد فليهجر، فإن لم يفد فليضرب، فإن لم يفد هذا أيضًا يلجأ إلى التحكيم، ويفهم من هذا أن القانتات لا سبيل عليهن حتى في الوعظ والنصح فضلًا عن الهجر والضرب، وأقول: صرح كثير من المفسرين بوجوب هذا الترتيب في التأديب.
•••
وَاهْجُرُوهُنَّ بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة فِي الْمَضَاجِعِ أي: المراقد، فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن، وقيل: المضاجع: المبايت؛ أي لا تبايتوهن، وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تُقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت»، ووَاضْرِبُوهُنَّ إن لم ينجع ما فعلتم من القطيعة والهجران ضربًا غير مبرح؛ أي: لا شديد ولا شاق. قال الفقهاء: «هو ألا يجرحها ولا يكسر لها عظمًا ولا يؤثر شيئًا، ويتجنب الوجه لأنه مجمع المحاسن، ويكون مفرقًا على بدنها، ولا يُوالي به في موضع واحد لئلا يعظم ضرره»، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده، وقال عطاء: ضرب بالسواك.
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي: إذا رجعن عن النشوز عند هذا التأديب إلى الطاعة في جميع ما يُراد منهن مما أباحه الله فلا سبيل للرجال عليهن بعد ذلك بالتوبيخ والأذية بالضرب والهجران، إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا فاحذروه، تهديد للأزواج على ظلم النساء، فإنهن وإن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه كبير، قاهر، قادر، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.
•••
وهن قسمان: مطيعات، وعاصيات فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ مطيعات لله حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ يحفظن في غيبة أزواجهن ما يجب أن يحفظ في النفس والمال، بِمَا حَفِظَ اللهُ أي: بسبب حفظ الله لهن حيث حثهن ورغبهن بالوعد وانذرهن وخوفهن بالتهديد، ووفقهن لحفظ أسرار الزوج وللعفة ومراعاة ما يجب عليهن مراعاته في غيبته من أعراضهن وأموال الأزواج، فعنه عليه الصلاة والسلام: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» وتلا الآية. فأما القسم الثاني وهن العاصيات، فقال فيهن: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي: عصيانهن وترفعهن عن مطاوعة الأزواج فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ … وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بالتوبيخ والإيذاء، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، وهذه المعاني قد قدمناها هنا، وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا أي: خلافًا بين المرأة وزوجها، وإضافة الشقاق إلى البين على حد قولهم: نهاره صائم، وليله قائم، والحكم الوسط الذي يصلح للحكومة والإصلاح، وكون الحكمين من أهله وأهلها أفضل، ولا يمنع أن يكونا من الأجانب، وإرسال الحكمين من قِبل الحكام أو من قِبل الزوجين أو من قبل صالحي الأمة، وللحكمين أن يجريا الخلع بلا إذن من الزوجين إن رأيا الإصلاح فيه عند مالك، وعند غيره لا يليان جمعًا ولا تفريقًا إلا بإذن الزوجين.
واعلم أن لإرادة الحكمين دخلًا في تحقيق الصلح كما قال: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إن يرد الحكمان إصلاحًا يُوفِّق الله بين الزوجين، أو بين الحكمين في إتمام الصلح. وليس للحاكم أن يبعث عدلين ويجعلهما حكمين عند الشافعي. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه جاءه رجل وامرأة ومع كل واحد منهما فئة من الناس، فقال: فعلام شأن هذين؟ قالوا: وقع بينهما شقاق، قال علي: «أتدريان ما عليكما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما …» إلخ.»
فأعجب للمسلمين في مصر والشام، وكثير من بلاد الإسلام كيف غفلوا عن بعث الحكمين.