أدوات الموت الثلاث
من واقعِ حياةِ الأب براون المهنيَّة ومعتقداتِه الدينية على حدٍّ سواء، كان يعرفُ، على نحوٍ أفضلَ من معظمنا، أنَّ كل إنسانٍ يُكرَم عند موته، ولكن انتابَهُ شعورٌ مفاجئٌ بالنقيض حين أُوقظ فجرًا وأُخبرَ بأنَّ السير آرون آرمسترونج قد قُتل. ثمَّةَ شيءٌ غريبٌ ومشين يتعلَّق بعُنفٍ غامضٍ يُقترف بحق شخصية مَرِحةٍ ومشهورة جدًّا كشخصية السير آرون آرمسترونج؛ فقد كان مَرِحًا إلى حد الكوميديا، ومشهورًا إلى حدٍّ يقتربُ من كونِه أسطوريًّا. وكان الأمرُ أشبهَ بسماع خبرِ أنَّ صني جيم شنَق نفسَه، أو أنَّ السيدَ بيكويك قد مات في بلدة هانويل. ورغمَ أنَّ السير آرون كان محبًّا للعمل الخيري، ومن ثمَّ كان يتعاملُ مع الجانبِ المظلم لمجتمعنا، فقد كان يفخرُ بنفسه لتعاملِه مع الأمر بأبرع صورةٍ ممكنة. وكانت خُطَبُه السياسيةُ والاجتماعية عبارةً عن سَيلٍ من الحكايات و«الضحكات الصاخبة»، وكانت صحَّتُه البدنية ممتازة، ومعتقداتُه الأخلاقية ذاتَ طابعٍ تفاؤلي في مجملها، وكان يتعاملُ مع مسألةِ معاقرةِ المشروبات الكحولية (التي تُعَدُّ موضوعَه المفضَّل) بذلك المرَحِ الأبديِّ أو بالأحرى الرَّتيب الذي يَليقُ عادةً بشخص نجَح تمامًا في الإقلاع عن الشراب.
كانت قصةُ هدايتِه المعروفة مألوفةً على المنابر والمنصَّات الأكثر بيوريتانية؛ كيف حوَّل انتباهَه، حين كان مجردَ صبيٍّ، من اللاهوت الاسكتلندي إلى الويسكي الاسكتلندي، وكيف ترَك كِلَا الأمرَين وصار إلى ما هو عليه (على حدِّ وصفِه المتواضع). إلا أنَّ لحيتَه البيضاءَ الكثيفةَ ووجْهَه الملائكي ونظَّارتَه اللامعة، في حفلات العشاء والاجتماعات التي لا حصْرَ لها التي ظهَر بها، جَعلتْ من الصعب بعضَ الشيء تصديقَ أنه كان يتصفُ يومًا بشيء مروِّعٍ ككونِه شخصًا معتادًا على شُرْب الكحوليات أو متَّبِعًا لمذهب الكالفينية؛ إذ يشعرُ المرءُ أنه كان الأكثرَ مرحًا بدرجةٍ بالغةٍ بين جميعِ الرجال من بني جِنسِه.
كان يعيشُ على الطرف الريفي لهامبستيد في منزل فخْم، عالٍ لكن غير فسيح؛ بُرجٍ حديثٍ ومبتذَل. يُطِلُّ أضيقُ جانبٍ من جوانبه الضيقة على ضفَّةٍ خضراءَ منحدرةٍ لأحدِ خطوطِ السككِ الحديدية، ويهتزُّ كلما مرَّتِ القطاراتُ أمامَه. ولم يكن السير آرون آرمسترونج يمتلك أعصابًا قوية، كما أوضح على نحوٍ صاخِب. فحينما كان القطارُ يتسبَّبُ في صدمةٍ للمنزل وهذا ما كان يحدث كثيرًا؛ كانت الأمور في صبيحةِ ذلك اليوم تنقلب رأسًا على عقِب، ويكون المنزلُ هو المتسبِّب في صدمةٍ للقطار.
أبطأَ القطارُ من سرعتِه وتوقَّف عند تلك النقطةِ تحديدًا التي تَتلامسُ عندها زاويةُ المنزلِ مع المنحدرِ الحادِّ للمرج. ولا بدَّ أن يحدثَ التوقفُ لأغلبِ الآلاتِ الميكانيكية ببُطء؛ إلا أنَّ السببَ الحقيقيَّ لهذا التوقفِ سرعان ما اتضح جليًّا؛ فقد ظهَر رجلٌ يرتدي ملابسَ سوداءَ بالكامل حتى يداه كانتَا مغطَّاتَين بقفَّازين أسودين (كما ذكر)، عند المنحدرِ فوق القطار، وأخَذ يُلوِّحُ بيدَيه السوداوين كطاحونةٍ سوداء، وهذا في حدِّ ذاتِه يستحيلُ أن يُوقفَ قطارًا متباطئًا، إلا أنه أصدرَ صرخةً وُصفت فيما بعدُ بكونِها شيئًا غيرَ طبيعيٍّ وغيرَ مألوفٍ تمامًا؛ كانت صرخةً من الصرخات المميزة على نحو بَشِعٍ حتى إن لم نستطعْ سماعَ ما تقولُه الصرخةُ تحديدًا. وكانت العبارةُ المستخدمة في هذه الحالة هي: «جريمة قتل!»
يُقسِمُ سائقُ القطارِ أنه كان سيُوقفُ القطارَ مثلما فعَل لو أنه سَمِع فقط النبرةَ المفزعةَ والواضحة حتى لو لم يتبيَّنِ العبارةَ بوضوح.
وبمجرد أن توقَّف القطار، فإنَّ أكثرَ نظرةٍ مصطنعةٍ على الأمر يمكنُ أن تُلخِّصَ سماتٍ كثيرةً من المأساة. كان الرجلُ ذو الملابسِ السوداء الواقفُ على الضفَّة الخضراء هو ماجنوس خادمُ السير آرون آرمسترونج. كان البارونيت في عزِّ تفاؤلِه يسخرُ كثيرًا من القفَّازين الأسودين اللذين يرتديهما هذا الخادم الكئيب؛ ولكن ليس من المرجَّح الآن أن يسخرَ منه أحد.
