الأخلاق الاجتماعية
تتجلى حكمة القرآن الكريم في النص على قوامة الرجال من أحوال المجتمع، كما تتجلى من أحوال الأسرة أو أحوال الصلة الزوجية بين الذكر والأنثى؛ أي بين الرجل والمرأة في نوع الإنسان.
فالأخلاق في المجتمعات الإنسانية عامة مصلحة دائمة، وضرورة لا قوام لمجتمع بغيرها على صورة من صورها. وهذه الضرورة لم يكن في مجتمعات الناس ما يكفيها إن لم تكفها قوامة الرجال، فإن الرجال هم مرجع كل عرف مصطلح عليه في الأخلاق، سواء منها أخلاق الذكور وأخلاق الإناث، ولم يُؤْثَر عن المرأة قط أنها كانت مرجعًا أصيلًا لخُلق من الأخلاق لم تتلقه من الرجال، ولم تتجه به إليهم، ولا استثناء في ذلك للصفات التي نعدها من أخص الصفات الأنثوية، ومن أقربها إلى طبيعة المرأة، وأبرزها في هذه الخاصة صفات الحياء والحنان والنظافة.
وكان من السائغ عقلًا أن تنشئ المرأة خلائق العرف كله؛ لأنها تتسلم النوع منذ نشأته في الأرحام، إلى أيام نموه بين الحجور والمهود، وتتولى حضانته البيتية إلى أيام المراهقة، ثم تتسلمه قرينًا بعد أن تسلمته ابنًا متدرجًا في تكوينه إلى تمام هذا التكوين، كما يتم في دور المراهقة فدور الشباب.
كان هذا هو السائغ عقلًا، لو كان في المرأة استعداد مستقل لتكوين القيم الأخلاقية، وإنشاء العرف والاصطلاح، ولو في بواكيره الأولى؛ إذ هي قادرة في دور الحضانة على بث البذور الخلقية في العادات والمبادئ مهما يكن من ضغط الرجل عليها.
غير أن الواقع المتكرر في المجتمعات الإنسانية كافة، أن المرأة تتلقى عرفها من الرجال، حتى فيما يخصها من خلائق الحياء والحنان والنظافة كما تقدم.
فهي إنما تستحي لأنها تتلقى خليقة الحياء من الطبيعة، أو من إملاء الرجال عليها.
•••
وحياء المرأة الذي تتلقاه من الطبيعة أنها تخجل من مفاتحة الرجل بدوافعها الجنسية، وتنتظر المفاتحة من جانبه، وإن سبقته إلى الحب والرغبة. وشأنها في ذلك كشأن جميع الإناث في جميع أنواع الحيوان، فإنها تنتظر ولا تتقدم، أو تتعرض ولا تهجم، ويمنعها أن تفعل ذلك مانع من تركيب الوظيفة لا يصدر عن وازع أخلاقي، ولا عن أدب من آداب السلوك. إذ كان مانعًا يتساوى فيه الحيوان العاقل وغير العاقل، كما يتساوى فيه النوع الذي ينقاد للغريزة وحدها، والنوع الذي يراض على سُنَّة من سنن الحياة الاجتماعية، فإنما خُلق تركيب الأنثى للاستجابة ولم يُخلق للابتداء والإرغام، وسر هذا الخلق أن تزويد الأنثى بوظيفة الابتداء والإرغام عبث مضيع لغاية النوع، متى شغلت بالحمل والرضاع، كما تشغل بهما حسب استعدادها في معظم الأوقات.
وهذا الحياء الطبيعي لا يحسب من القيم الخلقية التي تريدها المرأة، وتمليها على نفسها وعلى غيرها، ولكنه عمل من أعمال التكوين يصطبغ بالصبغة الخلقية، كلما وافقت آداب الاجتماع.
وإنما يحسب من القيم الخلقية ذلك الحياء الذي تمليه الآداب، ويتصل بالإرادة والاختيار، لا فرق في ذلك بين الإرادة الجامعة وإرادة الأفراد المتفرقين.
وهذا الحياء الذي تمليه الآداب تدين به المرأة على قدر اتصاله بشعور الرجل نحوها ونظرته إليها، فإذا اجتمع النساء معًا بعيدًا عن أعين الرجال، نسينه ولم يكترثن له، ولم يبالين شيئًا مما يبالينه، وهن بأعين الرجل في المحضر والمغيب.
فالمرأة لا تتوارى عن المرأة في الحمَّام، ولا يعنيها أن تستر عضوًا من أعضائها، إلا أن تستره مداراة لعيب وخوفًا من منافسة النظائر والأتراب، ولم يعهد في الحرائر الخفرات أنهن في الأمم التي استخدمت الخصيان كن يحجمن عن مس الرجل لهن واطِّلاعه على أعضائهن وهن عاريات، ويسوغ للنساء أن يذهبن معًا إلى ضروراتهن، ولا يسوغ ذلك في عرف الرجال، إلا من تكرههم عليه الطوارئ في غير المعيشة المعتادة.
