زائر من سبيسلاند
ومن الأحلام أعود إلى الحقائق.
وكان أبنائي الأربعة وحفيداي اليتيمان قد أخلدوا إلى النوم في حجراتهم، ولم يبق معي إلا زوجتي لنكون معًا في وداع الألفية الحالية، ولنحتفل بقدوم الألفية الجديدة.
كنت مستغرقًا في التفكير، أدير في ذهني كلمات كان أصغر حفيديَّ قد نطق بها بطريقة عفوية، وهو مسدس واعد صغير السن ذو ذكاء نادر وزوايا تامة الانتظام، وكنت أشترك مع أعمامه في إعطائه الدرس العملي المعتاد في التعرف عن طريق البصر، وكنا ندور حول أنفسنا بسرعة كبيرة تارة ثم ببطء تارة أخرى، ونسأله عن مواقعنا، وأسعدتني إجاباته جدًّا حتى إنني قررت أن أكافئه بإعطائه بضع أفكار في علم الحساب، وتطبيقاتها في علم الهندسة.
فقلت وقد ضايقتني مقاطعته بعض الشيء: «اذهب للنوم، لو أقللت من التكلم بالترّهات، لوعى عقلك مزيدًا من المنطق السليم.»
وهكذا توارى حفيدي خجلًا، وجلست هناك إلى جوار زوجتي، محاولًا أن أستعيد أحداث عام ١٩٩٩ وأن أفكر فيما يحمله عام ٢٠٠٠ من احتمالات، ولكنني لم أستطع أن أتخلص بالكامل من الأفكار التي أثارتها ثرثرة المسدس الصغير متوقد الذكاء، ولم يكن باقيًا إلا بضع ذرات من الرمال في الساعة الرملية، وانتبهت من هذه الأفكار فقلبت الساعة الرملية جهة الشمال للمرة الأخيرة في الألفية الحالية، وقلت بصوت عال «إن الصبي أحمق.»
وشعرت في الحال بوجود شخص في الغرفة، وسرت في جو الغرفة نسمة باردة، صاحت زوجتي: «ليس الصبي أحمق، وإنك تخالف الوصايا بإهانة حفيدك على هذا النحو»، ولكنني لم ألق لها بالًا، ونظرت حولي في كل اتجاه ولكنني لم أر شيئًا، وكنت مع ذلك أحس بوجود هذا الشخص، وارتعدت إذ شعرت بتلك النسمة الباردة مرة ثانية، فوثبت من مقعدي. سألَتْ زوجتي: «ماذا دهاك؟ ليس هناك تيار هواء، عماذا تبحث؟ لا شيء هناك.» حقًّا لم يكن هناك شيء، وعدت إلى مقعدي، وكررت ما قلته من قبل: «هذا الصبي أحمق، إن مكعب الرقم ثلاثة لا يمكن التعبير عنه هندسيًّا»، وعلى الفور سمعت صوتًا يقول: «ليس الصبي أحمق، ومكعب الرقم ثلاثة له مغزى هندسي واضح.»
سمعت أنا وزوجتي هذه الكلمات، مع أنها لم تدرك لها معنى، ووثب كلانا باتجاه الصوت، وفزعنا فزعًا شديدًا إذ أبصرنا أمامنا جسدًا! وبدا للوهلة الأولى أنه جسد امرأة تواجهنا بجانبها، ولكنني عندما أمعنت النظر ظهر لي أن الطرفين يخفت ضوؤهما بسرعة أكبر من أن يكونا طرفا امرأة، وكدت أجزم بأنها دائرة لو لم يكن حجمها يتغير بطريقة تستحيل على الدوائر أو غيرها من الأشكال المنتظمة التي لقيتها في حياتي.
لكن زوجتي لم يكن لديها ما لدي من الخبرة ورباطة الجأش لتنتبه لهذه الصفات، وبالطيش والغيرة العمياء المميزين للنساء وثبت على الفور إلى استنتاج أن امرأة دخلت البيت عبر فتحة صغيرة، وصاحت: «من أين دخلت هذه المرأة هنا؟ لقد وعدتني ألا يكون في بيتنا الجديد فتحات للتهوية»، فأجبتها: «وليس فيه بالفعل أي فتحات للتهوية، ولكن ما الذي جعلك تظنين أن هذا الغريب امرأة؟ فأنا أري بقدرتي على التعرف البصري …»، فقاطعتني زوجتي قائلة: «أنا لا أملك البال الرائق للتعرف البصري، «اللمس هو خير برهان»، و«إن خطًّا مستقيمًا تلمسه بنفسك خير من دائرة لا تراها إلا بعينك»»، وهما من الأمثال الشائعة بين النساء في الأرض المسطحة.
أجبتها وأنا أخشى أن أثير غضبها: «حسنًا، لو لم يكن هناك مفر من ذلك، فعليك أن تطلبي التعرف إليها»، فتقدمت زوجتي باتجاه المرأة الغريبة قائلة بصوت غاية في الرقة: «ائذني لي يا سيدتي أن أتعرف إليك وأن تتعرفي إلي باللمس …»، ولكنها تراجعت فجأة وصاحت: «إنها ليست امرأة، وليس هناك أثر لزاوية واحدة، هل يمكن أن أكون قد أسأت الأدب إلى هذا الحد مع واحد من الكهنة ذوي المنزلة الرفيعة؟»
أجاب الصوت: «أنا بالفعل دائرة نوعًا ما، وأكثر اكتمالًا من أي دائرة في الأرض المسطحة، ولكنني — بتعبير أكثر دقة — اتحاد كثير من الدوائر في كيان واحد»، ثم أضاف بنبرة هادئة: «إنني يا سيدتي أحمل لزوجك رسالة يجب ألا أسلمها إليه في حضورك، فإذا أذنت لنا أن ننتحي جانبًا بضع دقائق …»، ولكن زوجتي ما كانت لتنصت لهذا العرض الذي يسبب إزعاجًا لزائرنا المهيب، وأكدت للكاهن أن موعد نومها قد مر منذ وقت طويل، وأعادت الاعتذار مرات كثيرة عما ارتكبته من حماقة، ثم أوت في النهاية إلى غرفتها.
ألقيت نظرة سريعة على الساعة الرملية، كانت ذرات الرمل الأخيرة قد تساقطت، وبدأت الألفية الثالثة.
غير أننا نفرِّق تمامًا بين الحالات الذهنية المميزة للرقود والجلوس والوقوف، ويراها الناظر على هيئة زيادة طفيفة في البريق تشير إلى زيادة في الإرادة.
ولكن يمنعني الوقت من الاسترسال في الحديث عن هذا الموضوع وغيره من الموضوعات المشابهة.