وبمجرد أن نزَل محقِّقٌ أو اثنان من القطار وعبرَا السِّيَاجَ الملبَّدَ بالدخان، رأيَا جثةَ رجلٍ عجوزٍ يرتدي روبًا أصفرَ اللونِ ذا بطانةٍ قرمزية زاهية جدًّا وقد تدحرجتْ حتى وصلتْ إلى الجزء السفلي من الضفَّة. بدَا أنَّ ثمةَ طرفَ حبلٍ قد التفَّ حولَ ساقه، ما يوحي بأنه ربما يكون قد اشتبك في شجار. كان يوجد لطخةٌ أو نحوُ ذلك من الدماء، لكنها كانت ضئيلةً جدًّا؛ إلا أن الجثةَ كانتْ منحنيةً أو مقوَّسةً في وضعيةٍ مستحيلةٍ بالنسبة إلى أيِّ كائنٍ حيٍّ. كانت هذه هي جثَّةَ السير آرون آرمسترونج. وبعدَ مرورِ بضعِ دقائقَ مربكةٍ أخرى، ظهر رجلٌ ضخمٌ ذو لحيةٍ شقراء، حيَّاه بعضُ المسافرين باعتباره سكرتيرَ القتيل، باتريك رويس، والذي كان فيما سبَق معروفًا جدًّا في المجتمع البوهيمي، بل وكان مشهورًا في مجال الفنونِ البوهيمية، وبأسلوبٍ أكثرَ غموضًا، ولكنَّه أكثرُ إقناعًا، كرَّر صرخةَ الألمِ التي أطلقها الخادم، وعندما جاء الشخصُ الثالثُ من تلك الأُسرة، أليس آرمسترونج، ابنة القتيل، وقد أخذت تترنَّح وتتهدَّج عبرَ الحديقة، كان سائقُ القطارِ قد أنهَى توقُّفَه. وانطلقت الصافرة ومضى القطارُ مسرعًا لطلبِ المساعدةِ من المحطَّة التالية.
وهكذا، جرى استدعاءُ الأبِ براون على وجْهِ السرعةِ بناءً على طلبِ باتريك رويس، السكرتيرِ البوهيمي السابقِ العظيم. كان رويس أيرلنديًّا بالمولِد، وكاثوليكيًّا غيرَ منتظمٍ في العبادة لا يتذكَّرُ دينَه مطلقًا إلا حين يقعُ في ورطةٍ حقيقية. وما كان طلَبُ رويس ليلقَى استجابةً سريعةً لو لم يكن أحدُ المحقِّقين الرسميِّين في القضية صديقًا للمحقق غيرِ الرسمي فلامبو ومعجبًا به، وكان من المستحيل أن تكون صديقًا لفلامبو دونَ أن تسمعَ عددًا لا حصرَ له من القصصِ عن الأبِ براون؛ لذا بينما كان المحقِّقُ الشابُّ (الذي كان يُدعَى ميرتون) يقودُ القسَّ الضئيلَ البِنْيةِ عبرَ الحقولِ ناحية خط السككِ الحديدية، كان حديثُهما سرِّيًّا أكثرَ مما يمكنُ توقُّعه من شخصَين لا يعرفُ أحدُهما الآخرَ على الإطلاق.
قال السيد ميرتون بصراحة: «حسبما أرى، لا أستطيعُ تبيُّنَ شيءٍ في هذه القضيةِ برمَّتِها. لا يستطيعُ المرءُ أن يشكَّ في أحد؛ فماجنوس عجوزٌ أحمقُ كئيب، وهو أحمقُ بشدَّة بحيثُ لا يمكنُ أن يُصبحَ قاتلًا. ورويس كان أفضلَ صديقٍ للبارونيت لسنوات، وابنتُه بلا شك تَعشقُه. وفوق كلِّ ذلك، الأمرُ كلُّه غريبٌ جدًّا. مَن ذا الذي يُقدِمُ على قتْلِ عجوزٍ مرِحٍ مثل آرمسترونج؟ مَن الذي يستطيعُ أن يَغمِسَ يدَه في دماءِ متحدِّثٍ مسلٍّ في مناسبات العَشاءِ الرسمية؟ الأمرُ أشبهُ بقتْل بابا نويل.»
قال الأبُ براون مصدِّقًا على كلامه: «أجَلْ، كان منزلًا مُبهجًا. كان منزلًا مُبهجًا عندما كان هو على قَيدِ الحياة. هل تظنه سيكون مُبهجًا الآن بعدَ وفاتِه؟»
تفاجأَ ميرتون قليلًا ونظَر إلى رفيقه بعينٍ مفعمةٍ بالحيوية وردَّد قائلًا: «الآنَ بعدَ وفاتِه؟»
تابَع القسُّ في فتورٍ قائلًا: «أجَلْ. كان السير مرِحًا، ولكنْ هل نقَل لأحدٍ مرحَه هذا؟ بصراحة، هل كان هناك شخصٌ آخرُ مرِحٌ في هذا المنزلِ باستثنائه هو؟»
فُتحتْ نافذةٌ في عقْلِ ميرتون لينفُذَ خلالَها ضوءُ المفاجأةِ الغريب الذي نرَى من خلالِه لأول مرةٍ أمورًا كنَّا نَعرفُها طوالَ الوقت. لطالما كان ميرتون يتردَّدُ على منزلِ آل آرمسترونج، لأداءِ مهامَّ بوليسيةٍ صغيرةٍ خاصة بالرجل الخيِّر، وعندما فكَّر في المنزل الآن، وجَد أنه كان في حدِّ ذاتِه منزلًا كئيبًا. كانت الغُرَفُ عاليةً جدًّا وباردةً جدًّا؛ ومستوى الديكور متدنِّيًا، ويغلبُ عليه الطابعُ القروي؛ وكانت الممرَّاتُ المعرَّضة لتيارات الهواء مضاءةً بكهرباء أكثرَ خفوتًا من ضوء القمر. وعلى الرغمِ من أنَّ وجْهَ العجوزِ المخضَّبَ بالحُمرةِ ولحيتَه الفضيَّةَ كانا يتألَّقانِ كنارِ التدفئةِ في كلِّ غرفةٍ أو ممرٍّ الواحد تلوَ الآخر، فإنَّ هذه النارَ لم تُخلِّفْ وراءَها أيَّ شعورٍ بالدِّفء. لا شكَّ أن هذا الشعورَ غيرَ المريحِ المخيِّم على المكان يرجعُ جزءٌ منه إلى الحيويَّة والحماسِ الكبيرَين لصاحب المنزل؛ فعلى حدِّ قولِه، لا حاجةَ له إلى مشاعلَ أو مصابيحَ، حيث إنَّه يحمل الدفءَ معه أينما حلَّ. ولكن حين استدعَى ميرتون النُّزلاءَ الآخرين، اضطرَّ إلى الاعترافِ بأنهم كانوا بمنزلةِ ظلالٍ لصاحبِ المنزل. كان الخادمُ الكئيب، بقفَّازَيه الأسودَين البَشِعين، أشبهَ بكابوس؛ ورويس، السكرتير، كان متَّزِنًا بالدرجة الكافية، وكان رجلًا ضخم الجثةِ يرتدي بذلةً صوفية وذا لحيةٍ قصيرة؛ إلا أنَّ اللحيةَ الشَّقراءَ كلَونِ القشِّ كان يَشوبُها اللونُ الرماديُّ كالبذلةِ الصوفيةِ التي يرتديها، والجبهة العريضة كانت مغطَّاةً بتجاعيدَ سابقةٍ لأوانِها. كان ذا طبيعةٍ ودودةٍ بالدرجةِ الكافيةِ أيضًا؛ إلا أنها طبيعةٌ ودودةٌ من النوعيَّةِ المحزنة، أقربُ إلى النوعيةِ المحطِّمةِ للقلوب؛ إذ كان يُعطي انطباعًا على ما يبدو بأنه كان فاشلًا في حياته. أما بالنسبة إلى ابنةِ آرمسترونج، فلا يكادُ أحدٌ يُصدِّقُ أنها ابنةُ الرجل؛ فقد كانت بشرتُها شاحبةً جدًّا كما كانت بنيتها الجسديَّة ضعيفة. كانت رشيقةً، إلا أن ثمَّة رعشةً في كلِّ حركةٍ لها كحركةِ أغصانِ شجرِ الحور. أحيانًا كان ميرتون يتساءَلُ في نفسِه عمَّا إذا كانت قد اعتادت الارتجافَ من اهتزازِ القطاراتِ المارة بمنزلهم.
قال الأبُ براون، وقد طرَف بعينَيه في تواضُعٍ: «لستُ واثقًا من أن مرَحَ آرمسترونج أمرٌ مبهجٌ جدًّا — بالنسبةِ إلى الآخرين. أنت تقولُ إنَّه لا أحدَ يستطيعُ قتْلَ عجوزٍ مرِحٍ كهذا، ولكني لستُ واثقًا من هذا، اللهمَّ نجِّنا من المغريات.» ثم أضافَ ببساطةٍ: «لو قُدِّرَ لي قتْلُ أحدٍ، فأظنُّ أنَّني قد أَقتُلُ شخصًا متفائلًا.»
صاح ميرتون في تعجُّبٍ: «لماذا؟ هل تعتقدُ أن الناسَ يَكرهون المرَح؟»
ردَّ الأبُ براون قائلًا: «الناسُ يُحبُّون الضحكَ من حينٍ لآخرَ، لكنْ لا أظنُّ أنهم يحبُّون الابتسامةَ الدائمة؛ فالمرَح بدون حِسِّ الدُّعابةِ هو أمرٌ مزعجٌ للغاية.»
سارَا في صمْتٍ لمسافةٍ قصيرةٍ على طولِ الضفَّةِ العُشبيةِ التي تَعصفُ الرياحُ بها قُرْبَ السِّكَّةِ الحديدية، وعندما وصلَا إلى الظلِّ الممتدِّ لمنزل آرمسترونج العالي، قال الأبُ براون فجأةً، وكأنه يَطرُدُ فكرةً مزعجةً بدلًا من أن يَطرحَها بجديَّة: «بالطبع، معاقرةُ الكحولياتِ ليستْ بأمر جيِّدٍ أو سيئ في حدِّ ذاتِه، لكن لا يمكنُني أحيانًا مقاومة فكرة أن رجالًا مثلَ آرمسترونج يرغبونَ في كأسٍ من النبيذ من وقتٍ لآخرَ ليجعلَهم يشعرونَ بالحُزن.»
كان رئيسُ ميرتون الرسمي، وهو محقِّقٌ كفءٌ شائبُ الرأسِ يُدعَى جيلدر، يقفُ على الضفَّةِ الخضراء في انتظار محقِّقِ الوَفَيات، وكان يتحدَّثُ مع باتريك رويس الذي حجَبَه بكتفَيه العريضتَين ولحيتِه وشعرِه الخشنَين. كان هذا ملحوظًا أكثر؛ لأنَّ رويس كان يسيرُ دومًا بانحناءةٍ شديدةٍ وبدَا أنه كان يُنجِزُ واجباتِه المكتبيةَ والمنزليةَ بأسلوبٍ رصينٍ ومتواضع، كان أشبه في أدائه بجاموس يجرُّ عربةً.
رفع رأسَه بسرورٍ غيرِ معتادٍ عند رؤيةِ القسِّ، واصطحبَه منتحيًا به بضعَ خُطواتٍ. في هذه الأثناءِ، كان ميرتون يتحدَّثُ إلى المحقِّقِ الأكبرِ سنًّا بكلِّ احترامٍ قطعًا، ولكنْ ببعضٍ من نفادِ الصبرِ الصِّبياني.
«حسنًا، سيد جيلدر، هل مضيتَ قُدُمًا في حلِّ اللغز؟»
ردَّ جيلدر، وهو ينظرُ بعينَين حالمتَين إلى غِربانِ القَيظِ، قائلًا: «لا يوجدُ أيُّ لُغزٍ.»
قال ميرتون مبتسمًا: «حسنًا، بالنسبة إليَّ، هناك لغزٌ، بكلِّ المقاييس.»