•••
وألصق من الحياء بالمرأة حنانها المشهور، ولا سيما الحنان للأطفال من أبنائها وغير أبنائها. وهذه صفة من صفات الغرائز، توجد في إناث الأحياء، ولا تمتاز فيها أنثى الإنسان إلا على قدر امتياز العاقل على غير العاقل في كل ما يشتركان فيه، فليس الحنان الطبيعي بصالح لتقدير خلق الرحمة في المرأة حين يتصل بإملاء الوجدان الأدبي وسلطان الضمير، وإنما يصلح لتقدير هذا الخُلق فيها أن نقارن بين عطف الرجال وعطف النساء على الأطفال من أبناء الآخرين، فربما شوهد الرجل وهو يعطف على أبناء زوجته من غيره كما يعطف على أبنائه ويُسوِّي بينهم في البِرِّ والمعاملة، ولو من قبيل التجمل ورعاية الشعور، وتسلك المرأة غير هذا السلوك في معاملة أبناء الزوج من غيرها، فلا ينجو هؤلاء الأبناء أحيانًا من التعذيب والتشفي وتعمد الإذلال والإيذاء، ولا يطمع الكثيرون منهم في السلامة أو في التظاهر بالمساواة بينهم وبين إخوانهم في البيت، بل يحدث كثيرًا أن يقع التفضيل والإيثار عمدًا وجهرة للإمعان في الإساءة والانتقام من الأم المجهولة الغائبة، وقد تكون في عداد الأموات. وهذا كله كان حريًّا أن ينعكس بين الرجال والنساء؛ حيث يتصل على الخصوص بتكاليف الإنفاق والحماية؛ لأن الرجل هو الذي ينفق من ماله ويتكلف من وقته وجهده، ولعله حيث يرجع الأمر إلى خلة الأنانية، أولى أن يطمع في الاستئثار بالمرأة لنفسه، غير مشارك فيها ولا مستريح إلى ما يذكره بتلك المشاركة من قبل. وهو في الحق لا يبرأ من الأنانية ولا يقل في هذه الخلة عن المرأة، ولكن الفارق بينهما فيها أنها في الرجل خلة يروضها وازع الأخلاق، وهي في المرأة خلة تتحكم فيها الغريزة، ولا يقوى عليها وازع الفكر والضمير.
أما النظافة فليست هي من خصائص الأنوثة إلا لاتصالها بالزينة، وحب الحظوة في أعين الجنس الآخر. ولكن عمل الغريزة فيها أنها أصعب على المرأة وأيسر على الرجل؛ لأن المرأة تتكلف في سبيل النظافة ما ليس من الضرورات المتكلفة عند الرجال، لما يعرض لها في وظائف الحمل، وعادات الجسم المتكررة، وأخلاط الولادة، ولوازم الحضانة وما إليها، فلو لم تكن النظافة «قيمة خلقية» مفروضة عليها بإشراف الرجل على حياتها العامة وحياتها الخاصة، لكان استقلالها بنفسها وشيكًا أن يضعها موضع الإهمال والاستثقال. ويرجع إلى هذه الحالة في المرأة أنها أصبر من الرجل على التمريض؛ لأنها أصبر على الحضانة، وأصبر على أخلاط الجسد، كما يرجع إليها أن إحساسها بالعطف على المصابين مخالف في طبيعته لإحساس الرجال.
•••
وليس في أخلاق المرأة المحمودة خُلق أخص بها وألصق بأنوثتها من هذه الخلائق الثلاث: وهي الحياء والحنان والنظافة، ومعولها فيها — كما رأينا — على وحي الطبع أو وحي الرجل. وأحرى أن يكون ذلك ديدنها في جملة الصفات التي يشترك فيها الجنسان مع اختلاف حظهما منها، ولو كانت من الصفات التي تولاها الرجال منذ القدم، ويتولونها إلى اليوم، كشجاعة القتال في ميادين الحروب، فقد يوجد من النساء من هن مثَلٌ في الشجاعة، ويوجد في الرجال من هم مثَلٌ في الجبن، ولا ينفي ذلك أصل القوامة في نشأة الأخلاق وتعميمها، فإذا نشأ الخُلُق وعمَّ في العرف، لم يمتنع أن يتخلق به آحاد الجنسين على تفاوت في نصيب الرجال والنساء.
وبغير حاجة إلى متابعة النتائج التي تئول إليها الآراء في المستقبل، نجزم بالصواب فيما نعلمه من دلالة الطبع ودلالة العقل، فنفهم صواب الحكمة القرآنية التي أثبتت للرجل حق القوامة على المرأة في الأسرة، وفي الحياة الاجتماعية، فما كان للمجتمع أن يصطلح على عرف متبع فيه بغير هذه القوامة، وهي دستور الأخلاق والآداب التي لا غنى عنها ولا طاقة للمرأة بولايتها، وإن تسلمت مقاليد الحضانة منذ تكوين الجنين.
•••
هذا المقياس بعينه هو المقياس الذي يُرجع إليه في التفرقة بين أخلاق النساء: كل ما هو فردي روحي، أو اختياري إرادي، فهو أقرب إلى خُلق الرجل، وكل ما هو نوعي جسدي أو آلي إجباري، فهو أقرب إلى خُلق المرأة، فمداره على وحي الغريزة أولًا ثم على وحي الفهم والضمير.
والأخلاق التي يسمو بها الإنسان إلى مرتبة التبعة والحساب أو مسئولية الأدب والشريعة والدين، هي كما لا يخفى أخلاق تكليف وإرادة، وليست أخلاق إجبار وتسخير.
ومن هنا صح أن يُقال: إن المرأة كائن طبيعي وليست بالكائن الأخلاقي، على ذلك المعنى الذي يمتاز به خلق الإنسان ولا يشترك فيه مع سائر الأحياء.
مِسَاكُ الأخلاق الأول عند المرأة هو الاحتجاز الجنسي الذي ألمعنا إليه فيما تقدم، وهو من الغريزة التي يتساوى فيها إناث الحيوان، وليس من الإرادة التي يتميز بها نوع الإنسان بجنسيه.
فالمرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسي؛ لأن الطبيعة قد جعلتها جائزة للسابق المفضل من الذكور، فهي تنتظر حتى يسبقهم إليها من يستحقها فتلبيه تلبية يتساوى فيها الإكراه والاختيار.
