كيف تراءت لي في المنام الأرض الخطية
حدث ذلك في اليوم قبل الأخير من عام ١٩٩٩ من زمننا، وكان أول أيام العطلة الدراسية الطويلة، وكنت قد أمضيت الوقت حتى ساعة متأخرة في ممارسة هوايتي المفضلة، وهي علم الهندسة، ثم أخلدت إلى النوم ولم تزل تلح على عقلي مسألة لم أنته من حلها، وفي الليل رأيت حلمًا.
رأيت أمامي عددًا هائلًا من الخطوط المستقيمة الصغيرة (حسبت بطبيعة الحال أنها من النساء) تنتشر بينها كائنات أخرى أصغر منها تظهر على هيئة نقاط لامعة، وتتحرك كلها جيئة وذهابًا في نفس الخط المستقيم وبنفس السرعة حسبما بدا لي.
وكانوا عندما يتحركون تنبعث منهم من آن لآخر أصوات كثيرة مختلطة كزقزقة العصافير، ولكنهم كانوا أحيانًا يتوقفون عن الحركة، وعندئذ كان يسود الصمت.
ودنوت من أكبر من ظننتهن من النساء، وبادرتها بالكلام ولكنني لم أتلق أي رد، وحاولت مرة ثانية وثالثة ولكن دون جدوى، وعندما نفد صبري إزاء ما بدا لي وقاحة لا تحتمل، وضعت فمي في مواجهتها لأعترض حركتها، ورفعت صوتي بالسؤال مرة ثانية: «ما الذي يعنيه هذا التجمهر يا امرأة؟ وهذه الزقزقة الغريبة المختلطة؟ وهذه الحركة الرتيبة جيئة وذهابًا في نفس الخط المستقيم؟»
كان واضحًا أن هذا المسكين الجاهل الذي لقَّب نفسه بالملك مقتنع بأن هذا الخط المستقيم الذي يعيش فيه ويدعوه مملكته هو العالم كله، بل الكون بأسره، ولم يكن يدري شيئًا عما هو خارج هذا الخط المستقيم لأنه لا يستطيع أن يتحرك خارجه أو أن يرى أي شيء خارجه، ومع أنه سمع صوتي عندما خاطبته أول مرة، فإن الصوت كان غريبًا على مسامعه فلم يرد، لأنه على حد تعبيره «لم ير إنسانًا، وسمع صوتًا كأنما يخرج من أحشائه»، وحتى اللحظة التي وضعت فيها فمي في عالمه لم يرني ولم يسمع شيئًا عدا أصوات مختلطة تصطدم بما حسبتُه جانبه، وأسماه هو أحشاءه أو معدته، ولم يكن لديه حتى الآن أدنى فكرة عن المنطقة التي أتيت منها، فكل ما هو خارج عالمه — أو خطه — لم يكن في نظره إلا فراغًا؛ لا ليس فراغًا، لأن الفراغ يعني ضمنًا الفضاء، لنقل إذن إن خارجه العدم.
ورعيته جميعًا لا يتحركون إلا في هذا الخط المستقيم ولا يجاوزونه بأبصارهم، فهو كل عالمهم، وليست هناك حاجة لأن أضيف أن كل أفقهم محدود في نقطة، ولا يستطيع أي منهم أن يرى شيئًا عدا نقطة، وتستوي في ذلك كل المرئيات: الرجال والنساء والأطفال والجمادات، كل منها لا يزيد في نظر سكان الأرض الخطية عن نقطة، ولا يستطيعون تمييز الجنس أو العمر إلا عن طريق الصوت. ولما كان كل فرد يحتل بالكامل الطريق الضيق — إذا جاز التعبير — الذي يتكون منه عالمهم، ولا يستطيع أحدهم أن يتحرك جهة اليمين أو جهة اليسار ليفسح الطريق للعابرين، فلا يمكن لواحد من سكان الأرض الخطية أن يتخطى الآخر، فما داما متجاورين فسيبقيان كذلك إلى الأبد، إن علاقة الجوار عندهم تشبه علاقة الزواج عندنا، يظل الجيران جيرانًا حتى يفرق الموت بينهم.
إن هذه الحياة التي لا يرى المرء فيها إلا نقطة، ولا يتحرك إلا في خط مستقيم، بدت لي كئيبة بما يفوق الوصف، واندهشت إذ لاحظت الحيوية والبهجة اللتين تميزان الملك، وتساءلت إن كان ممكنًا في ظل هذه الظروف التي لا تلائم العلاقات الأسرية أن يتمتع الناس بعلاقات زوجية طبيعية، وترددت لبعض الوقت في أن أوجه لجلالته سؤالًا حول أمر على هذه الدرجة من الحساسية، ولكنني استجمعت شجاعتي آخر الأمر وسألته فجأة عن صحة عائلته، فأجابني: «إن زوجاتي وأبنائي يتمتعون بالصحة والسعادة.»