أشارَ المحقِّقُ الكبيرُ وهو يَفرُكُ لحيتَه الرماديةَ المستدِقَّةَ الطَّرف: «إنَّ الأمرَ بسيطٌ تمامًا، يا بُنيَّ؛ فبعدَ أن ذهبتَ لاستدعاء قسِّ السيدِ رويس بثلاث دقائق، انكشف الأمرُ بأكملِه. هل تعرفُ هذا الخادمَ الشاحبَ الوجهِ صاحبَ القفَّازين الأسودين الذي أوقفَ القطارَ؟»
«حريٌّ بي أن أعرفَه على أيَّةِ حالٍ؛ لقد جعَل الدماءَ تتجمَّدُ في عروقي بطريقةٍ أو بأخرى.»
قال جيلدر متشدِّقًا: «حسنًا، عندما مضَى القطارُ في طريقِه مجدَّدًا، اختفَى هذا الرجلُ أيضًا. ألا تظنُّ أنه مجرمٌ وقِحٌ ليهربَ على متْنِ القطارِ نفسه الذي انطلقَ لاستدعاءِ الشرطة؟»
ردَّ الشابُّ قائلًا: «هل أنتَ متأكِّدٌ تمامًا أنه قتَل سيِّدَه حقًّا؟»
أجاب جيلدر بغِلظةٍ: «أجَلْ، يا بُنيَّ، أنا متأكِّدٌ تمامًا لسببٍ واضحٍ، وهو أنه هرَب بعشرين ألفَ جنيه ورقية كانتْ موجودةً في مكتب سيدِه. إلا أنَّ الشيءَ الوحيدَ الذي يُمثِّلُ حقًّا لغزًا هو الطريقةُ التي قتَله بها. تبدو الجمجمةُ مهشَّمةً بسلاحٍ ضخم، ولكن لا يوجدُ سلاحٌ مطلقًا في المكان، ولا بدَّ أن القاتلَ وجَد أن من الصعبِ حَمْلَه ما لم يكن سلاحًا صغيرًا أكثر من اللازم لدرجة أنه لا يمكنُ ملاحظتُه.»
قال القسُّ بضحكةٍ خافتةٍ مقتضبة وغريبة: «ربَّما كان السلاحُ كبيرًا أكثر من اللازم لدرجةِ أنه لا يمكنُ ملاحظتُه.»
التفت جيلدر عندما سمِع هذه الملاحظةَ الغريبة، وسأل براون بجديَّةٍ عما يَقصدُه.
قال الأبُ براون معتذِرًا: «أعرفُ أنها طريقةٌ سخيفةٌ للتعبيرِ عن الأمر؛ إذ إنَّ الأمرَ أشبهُ بالقصص الخرافية. إلا أن آرمسترونج المسكين قُتل بهِراوةِ مارد؛ هِراوةٍ خضراءَ كبيرة، ضخمةٍ جدًّا لدرجةِ أنها لا يمكنُ رؤيتُها، والتي نُطلق عليها الأرض، لقد اصطدمَ بهذه الضفَّةِ الخضراءِ التي نقفُ عليها الآن.»
سأله المحقِّقُ بسرعة: «ماذا تقصدُ؟»
رفع الأبُ براون وجهَه الذي يُشبِهُ البدرَ نحو الواجهةِ الضيقة للمنزل ونظر بعينَيه لأعلى على نحوٍ يائس. وبمتابعةِ عينَيه، رأَوا عند الجزءِ العلويِّ من هذا الربعِ الخلفي الخفي عن الأنظار من المبنى، نافذةَ عُلِّيَّةٍ مفتوحةً على مِصراعَيها.
أوضَح وهو يُشيرُ على نحوٍ مرتبِكٍ قليلًا كما يفعلُ الأطفالُ: «ألا تَرَونَ أنه قد أُلقيَ من هناك؟»
حدَّق جيلدر مُتجهِّمًا في النافذة، ثم قال: «حسنًا، هذا محتملٌ قطعًا، ولكني لا أرى لماذا أنتَ موقنٌ من هذا لهذه الدرجة.»
فتَح براون عينَيه الرماديتَين على وسعِهما قائلًا: «يوجد طرفُ حبلٍ ملفوفٌ حول ساقِ القتيلِ. ألا تَرَونَ أنَّ الطرفَ الآخرَ معلَّقٌ هناك بالأعلى عند زاويةِ النافذة؟»
على ذلك الارتفاعِ، بدا الحبلُ أشبهَ بذرَّةِ ترابٍ صغيرةٍ أو خُصلةِ شعرٍ ضئيلة؛ إلا أنَّ المحقِّقَ العجوزَ المحنَّك بدتْ عليه علاماتُ الرضا. وقال للأب براون: «أنت محقٌّ تمامًا، يا سيدي. هذا بالتأكيد يُحسَبُ لكَ.»
وأثناءَ حديثِه، مرَّ قطارٌ خاصٌّ بعربةٍ واحدةٍ وانعطفَ مع خطِّ السكةِ الحديديةِ الموجودِ على يسارِهما، ليتوقَّفَ وتهبطَ مجموعةٌ أخرى من رجال الشرطةِ ووسطَهم وجهُ ماجنوس البئيس، الخادمِ الهارب.
صاح جيلدر وهو يتقدَّم إلى الأمام بوعْيٍ وانتباهٍ جديدَين: «يا إلهي! لقد أمسكوا به.»
وصاح مخاطبًا رجلَ الشرطة الأول: «هل عثرتُم على الأموال؟»
نظَر إليه الرجلُ في عينَيه وعلى وجهِه تعبيرٌ ينمُّ عن التعجبِ قائلًا: «كَلَّا!» ثُم أضافَ قائلًا: «على الأقل، هي ليستْ هنا.»
تساءلَ الرجلُ الذي يُدعَى ماجنوس: «عذرًا، مَن المفتش؟»
عندما تحدَّث، عرَف الجميعُ على الفورِ كيف أوقفَ هذا الصوتُ القطارَ. كان رجلًا فاترَ الهمَّةِ ذا شعرٍ أسودَ أملسَ ووجهٍ شاحبٍ، والخطوطُ الرفيعةُ المستوية لعينَيه وفمِه تُعطي إيحاءً بسيطًا بأنه قادمٌ من الشرق. لقد ظلَّ اسمُه وأصلُه مشكوكًا فيهما منذ أن «أنقذَه» السير آرون، من الخدمة في أحدِ المطاعمِ اللندنية، ومن أمورٍ أسوأَ من ذلك (كما يقول البعضُ)، إلا أنَّ صوتَه كان قويًّا بقَدْرِ ما كان وجهُه شاحبًا كالموتى. كانت نبرةُ صوتِ ماجنوس ذاتَ رنَّةٍ غريبةٍ وطبيعةٍ حادَّة، سواءٌ أكان هذا بسببِ إتقانِه للغةٍ أجنبية أم إبدائِه الاحترامَ لسيدِه (الذي كان يُعاني من الصَّمَمِ بعضَ الشيء)، وما إنْ تحدَّث حتى فزعتِ المجموعةُ بأكملها.