كذلك تصنع إناث الدجاج وهي تنتظر ختام المعركة بين الديكة أو تنتظر مشيئتها بغير صراع.
وكذلك تصنع الهرة وهي تتعرض للهر وتعدو أمامه ليلحق بها، وتصنع العصفورة وهي تفر من فرع إلى فرع ليدركها العصفور السريع، وتصنع الكلبة والفرس والأتان، وهي مضطرة إلى الاحتجاز؛ لأنه الحكم القاهر الذي فرضته عليها وظائف الأعضاء.
والبون بعيد جدًّا بين هذا الاحتجاز الجنسي، وبين فضيلة الحياء التي تعد من فضائل الأخلاق الإنسانية.
فالحياء مفاضلة بين ما يحسن وما لا يحسن، وبين ما يليق وما لا يليق، وما هو أعلى وما هو أدنى.
والاحتجاز الجنسي غريزة عامة بين الإناث ترجع إلى القهر والإجبار، كائنًا ما كان التفاوت بينها في درجة القهر والإجبار.
ومتى بلغ هذا الاحتجاز الجنسي مبلغه الذي قصدت إليه الطبيعة، فقد بلغت الأخلاق الأنثوية غايتها، ولم يبقَ منها ما يلتبس بالحياء في صورته ولا في معناه.
ومن ضلال الفهم أن يخطر على البال أن الحياء صفة أنثوية، وأن النساء أشد استحياء من الرجال. فالواقع — كما لاحظ شوبنهور — أن المرأة لا تعرف الحياء بمعزل عن تلك الغريزة العامة، وأن الرجال يستحون حيث لا يستحي النساء، فيستترون في الحمَّامات العامة، ولا تستتر المرأة مع المرأة إلا لعيب جسدي تواريه.
فالخُلق الذي تتحلى به المرأة بداهة هو خُلق الغريزة الذي يوشك أن يشمل إناث الحيوان.
وكل خلق «إرادي» تتخلق به بعد ذلك فهو فريضة عليها من الرجال، تجاريهم فيه على ديدن المحاكاة والمطاوعة، سواء فهمته أو جهلت كنهه ومرماه؛ ولهذا يكثر في النساء من يتقيَّدن بالعرف القديم؛ لأن قوام العرف القديم عادات ومصطلحات هي أقرب إلى الغريزة الآلية من فضائل الفهم والإرادة، ويندر بينهن جدًّا من تتحدى العرف بفضيلة واحدة من فضائل الاختيار.
جرى حديث متنقل في مجلس يضم رهطًا من الرجال والنساء على قسط شائع من التعليم والعرف والآداب الخلقية، فانساق الحديث إلى سيرة رجل يتجاوز الخمسين ذاع عنه أنه يستدرج الفتيات الغريرات إلى داره فيلهو بهن ويظهر معهن في المحافل العامة، ويدفعهن إلى سهرات العبث والمجون، فكان النساء أقل من حضر المجلس اشمئزازًا من سيرة ذلك الخليع. كأنهن لا يرين نقصًا في رجل من الرجال بعد أن تكمل له تلك الفحولة الحيوانية، أو كأنهن لا يصدقن أن الفتيات الغريرات يسقطن في شراكه مخدوعات مغلوبات على مشيئتهن، ولكنهن راضيات مسرورات بما أتيح لهن من فرص المتعة والابتهاج.
وكل ما بدا عليهن بعد ذلك من الاشمئزاز فقد سرى إليهن مستعارًا ممن كان بالمجلس من الرجال، فقد كانوا في هذا المجتمع الخاص، كما كانوا في المجتمع العام كله «مصدر السلطات على حد قولهم» في لغة الدساتير.
ومتى سقط سلطان الرجال في الأمة سقط معه سلطان الأخلاق سواء منها أخلاق العرف وأخلاق الإرادة.
فالأمم المهزومة يُشاهد فيها طوائف من النساء يجهرن بمخادنة الجنود الفاتحين، ولا يكربهن أنهم قاتلو الإخوة والأزواج والآباء؛ لأن الخضوع للغلبة ألصق بطبيعة الأنوثة الفطرية أو الحيوانية من جميع هذه الأواصر والآداب.
والعبرة التي تستفاد من هذه الحقيقة أن النساء يوكلن إلى الفطرة في أخلاق الغرائز والعادات، ولكن لا يصح أن يتركن في الأخلاق الأخرى — أخلاق الإرادة والضمير — بغير إيحاء شديد، بل إكراه يتجاوز حدود الإيحاء.
•••
والغريزة القاهرة تعلل محاسن المرأة كما تعلل نقائصها، فتمهد لها العذر بين يدي الطبيعة، وإن لم تمهده لها بين يدي القانون والأخلاق.
فالتضحية هي أسمى فضائل الإنسان، وهي فضيلة لا يُقدم عليها المرء كل يوم، ولا يُقدم عليها بغير دافع شديد من وحي الفطرة أو من وحي الضمير.
ولكنها من وحي الفطرة أعم وأنفذ من وحي الضمير؛ لأن سلطان اللحم والدم عميق القرار في بواعث النفوس.
