العولمة الرشيدة
كيف يمكن تطبيق المبادئ المقترحة في الفصل السابق عمليًّا؟ هل من الممكن وضع قواعد معقولة لدعم هذه المبادئ وفي الوقت نفسه منع الانزلاق إلى فوضى اقتصادية دولية؟ وكيف ستواجه هذه القواعد نوع التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن؟
يقدم هذا الفصل الأخير عددًا من الإجابات من خلال التركيز على أربعة مجالات رئيسية تكثر فيها التحديات. سأبدأ أولًا بتطبيق المبادئ التي اقترحتُها على نظام التجارة العالمي، وأبيِّن كيف تستلزم هذه المبادئ وضع قواعد تختلف كثيرًا عن تلك التي كان يسعى إليها المفاوضون التجاريون خلال السنوات الأخيرة. بعد ذلك، سأتحوَّل إلى التمويل العالمي وأقترح نهجًا من شأنه أن يسمح لمختلِف القوانين الوطنية أن تتعايش جنبًا إلى جنب من دون أن يقوض بعضها بعضًا. والموضوع الثالث الذي سأتناوله هو هجرة العمال، لكونها ظاهرة لم يمنحها هذا الكتاب حظًّا وافرًا من النقاش، لكنها قد تحقق مكاسب كبيرة إذا ما أديرت على النحو الصحيح. وأخيرًا، سأتناول سؤالًا قد يسبب أشد صداع للاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة مباشرة، وهو: كيف يمكن استيعاب الصين في الاقتصاد العالمي؟
(١) إصلاح نظام التجارة الدولية
إن الاستراتيجية التجارية التي نطبقها حاليًّا، والتي ترتكز إلى الاتفاقات التجارية الرامية إلى فتح الأسواق، تهدر كثيرًا من رأس المال السياسي والتفاوضي مقابل مكاسب اقتصادية هزيلة. والأسوأ من ذلك أنها تغفل العيب الرئيسي في النظام، الذي يتمثل في عدم وجود دعم واسع النطاق من جانب الناس العاديين.
فالتحدي الذي نواجهه اليوم يتمثل في جعْل الانفتاح الموجود حاليًّا مستدامًا ومتماشيًا مع أهداف اجتماعية أعم. وهذا يتطلب تحوُّلًا حاسمًا في نوعية المسائل التي تركز عليها المفاوضات المتعددة الأطراف. فعندما يلتقي وزراء التجارة، ينبغي أن يتحدثوا عن توسيع مجال المناورة المتاح لكل دولة، لا عن تضييقه أكثر من خلال تخفيض التعريفات الجمركية والدعم الحكومي. وينبغي لهم أن يوفروا المجال المحلي الضروري لحماية البرامج الاجتماعية والقوانين، وللتأكيد على العقد الاجتماعي داخل كل دولة، ولتمكينها من تطبيق ما ترتئيه من سياسات تنموية. وينبغي أن تكون مساوماتهم حول توفير متسع يتيح لكل دولة تنفيذ السياسة التي ترغبها، لا حول ضمان الوصول إلى الأسواق. هذا التغير في المواقف سيعود بالفائدة على كلٍّ من الدول الغنية والفقيرة معًا؛ فتوسيع الحيز السياسي لكل دولة كي تحقق أهدافها المحلية ليس إلغاءً للنظام التجاري المفتوح المتعدد الأطراف، وإنما شرط ضروري لتحقيقه.
يجب خوض قضية الدفاع عن الانفتاح الاقتصادي وكسبها في الداخل؛ وذلك لأن أي نظام تجاري مستدام لا يعتمد في الأساس على قيود خارجية بل على الدعم السياسي المحلي. والإجراء المراد تطبيقه سيفرض إجراء نقاش عام أعمق وذي تمثيل أكبر بشأن مشروعية قوانين التجارة، وبشأن الظروف التي يكون من الأنسب فيها تعليق العمل بهذه القوانين. والنقاش الواعي على المستوى القومي هو أكثر الضمانات الموثوقة التي يعتمد عليها لمكافحة سوء استغلال اختيار عدم القبول. أما الشرط الذي يقتضي أن تشارك في هذه المداولات الفئات التي سيتأثر دخلها سلبًا بقرار اختيار عدم القبول — المستوردون والمصدرون — وأن توازن العملية المحلية بين المصالح المتضاربة على نحوٍ شفاف، فسيعمل على تقليل خطورة اتخاذ تدابير حماية تصب في مصلحة قطاع محدود من الصناعة وتجشم المجتمع تكلفة باهظة. هذا يشبه صمام أمان يوفر متنفسًا للاعتراض غير المغرض والمستند إلى المبادئ على سيادة التجارة الحرة على الأسواق؛ الأمر الذي يسهل كتم بخار الحمائية.
ومد نطاق الضمانات الوقائية بحيث تغطي معايير العمل والبيئة وسلامة المستهلك، أو الأولويات التنموية المحلية — في وجود محددات إجرائية مناسبة تمنع سوء استغلالها — من شأنه أن يزيد مشروعية النظام التجاري العالمي ومرونته ويجعله أكثر دعمًا للتنمية. وهذا نموذج حي للمبدأ القائل إن البلدان من حقها اعتماد ما يخصها من معايير وطنية إذا كانت التجارة تقوض ممارسات محلية تحظى بتأييد شعبي واسع، وذلك بأن تمنع الوصول إلى أسواقها أو تعلق التزاماتها تجاه منظمة التجارة العالمية إذا لزم الأمر. تستطيع الدول المتقدمة أن توفر الحماية المؤقتة من واردات بلدان يضعف إنفاذ حقوق العمال فيها إذا كانت هذه الواردات تؤدي إلى تدهور ظروف العمل في الداخل. ويمكن السماح للدول الفقيرة بدعم الأنشطة الصناعية (وعلى نحوٍ غير مباشر، صادراتها أيضًا) إذا كان هذا الدعم جزءًا من استراتيجية تنموية تحظى بتأييد واسع وتستهدف حفز الإمكانات التكنولوجية.
الضمانات الوقائية القائمة حاليًّا توجب تطبيق مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، ولا تسمح إلا بتطبيق ضمانات مؤقتة، وتفرض على الدول التي تطبق الضمانات الوقائية دفع تعويض. وهذه أمور ينبغي إعادة النظر فيها في سياق التدبير الأشمل الذي اقترحته من قبل. إن بند معاملة الدولة الأولى بالرعاية لن يشكل فائدة في أغلب الأحيان. وإذا كانت الضمانة الوقائية مجرد رد فعل إزاء سوء استغلال العمال في دولةٍ ما، فمن المناسب توجيه هذا التدبير بحيث لا يستهدف سوى واردات تلك الدولة تحديدًا. وقياسًا على ذلك، يستمر سريان الضمانة الوقائية ما دام سوء الاستغلال مستمرًّا. وبدلًا من فرض تخفيف مؤقت، سيكون من الأفضل طلب استعراض دوري عن الحالة، أو يمكن إدراج بند انقضاء موقوت مسموح بإبطاله إذا استمرت المشكلة. بهذه الطريقة، ستقل احتمالية تحوُّل القيود أو القوانين التجارية التي تعرقل مصالح الدول الأخرى إلى عقبة كئود.
مسألة التعويض أكثر تعقيدًا؛ فالمنطق يقول إنه عندما تطبق دولة ما ضمانة وقائية فإنها بذلك تسحب «امتيازًا تجاريًّا» كانت قد منحته سابقًا لدول أخرى ضمن اتفاق ملزم دوليًّا. تلك الدول الأخرى من حقها الحصول على امتياز مكافئ أو سحب أيٍّ من امتيازاتها ردًّا على ذلك. وفي عالم نشط يكاد لا يتوقف عن التغير، لا يمكن التنبؤ بدقةٍ بما ستئول إليه طبيعة الامتيازات التي منحتها دولةٌ ما لغيرها من الدول. وعدم اليقين هذا يُحَول الاتفاقات التجارية الدولية إلى «اتفاقات غير كاملة». فحينما تعمل تطورات غير متوقعة على تغيير قيمة التدفقات التجارية أو تكلفتها — بسبب مستجدات تكنولوجية في مجال الهندسة الوراثية مثلًا، أو ظهور قيم جديدة بشأن البيئة، أو فهم جديد بشأن الاستراتيجية التنموية المرغوبة — فمن الذي يملك الحقوق على تلك التدفقات؟ إن شرط التعويض يجعل تلك الحقوق تتماشى تمامًا مع النظام التجاري الدولي؛ بحيث يستطيع المصدِّر أن يستمر في مطالبته بالوصول إلى السوق وفقًا للشروط الأصلية. لكننا نستطيع أن نجادل بالدرجة نفسها من المشروعية بأن قيمة التنازلات الأصلية مرهونة بالظروف المبدئية التي مُنحت في ظلها. وبموجب هذا التفسير، لا يستطيع المصدِّر أن يطالب بمنفعة لم يكن لها وجود ولا يضطر المستورد إلى معاناة خسارة لم يكن يحسب لها حسابًا حينما وقَّعا الاتفاق. وهذا سيزيد حقوق السيطرة التي تملكها الدول القومية وسيقلص بشدة مقدار التعويض الذي يتوقع المصدرون الحصول عليه.
تخضع الأنظمة الاستبدادية لمتطلبات موضوعية إضافية عندما تلجأ إلى خيار عدم القبول. وربما تحتاج هذه البلدان إلى تقديم مبررات اجتماعية أو تنموية مباشرة لتبرير رغبتها في تطبيق التدابير الوقائية. وقد تحتاج إلى أن تثبت أن الضمانة المنشودة ستحقق بالفعل غرضًا شعبيًّا محددًا.
من المرجح أن تكون الأنظمة الاستبدادية هدفًا أسهل لاتخاذ التدابير الوقائية ضدها من جانب الدول الديمقراطية إذا كانت صادراتها تسبب مشكلات في تلك الدول. وعلى الرغم من إمكانية تبرير هذه الدول بعض ممارساتها في مجال العمل، سيكون من الصعب تبرير ممارسات أخرى. فمثلًا، قلة الحد الأدنى للأجور بقدرٍ كبير عن نظيره في البلدان الغنية يمكن تبريرها في النقاش المحلي بانخفاض إنتاجية العمال ومستويات المعيشة داخل الدولة. وقوانين عمالة الأطفال المتساهلة غالبًا ما يجري تبريرها بحجة أنه من غير المجدي أو المرغوب سحب العمال الصغار من قوة العمل في البلاد في ظل انتشار الفقر. لكن في حالات أخرى، قد يقل وزن هذه الحجج؛ إذ ثَمَّةَ حقوق أساسية للعمال — مثل الحرية وعدم التمييز وحرية تكوين النقابات والمفاوضات الجماعية وحظر العمل القسري — لا تكلف الدول شيئًا. والالتزام بهذه الحقوق لا يضر التنمية الاقتصادية بل يمكن أن ينفعها نفعًا كبيرًا. وهكذا فإن الانتهاكات الجسيمة تشكل استغلالًا للعمال، وتفتح الباب لاتخاذ دول مستوردة ضمانات وقائية منطلقة من أن هذه الانتهاكات تولد لديها تكاليف توزيعية غير عادلة.
وتعميم اتفاق التدابير الوقائية على هذا الشكل له مخاطره؛ فالنقاد سيتخوفون من أن يؤديَ تقلص نطاق التعويض إلى انخفاض قيمة الاتفاقات التجارية، وسيُبدون قلقهم من أن تضعنا الإجراءات الجديدة على «منحدر زلق» يودي بنا إلى الحمائية. لكن ينبغي طمأنة مثل هذه الهواجس بالنظر إلى أن الانتهاكات التي تحدث في ظل القوانين الحالية لا تُحدث ضررًا بالغًا للنظام. والآليات التي صُممت لتسهيل الحواجز الحمائية على نحوٍ صريح، مثل قوانين مكافحة الإغراق الموجودة في اتفاقية الجات، لم تدمر النظام التجاري المتعدد الأطراف بعد، وما من سبب واضح يجعلنا نتوقع أن تسبب بنود الانسحاب المصممة تصميمًا جيدًا عواقب أسوأ من ذلك.
وقلة مرونة القوانين لا تجعلها بالضرورة قوانين أفضل، بل تزيد الخطر المتمثل في أن تجد الحكومات نفسها مكتوفة الأيدي في ظروف تقتضي تدخُّلها؛ ومن ثَمَّ، فإنها قد تقلل، ولا تزيد، من قيمة الاتفاقات التجارية وتضعف الحافز الذي يشجع الحكومات على التوقيع عليها.