قال بصوت عالٍ مشوبٍ بوقاحةٍ فجَّة: «لطالما كنتُ أعرفُ أن هذا سيحدثُ. سيدي العجوزُ المسكين كان يسخرُ من ارتدائي اللونَ الأسود، ولكن كنتُ دومًا أقولُ إنَّه حريٌّ بي الاستعدادُ لجنازته.»
ثم أصدر حركةً خاطفةً بيدَيْه المُغطَّاتَين بالقفازين الأسودين.
قال المفتشُ جيلدر، محدِّقًا في اليدَين السوداوَين بغضبٍ: «أيُّها الرقيب، هلَّا كبَّلتَ هذا الرجل بالقيود؛ فيبدو أنه خطير جدًّا؟»
قال الرقيب بالنظرة المتعجبة ذاتها: «حسنًا يا سيدي. لا أعرف أن في وسعِنا فعل ذلك.»
سأل الآخرُ بنبرة حادة: «ماذا تقصد؟ ألم تُلقوا القبض عليه؟»
اتسع الفمُ الشبيه بخط رفيع في ازدراء، وبدا أن صفيرَ قطارٍ قادمٍ يُردِّد على نحوٍ غريب صدى هذا الازدراء.
ردَّ الرقيبُ بجدية شديدة: «ألقَينا القبضَ عليه وهو يَهمُّ بالخروج من قِسم الشرطة بمنطقة هايجيت، حيثُ سلَّم أموال سيدِه كلَّها إلى المفتش روبنسون.»
نظر جيلدر إلى الخادم في دهشة تامة، وسأله: «لماذا فعلتَ ذلك بحقِّ السماء؟»
أجاب الرجلُ في هدوء: «لأُبقيَها في مأمن بعيدًا عن المجرم، بالطبع.»
قال جيلدر: «بالتأكيد، أموالُ السير آرون ستكون في أمان إنْ بقيتْ في حوزة أسرةِ السير آرون.»
اختفى الشطرُ الأخير من العبارة وسطَ هديرِ صوت القطارِ أثناء اهتزازِه ورجرجته؛ ولكن رغم كلِّ الضوضاء التي يتعرَّض لها هذا البيتُ الحزين على نحوٍ دوري، استطاعوا سماعَ كلِّ مقاطع إجابةِ ماجنوس، بنبرتها الحادة كالجرس: «ليس لديَّ أدنى سببٍ للوثوق في أسرة السير آرون.»
انتاب جميعَ الرجال الواقفين بلا حراكٍ شعورٌ بأن شبحًا دخَل عليهم وذلك عندما حضَر شخصٌ جديد على المشهد؛ لم يتفاجأْ ميرتون حين نظَر لأعلى ورأى الوجهَ الشاحبَ لابنة آرمسترونج من فوق كتفِ الأب براون. كانت لا تزالُ شابَّةً وجميلةً ذاتَ طابعٍ هادئ، إلا أن شعرَها كان مغبرًّا وذا لونٍ بنِّيٍّ باهت لدرجة أنه بدا مع بعض الظلال أنه تحوَّل إلى اللون الرمادي تمامًا.
قال رويس بغلظة: «احذرْ مما تقول. إنكَ ستُخيفُ الآنسةَ آرمسترونج.»
قال الرجل ذو الصوت المرتفع الواضح: «آمُلُ ذلك.»
في حين ارتعشتِ السيدةُ وتعجَّب الآخرون، واصل الرجل قائلًا: «لقد اعتدتُ بعضَ الشيء على الحركات المرتعشة للآنسة آرمسترونج. لقد رأيتُها ترتعشُ من وقتٍ لآخرَ على مدار سنوات. زعمَ البعضُ أنها ترتعشُ من البرد، وزعَم البعضُ الآخر أنها ترتعشُ من الخوف، إلا أنني أعرفُ أنها ترتعشُ من الكراهية والغضب الخبيث؛ اللذين تآمرا وبلغا مبلغهما هذا الصباح. كان من المقرر أن تكونَ قد هربتْ مع عشيقها بالأموال كلِّها لولاي. لطالما منعَها سيدي العجوزُ المسكين من الزواج بذلك الوغد السكِّير …»
قال جيلدر بحزم شديد: «توقَّفْ! ليس لنا علاقةٌ بتوهماتِكَ أو شكوكِك. ما لم يكن لديك دليلٌ ملموس، فإن آراءَك …»
قاطعَه ماجنوس بصوتِه الحاد قائلًا: «أوه! سأعطيكَ دليلًا ملموسًا. عليك أن تستدعيَني للمثول أمامَ المحكمة، سيدي المفتش، وسأقولُ الحقيقة. والحقيقةُ هي أنه مباشرةً بعد أن أُلقيَ العجوزُ من النافذة وهو ينزف، ركضتُ إلى العُلِّيَّة ووجدتُ ابنتَه فاقدةَ الوعي على الأرض وبيدها خنجرٌ أحمر. اسمحْ لي أن أُقدِّم هذا أيضًا إلى السلطات المعنيَّة.» أخرَج من جيب ردائِه الخلفي سكينَ قرنِ غزالٍ طويلة وعليها لطخةٌ حمراءُ اللون، وسلَّمها إلى النقيب بأدب. ثم تراجع إلى الوراء مرة أخرى، وكادت الخطوطُ الرفيعة لعينَيه تختفي من وجهه كوجْه رجلٍ صينيٍّ غبي مستهزئ.
