«كراولي» … الغوريلا
انضمَّت «زبيدة» إلى «أحمد» و«إلهام»، وسمعت جملة «إلهام» الأخيرة فقالت: ما هي أدلَّتك؟
ردَّت «إلهام»: إن اليخت من أهم عوامل التهريب، والسيارة عامل ثانٍ، والاستماتة في الحصول عليها معناها أن فيها شيئًا مهرَّبًا …
أحمد: ما هو هذا الشيء؟ لقد فحصنا السيارة فحصًا جيدًا فلم نجد فيها شيئًا. إذا كانت مخدرات مثلًا، فلا بد أن الكمية ضخمة تستحق كل هذه المطاردات وعمليات القتل. فإذا كانت ضخمةً فأين تختفي في السيارة؟! وإذا كان تهريب ذهب، فهو مثل المخدرات، لا بد أن يكون كميةً ضخمةً لتستحق كل هذه المخاطرات.
إلهام: ألم يخطر ببالك الماس؟
أحمد: الماس! معقول جدًّا! … فملء قبضة منه تُعتبر كميةً عظيمةً للتهريب، وعلى كل حال فإن الشياطين سيفكون كل مسمار في السيارة … وهم خبراء بهذه العملية، ولا يخفى عنهم ولا فص واحد من الماس إذا كان موجودًا.
زبيدة: إن التهريب يمكن أن يُفسِّر شيئًا، ولكن ما رأيك في ذوي الوجوه الصفر؟ إن عصابات التهريب في مناطق مثل سنغافورة وهونج كونج تعمل في مناطقها، في جنوب شرق آسيا، ولكن لم يحدث من قبلُ أن وصلت عصابة منهم إلى العالم الخارجي حسب ما درسنا في المقر السري الرئيسي.
إلهام: معك حق، ولعلها حالة استثنائية.
أحمد: هناك شيء آخر. هذان الأمريكيان … «كراولي» صاحب السيارة … والآخر الذي حاول استلامها، هل هما من أعضاء عصابة ذوي الوجوه الصفر؟
إلهام: على العكس … أعتقد أن العصابتَين تعملان إحداهما ضد الأخرى. وتصوَّر أن «كراولي» كان معه شيء مهرَّب، لعلها شحنة من الماس، حضر بها من إيطاليا إلى «بيروت» … وكانت عصابة الآسيويين تتبعه … وقتلوه في اليخت وبحثوا عن شحنة الماس ولكنهم لم يجدوا شيئًا، وعرفوا أنه أودع سيارته عندنا، فحاولوا سرقتها.
أحمد: ودور الأمريكي الآخر؟
إلهام: إنه زميل «كراولي».
هزَّ «أحمد» رأسه قائلًا: لا بأس بهذا التفسير … المهم إذا كان الصراع يدور حول شحنة ماس مهرَّبة، فأين هذا الماس؟
إلهام: لا أدري. وما دام ذوو الوجوه الصفر، والأمريكي الثاني يحاولون الحصول على السيارة؛ فالماس في السيارة.
مضى الوقت، وصعد الشياطين الخمسة من الجراج بما فيهم «قيس» الذي أعلن أن الرجل الأمريكي لم يأتِ … وقال الشياطين الذين تولَّوا فك السيارة «البونتياك»، أن لا شيء فيها حتى الآن بعد أن انتهوا من فك العجلات والرفارف وأجزاء أخرى … وإنهم سيُواصلون العمل بعد الغداء.
استمرَّ العمل في فك السيارة بعد الغداء، وحتى موعد إغلاق الجراج. كانت السيارة قد أصبحت كومةً من الصاج والصواميل والمسامير وقِطع الموتور، دون أن تظهر شحنة الماس … التي توقَّعت «إلهام» وجودها.