تصور ما يمكن أن يحدث إذا ظللنا على مسارنا الحالي. إن «جولة الدوحة» للمفاوضات التجارية — التي لا يزال مسئولو التجارة العالمية الرسميون منشغلين بها — تركز على تقليل ما تبقى من حواجز على الحدود، لا سيما في مجال الزراعة. انطلقت هذه الجولة عام ٢٠٠١، وشهدت الانهيار تلو الآخر. وبالرغم من كل الهرج والمرج الذي يصاحب هذه المفاوضات، يستطيع المرء أن يؤكد — وهو مطمئن — أن المكاسب المأمولة من وراء اكتمال جولة الدوحة بنجاح هزيلة للغاية، بل أكثر هزالًا من نسبة ثلث الواحد في المائة من الدخل العالمي التي سيجلبها التحرير الكامل في حال تنفيذه.
وإذا نظرنا إلى هذا الأمر ككلٍّ، فسنجد أن مفاوضات الدوحة ليست سوى زوبعة في فنجان؛ فبعد أن شهدنا درجة التقدم التي أحرزتها اقتصادات شرق آسيا المتوجهة نحو التصدير خلال العقود الأخيرة، وفي ظل ما كانت تفرضه من حواجز أكثر ارتفاعًا من الحواجز الموجودة حاليًّا، ما من خبير اقتصاد ذي شأن (أو أي شخص آخر) سيقول إن القيود الحالية على الوصول إلى الأسواق تحدد فرص نمو البلدان الفقيرة بدرجة تُذكر؛ ولهذا، يمكن أن نقول إن افتقار مفاوضات الدوحة للزخم السياسي يُعزى جزئيًّا إلى ضعف احتمال تمخُّض هذه المفاوضات عن مكاسب اقتصادية مهمة.
صحيح أن الحدود القومية «تفرض بالفعل» تكاليف معاملات كبيرة على التجارة. لكن هذه التكاليف لا تنبع من حمائية بقدر ما تنبع من وجود اختلافات في المعايير والعملات والنظم القانونية، والشبكات الاجتماعية … إلخ؛ ومن ثَمَّ فإن اعتصار المكاسب الكبيرة من نظام التجارة العالمية يتطلب جراحة مؤسسية موسعة، تتجاوز التحرير التقليدي للتجارة بحيث تصل إلى ما وراء الحدود كي توائم بين مختلِف البلدان في المعايير والقوانين. لكن هذه المكاسب ستكون سريعة الزوال للغاية؛ لأنها ستأتي من خلال التضحية بفوائد التنوع المؤسسي والحيز السياسي الذي يتيح حرية التصرف. ومثل هذه الاستراتيجية يُشَكُّ في جدارتها؛ وفي الواقع لم تعد تثير شهية تُذكر — لأسباب معقولة — بعد خيبات الأمل التي سببتها جولة المفاوضات التجارية الأخيرة التي أطلقتها الجات (جولة أوروجواي).
تشير المشكلات التي واجهتها «جولة الدوحة» إلى المأزق الذي وجد النظام التجاري نفسه فيه. وتشكل مثالًا على المشكلات الناجمة عن الاستراتيجية السائدة التي تتسم بضعف العائد وارتفاع التكاليف، التي تجعل اقتصاد العالم حائرًا بين خيارَين أحلاهما مُر؛ فأحد الاحتمالين أن يعمل الضغط الشعبي على إجبار الحكومات على اللجوء إلى الحمائية الأحادية الجانب والخروج على القوانين الحالية؛ الأمر الذي سيبعث على اتخاذ خطوات ثأرية من جانب الأطراف الأخرى، وستخشى الدول التوقيع على الاتفاقات التجارية الكبيرة مخافة أن تؤديَ الالتزامات التي تفرضها عليها هذه الاتفاقات إلى تقليص حيزها السياسي بدرجة كبيرة، وسيتآكل التعاون الدولي شيئًا فشيئًا. والاحتمال الآخر أن تسود في نهاية المطاف روح «التكامل العميق» وتوقِّع الحكومات على اتفاقات تجارية أكثر تقييدًا؛ وحينئذٍ سينكمش مجال التنوع المؤسسي وستتضرر مشروعية النظام التجاري وفرص التنمية الاقتصادية أيضًا.
في كلتا الحالتين، يشكل نهج «بقاء الأمور على حالها» تهديدًا لصحة العولمة يفوق تهديده للإصلاحات التي وضحتها هنا. قد يبدو أن هذا الأمر ينطوي على مفارقة، لكنه ليس كذلك؛ فإعادة تمكين الديمقراطيات القومية مطلب أساسي لانفتاح الاقتصاد العالمي، لا عقبة في طريقه.
(٢) تنظيم التمويل العالمي
لقد بيَّنتْ أزمة الرهن العقاري بكل وضوحٍ أوجه القصور في النهج السائد للتنظيم، سواءٌ على المستوى القومي أو الدولي؛ فقد سمحت الثغرات الموجودة في القوانين لكيانات مالية أن تخوض مجازفات لم تكن تُعرضها وحدها للخطر بل تعرض المجتمع ككلٍّ. أثار هذا الانهيار موجة محمومة من الجهود الرامية إلى تحسين صرامة قوانين النظام المالي وإحكامها. وتشمل التدابير المقترحة تشديد معايير كفاية رأس المال والقيود المفروضة على الاستدانة، وتحديد رواتب المسئولين التنفيذيين، وفرض قوانين تسهل إغلاق البنوك، وشروط إفصاح أشمل، ورقابة تنظيمية أكبر، وقيودًا على حجم البنوك.
يرى أنصار الحوكمة العالمية أن التعاون الدولي لم يحقق سوى إنجازات قليلة منذ وقوع الأزمة، أقل بكثير من أن تشكل تحولًا حقيقيًّا للسلطة بعيدًا عن صُناع السياسة المحليين؛ إذ لا يزال واضع القوانين العالمي، مثلًا، أو البنك المركزي العالمي ضربًا من الخيال. والتغيرات التي طرأت طفيفة وتجميلية إلى حدٍّ ما، أبرزها، أن «مجموعة البلدان السبعة» — جمعية البلدان الغنية التي تمثل منتدًى للحوار حول الاقتصاد العالمي — حلت محلها «مجموعة العشرين» التي تضم إلى جانب الدول السبع دولًا أخرى من كبريات الدول النامية، وأن صندوق النقد الدولي نال موارد مالية إضافية، وأن «مجلس تحقيق الاستقرار المالي» (المنتدى سابقًا) — وهو تجمع يضم مسئولين وبنوكًا مركزية من ٢٠ دولة — صار يضطلع بمسئوليات رقابية جديدة، وأن «لجنة بازل للرقابة المصرفية» صارت تعتمد على مجموعة مبادئ عالمية جديدة لتنظيم البنوك، هي الثالثة لها خلال أجَلٍ يتجاوز العقدين بالكاد.