شعر ميرتون بحالة أقرب إلى الغثيان عند النظر إليه؛ وقال لجيلدر مُتمتِمًا: «بالتأكيد، ستودُّ أن تأخذَ أقوال الآنسة آرمسترونج في مواجهة أقوالِه، أليس كذلك؟»
رفع الأبُ بروان وجهَه فجأة؛ كان وجهًا ناضرًا جدًّا بدا كما لو أنه غسله توًّا. قال في براءة متألقة: «بلى، لكن هل أقوال الآنسة آرمسترونج مناقضة لأقواله؟»
أطلقت الفتاةُ صرخةً مقتضبة مفاجئة وغريبة؛ فنظر الجميعُ إليها. كانت بِنيتُها متصلبةً كما لو أصابها الشلل؛ باستثناء وجهِها المحاط بشعرٍ بنِّيٍّ باهتٍ بدا مُفعمًا من هَولِ مفاجأةٍ مفزعة. وقفتْ كما لو أنها مقيدة ومكتوفة.
قال السيد جيلدر في رزانة: «هذا الرجلُ يقول إنه عثر عليكِ ممسكة بسكين، فاقدة الوعي، بعد وقوعِ الجريمة.»
ردت أليس، قائلةً: «هو يقول الحقيقة.»
الحقيقة التالية التي أدركوها هي أن باتريك رويس اخترق برأسِه الكبير المنحني دائرتَهم، وقال كلماتٍ غريبة: «حسنًا، إذا كنت مضطرًّا إلى الرحيل، فسأنال بعضَ المتعة أولًا.»
هزَّ كتفَه الضخمة وسدَّد لكمةً ساحقة إلى وجْه ماجنوس المنغولي الأحمق، ليُوقعَه على الأرض العشبية في وضعية مسطَّحة كقنديل البحر. أمسك رجلان أو ثلاثة من رجال الشرطة فورًا برويس؛ ثم بدا الأمرُ كما لو أن المنطق قد انهار وتحوَّل العالم إلى مسرحية هزلية حمقاء.
صاح جيلدر بلهجة آمرة: «هذا السلوكُ غيرُ مسموح به، يا سيد رويس. سأُلقي القبضَ عليك بتهمة الاعتداء.»
ردَّ السكرتير بصوت أشبه بصوت جرس حديدي: «كلَّا، لن تفعل، بل ستُلقي القبضَ عليَّ بتهمة القتل.»
وجَّه جيلدر نظرةً منزعجة إلى الرجل المُلقى على الأرض، ولكن نظرًا لأن الرجل المُعتدى عليه كان جالسًا بالفعل ويمسحُ بعضَ الدماء القليلة من وجهه الذي كان سليمًا تمامًا، قال بعد وقت قليل: «ماذا تقصد؟»
أوضح رويس قائلًا: «الأمرُ صحيحٌ تمامًا، كما يقول هذا الرجل. إنَّ الآنسة آرمسترونج فقدتِ الوعيَ والسكينُ بيدها. ولكنها لم تأخذ السكينَ لتعتديَ على والدها؛ وإنما لتدافعَ عنه.»
كرَّر جيلدر الكلامَ بنبرة رزينة: «لتدافعَ عنه. ضد من؟»
ردَّ السكرتير قائلًا: «ضدي!»
نظرتْ إليه أليس بنظرة مرتبكة ومتحيرة؛ ثم قالت بصوت منخفض: «رغم كلِّ شيء، أنا سعيدة بشجاعتك.»
قال باتريك رويس بنبرة مثقلة: «هيَّا نصعدُ إلى الطابق العلوي، وسأُبين لكم القصةَ اللعينة بأكملها.»
بدا على عُلِّيَّة المنزل، التي كانت تُعَدُّ السكنَ الخاص بالسكرتير (وهي بالأحرى صومعةٌ صغيرة بالنسبة إلى ناسكٍ كبير كهذا)، كلُّ الشواهد الدالة على وقوع حادثة عنيفة. بالقرب من وسط الغرفة، كان يوجد مسدسٌ كبير على الأرض كما لو أنه قُذف بعيدًا، وعلى مسافة أقرب نحو اليسار كانت تتدحرجُ زجاجةُ ويسكي مفتوحة ولكنها ليست فارغةً تمامًا. ومفرش الطاولة الصغيرة كان مسحوبًا ومدهوسًا على الأرض، وحبل مثل الذي وُجد على الجثة، كان موثقًا بشدة عند عتبة النافذة. وكان هناك مزهريتان مهشمتان فوق رفِّ المدفأة، وثالثة فوق السجادة.
قال رويس: «كنتُ ثَمِلًا.» وهذه البساطةُ في كلام الرجل المدمَّر نفسيًّا قبل الأوان أثارتْ بعضَ الشيء الشفقةَ التي نُبديها على أول خطيئة يرتكبها طفل صغير.
واصل حديثَه بصوت مبحوح قائلًا: «جميعُكم يعرفني، الجميعُ يعرف كيف بدأتْ قصتي، ولعلها تنتهي بنفس الطريقة أيضًا. كنتُ أُوصَفُ بأنني رجلٌ بارع؛ ولعلي كنتُ سعيدًا؛ آرمسترونج أنقذ بقايا عقلٍ وجسد كانا يتنقلان بين الحانات، ولطالما كان هذا الرجلُ المسكين كريمًا معي بطريقته الخاصة! فقط ما كان ليسمحَ لي بأن أتزوجَ أليس؛ ولسوف يُقال دومًا إنه كان محقًّا بالدرجة الكافية. حسنًا، يمكنكم أن تكوِّنوا استنتاجاتِكم، ولعلكم لا تُريدونني أن أخوضَ في التفاصيل. ها هي زجاجةُ الويسكي نصفُ فارغة عند الزاوية؛ وها هو مسدسي شِبهُ فارغ على السجادة، والحبل الذي عُثر عليه موثقًا بالجثة كان من صندوقي، ومن نافذة غرفتي أُلقيت الجثة. لستم بحاجة إلى المحققين لينبشوا في مأساتي؛ إنها مأساة شائعة في هذا العالم، وها أنا أسلم نفسي إلى حبل المشنقة، وتالله هذا يكفي!»