ومن ثم كانت المرأة أقرب من الرجل إلى التضحية في وظائفها النوعية؛ لأنها تستمد تضحيتها من غرائز الأمومة، وتموت في سبيل الذرية، كما تموت بعض إناث الحيوان. ولا تسهل التضحية على الرجل هذه السهولة إلا إذا ارتقى فيه وحي الضمير إلى مرتبة الدوافع الفطرية المودعة منذ الأزل في غرائز الأحياء، وتلك مرتبة يعز بلوغها على أبناء آدم فلا تزال معدودة فيهم من فضائل الأنبياء وأشباه الأنبياء، أو كما قال ابن الرومي:
وإنما يُقدم الرجل على التضحية في جملة أحوالها العامة بغريزة أخرى مغروسة في طبيعة النوع، ولكنها أحدث وأقرب إلى الإرادة: وهي غريزة القطيع التي نشأت مع الخلائق الاجتماعية، ولم تنشأ بداءة مع الولادة، كما نشأت الغرائز الأنثوية في جميع إناث الأحياء. فإذا تصدى الرجل للقتال في الجيش أو الكتيبة، تحرك بإرادة القطيع كله وتغلب بها على الخوف وحب السلامة، ولكنه قد ينفرد بالتضحية التي يدفعه إليها وحي الضمير، فيعلو على فضائل الأنواع والجماعات، ويعرج بروحه صعدًا في طراز رفيع من الفضائل: هو فضائل الأفراد الأفذاذ.
•••
والغرائز المختلفة التي تعلل لنا محاسن المرأة تعلل لنا نقائصها التي تُعاب عليها من بعض جهاتها. وقد لخصها المتنبي، ولخص كل ما قيل في معناها حيث قال:
فهي تتقلب وتُراوغ وتُرائي وتكذب وتحزن وتميل مع الهوى وتنسى في لحظة واحدة عِشرة السنين الطوال.
وهي مسوقة إلى ذلك بالفطرة الجنسية التي خُلقت فيها قبل نشأة الآداب الاجتماعية والآداب الدينية بألوف السنين. فقد أغرتها الفطرة الجنسية بالميل إلى الأقدر والأكمل من الرجال لتنجب للعالم أحسن الأبناء من أحسن الآباء.
فلم يكن مما يوافق هذه الفطرة في العصور السحيقة أن تحفظ العهد لرجل واحد ومن حولها رجال كثيرون يتقاتلون عليها، وقد يغلب أحدهم رجلها الذي تحفظ له العهد أو يطالبها بحفظه.
وكانت الحرب في بداءة الحياة الإنسانية هي مقياس القدرة والرجحان بين الرجال، في قبيلتهم أو في جميع القبائل المحيطة بها، فكان من شان المرأة أن تسلم لظافر بعد ظافر، وشجاع بعد شجاع، كلما دارت رحى الحرب بين غالب ومغلوب، وبين الشجاع القوي ومن هو أشجع منه وأقوى.
ثم أصبح المال مقياس القدرة والرجحان بين الرجال، وكان مقياسًا صحيحًا في العصور الغابرة، وظل كذلك ألوفًا من السنين؛ لأنهم كانوا يكسبون المال غنيمة في حومة الحرب، أو ربحًا من أرباح التجارة التي تقحم أصحابها في مجاهل الأرض، وتهدفهم لأخطار القتل والاستلاب، وتلجئهم إلى الحيلة تارة وإلى الحِوَل تارات، وتشهد لهم بمقياس القدرة والرجحان عن جدارة واضحة تغني المرأة عن التفكير، وهي لا تعمد كثيرًا إلى التفكير قبل الاختيار.
•••
قلنا في الفصل الذي عقدناه على رأي المعري في المرأة من كتابنا المطالعات: «والذي نقوله في جملة واحدة أن المرأة وفية صادقة: وفيه للحياة لا لهذا الرجل أو لذاك، وصادقة في الحب لا في إرضاء أهواء من تحب، ولو أنعمنا النظر لعرفنا أن المرأة تخون نفسها كما تخون الرجال في سبيل الأمانة للحياة، وتكذب على نفسها كما تكذب على محبيها في صيانة عهد الحب، فهي وفية بالفطرة رضيت أم لم ترضَ، وهي صادقة بالإلهام حيث أرادت وحيث لا تريد.»
إلى أن قلنا: «تحب المرأة الشباب، ومن ذا الذي لا يحب الشباب؟ إن الشباب نفحة الخلود وروح من روح الله. تصور الأقدمون الآلهة فلم يفرقوا بينهم وبين الشباب، وأسبغوا عليهم كساء سرمديًّا من نسجه، وبهاء متجددًا من صنعه، شعورًا منهم بأن الشباب سمة الحياة الخالدة وروح المعاني الإلهية، وترجيحًا لخير الشباب على شره ولمحاسنه على عيوبه.»
•••
ثم تحب المرأة المال، ومَن ذا الذي يكره المال؟ غير أننا قد نرى للمرأة سببًا غير سائر الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه. نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختيار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار واجتلاب الإعجاب والإكبار، فقد كان أغنى الرجال في القرون الأولى أقدرهم على الاستلاب، وأجرأهم على الغارات، وأحماهم أنفًا، وأعزهم جارًا، وكان الغنى قرين الشجاعة والقوة والحمية، وعنوانًا على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء، أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فكان أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق وتجشم الأخطار والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب، وأقدرهم على ضبط النفس وحسن التدبير. فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضًا وقوة الإرادة وعلو الهمة وصعوبة المراس، ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظرًا وأوسعهم حيلة، وأكيسهم خلقًا، وأصلبهم على المثابرة وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور.
كان هذا كله في العصور الأولى قبل تشعب الحياة الاجتماعية، وتعدد الملكات والصفات التي تكفل الرجحان والتقدم للرجال.
ثم تعددت هذه الملكات والصفات فقام في طبيعة المرأة «برج بابل» مخيف من اختلاط الأصوات والدعوات.
كان رجحان الرجل بسيط المظهر، وكانت فطرة المرأة البسيطة قادرة على تمييزه بغير إعنات الفكر ولا إطالة للروية.
