صراع تحت الأمطار
هبط الظلام مبكِّرًا على «بيروت» في تلك الأمسية الشتوية الباردة … ثم تَبعه مطر خفيف أخذ يتزايد تدريجيًّا حتى أصبح سيولًا متدفِّقة … وأسرعت السيارات تتلوَّى في الشوارع الحجرية محاذرةً الانزلاق على الأرض المبتلَّة … وفي صف السيارات الطويل على الطريق المحاذي للكورنيش في اتجاه حي الحمراء، كانت سيارة «إلهام» تقف متحفِّزةً للسير. وخلف عجلة القيادة جلست «إلهام» وقد نفد صبرها لبطء السيارات … بينما كانت ماسحتا الزجاج تتحرَّكان يمينًا ويسارًا … وابتسمت «إلهام» عندما تخيَّلت المسَّاحتَين كأنهما حاجبان يرقصان أمامها في سخرية من ضيقها … ولكن ابتسامة «إلهام» لم تستمرَّ طويلًا … فقد فُتح الباب الذي بجوارها فجأة، وعندما التفتت … رأت رجلًا يجلس بجوارها … وبيده مسدس غريب الشكل، وقال الرجل بهدوء: سننحرف يسارًا في شارع «الأمير عمر».
فكَّرت «إلهام» قليلًا، ثم قالت: إن هذا ممنوع!
قال الرجل: ليس مهمًّا أن يكون ممنوعًا أم لا … نفِّذي ما أقوله لك … هذا المسدس كاتم للصوت … وفي الإمكان أن تنطلق منه رصاصة لا تسمعين حتى أنت صوتها.
ظلت «إلهام» هادئةً وهي تُفكِّر بسرعة، ثم قالت: ماذا تُريد بالضبط؟
ردَّ الرجل: إذا نفَّذت التعليمات فسوف تعودين إلى بقية زملائك سالمة. إن كل ما نرجوه أن تحملي رسالةً إليهم!
إلهام: من هم زملائي الذين تتحدَّث عنهم؟
ردَّ الرجل: لا داعي للمراوغة. هيا تحرَّكي؛ فقد تحرَّكت السيارات التي أمامك!
انحرفت «إلهام» يسارًا في شارع «الأمير عمر»، ثم انطلقت مسرعةً في الشارع الخالي حتى وصلت إلى شارع «كليمنصو» المزدحم بالسيارات، وأخذت دورها مرةً أخرى في صفِّ السيارات.
عادت «إلهام» تقول: إلى أين نذهب؟
الرجل: إلى الجبل!
إلهام: أي طريق؟
الرجل: بعد أن نخرج من «بيروت» سأتولَّى أنا القيادة.
أخذت «إلهام» تُفكِّر بسرعة … ما هي الحكاية بالضبط. لقد خرجت منذ ساعتَين في جو صحو لتُجرِّب هذه السيارة الجديدة … وتركت المقر السري هادئًا … لا تقارير من رقم «صفر» منذ أسابيع … والشياطين لا يفعلون شيئًا سوى الأكل والنوم، وبعض التمارين الرياضية، والإشراف على مركز بيع وإصلاح الآلات الكاتبة والإلكترونية، ومركز بيع وإصلاح السيارات، وكلاهما موضوعان للتعمية فقط … وحتى لا يعرف أحد أن هؤلاء الشبَّان والشابَّات هم أخطر مغامرين وأقواهم في هذه المنطقة.
مضت تسير والمسدس موجَّه إليها باليد اليسرى، بينما الرجل يُراقبها ويُراقب الطريق في نفس الوقت، وأخذت «إلهام» تختلس النظر إليه على أضواء الشوارع، ولاحظت على الفور أنه أجنبي … وأنه في الأغلب صيني أو ياباني … عمومًا من جنوب شرق آسيا؛ فقد كان شاحب الوجه أقرب إلى الصفرة، عيناه ضيِّقتان منحرفتان، وعظام الوجنتَين بارزة، وشعره أسود لامع مسترسل … وزاد هذا من دهشتها … ماذا يريد رجل من جنوب شرق آسيا منها؟! … وما هي الرسالة التي يُريد أن تحملها؟!
وصلت السيارة إلى مشارف «بيروت» … وأخذت طريق الجبل، وازداد هطول المطر … وأصبحت القيادة مهمَّةً عسيرةً على الطرقات الجبلية الزلقة التي تنحدر مئات بل آلاف الأمتار، ويمكن أن تُؤدِّي إلى سقوط السيارة حيث لا نهاية إلَّا الموت الفظيع.