بإشارة صغيرة، التفَّ رجالُ الشرطة حول الرجلِ الضخم ليقتادوه بعيدًا، ولكن توارَى تصرُّفُهم غير الاستعراضي بعضَ الشيء أمام الحضور اللافت النظر للأب براون الذي جثَا على يديه وركبتيه فوق السجادة الموجودة في المدخل، كما لو أنه كان منهمكًا في صلاة خاشعة. ونظرًا لكونه شخصًا لا يأبه إطلاقًا بمظهره الاجتماعي الذي يجدر به أن يكون عليه، ظلَّ في هذه الوضعية، وأدار وجهه المستدير البرَّاق باتجاه الجميع، ليبدوَ في هيئة حيوانٍ من ذوات الأربع برأس بشري مضحك جدًّا.
قال بنبرة ودودة: «أنا أقول إن هذا غيرُ مقنع بتاتًا. في البداية قلتم إنكم لم تعثروا على أيِّ سلاح، ولكن الآن وجدْنا عددًا كبيرًا جدًّا؛ حيث يوجد السكين المستخدم في الطعن، والحبل المستخدم في الشنق، والمسدس المستخدم في إطلاق النار؛ وفي النهاية كُسر عنقُه بالسقوط من النافذة! هذا غير مقنع، وغير منطقي.» وهزَّ رأسه نحو الأرض كحصان يرعى في العشب.
همَّ المفتش جيلدر بفتح فمِه ليتحدَّثَ عن أمور مهمة، ولكن قبل أن يتمكَّنَ من الحديث، تحدَّث هذا الكائنُ الغريب الشكل الموجود على الأرض بلسان طليق.
«والآن، أمامنا ثلاثةُ أشياءَ مستحيلة تمامًا. أولًا، هذه الثقوبُ الموجودة في السجادة، التي تسببت فيها الرصاصاتُ السِّت. لماذا يُطلق أحدُهم النار على السجادة بأية حال؟ من المفترض أن يُطلقَ الرجل الثَّمِلُ النارَ على رأس عدوه، المبتسم إليه ابتسامة عريضة، ولكن لا يشتبكُ في عراكٍ مع قدميه، أو يحاصر خُفَّيه، ثم يأتي بعد ذلك الحبل.» وما إن فرغ المتحدثُ من حديثه عن السجادة، رفع يديه ووضعهما في جيبه، ولكنه واصل حديثَه بتلقائية وهو جاثٍ على ركبتيه: «أيَّة حالةِ سُكرٍ يمكن تصوُّرُها يحاول فيها المرءُ وضعَ الحبل حول رقبة المجني عليه وينتهي به الحالُ ليضعَه حول ساقه؟ لم يكن رويس ثَمِلًا، على أيَّة حال، إلى هذا الحدِّ المبالغ فيه؛ وإلا لكان نائمًا كلوحٍ خشبي الآن. والشيءُ الأوضح على الإطلاق هو زجاجة الويسكي. أنت تدَّعي وقوعَ شجارِ مدمنِ كحوليَّات من أجل زجاجة ويسكي، ثم بعد أن يفوز بالشجار، يُلقيها عند الزاوية، متجرِّعًا نصفَها وتاركًا النصف الآخر! هذا هو آخر شيء قد يفعله مدمن الكحوليات.»
اندفع على نحوٍ مربكٍ ليقفَ على قدميه وقال للقاتل الذي يتهمُ نفسَه بالجريمة بنبرة تُعبِّر عن ندم واضح: «أنا آسف جدًّا، سيدي الفاضل، لكنَّ قصتك محضُ هُراء.»
قالت أليس آرمسترونج بنبرةٍ خافتة للقسِّ: «سيدي، هل يمكنني أن أتحدَّث معك على انفراد لدقيقة؟»
أجبر هذا الطلبُ القسَّ الصريح أن يترك المكان، وقبل أن يتفوَّهَ بكلمة في الغرفة المجاورة، كانت الفتاة تتحدث بحدَّة غريبة.
قالت: «أنت رجلٌ ذكي، وأعرف أنك تحاول إنقاذَ باتريك. ولكن لا فائدةَ من وراء ذلك. السوادُ يكمنُ في صميم كلِّ شيء، وكلما عرفتَ أكثر، ازدادت الحجج التي ستُؤخذ ضد الرجل المسكين الذي أُحبُّه.»
تساءل براون وهو ينظر إليها بثبات: «لماذا؟»
أجابتْه بدرجة الثبات نفسها: «لأنني رأيتُه بنفسي يرتكب الجريمة.»
قال براون بلا تأثر: «أها! وماذا فعَل؟»
أوضحتْ قائلة: «كنتُ في الغرفة المجاورة لهما. كان كلا البابَين موصدًا، إلا أنني سمعتُ صوتًا فجأة، لم أسمعْه قط في حياتي، يصرخُ على نحوٍ متكرر «اللعنة، اللعنة، اللعنة»، ثم اهتزَّ البابان بصوت الطلقة الأولى الصادرة من المسدس. تكرَّر الصوتُ المدوي ثلاثَ مرات قبل أن أفتحَ البابَين وأجد الغرفةَ مليئة بالدخان؛ كان الدخان يتصاعد من المسدس الموجود بيد باتريك المجنون المسكين، ورأيتُه يُطلق الرصاصةَ القاتلة الأخيرة بأُمِّ عيني. ثم قفَز على والدي الذي تشبَّث في فزعٍ بعتبة النافذة، وبعد أن اشتبكا بالأيدي، حاول أن يخنقَه بالحبل، الذي ألقاه حولَ رأسه، ولكنه انزلق من فوق كتفَيه المقاومتين إلى قدميه. ثم أوثق الحبل حول ساق واحدة وأخذ باتريك يسحبه كالمجنون. فاستللتُ سكينًا من فوق السجادة، واندفعتُ بينهما، واستطعت أن أقطع الحبلَ قبل أن أفقد الوعي.»
قال الأب براون، بلطفه المعهود ودون تأثر: «مفهوم، شكرًا لكِ.»
بينما كانت الفتاة تنهار تحت وطأةِ ذكرياتها، مرَّ القسُّ في ثبات متوجهًا إلى الغرفة المجاورة، حيث وجد جيلدر وميرتون وحدَهما مع باتريك رويس الذي جلس مكبَّلًا على كرسي. ثم قال للمفتش في استسلام:
«هل يمكنني توجيه كلمةٍ إلى المعتقل في حضوركما، وهل يُسمح له بفك تلك الأصفاد المضحكة لدقيقة؟»
قال ميرتون بصوت خفيض: «هو رجل قوي جدًّا. لماذا تريده أن يخلع الأصفاد؟»
أجاب القسُّ في تواضع: «أوه! لعلي أنال عظيم الشرف بمصافحته.»