ثم تشعبت الملكات والصفات، ووجد في العالم رجال ممتازون بأكبر المزايا، وليس للمرأة من فطرتها البسيطة معين على تقدير مزاياهم وعرفان أقدارهم والترجيح بينهم وبين من دونهم من أصحاب المزايا الفطرية التي تتكشف للنظرة الأولى ولا تحتاج إلى إنعام نظر أو موازنة بين أنواع وأشكال: رجل الحرب الذي يظفر بالقوة والخدعة، ورجل المال الذي يكسب بالقوة والخدعة، وكلاهما مفهوم واضح مكشوف على ظواهر الأشباه.
ثم انفصلت الحرب عن الشجاعة في بعض المواقف، وانفصل المال عن القدرة الراجحة في كثير من المواقف. فأغنى السلاح والكثرة ما لا تغنيه الشجاعة، وكسب المال بالإسفاف والدناءة وخدمة الشهوات، فهذا هو برج بابل الذي لا تدري المرأة فيه من تسمع ومن تجيب، والذي تُحار فيه قبل التمييز والتفضيل، وقد كانت قبل ذلك لا تُحار في تمييز أو تفضيل.
وزاد برج بابل طبقة على طبقاته الكثيرة أن الآداب الاجتماعية وآداب الأسرة ظهرت بين الناس، وفرضت على المرأة أدبًا جديدًا غير الأدب القديم، أدبًا يطالبها بالوفاء والأمانة ومغالبة الميول إذا تناضل من حولها الرجال، فزاد في الحيرة والتبلبل ولم يخلق بإزائه في فطرة المرأة معين على التمييز والاهتداء إلا ما تقتبسه بالتعليم والتلقين والإيحاء، وهو ضعيف محدود لا يقوم لإيحاء الفطرة القديمة إذا اشتجر النزاع واضطربت الأهواء.
فانقسم النساء أقسامًا شتى في الأخلاق الفطرية والأخلاق الاجتماعية: قسم مع الفطرة القديمة وقسم مع الأدب الجديد. بل أصبحت كل امرأة مجالًا لتعدد هذه الأقسام تميل مع هذا أو ذاك كلما مالت بها دواعيه.
فنحن إذ نقول: إن المرأة تطيع الغرائز الجنسية في التقلب والمراوغة وخيانة القرناء، لا نقول ذلك لنعذرها كل العذر، أو لنسقط عنها واجب التغلب على هذه الميول التي تغيرت وجهاتها مع الزمن، ولا تزال عرضة لكثير من التغير، فإن الأخلاق لم تُجعل لإبقاء الفطرة على عيوبها وإنما جُعلت لتهذيب تلك العيوب ورياضتها وشد أزر النفس بالمُثل الأدبية التي تعينها على عيوبها. ولكننا نقول ما نقول لنذكر أبدًا أن فهم الغرائز الجنسية ضروري لفهم الأخلاق التي تتصل بها، فلا فائدة من البحث في رياضتها بالأدب الاجتماعي، قبل البحث فيما يقابلها من أصول الفطرة التي تعم جميع الأحياء، وليس عمومها بين جميع الأحياء بمانع من إصلاحها بالرياضة والتقويم. بل هو الذي يسوغ ذلك الإصلاح ويوجبه ويبشر بفلاحه؛ لأن الإنسان قد علا فوق سائر الأحياء، فمن الواجب إذن — ومن المستطاع أيضًا — أن يعلو فوقها بالآداب والأخلاق.
ومن مفارقات العصور المتأخرة أن ينجم فيها طائفة من الدعاة وأصحاب الآراء يستخفون بالاحتجاز الجنسي الذي كان عصام المرأة من جماح الأهواء زمنًا طويلًا، ويستخفون معه بما عداه من الحواجز الجنسية المغروسة في طباع الأحياء؛ لأنها في رأيهم بقية لا ضرورة لها من بيئات المعيشة الحيوانية الأولى.
فعندهم مثلًا أن حرية المرأة في العصر الحديث تبيح لها ما حرم عليها في العصور القديمة، فلا يعيبها أن تبدأ الغزل للرجل وتلاحقه لتستولي عليه، كأنما كان تركيب الجسم الأصيل في الأنوثة والذكورة مسألة من مسائل الحريات التي يذهب بها نظام ويأتي نظام، ويبرمها قانون وينقضها قانون.
وعندهم أن الحيوانات لم تقتصر على موسم واحد في التناسل إلا لأنها تشبع من الطعام في هذا الموسم، فتمتلئ أجسادها بفيض من الثروة الحيوية يدعوها إلى طلب الذرية.
وليس أجهل بأسرار الحياة — وسر الجنس أكبر أسرار الحياة — ممن يقنع في تفسيرها وردها إلى أصولها بمثل هذا التعليل القريب، فإن هذا التعليل القريب لا يكفي على الأقل لتفسير الظاهرة التي أشار إليها أولئك الدعاة؛ إذ إن الثمرات النباتية تتوالد في الموسم بعينه، وهي الغذاء الذي تعتمد عليه آكلات العشب من الحيوان، ومتى زادت قوة التوالد في النبات فأحرى أن تزيد قوة التوالد في الأحياء لغير ذلك السبب الذي ذكروه وعلقوه بزيادة الثمرات.
ومن الحيوان ما يعتمد على اللحوم دون العشب ويأكل منها طوال العام، ومنها الأسماك التي لا مواسم عندها للنبات وهي مع هذا تُعرف لها مواسم للتناسل، وتخرج إلى الأنهار القصية قبل الأوان الملائم للقاح بين جراثيم الذكورة والأنوثة.