يجب ألا ننظر إلى هذه الاختلافات على أنها خروج على قاعدة التنسيق الدولي، وإنما على أنها عواقب طبيعية لتباين الظروف المحلية؛ ففي عالم تختلف فيه المصالح الوطنية — المتصوَّرة أو الحقيقية — قد يضر السعي إلى توحيد القوانين أكثر مما ينفع. وحتى حينما تنجح بعض الحالات، فإنها تنتج إما اتفاقات ضعيفة قائمة على أدنى قاسم مشترك، أو معايير أكثر صرامة قد لا تكون ملائمة للجميع. الأفضل كثيرًا أن ندرك هذه الاختلافات بدلًا من أن نفترض أنها يمكن أن تُسوى بمرور الوقت الكافي، وبالتفاوض، والضغط السياسي.
والمبدأ الذي ينبغي أن نطبقه هنا هو نفسه الذي ينبغي أن نطبقه في حالة سلامة المستهلك. فإذا أرادت دولة أخرى أن تصدِّر لنا لعب أطفال، فعليها أن تتأكد من أن هذه اللعب تستوفي معيارنا المتعلق باحتوائها على مادة الرصاص، وغيره من معايير السلامة. وبالمثل، حينما تمارس شركة مالية عملًا تجاريًّا داخل اقتصادنا، فعليها أن تلتزم قوانينا المالية، بصرف النظر عن مقر هذه الشركة الأصلي وجنسيتها. وذلك يعني أنها يجب أن تخضع لما تخضع له شركاتنا المحلية من حيث مستويات احتياطي رأس المال التي ينبغي أن تحتفظ بها، وشروط الإفصاح، وقواعد ممارسة التجارة. إنه مبدأ بسيط يقول: إذا كنت تريد أن تشاركنا اللعب، فعليك أن تلعب وفقًا لقواعدنا.
خذ مثلًا مسألة متطلبات رأس المال؛ حيث تريد الولايات المتحدة فرض قواعد أكثر صرامة من تلك التي يريدها الأوروبيون. هنا يمكن تطبيق ما اقترحه جونسون؛ فإذا لم ترفع دول أخرى ما تفرضه من متطلبات رأس المال، فلا ينبغي السماح لبنوكها بأن تدخل السوق الأمريكية أو تمارس أعمالًا تجارية مع البنوك الأمريكية إلا إذا كان لدى تلك البنوك دعائم إضافية من احتياطيات رأس المال. وينبغي أن تتعرض البنوك الأمريكية ومسئولوها للعقوبة الجنائية إذا انتهكوا هذه القوانين. يعتقد جونسون أن هذا النهج سيجعل الأوروبيين يركعون ويجبرهم على الالتزام بالمعايير الأمريكية الصارمة كي يتمكَّنوا من دخول أكبر أسواق العالم وأكثرها تطورًا.
وما يسري على الولايات المتحدة يسري على الدول الأخرى أيضًا. قد لا تكون هذه الدول قادرة دومًا على إجبار الآخرين على تقليدها، لكن إذا أرادت شكلًا محددًا من القوانين فينبغي أن تشعر بأنها حرة في أن تمرره، حتى إذا كان ذلك يعني فرض قيود على التمويل الدولي. وهذا يشبه الحال في مجال التجارة، حيث ينبغي لأي نظام عالمي صحي أن يتيح مجالًا للتنوع الوطني في المعايير.
لهذا السبب، تُصاحب الالتزام بالتنوع التنظيمي نتيجةٌ طبيعية في غاية الأهمية تتمثل في الحاجة إلى فرض قيود على التمويل العالمي؛ فقواعد اللعبة يجب أن تسمح بفرض قيود على التمويل الدولي تصمَّم لإبطال تأثير المراجحة التنظيمية وحماية القوانين الوطنية. ينبغي أن تملك الحكومات القدرة على منع دخول البنوك والتدفقات المالية، لا بغرض فرض الحماية المالية بل للحيلولة دون فقْد القوانين الوطنية قيمتها. لكن أيًّا من حكومات الدول الكبرى لم تعترف بهذه الحاجة صراحة حتى الآن، ومع ذلك، من دون هذه القيود سيكون نفوذ القوانين الوطنية محدودًا، وستصبح فرص الشركات الوطنية ضئيلة في التنافس مع الخدمات المالية التي تصدرها الأماكن ذات القوانين المتساهلة. وسيظل الاقتصاد الوطني رهينة المخاطر الناجمة عن هذه الصفقات.
بطبيعة الحال، ستكون مجموعات الدول ذات التفكير المماثل التي ترغب في تكامل مالي أعمق حرةً في أن توائم بين قوانينها، شريطة ألا تستخدم هذا غطاءً للحماية المالية. أتصور أن تتخذ أوروبا هذا المسار وتختار مشرعًا مشتركًا. وربما تؤسس دول شرق آسيا وجنوبها الشرقي منطقة إقليمية عميقة التكامل بصندوق نقد آسيوي.
أما بقية دول العالم فستُضطر إلى أن تعيش في ظل قدرٍ ما من التجزؤ المالي، الذي يشكل جزءًا حتميًّا من التنوع التنظيمي. هذا ما ينبغي أن تكون عليه الحال؛ ففي هذا العالم المتنوع الذي تتجزأ فيه السيادة، ينبغي أن يكون احتمال تعميق العولمة المالية هو ما يقض مضجعنا.
(٣) جنْي ثمار تدفق الأيدي العاملة على نطاق عالمي
تنشأ المشكلات في مجالَي التجارة والتمويل الدوليَّين من زيادة العولمة عن الحد، وعدم إدارتها على النحو الصائب. على النقيض من ذلك، ثَمَّةَ جزء كبير من الاقتصاد العالمي لم تطله العولمة بما فيه الكفاية. فزيادة الانفتاح الاقتصادي في أسواق العمل العالمية يمكن أن يعود بفوائد جمة، لا سيما على فقراء العالم. وتخفيف القيود ولو بقدر ضئيل في الدول المتقدمة على استخدام العمال الأجانب يمكن أن يُحدث تأثيرًا كبيرًا على الدخول على المستوى العالمي. في الواقع، سيعود ذلك بمكاسب تفوق مكاسب أي اقتراح آخر مطروح حاليًّا، بما في ذلك المجموعة الكاملة من التدابير التجارية التي يُنظر فيها ضمن إطار جولة الدوحة للمفاوضات! إن أسواق العمل تشكل الجانب الذي لم يُستغل من العولمة.
