كيف أراني الكرة أسرارًا أخرى في سبيسلاند، وكيف ظللت مع ذلك متعطشًا إلى المزيد، وإلام انتهى ذلك
عندما رأيت أخي المسكين يقاد إلى السجن حاولت أن أثب إلى حجرة المجلس للتدخل من أجله، أو لكي أوجه له على أقل تقدير كلمة وداع، ولكنني وجدت أن حركتي لم تعد مرهونة بإرادتي، وأنني خاضع تمامًا لإرادة معلمي، الذي قال وقد غلف الأسى نبرات صوته: «لا تبتئس لما حدث لأخيك، ربما تجد فيما بعد متسعًا من الوقت لتعبر عن تعاطفك معه، اتبعني.»
وصعدنا في الفضاء مرة أخرى، وقال الكرة: «لم أعرض عليك حتى الآن شيئًا عدا الأشكال المسطحة وأجزاءها الداخلية، والآن عليّ أن أعرِّفك بالمجسمات، وأوضح لك التصميم الذي بنيت عليه، انظر إلى هذا العدد الكبير من البطاقات مربعة الشكل، أترى؟ أنا الآن أضعها واحدة فوق الأخرى — لا كما كنتَ تظن واحدة إلى الشمال من الأخرى، وإنما واحدة أعلى الأخرى، وهأنذا أضع بطاقة ثانية وثالثة، انظر إنني أصنع مجسمًا من عدد كبير من المربعات المتوازية، وها أنا قد انتهيت منه، وجعلت ارتفاعه مساويًا لطوله وعرضه، ويسمى هذا المجسم عندنا مكعبًا.»
فأجبته: «معذرة يا سيدي ولكنه يبدو لي مضلعًا غير منتظم وقد ظهرت أجزاؤه الداخلية واضحة للعيان، أو بمعنى آخر، أنا لا أظن أنني أرى مجسمًا، بل مستوى كالذي نراه في الأرض المسطحة، لا يميزه إلا تشوه في الأضلاع يعد من السمات المميزة لعتاة المجرمين، حتى إن مرآه فقط يؤذي عيني.»
قال الكرة: «حقًّا إنه يبدو لك مسطحًا لأنك لم تعتد تأثير الضوء والظل وزوايا الرؤية، تمامًا مثلما يبدو المسدس في الأرض المسطحة خطًّا مستقيمًا لمن لا يعرف فن التعرف عن طريق البصر، ولكن هذا في الواقع أحد المجسمات، وستعرف عندما تتحسسه.»
ثم عرفني بالمكعب، ووجدت أن هذا الكائن البديع لم يكن بالفعل مسطحًا، وإنما مجسمًا ذا ستة أوجه وثماني نقاط طرفية يسمونها زوايا مجسمة، وتذكرت ما قاله الكرة من أن مثل هذا المخلوق يتكون من حركة المربع في الفضاء موازيًا لنفسه، وأسعدتني فكرة أن يكون مخلوق متواضع مثلي بطريقة ما سلفًا لذرية على هذا القدر من البهاء.
غير أنني لم أستطع بعدُ أن أدرك تمامًا ما يعنيه معلمي بكلمات «الضوء» و«الظل» و«زاوية الرؤية»، ولم أتردد في أن أستوضحه الأمر.
ومع أن تفسير الكرة لهذه الأمور تفسير محكم لا لبس فيه، فإنني لو قدمته هنا لكان لسكان سبيسلاند باعثًا على الملل، لأنهم يعرفون مسبقًا هذه الأشياء، ويكفي أن أقول إنه فسر لي كل شيء بتعبيراته الواضحة، وبتغيير أوضاع الأشياء ودرجات الإضاءة، وبالسماح لي بتحسس أشياء مختلفة حتى جسده المقدس، إلى أن صرت في النهاية قادرًا على التمييز بسهولة بين الدائرة والكرة، وبين الأشكال المسطحة والمجسمات.
كانت تلك نقطة القمة في تاريخ حياتي العجيبة الحافلة بالأحداث، كأنما رقيت إلى الفردوس، وعليّ من الآن فصاعدًا أن أروي قصة الخروج الحزين من الفردوس، الخروج المفجع الذي لم أكن أستحقه على الإطلاق، لماذا نشعل في الناس الظمأ إلى المعرفة ثم نقتل فيهم طموحهم، بل نعاقبهم عليه؟ صعب على نفسي أن أستعيد ذكرى مذلتي، غير أنني سأتحمل كما تحمل بروميثيوس — بل أكثر من ذلك — آملًا أن أنجح بطريقة أو بأخرى في بث روح الثورة في قلوب جميع البشر من المسطحات والمجسمات؛ الثورة على جمود الفكر الذي يحدد أبعادنا ببعدين أو ثلاثة أبعاد أو أي عدد يقل عن اللانهائية. فلتذهب كل الاعتبارات الشخصية إلى حيث ألقت، سأواصل حتى النهاية كما بدأت دون مزيد من الانحراف عن الموضوع الأساسي ودون انتظار النتائج، سالكًا درب التاريخ الذي لا يعرف المحاباة، سوف ألتزم الدقة في تسجيل الكلمات والحقائق — وهي منقوشة في عقلي نقشًا — دون أن أبدل فيها حرفًا، وسيكون قرائي هم الحكم بيني وبين القدر.