وقد تختلف الأوابد والدواجن في موسم التناسل، ولكنها على التعميم لا تقارب الأنثى بعد حملها، ولا تعبث بغريزة النوع للذة الأفراد، فالسر أعمق مما يظنون بكثير.
وحواجز الجنس ودوافعه لا تفسر كلها بأمثال ذلك التعليل الهزيل.
ومما لا شك فيه أن الأخلاق الجنسية كسائر الأخلاق، قوامها ضبط النفس وهو لا يوافق الذهاب مع الهوى حيثما تعرض المرء للاستهواء، ولا بد من ضبط النفس، والقدرة على الامتناع لتحقيق كل خُلق كريم يصلح للأفراد أو للأقوام أو للأنواع.
والإنسان أحوج إلى الحواجز الجنسية من الحيوان، وليس بأغنى منه عن تلك الحواجز تقدمًا مع الحرية كما يُخيَّل إلى أولئك الثراثرة السطحيين.
فالحيوان يتشابه ويتماثل ويصعب التفريق بين أفراده في الصفات المشتركة في سلالة النوع كله. فلا ضير على النوع أن يتلاقى أي ذكر بأي أنثى أو ينتجا أمثالهما من الذكور والإناث.
لكن الأنواع كلما ارتقت تعددت الصفات التي يكمل بها الفرد ذكرًا كان أو أنثى. ويبلغ تعدد الصفات أقصاه في النوع الإنساني، سواء بين الذكور أو بين الإناث، حتى ليكاد الفرق بين رجل ورجل، والفرق بين امرأة وامرأة يلحق بالفرق بين نقيضين أو مخلوقين من نوعين مختلفين.
فليس كل رجل بديلًا من كل رجل، وليست كل امرأة بديلًا من كل امرأة، ويجب على الرجل إذن أن يمتنع حتى تتاح له المرأة التي تلائمه، وعلى المرأة أن تمتنع حتى يتاح لها الرجل الذي يلائمها.
ويجب أن يتعلق الأمر ﺑ «الشخصية» المميزة لا بمجرد امرأة كائنة ما كانت أو بمجرد رجل كائنًا ما كان، كما يغني كل فرد عن مثيله في الأنواع الوضيعة بين الأحياء.
وفي هذه الحالة لا ينتفع النوع بكل اتصال تتحقق به المتعة الجنسية، بل ينفعه الاتصال الذي تتم به الشخصيات وتتوافر فيه أتم صفات الرجال وأتم صفات النساء.
ثم تنشأ الآداب الاجتماعية وحقوق الأسرة وأمانة النسل، فإذا هي قد ألزمت الرجال والنساء آدابًا من حقها أن تطاع، وأن يحسب لها أوفى حساب.
نعم إن هذه الآداب صناعية أو مبتدعة من أحكام البيئة التي خلقها الناس، ولكنها — كجميع الآداب والفروض — تستند إلى أساس فطري عريق في الطبيعة، وهو ضبط النفس، وقوة البنية على مقاومة النوازع والأهواء.
ونضرب لذلك مثلًا صغيرًا من المحرمات التي جاءت بها الآداب الدينية أو العرفية بعد ظهورها في المجتمعات الإنسانية، فإن تحريم القمار أو الخمر أو السرقة لم يُعرف في آداب الناس إلا بعد ظهور هذه الآفات، ولكن ضبط النفس الذي يُناط به الامتناع عنها، هو خلقة طبيعية لم تنشأ مع العرف أو الاصطلاح. فلا يزال الفرق بين إنسان يستطيع أن يمتنع عنها، وإنسان لا يستطيع الامتناع، فرقًا في صميم التكوين الذي لا ينشئه العرف، ولا يُنسب إلى الأوضاع الصناعية.
وكذلك الحواجز الجنسية التي يفرضها المجتمع، أو توجبها مصلحة الأسرة، هي حواجز لازمة، لا يقدح في أصالتها أنها حدثت بعد حدوث الحاجة إليها؛ لأن القدرة عليها فضيلة من فضائل التكوين الأصيل.
والرجل الذي يقدر عليها هو رجل ممتاز في خلقته الطبيعية كالمرأة التي تقدر عليها. وكلاهما زوج أصلح من غيره للبقاء وإنجاب الأبناء.
فأسخف السخف أن يظن بالحضارة المدنية أنها رخصة تبيح التهافت على المتعة ونسيان الحواجز الجنسية؛ لأن التهافت نقص في الخلقة قبل أن يكون نقصًا في الآداب الاجتماعية، وهذا النقص معيب وخيم العقبى، وإن لم تحرمه الآداب.
وسيطول التبديل والتعديل في العرف والتشريع والشمائل المحبوبة بين الناس كلما تطاولت الأجيال، وسيقول كل ذي رأي قوله الذي يجوز فيه الجدال، ويبقى حكم واحد لا تبديل له، وقول واحد لا يجوز الجدال فيه، وهو أن الاحتجاز قوام أخلاق الأنوثة، وأن المرأة التي تنساه هي حيوان ناقص في تكوينه، وليس قصارى القول فيها إنها فرد مقصر في حقوق المجتمع والأسرة. وإن مِساك الأخلاق جميعًا — ما أوجبته الفطرة وما أوجبه المجتمع — هو ضبط النفس، والترفع عن مطاوعة كل عارضة من عوارض الأهواء.
هي أبدًا بين نقيضين في أمومتها وفي حبها، وذلك هو التناقض الذي لا حيلة لها فيه، ولا يفجأ الرجال منها إلا كما يفجؤها هي على غير ما تنتظر، وعلى غير ما يقع لها في تدبير.