أذهلني رده، لأنني — كما لاحظت في الحلم قبل أن أدخل الأرض الخطية — لم أر بجوار الملك إلا رجالًا، فقلت له: «معذرة ولكنني لا أستطيع أن أتصور كيف تستطيع جلالتك في أي وقت من الأوقات أن تدنو من الملكات في حين أن بينك وبينهم ما لا يقل عن نصف دستة من الأشخاص، وأنت لا تستطيع أن تخترقهم ببصرك ولا أن تمر من جانبهم، هل لا يعد التجاور في الأرض الخطية ضروريًّا للزواج وإنجاب الأطفال؟»
أجاب الملك: «كيف تسأل سؤالًا بهذا السخف؟ لو كان الأمر كما تقول لخلا الكون من سكانه في وقت قصير، لا ليس التجاور ضروريًّا كي تتحد القلوب، وإنجاب الأطفال مسألة أكثر أهمية من أن تترك رهنًا لتصادف الجوار. لا يمكن أن تكون غافلًا عن ذلك، ومع ذلك إذا كان يَسرُّك تَصنُّع الجهل فسوف أعلمك كما لو كنت طفلًا صغيرًا في الأرض الخطية، اعلم إذن أننا نعتمد في إتمام الزواج على الصوت وحاسة السمع.»
«أنت تعلم دون شك أن لكل رجل عينين وفمين، أو صوتين، صوت من طبقة الباص في أحد طرفيه وصوت من طبقة التينور في الطرف الآخر. يجب ألا أذكر ذلك ولكنني عجزت عن تمييز طبقة التينور عندك طوال حديثنا»، فأجبته بأنني لا أملك إلا صوتًا واحدًا، وأنني لم أكن أعلم أن لجلالته صوتين. قال الملك: «هذا يؤكد انطباعي عنك أنك لست رجلًا، وإنما مسخًا أنثويًّا ذا صوت من طبقة الباص، وأذنًا لم تتدرب قط، ولكن لنواصل حديثنا.»
«يفرض علينا قانون الطبيعة مرة في منتصف كل أسبوع أن نتحرك جيئة وذهابًا بحركة إيقاعية أقوى من حركتنا المعتادة، تستغرق الوقت الذي تحتاجه أنت لتعد حتى مائة وواحد، وفي منتصف هذه الرقصة الجماعية، عندما تصل في العد إلى واحد وخمسين، يتوقف جميع سكان العالم دفعة واحدة، ويطلق كل منهم أفضل أنغامه وأرقها، وفي هذه اللحظة الحاسمة تتم زيجاتنا كلها. كم يكون التآلف رائعًا بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا من الأصوات، بين التينور والكونترألتو، حتى إن المتحابين يتعرف أحدهما في الحال نغمة الاستجابة التي يطلقها محبوبه الذي أهداه إياه القدر عبر مسافة تصل إلى عشرين ألف ميل، ويجمع الحب شمل ثلاثتهم مخترقًا حواجز البعد الواهية، وتنتج عن مثل هذا الزواج ذرية تتكون من ثلاثة من الذكور والإناث الذين يتخذون أماكنهم في الأرض الخطية.»
فقلت: «ماذا! دائمًا ثلاثة؟ فهل لا بد أن تضع إحدى الزوجتين دائمًا توءمًا؟»
فأجاب الملك: «نعم أيها المَسْخ غليظ الصوت، وإلا كيف يمكننا أن نحفظ التوازن بين الجنسين لو لم تكن نسبة المواليد من الإناث إلى المواليد من الذكور هي اثنين إلى واحد؟ هل تجهل أبجدية الطبيعة؟» ثم تَملَّكه الغضب فتوقف عن الكلام، ومضى بعض الوقت حتى استطعت أن أستحثه على مواصلة حكايته.
«ولا تحسب أن كل أعزب منا يجد شريكتي حياته عند أول محاولة للتودد في هذا الكورال العالمي للزواج، فمعظمنا — على العكس من ذلك — يكرر ذلك مرات كثيرة، وقليلة هي القلوب التي يصادفها حسن الحظ في أن تتعرف على صوت شريكها، وأن تحلق في عناق متبادل تام التناغم. وتطول فترة التودد مع معظمنا، وقد يتناغم صوت الرجل مع واحدة من زوجتيه المرتقبتين دون الأخرى، وقد لا يتناغم في أول الأمر مع أي منهما، وقد لا يتآلف السوبرانو مع الكونترألتو تآلفًا تامًّا، وتقضي الطبيعة في مثل هذه الحالات بأن يلتقي المحبون الثلاثة في الحفل الغنائي الأسبوعي ويزداد التناغم والتآلف بينهم، وفي كل مرة يجربون فيها أصواتهم أو يكتشفون فيها نشازًا جديدًا يسعى من يعاني نقصًا إلى تعديل صوته طلبًا للكمال، وبعد محاولات كثيرة ومساع نحو الكمال، يتحقق الهدف المنشود، ويأتي في النهاية يوم يقام فيه الكورال المعتاد للزواج في الأرض الخطية، ويجد المتحابون الثلاثة بغتة أنهم في تناغم تام، ثم — قبل أن يدري أي منهم — يندمج ثلاثتهم في عناق صوتي مزدوج، وتسري في الطبيعة بهجة لهذا الزواج الجديد والمواليد الثلاثة الجدد.»