وقد يبدو من المستغرب أن أقول إن أسواق العمل ليست مُعولمة بما فيه الكفاية. لا سيما أن وسائل الإعلام حافلة بأخبار العمال الأجانب في الأراضي الغنية — من الأخبار الملهمة إلى المروعة — على سبيل المثال: مهندسو البرمجيات الهنود في وادي السليكون، أو العمال المكسيكيون غير الشرعيين في المصانع الاستغلالية بنيويورك، أو الخادمات الفلبينيات اللائي تلقَّيْن معاملة سيئة في دول الخليج العربي، أو عمال شمال أفريقيا الساخطون في أوروبا. هناك أيضًا تهريب البشر والاتجار في ممارسي البغاء اللذان يمثلان الجانب القبيح للتجارة العالمية في العمال. لكن الحقائق لا سبيل لنفيها، وتكاليف المعاملات التي يتضمنها عبور الحدود القومية في هذا القطاع أكبر بكثير من نظيرتها في غيره من قطاعات الاقتصاد العالمي. يضاف إلى ذلك أن هذه التكاليف تنشأ في معظمها من الحواجز الحكومية المباشرة على الحدود، متمثلة في تقييد منح تأشيرات الدخول، التي يمكن خفضها بجرة قلم.
إن أسواق العمل أكثر تجزؤًا على المستوى الدولي من أي سوق أخرى. هذا التجزؤ المتطرف، وما يُحدثه من فجوة هائلة بين الأجور، يدفع المهاجرين غير الشرعيين من البلدان المنخفضة الدخل إلى خوض مخاطر كبيرة، وتحمُّل مشاق جسيمة على أمل تحسين دخولهم ومستوى معيشة أسرهم في أرض الوطن. والسبب في استمرار وجود هذه الفجوات الكبيرة في الأجور لا يصعب معرفته؛ فسياسات منح التأشيرة في الدول الغنية تسمح لأعداد محدودة فقط من عمال الدول الفقيرة بالهجرة الشرعية إليها وشغل وظائف في اقتصاداتها، علاوةً على أن هذه القيود تميل، على نحوٍ متزايد، إلى تفضيل العمال المهرة والمتعلمين من الأجانب.
ولو كان قادة الدول المتقدمة جادين بشأن تعزيز الدخل في جميع أنحاء العالم وبشأن تحقيق ذلك على نحوٍ عادل، لَصبُّوا جُل تركيزهم على إصلاح القواعد التي تحكم انتقال الأيدي العاملة عبر الدول. لكن ما من شيء آخر ضمن أجنداتهم — لا محادثات الدوحة، ولا تنظيم التمويل العالمي، ولا حتى زيادة المساعدات — يقترب مجرد اقتراب من تناول التأثير المحتمل لزيادة حجم الكعكة العالمية. أنا لا أتحدث هنا عن تحرير كامل؛ فإزالة قيود الدول المتقدمة على التأشيرة بالكامل أو بدرجة كبيرة ستسبِّب اضطرابًا شديدًا؛ إذ ستدفع إلى هجرة جماعية من شأنها أن تصيب أسواق العمل والسياسات الاجتماعية في الدول المتقدمة بحالةٍ من الفوضى. لكن إذا كان هناك برنامج محدود لزيادة انتقال العمال فستسهل السيطرة عليه، وسيؤتي أيضًا مكاسب اقتصادية كبيرة جدًّا للعمال المهاجرين ولاقتصاداتهم الوطنية.
الأول يرى أنه سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نفرض على العمال الأجانب العودة إلى بلدانهم الأصلية بعد انتهاء أجَل تأشيراتهم. وهذا تخوف منطقي ومشروع؛ لأن الكثير من برامج «العامل الزائر» أسفرت في الممارسة العملية عن زيادة المهاجرين الدائمين، وخلقت في بعض الأحيان طبقة دنيا كبيرة من السكان المولودين في الخارج الذين لم يتحدد موقفهم (كما حدث في ألمانيا وبلدان أخرى كثيرة في أوروبا). من ناحية أخرى، عادةً ما كانت الحوافز التي تقدمها البرامج السابقة للعمال «المؤقتين» قليلةً بدرجة لا تقنعهم بالعودة، ولم تكن هذه البرامج تستند إلا إلى مجرد استعداد هؤلاء العمال للالتزام بشروط التأشيرة الممنوحة لهم؛ ومن ثَمَّ، لم يكن مفاجئًا عدم عودة الكثير منهم إلى دياره؛ نظرًا للفجوات الضخمة بين الأجور في أوطانهم والبلدان التي تستضيفهم.
وبِناءً على ذلك، إذا أردنا أن نصمم برنامجًا عمليًّا لمنح تأشيرات العمل المؤقتة، فيجب أن نقدم مجموعة واضحة من سياسات الثواب والعقاب. مع ضرورة تطبيق هذه المجموعة على جميع أطراف هذا البرنامج — العمال والموظفين وحكومة البلد الأم وحكومة البلد المضيف — كي يتسنَّى لها النجاح. توجد أيضًا فكرة تقترح أن نحتجز جزءًا من أجور العمال في حسابات تظل مجمدة إلى أن يعود المهاجر فعليًّا إلى وطنه؛ وبذلك سيخسر العامل المهاجر جزءًا كبيرًا من مستحقاته إذا تجاوز أجَل تأشيرته. علاوةً على أن مخطط ادِّخار قسري كهذا سيحقق فائدة مضافة تتمثل في أن العمال المهاجرين سيعودون إلى أوطانهم بمبالغ كبيرة تتيح فرصًا للاستثمار.
ما هو أهم من ذلك أنه من الممكن فرض عقوبات على حكومات البلدان التي لا يلتزم رعاياها بشرط العودة. على سبيل المثال، يمكن خفض حصص ما ترسله هذه البلدان من عمال مؤقتين بأعداد توازي أعداد عمالها الذين لا يلتزمون بالعودة إلى الوطن؛ بحيث كلما زاد عدد العمال الذين يتجاوزون أجَل تأشيراتهم، يقل عدد التأشيرات المؤقتة التي ستخصص لهذه البلدان من الدفعة التالية للتأشيرات. أما البلدان المُرسلة التي تستطيع تنظيم نفسها تنظيمًا ناجحًا بحيث تتمكن من إعادة عمالها المهاجرين إلى أرض الوطن، فيمكنها أن تستفيد من استمرار حركة إرسال العمال المؤقتين. في المقابل، سيُغلق باب التأشيرات في وجه البلدان الأخرى التي لا تستطيع إعادة عمالها. هذا الأمر من شأنه أن يخلق حافزًا قويًّا يدفع الحكومات المرسلة لتوفير مناخ اقتصادي وسياسي ملائم في الداخل؛ بحيث يشجع مواطنيها على العودة. ستقع الحكومات الديمقراطية تحديدًا تحت ضغط ناخبيها — الذين يرغب الكثير منهم في الحصول على تصاريح عمل في المستقبل — كي تضمن عدم تقلص حصتها من تأشيرات العمل المؤقتة.