وظل الكرة يلقنني دروسه ويعلمني بنية جميع المجسمات المنتظمة: الأسطوانات والمخاريط والمجسمات الهرمية، والمجسمات ذات الخمسة أوجه والستة أوجه وذات الاثني عشر وجهًا، والكرات، ولكنني تجرأت على مقاطعته، لم يكن ذلك لأنني سئمت من المعرفة، بل على العكس تمامًا، لأنني كنت أتوق إلى جرعات أكبر مما كان يقدمه لي.
فقلت: «معذرة يا من يجب بعد الآن ألا ألقبه برمز الجمال المطلق، ولكن هل لي أن أرجوك أن تسمح لخادمك بإلقاء نظرة على باطنك.»
دعني أستعد ما سبق، ألم تخبرني عندما كنا في الأرض المسطحة أنني عندما أرى بعيني الخط المستقيم وأستنتج بعقلي وجود المستوى فإنني أرى في حقيقة الأمر بعدًا ثالثًا غير ملحوظ يختلف عن البريق ويدعى «الارتفاع»؟ وألا يعني ذلك أنني عندما أرى بعيني في هذه الأرض مستوى وأستنتج بعقلي مجسمًا فإنني أرى في حقيقة الأمر بعدًا رابعًا غير ملحوظ يختلف عن اللون مع أنه متناه في الصغر ويتعذر قياسه؟
وهناك إلى جانب ذلك البرهان القائم على القياس.
ألا تتحرك النقطة في بعد واحد لتصنع خطًّا مستقيمًا ذا نقطتين طرفيتين؟
ألا يتحرك الخط المستقيم في بعدين ليصنع مربعًا ذا أربع نقاط طرفية؟
ألا يتحرك المربع في أبعاد ثلاثة ليصنع كائنًا رائعًا ذا ثماني نقاط طرفية يدعى مكعبًا؟ ألم أر ذلك رأي العين؟
وبالمثل، ألن تصنع حركة هذا المكعب الرائع في أربعة أبعاد كائنًا أكثر منه روعة ذا ست عشرة نقطة طرفية؟
وتأمل هذا التتابع (٢، ٤، ٨، ١٦) الذي يعد دليلًا مؤكدًا، أليست هذه متوالية هندسية؟ ألا «يتفق ذلك اتفاقًا تامًّا مع القياس»؟ إذا سمحت لي يا سيدي أن أقتبس ما قلته لي.
وأعود فأقول ألم تعلمني يا سيدي أن الخط المستقيم تحده نقطتان، وأن المربع تحده أربعة خطوط، وأنه — قياسًا على ذلك — لا بد أن يكون المكعب محدودًا بستة أوجه؟ وتأمل مرة ثانية هذا التتابع الذي يؤكد ما أقول (٢، ٤، ٦)، أليست هذه متوالية حسابية؟ ألا يعني ذلك أن الذرية المقدسة التي ستأتي من المكعب المقدس في الأرض رباعية الأبعاد لا بد أن يحدها ثمانية مكعبات؟ ثم ألا «يتفق ذلك اتفاقًا تامًّا مع القياس» كما علمني سيدي؟
تأمل يا سيدي لقد آمنت إيمانًا قائمًا على الحدس دون أن أعرف الحقائق، وأتوسل إليك أن تؤكد أو تنفي توقعاتي المنطقية، وإذا كنتُ مخطئًا فسوف أسلم ولن أعود بعد ذلك إلى الحديث عن البعد الرابع، ولكن إذا كنتُ محقًّا فسوف يستمع سيدي إلى صوت العقل.
لذلك أسألك إن كان قومك قد شهدوا من قبل هبوط كائنات من رتبة تفوق رتبتهم، ودخولهم الغرف المغلقة — كما دخلت أنت غرفتي — دون أن يفتحوا بابًا أو نافذة، وظهورهم واختفاءهم كما يشاءون، وأنا مستعد لأن أراهن بكل شيء على إجابة هذا السؤال، أجب بالنفي وسألتزم الصمت من الآن فصاعدًا، فقط أعطني ردًّا.
لم أدر متى كان يجب على أن أسكت عن الكلام، وعبثًا كرر الكرة بصوته الهادر أمره لي بالتزام الصمت، وتوعدني بأفظع العواقب إذا واصلت الكلام، ولكن لم يكن شيء قادرًا على الوقوف أمام سيل طموحاتي الجامحة. ربما أكون قد أخطأت، ولكنني كنت منتشيًا بجرعات الحقيقة التي سقانيها بيده. ولم يطل الأمر كثيرًا، إذ قطع سيل كلماتي صوت ضجة عنيفة دوت في نفس الوقت داخل جسدي وخارجه، واندفعتُ في الفضاء بسرعة عجزتُ معها عن الكلام. كنت أهبط إلى أسفل بسرعة هائلة، وعلمت أن قدري المحتوم هو العودة إلى، الأرض المسطحة وألقيت نظرة أخيرة — نظرة لن أنساها ما حييت — على هذا القفر المسطح الذي سيغدو من جديد كل عالمي، رأيته ممتدًا أمام ناظري قبل أن يسود الظلام، ثم انتهي كل ذلك بصوت كهزيم الرعد. وعندما ثُبتُ إلى رشدي، كنت قد عدت ثانية مربعًا زاحفًا من العامة، أجلس في حجرة مكتبي بالبيت، وأنصت إلى صيحة السلام المميزة لزوجتي إذ تقترب.