وعندما جلس الشياطين للعشاء، ران جو من الصمت والضيق عليهم جميعًا … فهذه أول مرة يُصبحون هدفًا للهجوم … وقد كانوا دائمًا هم المهاجمين … وهذه أول مرة يشتبكون في مغامرة لا يجدون طرقًا للتحرُّك فيها، بل عليهم انتظار هجوم آخر ليردُّوه … ولكن عندما دقَّت الساعة التاسعة بدأ نشاط هام يدب في المقر السري … فقد تلقَّوا تقريرًا من رقم «صفر» يُلقي بعض الضوء على الأحداث الغريبة التي جرت لهم.
من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س»
إن «ف. كراولي» هو أحد الأسماء العديدة التي يستخدمها رجل العصابات الأمريكي الرهيب «أوجو نيتش»، الإيطالي الأصل والذي يُشتهر بلقب الغوريلا. وقد هاجر «نيتش» إلى الولايات المتحدة في عام ١٩٣٥م، حيث اشتغل في عدة أعمال بسيطة قبل أن يرتكب أول حادث سرقة له، ودخل السجن. وعندما خرج عمل على أرصفة نيويورك، وقام بدور الفتوَّة الذي يضرب معارضي عصابة «السراويل السوداء»، مستخدمًا قوَّته الهائلة ومنظره المنفِّر الغريب … ثم انفرد بالعمل وحده بعد أن جمع حوله بعض صغار اللصوص. وفي سنة ١٩٤٥م، بعد انتهاء الحرب، اتُّهم في جريمة قتل واختفى بعد ذلك ليظهر في شيكاغو. وبعد مطاردة طويلة استطاع رجال البوليس القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، حيث قضى في السجن ١٢ عامًا، ثم أُفرج عنه، وافتتح متجرًا لبيع وشراء الأشياء القديمة … وفي الواقع أن هذا كان ستارًا لإخفاء عمله الأصلي، وهو شراء ما يسرقه اللصوص بأثمان بخسة … ثم بيعه بعد ذلك.
واتسعت دائرة أعماله، وبدأ يتخصَّص في شراء وبيع الأشياء الثمينة فقط، مثل الآثار النادرة والماس والتحف واللوحات، مستخدمًا في ذلك شبكةً واسعةً من العملاء في مختلِف عواصم العالم … ومنذ شهر تقريبًا اختفى «نيتش» من الولايات المتحدة إلى جهة غير معلومة، ثم ظهر في إيطاليا حيث يقال إنه كان وراء صفقة ضخمة. ولوحظ أنه كان يُحيط نفسه في إيطاليا بحراسة قوية … وظلَّ في إيطاليا فترة، ثم اشترى يختًا وغادر نابولي إلى جهة غير معلومة، حتى عُثر عليه قتيلًا في اليخت أول أمس في ميناء «بيروت».
من المؤكَّد أن مصرع «نيتش» له علاقة بالصفقة الكبيرة التي تحدَّثوا عنها في إيطاليا، وقد لوحظ أنه في الأيام الأخيرة قابل عددًا من الآسيويين في القصر الذي كان ينزل فيه في نابولي قبل أن يختفي.
ثم قالت «إلهام»: انتهى التقرير.
أحمد: إنه تقرير هام. ما هي استنتاجاتكم؟
هدى: إنني لا أستنتج، ولكن أسأل … لماذا جاء الغوريلا إلى «بيروت»؟
زبيدة: ليست هناك إلَّا إجابة واحدة؛ إن الصفقة الكبيرة كانت هنا … في «بيروت».
هدى: إذن المطلوب تتبُّع خطوات الغوريلا منذ أن وصل إلى ميناء «بيروت» حتى مصرعه؛ حتى يمكن الاستدلال على مكان هذه الصفقة، أو على الأقل المشتركين فيها.