فمن الخطأ أن يَرِد على الخاطر أن التناقض من دهاء المرأة وتدبيرها، أو من ختلها وخداعها، فهي مخدوعة به قبل أن تخدع سواها، وهي في قبضته فريسة لا تملك ما تريد.
ولا بد من التناقض في طبع الأنثى؛ لأنها شخصية حية خاضعة للمؤثرات التي تتناوبها من عدة جهات، وهي كما أسلفنا في الفصل السابق مستجيبة للأثر الحاضر، وقد تبدهها الآثار الحاضرة من كل صوب، لا من صوب واحد.
والمرأة من جهة ثانية عضو في بيئة اجتماعية هي الأمة أو المدينة أو القبيلة، فهي هنا زوجة أو بنت أو أخت أو صاحبة عمل تجمعها بتلك البيئة الاجتماعية صلة العرف أو الشريعة.
والمرأة من جهة غير هذه وتلك أنثى، لها تركيب حيوي يربطها بمخلوق آخر لا يتم وجودها بغيره.
والمرأة من جهة أخرى أمٌّ تحب أبناءها بالغريزة والألفة، وتصبر في سبيلهم على مشقات وآلام يؤدُّها الصبر عليها في غير هذه السبيل.
وهي بعد هذا كله كائن حي من حيث هي وليدة الحياة في جملتها، أيًّا كان النوع الذي تنتمي إليه، والأمة التي تعيش بينها، والعلاقة التي تجمعها بالزوج أو العاشق أو الأهل أو البنين.
وقد تختلف عليها هذه الوجهات جميعًا فلا مفرَّ لها من التناقض معها؛ لأن مقاصد الفرد المستقل، والأنثى المفتونة، والأم التي تنسى نفسها في حنانها، والكائن الاجتماعي الذي يرعى مطالب العرف والشريعة، أو الكائن الحي الذي تهزه الحياة بهذه النوازع كما تهزه بما عداها — كل أولئك يختلف ويتناقض لا محالة، ولا يتأتى التوفيق بينه إلا في الندرة العارضة.
فهاهنا مثلًا فرد يريد بفطرته الفردية أن يستقل عن جميع الأفراد الآخرين، سواء كانوا من الآباء أو الأمهات أو الأزواج فلا يلبث أن يستقر فيه هذا الشعور الطبيعي حتى ينازعه فيه شعور الأنثى التي تريد أن تنضوي إلى رجل تهواه، وقد ينازعها شعوران بل أكثر من شعورين، إذا تعددت الصفات التي تستهويها من الرجال وتفرقت بينهم على نحو يضلل الإرادة ويشتت الأهواء.
ولا تلبث أن تنسى استقلالها الفردي، وتطاوع نزعتها الأنثوية، حتى يبرز لها المجتمع بحكم يخالف حكمها في الاختيار والترجيح، فيقودها إلى الجاه والمال وهي تنقاد إلى الفتوة والجمال، أو يلزمها الوفاء للزوج وهي تنظر إلى رجل آخر، نظرة الأنثى التي سبقت بفطرتها قوانين الأمم وقواعد الآداب، ولا تلبث أن تحتال على هذه البواعث أو هذه الوساوس حتى يغلبها حنو الأمومة ليربطها بمكان لا تود البقاء فيه، أو ينهض الكائن الحي في نفسها نهضة لا تطيع باعثًا غير بواعث الحياة، بمعزل من نزوة الأنثى وقانون المجتمع وغرائز الأمهات.
فلا عجب في هذا التناقض ولا مباينة فيه للمعقول، ثم يضاف إليه تناقض آخر يرجع إلى تعدد الدواعي في كل صفة من الصفات التي أشرنا إليها.
ونكتفي بصفة واحدة على سبيل التمثيل؛ لأن شرح الصفات جميعها في تعددها وتباينها من وراء الحصر والإحصاء.
فالمرأة في صفة الأنوثة — وهي تنضوي إلى الذكورة — تحب الرجل الكريم؛ لأنه يغمرها بالنعمة، ويريحها من شدائد العيش، ويخصها بالزينة التي تزهيها وتُرضي كبرياءها بين نظيراتها، فضلًا عما في الكرم من معنى العظمة والاقتدار.
ولكنك قد ترى هذه المرأة بعينها تتعلق ببخيل لا ينفق ماله على زينة أو متاع. فهل هي مناقضة لطبيعتها في هذا الانحراف العجيب؟ كلا بل هي لا تناقض طبيعة الكبرياء نفسها التي ترضيها عن كرم الكريم.
لأن المرأة يجرح كبرياءها أن ترى رجلًا يستكثر المال في سبيل مرضاتها، ومتى جُرحت المرأة في كبريائها أقبلت باهتمامها وحيلتها وغوايتها من حيث أصابها ذلك الجرح المثير، وليس أقرب من تحول الاهتمام إلى التعلق في طبائع النساء.
فالنزعة الواحدة قد تكون سبيلًا إلى النقيضين في ظاهر الأعمال، ولكنهما نقيضان لا يلبثان أن يتفقا ويتوحدا عند المنبع الأصيل متى عرفنا كيف تنتهي الردة إليه.
وكلما ذكرت نقائض المرأة وجب ألا ننسى مصدرًا آخر للتناقض في أخلاق النساء يُفسِّر لنا كثيرًا من نقائضهن، حيثما توقعنا شيئًا من المرأة وأسفرت التجربة عن سواه.
ذلك المصدر هو درجات الأنوثة وأطوارها بين الظهور والضمور.
فالأنوثة صفات كثيرة لا تجتمع في كل امرأة، ولا تتوزع على نحو واحد في جميع النساء.