وبطبيعة الحال من غير المحتمل أن يعمل أي برنامج للتأشيرات المؤقتة على نحوٍ مثالي؛ لذا ستكون هناك حاجة إلى قدْر لا بأس به من التجارِب لضبط تفاصيل هذه البرامج على النحو السليم، لكننا حتى الآن لم نجتهد في التجربة أو نبتكر بما يكفي كي نتخلى عن الفكرة برمتها.
ليس من الواضح بعدُ ما إذا كنا سنشهد التوصل إلى توافق سياسي محلي واسع النطاق على منح تأشيرات عمل مؤقتة في الدول المتقدمة. لقد تضمن مشروع «قانون إصلاح الهجرة الشامل» لعام ٢٠٠٦ بنودًا كان من شأنها أن توسع خطة تشغيل العمال الضيوف في الولايات المتحدة، لكن هذا المشروع قُتل في مهده في الكونجرس؛ إذ من الواضح أن زيادة عدد العمال الأجانب لا يحظى بتحمُّس يُذكر في الولايات المتحدة أو في أوروبا. وفي ضوء ذلك، يكون من السهل الإطاحة بمثل هذه البرامج على اعتبار أنها غير واقعية من الناحية السياسية.
لكن هذا سيكون خطأً. إن تحرير التجارة لم يحظَ بقدرٍ كبير قط من الدعم السياسي المحلي؛ فواردات البلدان النامية تولد الضغط نفسه الذي تولده الهجرة، والذي يدفع إلى انخفاض الأجور في البلدان الغنية. ومع ذلك، لم يمنع هذا صُناع السياسة من تخفيض الحواجز التجارية. لقد نجح تحرير التجارة من خلال تضافر كلٍّ من القيادة السياسية، والضغط الذي مارسه المصدِّرون والشركات المتعددة الجنسيات، وأفكار الاقتصاديين. لكن على النقيض من ذلك، كانت الهجرة المؤقتة نادرًا ما تتمتع بتأييد واضح في البلدان المتقدمة. وذلك ليس لقلة فوائدها، بل لضعف القدرة على تمييز المستفيدين من ورائها؛ فهذا التمييز لا يتحقق إلا إذا دخل عامل مكسيكي مثلًا إلى الولايات المتحدة وشغل وظيفةً ما، فرأى ربُّ عمله أن من مصلحته المباشرة أن يُبقيَ عليه داخل أمريكا، ثم ضم العامل صوته إلى صوت ربِّ العمل في النقاش المحلي. أما خبراء الاقتصاد فقد ظلوا متعاطفين بدرجة مفرطة مع الحقائق السياسية التي تدعم تشديد نظام حركة العمال على المستوى الدولي، على الرغم من أنهم ينتقدون قوى الحمائية التي تَحُول دون تحقيق المزيد من تحرير النظام التجاري المفتوح بدرجة كبيرة أصلًا.
واليوم، يبدو نظام العمالة العالمية مماثلًا لنظام التجارة الدولية عام ١٩٥٠، حافلًا بالحواجز المرتفعة التي تمنع اقتصادات العالم من جنْي فوائد كبيرة. لكن التحوُّل الذي شهده نظام التجارة منذ ذلك الوقت يمنحنا بارقة أمل في أن نشهد شيئًا مماثلًا في مجال الهجرة أيضًا. وهذا يتطلب نقاشًا سياسيًّا أمينًا وواضح الرؤية يسمح لأنصار القضية بتوضيح مزايا توسيع نطاق حركة العمال. يستطيع الاقتصاديون أن يلعبوا دورًا هامًّا في صياغة تلك المناقشة؛ إذ يمكنهم أن يوضحوا الفوائد الكبيرة التي ستجنيها الدول الغنية والفقيرة على حدٍّ سواء، وأن يوضحوا أن المكاسب المنتظرة من حركة العمال ثمرة دانية إذا ما قورنت بالفتات الهزيل المنتظَر من زيادة تحرير التجارة والتمويل.
(٤) استيعاب الصين في الاقتصاد العالمي
كانت الصين أعظم قصص نجاح العولمة خلال ربع القرن الماضي. لكنها قد تصبح سبب سقوطها خلال ربع القرن التالي.
تعد الصين تجسيدًا حيًّا لجميع التحديات الرئيسة التي يتعين على الاقتصاد العالمي التغلب عليها؛ إذ كيف يمكننا أن نوفق بين انفتاح الاقتصاد وما ينجم عن التجارة مع بلدان تتمتع بميزة انخفاض التكلفة من صعوبات تتعلق بالتوزيع وبتسوية الأوضاع في الداخل؟ كيف يمكننا أن نواجه الآثار السلبية التي يمكن أن تُحدثها مثل هذه التجارة على دول الرفاهية، وأسواق العمل والأنظمة الضريبية، والترتيبات الاجتماعية الأخرى في الدول المتقدمة؟ كيف يمكننا أن نساعد البلدان النامية على إعادة بناء اقتصاداتها مع الإبقاء على اقتصاد عالمي مفتوح وقائم على القواعد؟ كيف يمكننا أن ندمج نظامًا استبداديًّا كبيرًا في اقتصاد عالمي كلُّ لاعبيه الرئيسيين يطبقون الديمقراطية؟
تكمن جذور كل هذه الصعوبات في التنوع الهائل الموجود في النظم في جميع أنحاء العالم. لكن الدول التي تتسم نظمها بالخصوصية الشديدة، كما هي الحال في الصين، أو تُحدث تأثيرًا كبيرًا على السوق العالمية؛ عددها قليل. والطريقة المناسبة لمجابهة هذه التحديات لا تكون بتشديد القوانين الدولية أو التنسيق بينها وبين القوانين المحلية، كما يتردد في كثير من الأحيان. بل من الممكن أن نتيح لجميع البلدان، «بما فيها» الصين، متسعًا أكبر لتطبيق سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، بطرق تحد من الآثار السلبية على المستوى الدولي.