كان على «إلهام» أن تُقرِّر بسرعة ما ينبغي عمله … هل تتبع الرجل لتعرف ماذا يريد … أم تُحاول التخلُّص منه؟ … وفكَّرت في أنه أو هو ومن معه ممكن أن يستجوبها؛ فقد يكون من منظَّمة معادية تُريد كشف حقيقة الشياطين اﻟ «١٣»، وهو سر يجب ألَّا يعرفه أحد … ولكنها في نفس الوقت تذكَّرت المحاضرات التي استمعت إليها في المقر السري عن أساليب التعذيب الحديثة، والعقاقير الطبية التي يمكن أن تُنطق أي لسان مهما كان صاحبه … وتخيَّلت أنها تحت وقع التعذيب أو العقاقير يمكن أن تعترف بكل ما تعرفه عن الشياطين وعن رقم «صفر» … وهكذا اتخذت القرار الوحيد المعقول … أن تحاول التخلُّص منه … رغم الإغراء القوي في نفسها أن تعرف ماذا يُريد بالضبط من ناحية … والخوف في أن تفشل في التخلُّص منه من ناحية أخرى.
وبدأت «إلهام» ترسم خطتها معتمدةً على المميِّزات التي تُوجد في السيارة التي تركبها والتي لا تُوجد في السيارات الأخرى؛ ففي الإمكان فتح أي باب من السيارة من أزرار أمامها، وفي الإمكان تحريك أي مقعد في السيارة من أزرار أخرى … كما يمكن رفع أو خفض المقاعد بنفس الطريقة … وأقرَّت في نفسها أن الحظ حالفها لأنها خرجت لتجرِبة هذه السيارة اليوم … فلو كانت في سيارة عادية لما تمكَّنت — إلَّا معرِّضةً نفسها لخطر جسيم — من التخلُّص من الرجل … وشكرت في أعماقها رقم «صفر» لأنه زوَّدهم بثلاث سيارات حديثة من هذا النوع.
استقرَّت «إلهام» سريعًا على الخطة التي تنوي اتباعها. كانت تعتمد على التوقيت الدقيق … وأي خطأ في هذا التوقيت ولو لجزء من الثانية يمكن أن يُؤدِّي إلى كارثة. وكانت الخطة تعتمد بالإضافة إلى التوقيت على معرفتها بطرق الجبل.
وبدأت تختار المكان الذي تُنفِّذ فيه خطتها … بعد مائة متر من مكان السيارة هناك منحنًى ضيِّق تُضطر فيه السيارة إلى الانحراف إلى جانبها الأيمن بشدة، ثم تعود إلى الانحراف مرةً أخرى بسرعة على الجانب الأيسر … وفي هذا المكان ستُنفِّذ «إلهام» خطتها.
وبدأت تقيس المسافة … تسعين مترًا … ثمانين … سبعين … ستين … خمسين … أربعين … ثلاثين … عشرين … وفجأةً سمعت الرجل يقول: سنقف هنا وأقوم أنا بالقيادة!
ودقَّ قلب «إلهام» سريعًا، ولكنها قرَّرت ألَّا تُغيِّر الخطة … وقالت بهدوء: لا أستطيع استخدام الفرامل بقوة … وإلَّا انزلقت السيارة … و…
وقبل أن تتم جملتها كانت قد ضغطت الزر الذي يفتح الباب الأيمن بجوار الرجل ودارت بالسيارة منحرفةً إلى اليمين بشدة، وضربت يده التي تحمل المسدس إلى فوق. تمَّ كل ذلك في وقت واحد … وبطرف عينَيها شاهدت الرجل يسقط من الباب بعد أن أطلق رصاصةً أصابت الزجاج الأمامي … وتعلَّقت قدماه بالسيارة لحظات، ثم سقط بكامله خارج السيارة. وانطلقت «إلهام» ولكنها سمعت رغم سقوط المطر صوت العجلة الخلفية اليمنى وهي تنفجر … وبدأت السيارة تتأرجح وتنزلق يمينًا ويسارًا كأنها شخص فقد وعيه … ووجدت نفسها بضع مرات وهي تكاد تسقط في الهاوية … ولكنها في النهاية استطاعت السيطرة على السيارة … وإيقافها … ولاحظت على الفور أنها صعدت بالسيارة إلى مكان يعلو نفس المكان الذي سقط به الرجل … وأطلَّت تنظر … وكم كانت دهشتها أن وجدت الرجل يقف تحت المطر! … وهو ما زال ممسكًا بمسدسه.
كان ذلك شيئًا مدهشًا … ولم يكن له تعليل إلَّا أن الرجل سقط على جانب الطريق المحاذي للجبل على الأرض المبلولة الطرية فلم يُجرح … أو لعله جُرح جرحًا بسيطًا … ولكن من المؤكَّد أنه يملك قوةً كبيرةً أو عزيمةً أكبر.