أحمد: إنها مهمَّة رجال الشرطة اللبنانية … فلْنطلب من رقم «صفر» هذه المعلومات …
وقبل أن ينتهي «أحمد» من جملته تقريبًا، كان صوت صفير جهاز اللاسلكي المتقطِّع والنور الأحمر في الصالة، يدل على أن رقم «صفر» يرسل تقريرًا … وأسرعت «إلهام» إلى غرفة اللاسلكي … وغابت فترة، ثم عادت قائلة: إن رقم «صفر» يقرأ أفكارنا أو يتصنَّت علينا؛ لقد أرسل كل المعلومات المتعلقة بوصول «كراولي» الغوريلا إلى «بيروت» ومصرعه.
وصل «نيتش» أو «كراولي» أو الغوريلا إلى ميناء «بيروت» في الساعة الواحدة بعد منتصف ليلة الأحد … وكان معه على اليخت ثلاثة رجال كلهم يحملون جوازات سفر إيطالية، كما هو ثابت بسجلات الميناء، وغادر «كراولي» اليخت وحده … وقضى الليل في فندق «هوليداي إن» الضخم المطل على الميناء. وكان يحمل حقيبةً صغيرة. وفي الصباح استأجر «كراولي» سيارة «بونتياك» ذهبية اللون لمدة أسبوع، وقد شوهدت السيارة تتجوَّل في الجبل في مناطق متعدِّدة … وقد زار «كراولي» مغارة «جعيتا»، وقضى هناك بعض الوقت، ثم استأنف تجوُّله، حيث شوهد يتناول الطعام في مطعم «الديك الذهبي» … وفي المساء عاد إلى اليخت ولم يشاهَد بعد ذلك إلَّا بعد موته.
رشفت «إلهام» من كوب الشاي ثم عادت تقرأ:
رجال الشرطة يبحثون الآن عن الرجال الثلاثة الذين كانوا معه.
وقالت «إلهام»: انتهى التقرير.
ساد الصمت لحظات، ثم قال «أحمد»: اليخت … «الهوليداي إن» … الجبل … المطعم … مغارة «جعيتا» … السيارة … في أحد هذه الأماكن أخفى «كراولي» الشحنة الهامة التي تدور حولها كل هذه الأحداث.
عثمان: يمكن أن نحذف اليخت؛ فقد قال رقم «صفر» في تقريره الأول إنه فُتِّش بعناية، والسيارة لأننا حوَّلناها إلى كوم من المسامير والصواميل دون أن نجد شيئًا. عندنا فندق «الهوليداي إن»، والجبل والمطعم، ومغارة «جعيتا».
إلهام: إنك تتحدَّث عن الجبل كأنه حديقة صغيرة يمكن البحث فيها. أمَّا مغارة «جعيتا» فأين يُخفي شحنته الثمينة فيها؟ الحقيقة أن المكان الوحيد المعقول هو السيارة … يخفي الشحنة في مكان خفي منها، ثم يضعها في جراج حيث لا يشك أحد.
قال «فهد»: ولكن يا «إلهام» … السيارة ليس فيها شيء!
قيس: ما رأيكم في الفندق الكبير؟
أحمد: ممكن. ما رأيكم أن يقضي أحدنا ليلةً في الفندق الفخم؟
صاح الشياطين في نفَس واحد: موافقون!
ابتسم «أحمد» قائلًا: واحد فقط من فضلكم، ويجب أن يأخذ نفس الغرفة التي نزل فيها «كراولي».
باسم: هذه مسألة سهلة. إنني أعرف هناك صديقًا يمكنه أن يدلَّنا.
أحمد: في هذه الحالة عليك أن تقضي الليلة يا «باسم» في فندق «الهوليداي إن». وخذ معك طبعًا كل الأدوات التي تُساعدك في البحث عن هذه الشحنة التي لا نعرف ماذا بها.
قام «باسم» فورًا فأعدَّ حقيبةً بها بعض الملابس، ودخل في غرفة الأدوات حيث يُوجد كل شيء من المدافع الرشَّاشة إلى الخناجر، إلى المفاتيح المصطنعة. وأخذ حقيبةً صغيرةً بها أدوات دقيقة تفتح كل شيء … وبعد دقائق كان يُغادر المقر السري … بينما واصل بقية الشياطين اجتماعهم … وقد قسَّموا العمل بينهم لليوم التالي على أساس البحث في كل مكان تردَّد عليه «كراولي» الغوريلا.