حدَّق كلا المحققين فيه، فأضاف الأب براون قائلًا: «ألا ترغب في إخبارهما بالأمر، يا سيدي؟»
حرَّك الرجل الجالس على الكرسي رأسَه الأشعث تعبيرًا عن الرفض، واستدار القسُّ بنفاد صبر.
قال: «إذن، سأخبرهم أنا. الحياة الخاصة أهم من السمعة العامة. سأنقذ الحي، وأدع الموتى يدفنون موتاهم.»
توجَّه إلى النافذة المُهلكة، وشرد ببصره خارجها وهو يواصل حديثه.
«قلت لكما إنه يوجد عددٌ كبير جدًّا من الأسلحة في هذه القضية وقتيل واحد فقط. وأقول لكما الآن إنها ليست أسلحة، ولم تُستخدَم بقصد القتل. كلُّ هذه الأدوات المخيفة: الحبل، والسكين اللعين، والمسدس المدوي، هي أدوات رحمة غريبة. إنها لم تُستخدم لقتل السير آرون، بل لإنقاذه.»
كرَّر جيلدر كلامَه قائلًا: «لإنقاذه! لكن من ماذا؟»
قال الأب براون: «من نفسه. أصاب السير آرون نوبةُ هوس بالانتحار.»
صاح ميرتون بنبرة مرتابة: «ماذا؟ وماذا عن عقيدة المرح والبهجة التي كان يعتنقها …»
قال القسُّ، وهو ينظر خارج النافذة: «إنها عقيدةٌ قاسية. لماذا لم يتركوه يبكي قليلًا، مثل آبائه من قبله؟ خُطَطُه تعثَّرت، وآراؤه صارتْ فاترة؛ ووراءَ هذا القناع المرح كان يوجد عقلٌ أجوف لشخص مُلحد. وفي النهاية، لكي يحافظ على مستوى مرحِه أمام الناس، عاد مرة أخرى إلى معاقرة الخمور التي كان قد توقَّف عنها منذ فترة طويلة، ولكن هناك ذلك الخوف من إدمان الكحوليات المتأصل في أيِّ شخص صادق امتنع عن الخمور تمامًا؛ فهو يتخيَّل ويتوقع الجحيم النفسي الذي حذَّر منه الآخرين، لقد استحوذ هذا على آرمسترونج المسكين قبل الأوان، وفي هذا الصباح تملكتْه هذه الحالة وجلس هنا وأخذ يصرخ أنه في جحيم، بصوت مجنون للغاية لدرجة أن ابنتَه لم تتعرف عليه. كان مهووسًا بفكرة الموت، وبالأفكار المؤذية لشخص مهووس، أخذ ينثر الموتَ حوله في عدة أشكال — حبل مشنقة طويل، ومسدس صديقه، وسكين. دخل رويس بالصدفة وتصرَّف في لمح البصر. ألقى السكين على السجادة وراءه، وانتزع المسدس، ونظرًا لأنه ليس لديه متَّسع من الوقت ليُفرغَه يدويًّا، أخذ يُفرغه مطلقًا رصاصة تلو الأخرى على الأرض. رأى الشخص الذي يحاول الانتحار شكلًا رابعًا للموت؛ ومن ثَم أسرع نحو النافذة. ولم يفعل المنقذُ سوى الشيءِ الوحيد الذي في مقدوره فعله — ركض خلفه بالحبل وحاول أن يقيد يديه وقدميه. ثم دخلت الفتاةُ التعيسة الحظ مسرعةً لتُسيء فهْمَ الصراع، وجاهدتْ لتُحرِّر أباها. في البداية جرحتْ مفاصلَ أصابع يدِ رويس المسكين، والتي نزفت الكمية القليلة من الدماء التي ظهرتْ في هذه الحادثة، ولكن، بالطبع، تلاحظون أنه ترك أثرَ دماء، بلا جُرح واضح، على وجه ذلك الخادم؟ وقبل أن تفقدَ الفتاة المسكينة وعيَها، كانت قد حرَّرتْ قيد أبيها، ومن ثَم اندفع خارجَ النافذة وهوَى إلى الهلاك الأبدي.»
خيَّم السكون على المكان لفترة طويلة قبل أن يقطعَه ببطء ضوضاء أصوات معدنية ناجمة عن فك جيلدر لأصفاد باتريك رويس، الذي قال له: «أظن أنه حريٌّ بي أن أُعلن الحقيقة، يا سيدي. أنت والسيدة الشابة تستحقان التكريم أكثر من التكريم الذي سيحصل عليه آرمسترونج في نعيه.»
صاح رويس بفظاظة قائلًا: «اللعنة على نعي آرمسترونج. ألا ترى أنني لم أُعلن الحقيقة لأن أليس لا يجب أن تعرفها؟»
سأله ميرتون: «يجب ألا تعرف ماذا؟»
صاح الآخر في غضب: «يا إلهي، تعرف أنها تسببت في قتْل أبيها، يا أحمق. لولاها، لكان على قيد الحياة الآن. قد تفقد صوابها حين تعرف ذلك.»
عقَّب الأب براون وهو يلتقط قبعتَه قائلًا: «كلَّا، لا أظن ذلك. وإنما حريٌّ بي أن أقول لها الحقيقة. حتى أفدح الحماقاتِ لا تبثُّ السمومَ في الحياة مثلما تفعل الخطايا؛ على أيَّة حال أعتقد أنكما أكثرُ سعادة الآن. عليَّ أن أعود إلى مدرسة الصم.»
بينما كان في طريقه نحو العشب المتمايل بفعل الرياح، أوقفه أحدُ المعارف من هايجيت، وقال له:
«لقد وصل محقِّقُ الوفَيات، وسيبدأ التحقيق توًّا.»
ردَّ الأبُ براون قائلًا: «يجب عليَّ أن أعود إلى مدرسة الصم. معذرة لا يمكنني الانتظارُ حتى ينتهي التحقيق.»