لا تزال الصين دولة فقيرة. صحيح أن متوسط الدخل شهد ارتفاعًا سريعًا جدًّا خلال العقود الأخيرة، لكنه لا يزال عالقًا عند مستوى سُبع أو ثُمن متوسط الدخل في الولايات المتحدة، وهذا أقل من متوسط الدخل في تركيا أو كولومبيا، ولا يزيد كثيرًا على مستويات الدخل في السلفادور أو مصر. فبينما تعكس المدن الساحلية والمدن الكبرى في الصين مثل شانجهاي وجوانجتشو ثروة هائلة، لا تزال مساحات واسعة من غرب الصين غارقة في الفقر. والصين ليست مرشحة لأن تستوليَ على قيادة الاقتصاد العالمي من الولايات المتحدة، أو لأن تصبح قوة عالمية مهيمنة، على الأقل ليس قريبًا. لكن سكان الصين البالغ عددهم ١٫٣ مليار نسمة وثروتها التي تنمو سريعًا يضمنان لها أن تحتل مكانًا واضحًا على المسرح العالمي.
كان صعود الصين الاقتصادي بشكل عام نعمة للاقتصاد العالمي؛ فقد كان التنوع الهائل في السلع المصنعة — كل شيء، من لعب الأطفال إلى السيارات — التي تنتجها مصانعها بغزارة هدية حقيقية للمستهلكين في جميع أنحاء العالم، لا سيما الفقراء الذين صار في متناول أيديهم شراء كثير من هذه المنتجات. تمثل الصين أيضًا منارة للأمل بالنسبة إلى الدول النامية الأفريقية وغيرها ممن تبدو مشكلاتها الاقتصادية في بعض الأحيان مستعصية على الحل. وهي تشكل نموذجًا مثاليًّا يوضح كيف يمكن الاستفادة من الاقتصاد العالمي في النمو الاقتصادي والحد من الفقر، من خلال الجمع بين التصدير والاستراتيجيات المصمَّمة محليًّا لتنويع الاقتصاد ولتحقيق الابتكار المؤسسي.
ويتعلق النزاع الذي يشكل أكبر تهديد على المدى القريب بالاختلال التجاري الصيني؛ فقد ارتفع فائض الحساب الجاري للصين (أي إن عائدات التصدير تزيد زيادة كبيرة على الواردات) إلى مستويات كبيرة في السنوات الأخيرة، وبلغ نسبة مذهلة قدرُها ١١٪ من الناتج المحلي الإجمالي قُبيل الأزمة المالية عام ٢٠٠٧ (بعد أن كانت النسبة أقل من أصابع اليد الواحدة قبل عقد واحد). وهذا الاختلال يزيد الطلب العالمي على السلع المنتَجة في الصين على حساب تخفيض هذا الطلب في جميع البلدان الأخرى، وهذا يزيد من صعوبة التعافي الاقتصادي في بقية بلدان العالم، وله آثار سلبية على صحة قطاعات التصنيع في كل البلدان باستثناء الصين. لكن المشكلة ليست اقتصادية فحسب؛ فمن الناحية التاريخية، كانت الاختلالات التجارية الكبيرة تربة خصبة لنمو النزعة الحمائية. فإذا لم يتقلص الفائض التجاري للصين، يرجح أن تلجأ الولايات المتحدة إلى فرض حواجز تجارية تستهدف الصادرات الصينية، وهو ما سيستفز رد فعل انتقاميًّا من جانب الصين وتكتيكات مماثلة من جانب دول أخرى. وهكذا سيصبح رد الفعل السياسي ضد تجارة الصين وضد العولمة بشكل عام احتمالًا حقيقيًّا.
هل تسبب اعتماد الصين على الصادرات في وضع الاقتصاد العالمي على مسار تصادمي؟ وهل نحن أمام صراع جوهري ولا سبيل للقضاء عليه بين استراتيجية الصين التنموية من جهة، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في بقية دول العالم من جهة أخرى؟
هذا ليس صحيحًا بالضرورة؛ فالفائض التجاري ليس سوى نتيجة «عرضية» لاستراتيجية النمو في الصين، وهو نتيجة لقواعدنا العالمية الحالية أكثر من كونه نتيجة للمنطق المتأصل في تلك الاستراتيجية. ولكي نعرف سبب هذا، لا بد أن نسترجع بإيجازٍ قصة النمو الصيني. تعتمد الاستراتيجية الصينية على التغيير الهيكلي السريع، الذي تحققه الحكومة من خلال تشجيع التصنيع مع التحديث المستمر للبنية الإنتاجية للبلاد. ومعظم الأنشطة الاقتصادية التي تشجعها الحكومة يمكن الاتجار فيها؛ فهي مصنوعات في معظمها. هذه الاستراتيجية تتوافق — على نحوٍ مثالي — مع حسابات التجارة الخارجية ما دامت زيادة المعروض من المنتجات الإلكترونية والصُّلب والسيارات، وغيرها من السلع المصنَّعة التي تنتجها مصانع الصين؛ يوازيها تزايد في الطلب في الصين أيضًا على مثل هذه السلع إجمالًا، وليس بالضرورة زيادة الطلب على كل منتج من هذه المنتجات.
حتى وقت قريب جدًّا، كان النموذج الصيني يعمل على هذا النحو. ومع أن الحكومة الصينية ظلت تركز تركيزًا شديدًا على تعزيز قطاع التصنيع منذ الثمانينيات، فقد فعلت ذلك من خلال سياسات صناعية — تضمَّنت فرض قيود تجارية، وتقديم حوافز استثمار، ودعم، وتوفير متطلبات التصنيع المحلية — لم تتسبب في حدوث اختلال في الميزان التجاري.
وخلافًا للصورة التي يرسمها التعقيب النمطي في الصحافة الغربية، هذه ليست مسرحية أخلاقية ساذجة يلعب فيها الصينيون دور «الأشرار». صحيح أن فائض الصين التجاري يهدد الاقتصاد العالمي، لكن هذا ما سيفعله أيضًا التباطؤ الكبير في نموها.