التصقت «إلهام» بإحدى الأشجار تتقي عصف الريح والمطر … كان الجو باردًا خاصةً بعد أن كانت تجلس في دفء السيارة المكيفة بالهواء … وأحسَّت بالريح تنفذ إلى جسمها وإلى عظامها، فضمَّت المعطف بقوة … وأخذت تُفكِّر … لم تكن هناك سيارات مارَّة في تلك الساعة … وكان الجبل خاليًا تمامًا إلَّا منهما … ومن المؤكَّد أن الرجل سيرى السيارة بعد لحظات … ويبدأ في مطاردتها … وكان الحل الوحيد هو البحث عن منزل قريب تأوي إليه وتتصل بالشياطين تقول لهم ما حدث، ولِيأتي أحدهم لأخذها، أو حتى تبقى للصباح … ثم خطر لها فجأةً أنها تستطيع تغيير العجلة المثقوبة في دقائق قليلة … ربما قبل أن يصل إليها الرجل … وعاودت النظر إليه ولكنه كان قد اختفى.
أخذت تُنصت لعلها تسمع وقع أقدامه … ولكن ذلك كان مستحيلًا مع صوت المطر المتدفِّق على الأرض التي ابتلَّت، وكان عليها أن تعتمد على ذكائها فقط.
ابتعدت عن السيارة مسافةً كافية، ثم التصقت بجذع شجرة، وأخذت ترقب السيارة التي كانت تبدو كصخرة ناتئة في الظلام … ومضت الدقائق بطيئة … دون أن يظهر الرجل … وفجأةً وجدته يقترب من السيارة متنقِّلًا بين شجرة وأخرى بخِفة … رغم أنه كان يعرج. فوقفت مكانها ساكنةً في انتظار ما سيفعله … اقترب من السيارة وفتح الباب فأضاءت السيارة من الداخل، ثم أغلق الباب فعاد الظلام من جديد … ووقف مكانه لحظات … ثم بدأ يتقدَّم منها … كان شيئًا غريبًا أنه اكتشف الاتجاه الذي سارت فيه، ولكنها سرعان ما عرفت أنه على الضوء الخفيف المنبعث من داخل السيارة، استطاع أن يرى على الأرض اتجاه أقدامها وبدأ يتقدَّم مترنِّحًا … لقد كان مُصِرًّا على أن يُمسك بها … وللمرة الألف سألت نفسها: لماذا؟! ولم تكن هناك إجابة مقنعة.
أخذ يقترب في اتجاهها محاذِرًا أن تنزلق قدماه … فقد كانا معًا يقفان على مكان مترَّب مرتفع حوَّلته مياه الأمطار إلى وحل … لم يكن في إمكانها أن تتحرَّك … فيراها أو يسمع صوت أقدامها؛ فقد كانا قريبَين لا يفصل بينهما إلَّا بضعة أمتار … وقرَّرت «إلهام» أنه لا مفرَّ من أن تشتبك معه إذا اقترب منها أكثر … ومضى يقترب ويتقرب … حتى أصبح على بُعد متر واحد …
وفجأةً أطلقت السماء زمجرةً عالية، ولمع البرق فأضاء المكان ونظر أحدهما إلى الآخر … لم يكن مفاجأةً لها أن تراه … ولكن كانت مفاجأةً له … وكان هذا الفارق كافيًا … لقد أدهشته المفاجأة جزءًا من الثانية … ولكن كان هذا يكفي «إلهام» … فقد طارت قدمها في الهواء وأصابته في بطنه بضربة قاسية … سقط يتدحرج من مكانه … وسقط من المرتفَع الذي كان يقف عليه وهوى في الظلام.
وفي نفس الوقت فقدت «إلهام» توازنها وسقطت على الأرض؛ فقد انزلقت قدمها وأحسَّت بآلام رهيبة في ظهرها ورقبتها … وخُيِّل إليها أنها فقدت الوعي لحظات، ثم استردَّت وعيها وأخذت تُحاول الوقوف، ثم تحاملت على نفسها ومضت إلى السيارة وأخذت المفاتيح، ثم فتحت الشنطة الخلفية وأخرجت الرافعة والعجلة الإضافية. كانت آلام في جسدها لا تُطاق … والمطر ينزل بلا رحمة والريح عاصفة … ولكنها وضعت الرافعة تحت السيارة، ثم أخذت تُديرها، كانت تخشى أن تنزلق السيارة، ولكن لحسن الحظ، ولقوة فرامل اليد، ثبَّتت السيارة في مكانها وتمَّ إبدال العجلة المثقوبة. وبعد لحظات كانت تجلس إلى عجلة القيادة وأدارت المحرِّك وأضاءت الأنوار ودارت … وفجأةً على ضوء السيارة رأته من بعيد يصعد المرتفع … إنه ما زال مُصِرًّا … وداست على مفتاح البنزين وأطلقت للسيارة العنان، ورأته يترنَّح ويسقط، ولكنها من باب الحذر أخذت تدور وتلف كالثعبان حتى لا يتمكَّن من إصابتها مرةً أخرى … فقد يكون سقوطه حركةً تمثيليةً لاصطيادها. وأخذت تبتعد بكل ما تملك من قوة … في الطريق إلى «بيروت» … ولم تكن تُفكِّر إلَّا في شيء واحد … ماذا يُريد ذو الوجه الأصفر منها؟