عندما خرج «باسم» من المقر السري اختار سيارةً عاديةً من سيارات الشياطين، ثم دار دورةً واسعةً في «بيروت» لتضليل من يمكن أن يتبعه، ثم أخذ طريقه إلى «الهوليداي إن». وعندما أشرف على الفندق الفخم أحسَّ بشيء من التوتُّر لا يدري سببه … ولكنه في النهاية دخل إلى قاعة الاستقبال الضخمة. وعندما وقف يتحدَّث مع صديقه عن «كراولي»، قال الصديق مندهشًا: لا أدري سرَّ الإقبال على هذا الجناح!
باسم: لست أفهم.
الصديق: لقد نزل به أول أمس رجل أمريكي بعد أن سأل عن «كراولي»، وعن الجناح الذي فيه.
باسم: شيء مدهش!
لم يكن الصديق يعلم حقيقة «باسم»، ولا حتى كان يعرف اسمه الحقيقي؛ فقد كان يعرفه باسم «وليد» … وأنه من سوريا.
كان الجناح في الدور السادس عشر ويطل على الميناء. ولم يكد «باسم» يدخل الحجرة حتى أغلق الباب من الداخل، ثم فتح حقيبة الأدوات الدقيقة وجلس على الفراش، وشمل المكان بنظرة فاحصة.
كان الجناح مكوَّنًا من غرفة نوم واسعة فاخرة الرياش، وغرفة أصغر للاستقبال، ودورة مياه …
وقال «باسم» في نفسه: عشرة أماكن على الأقل يمكن أن تُخفى فيها شحنة ماس؛ فمهما كانت كبيرةً فلن تزيد عن حجم كتاب متوسِّط … والآن من أين أبدأ؟
قرَّر «باسم» أن يبدأ من دورة المياه … وشمَّر عن ساعدَيه … وأخرج أدواته وأخذ يبحث … واستغرق ساعةً كاملةً في فحص كل شيء، وتذكَّر الأمريكي الذي نزل بالجناح قبله، هل يا تُرى فحص كل ذلك جيدًا؟ … إنه بالقطع ليس خبيرًا مثل «باسم» الذي درس هذه المهمَّات في المقر السري. بعد ساعة من الفحص الدقيق، وفكِّ كل وصلات المياه والحنفيات، وحتى الدق على بلاط الأرضية، كان متأكِّدًا أن «كراولي» لم يُخفِ شيئًا في دورة المياه.
وخرج إلى غرفة الصالون وأمسك بسمَّاعة التليفون وطلب الرقم السري في مقر الشياطين، وردَّت عليه «زبيدة» فقال: إنني في الدور السادس عشر في نفس الجناح الذي نزل به «كراولي». لا شيء في دورة المياه … وسأبدأ الآن فحص بقية المكان … هل من أخبار؟
زبيدة: لا شيء … ومهمتكَ تنتهي في الصباح، وتعود إلى المقر … وسنكون قد خرجنا للبحث في بقية الأماكن. هل تبعك أحد؟
باسم: لا أظن … وإذا كان أحد قد تبعني، فالأغلب أنني ضلَّلته.
وقد كان «باسم» واهمًا … ففي نفس الطابق على بُعد بضعة أمتار منه كان هناك رجلان ينتظران الوقت المناسب للتفاهم مع «باسم» الذي وضع السمَّاعة … ثم أخذ يمشي مفكِّرًا بين المقاعد ناظرًا بين فترة وأخرى من الشرفة على مرفأ «بيروت» وهو يُفكِّر … أين يمكن أن يكون «كراولي» قد أخفى الشحنة الثمينة؟!