والنهج الصحيح هو إتاحة الحرية للصين، بل وجميع الدول الصاعدة، في اتباع ما يخصها من سياسات تنموية. ينبغي تعليق القيود التي تفرضها منظمة التجارة العالمية على الدعم والسياسات الصناعية الأخرى أو تطبيقها على نحوٍ يستثني الدول النامية عمومًا. سيكون من المعقول حينئذٍ أن نتوقع أن تتَّبع الصين وغيرها من الدول الناشئة سياسات، في مجالات العملة والمالية والاقتصاد الكلي، لا تولد اختلالات تجارية كبيرة. وهكذا ستكون معادلة «هذا بذاك» على هذا النحو: يحق لك أن تتبع ما يخصك من استراتيجية تنموية، لكن عليك أيضًا أن تتأكد من أنك لا تسبب آثارًا سلبية كبيرة لبقية العالم في شكل فوائض تجارية. وهذا من شأنه أن يُمكن الصين من استخدام سياسات صناعية ذكية لدعم هدفَي التشغيل والنمو دون أن تخشى عقاب منظمة التجارة العالمية. وسيتيح لها أيضًا أن تسمح بارتفاع قيمة الرنمينبي دون أن تخشى أن يُحدث ذلك آثارًا سلبية على نموها. أو على أقل تقدير، سيزيل المبرر المنطقي الوحيد لرفض الصين تقليص فائضها التجاري.
ومع تحرك الصين نحو تجارة متوازنة، سيتراجع أكبر تهديد مباشر للاقتصاد العالمي. لكن سيظل التأثير الكبير والمتنامي الذي تمارسه الصين في الأسواق العالمية يجعل جزءًا من تجارتها سببًا للمشكلات. فإذا واصلت الصين تحوُّلها الاقتصادي وظلت تكتسب حصة السوق بمنتجات تزداد تطورًا أكثر فأكثر، يمكننا أن نكون على يقين من أن هذه التجارة سوف تجعل دولًا أخرى تشكو باستمرار من تقويض ما يخصها من صفقات توزيع، أو معايير عمل، أو أنظمة بيئية، أو أعراف اجتماعية. صحيح أن هذه الشكاوى تحظى بمصداقية أكبر نظرًا لما تسجله الصين من فائض تجاري ضخم بوجهٍ عام على مستوى العالم، لكنها لن تختفيَ بزوال هذا الفائض؛ ومن ثَمَّ، لا بد أن تجابه الصين والدول المستوردة هذه الأمور بالطريقة الصائبة.
في هذا الكتاب قدمتُ طريقة للتفكير في هذه الصراعات، وللفصل بين الحماية المشروعة و«الحمائية» المقيتة. اقترحت أيضًا استخدام آلية الانسحاب القانوني — اتفاق وقائي موسع إلى جانب تطبيق إجراءات محلية — التي ستكون مناسبة لعلاج الحمائية. ربما تعتقد الصين أن المرونة التي تتيحها هذه الأدوات للدول المستوردة ستؤدي إلى تقلُّص صادراتها بدرجة مفرطة. لكن الحكومة الصينية (وكذلك حكومات غيرها من كبرى الدول الناشئة) عليها أن تدرك حقيقة أساسية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي؛ أنها إذا كانت، وغيرها من الدول النامية، ترغب في أن يتاح لها حيز الحرية السياسية، فعليها أن تسمح للدول الغنية بأن يكون لها حيزها أيضًا. فالصين لديها كل الحق في أن تحافظ على خصوصية مؤسساتها وقوانينها، لكن ليس من حقها أن تنتظر أن تغير الدول الأخرى ما يخصها من مخططات اقتصادية واجتماعية تحت التهديد الذي تشكله المنافسة الصينية. علاوةً على أن نظام الصين السياسي غير الديمقراطي يستلزم أن تُواجه تجارتها بتدقيق أكبر بكثير مما تواجهه تجارة بلدان أخرى كالبرازيل وتركيا والهند.
وإذا كانت الآلية الوقائية المقترحة مصممة تصميمًا جيدًا، فلن تتسبب السياسات التي تجيزها الصين في إحداث الكثير من الضرر للتجارة بوجهٍ عام، بل ستكون عواقبها ثمنًا زهيدًا يدفعه المصدرون كي يحافظوا على اقتصاد عالمي مفتوح كليًّا. وسيتعين على الصين أن تتقبل القيود التجارية التي ستواجهها في إطار هذه الآلية، لا باعتبارها أشكالًا للحمائية التي يجب محاربتها بكل ضراوة، بل باعتبارها ممارسات ضرورية للحفاظ على النظام.
(٥) كلمة أخيرة
إذا قرأت أي كتاب، أو مقال، أو عمود صحفي عن مستقبل العولمة، أو استمعت إلى أي رجل دولة يتحدث عن هذا الموضوع، فستشعر على الفور أنك مسحوق تحت وطأة مشكلات جسيمة. هل سننجح في التحايل على القادة السياسيين للدول الكبرى بحيث نقنعهم ببذل ما يكفي من التعاون الدولي؟ هل سننجح في إقامة كيانات الحوكمة العالمية التي يحتاجها الاقتصاد العالمي؟ كيف يمكن أن نقنع عموم الشعب في الاقتصاد العالمي أن العولمة الاقتصادية في مصلحتهم، وليست قوة لهدم المساواة وانعدام الأمن؟ ماذا سيحدث للاقتصاد العالمي مع تراجع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة؟ هل ستصبح الصين هي القوة المهيمنة العالمية الجديدة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف سيكون شكل تحوُّل النظام الدولي الناجم عن ذلك؟
هذه الأسئلة كفيلة بأن تصيب المرء بصداع. لكنها نابعة من افتراضات خاطئة: أن العولمة المفرطة مرغوبة (أو حتمية ولا يمكن تلافيها) وأن إعادة تمكين الدول القومية سيطلق العنان لقوًى ستُلحق ضررًا جسيمًا بالاقتصاد العالمي. إن هذه الأسئلة تصعِّب مهمتنا بلا داعٍ.
يمكننا — بل وينبغي لنا — أن نتحدث بطريقة مختلفة عن العولمة. فبدلًا من أن ننظر إليها على أنها نظام يتطلب مجموعة واحدة من المؤسسات والقوانين أو قوة اقتصادية عظمى واحدة، ينبغي لنا أن نتقبل كونها مكونة من مجموعة من الدول المتنوعة تُنظم تفاعلاتها طبقة رقيقة من قواعد المرور البسيطة والشفافة والمنطقية. هذه الرؤية لن تؤديَ بنا إلى عالم «منبسط»، اقتصاد عالمي يخلو من الحدود. وما من شيء يمكن أن يؤديَ إلى ذلك. لكن ما ستفعله هذه الرؤية هو أنها ستمهد لاقتصاد عالمي صحي ومستدام، يتيح للديمقراطيات المجال كي تحدد مستقبلها بنفسها.