فليست كل امرأة أنثى من فرع رأسها إلى أخمص قدمها، أو أنثى مائة في المائة كما يقول الأوروبيون، بل ربما كانت فيها نوازع الأنوثة ونوازع غيرها إلى الذكورة، وربما كانت أنوثتها رهنًا بقوة الرجل الذي يظهرها فلا تتشابه مع جميع الرجال. وربما كانت في بعض عوارضها الشهرية وما شابهها من عوارض الحمل والولادة أقرب إلى الأنوثة الغالبة، أو أقرب إلى الذكورة الغالبة، وقد كانوا فيما مضى يحسبون هذا التراوح بين الذكورة والأنوثة ضربًا من كلام المجاز، فأصبح اليوم حقيقة علمية من حقائق الخلايا، وفصلًا مدروسًا من فصول علم الأجنة ووظائف الأعضاء.
وليس التناقض لهذا السبب مقصورًا على النساء دون الرجال، فإن الرجل أيضًا يصدق عليه ما يصدق على المرأة من تفاوت درجات الرجولة؛ إذ ليس كل رجل ذكرًا من فرع رأسه إلى أخمص قدمه، أو ذكرًا مائة في المائة كما يُقال في اصطلاح الأوربيين، ولكن التناقض لهذا السبب يبدو في المرأة أغرب وأكثر، لامتزاجه بأسباب التناقض الأخرى ومحاولة الرجل أن يفهمها على استقامة المنطق كدأبه في تفهم جميع الأمور.
ولا ريب أن «الشخصية الإنسانية» في حال الذكورة والأنوثة عرضة لكثير من النقائض المحيرة للعقول: عقول الرجال وعقول النساء.
وكم يقول النساء عن تناقض الرجال ولا يخطئن المقال؟ كم يقلن: إن الرجل «كالبحر المالح» لا يُعرف له صفاء من هياج؟ وكم يقلن: إن فلانًا كشهر أمشير لا تدري متى تهب فيه الأعاصير؟ وكم تقول إحداهن للأخرى: حبيبك في ليلك عقرب في ذيلك؟ وكم لهن من أمثال هذه الأمثال مما لا يحفل به الرجال؟!
إنهن لا يعنين بمقاربة الرجل من طريق الفهم كما يعنين بمقاربته من طريق التأثير، ولو حاولن فهمه كما يحاولن التأثير فيه، لخرجن به لغزًا من الألغاز وأعجوبة من أعاجيب البحار في قديم الأسفار، «فالشخصية» كلمة واحدة في اللغة، ولكننا نخطئ أبعد الخطأ إذا تصورناها شيئًا واحدًا؛ لأنها تنطوي تحت عنوان واحد؛ إذ هي أشياء لا تُحصى من الغرائز والمدارك والأحاسيس وعلاقات المجاوبة بينها وبين العالم الذي تعيش فيه، وهي بهذا الخليط الواسع في حركة دائمة لا تستقر على وجهة واحدة برهة من الزمن، ولا تعهدها في الصحة ولا في الشباب كما تعهدها في المرض أو في الهرم، ولا تصدر فيها النزعة الواحدة من مصدر واحد في جميع الأوقات والأحوال.
فهي تختلف بين حالة وحالة، وتختلف بين سن وسن، وتختلف على حسب العلاقة بينها وبين هذا الإنسان وذاك الإنسان، وتختلف على حسب العلل والبواعث التي تحركها إلى الأعمال.
والمرأة كالرجل «شخصية إنسانية» تتعرض للتناقض من جراء هذا التعدد وهذا التقلب في عناصر كل «شخصية» تحمل عنوانًا واحدًا، وتشتمل على شتى العناصر التي لا يقر لها قرار.
ولكنها انفردت بأسبابها المقصورة عليها، وانفردت بمراقبة الرجل إياها، ومحاولة التوفيق بين غرائبها وبدواتها.
وعندها في صميم هذه الأسباب المقصورة عليها حالتان تضاعفان ظهور التناقض فلا يخفى كما يخفى تناقض الرجل على النظرة الأولى.
إحدى هاتين الحالتين طبيعة المراوغة التي وصفن بها إذ «يتمنعن وهنَّ الراغبات».
والأخرى طبيعة الاستغراق في الساعة التي هي فيها، ونسيان ما قبلها وما بعدها، فيبلغ العجب أشده بمن يراقبها أن يراها تنتقل بين أطوارها، كما ينتقل الممثل بين أدواره ولا يخلط بينها أو لا يستبقي من سوابقها بقية في تواليها.
فمن المشاهد أن الرجل إذا قضى يومًا أو أسبوعًا في مناداة اسم من الأسماء — ولا سيما نداء المناجاة — أخطأ فسبق به لسانه في جلسة أخرى لا يود أن يذكره فيها، بل لعله يود أن يكتمه ولا يومئ إليه.
وقلما يُشاهد هذا في محادثات المرأة، ولو تلاحقت بين ساعة وساعة؛ لأن الساعة التي هي فيها تستولي عليها فلا يزل لسانها بالإشارة إلى غيرها، ولأنها تستعين هنا بطبيعتين أصيلتين فيها، وهما طبيعة النفاق وطبيعة الاستغراق.
ولم يزل التناقض بابًا من أبواب الحيرة واختلال الحساب، ولكن التناقض الذي يفهم سببه يريح من الحيرة على الأقل عند البحث عنه والتفكير فيه، وإن لم تكن به راحة من معاناة النقائض وابتلاء متاعبها، ولا عتب في معظمها على المرأة؛ لأنها لا تقصدها كلما لجأت إليها، وقد تكون هي ضحية من ضحاياها.