المدينة الصامتة
عندما أشرفت الساعة على الثانية بعد منتصف الليل، كان «باسم» قد فتَّش كل ثقب في جناح «كراولي» … السرير … فكَّه ثم أعاد تركيبه … المراتب جسَّها كلها بإبرة صلب طويلة. الدولاب، المنضدة، الكراسي. دقَّ على جميع أخشاب الأرضية. صعد وفتَّش النجفة. لم يترك شيئًا لم يفحصه كأنه سيُجري له عمليةً جراحية، دون أن يجد أي شيء.
وقال «باسم» لنفسه: إن شحنة الماس هذه وهم … ولعل «كراولي» قد حضر لأخذها من «بيروت»، وقد عكسنا نحن القضية فتصوَّرنا أنها معه … ولعله لم يحصل عليها، وقضى نحبه قبل أن تصل إلى يدَيه.
بهذا حدَّث «باسم» نفسه وهو يخلع ملابسه، ثم يأخذ حمَّامًا ساخنًا ويأوي إلى فراشه ويُطفئ النور، ثم يستسلم للنوم فورًا بعد إرهاق البحث الطويل.
مضت نصف ساعة، ثم فُتح باب في الدهليز الطويل الذي يقع به جناح «كراولي» … وظهر رجل قصير القامة. أطل في الدهليز وانتظر قليلًا، ثم أشار لزميله، وانطلق الاثنان يمشيان بهدوء وحذر … وتوقَّف أحدهما عند أبواب المصاعد … بينما تقدَّم الثاني حتى وصل إلى باب جناح «كراولي» … وبسرعة مدَّ يده في جيبه وأخرج محفظةً صغيرة، فتحها واختار بعناية مفتاحًا متعدِّد الزوايا، ثم ركع على ركبتَيه ووضع المفتاح في قفل الباب، وأخذ يُديره بضع مرات وهو ينصت بتركيز شديد … ثم أشار إلى زميله فتقدَّم مسرعًا هو الآخر … ودفعا الباب، ثم أغلقاه خلفهما … واجتازا الصالون الصغير الملحق بغرفة النوم، ثم أضاء الآخر النور.
كان «باسم» ملتحفًا بالأغطية رغم التدفئة المركزية في الفندق.
وعندما أُضيء النور استيقظ «باسم» على الفور، ولكنه ظلَّ مغمض العينَين … فقد أدرك رغم اللحظات السريعة التي ارتبك فيها تفكيره أن ثمة أشخاصًا غرباء قد دخلوا غرفته … وأنه في الأغلب لن يُقتل فورًا … ولكن ذلك قد يحدث فيما بعد … وفتح جفنَيه المطبقَين قليلًا جدًّا ليعرف عدد المهاجمين. كانا شخصَين من ذوي الوجوه الصفراء … وتذكَّر خطف «إلهام» … وتخدير «قيس» … وتساءل عمَّا سيحدث له … خطف، تخدير، اختطاف، وشمَّ رائحة عطر قوي … وأدرك أنهم نفس الأشخاص.
ظل «باسم» متظاهرًا بالنوم وذهنه يعمل بسرعة. إن معه مسدسًا ولكن للأسف في الحقيبة، وعليه أن يدفع ثمن غلطته وينتظر ما سيحدث له. كل ما تمنَّاه ألَّا يُخدِّراه بالحقن … فرغم أنه كان مغامرًا شجاعًا مرَّ بكثير من التجارِب القاسية … إلَّا أنه كان يخاف الحقنة … منذ أن كان طفلًا صغيرًا.
مرَّت دقيقة واحدة، وسمع «باسم» حركة الرجلَين في الغرفة. كانا يُفتِّشان حقيبته، ومن المؤكَّد أنهما أخذا المسدس … ومضت لحظات أخرى، ثم اقترب أحدهما من الفراش ومدَّ يده … وهزَّ كتف «باسم» قائلًا في لغة فرنسية ركيكة ولكن — لدهشة «باسم» — بأسلوب مهذب جدًّا: سيدي استيقظ من فضلك.
تظاهر «باسم» أنه مستغرق في النوم ليكسب فرصةً أطول للتفكير، وتكرَّرت الحركة السابقة. هزة الكتف وجملة «سيدي … استيقظ من فضلك».
فتح «باسم» عينَيه … وكان يتظاهر بالدهشة … ولكنه أدرك أنهما يعرفان حقيقته … وأن أي حركات تمثيلية لا تُجدي … فجلس في فراشه ونظر إليهما … ولاحظ أنهما يلبسان ملابس قديمةً لا تتناسب مع رجال العصابات، خاصةً ممن يعملون في التهريب وصفقات الماس.
قال «باسم» بالفرنسية: إنني رهن إشارتكما.
قال أحدهما: نأسف لإزعاجك يا سيدي، ولكن لنا معك حديث هام.
كاد «باسم» يضحك … فهذه أول مرة في حياته يرى أو حتى يسمع عن لصوص مسلَّحين يقتحمون الغرف بالمسدسات … ويتحدَّثون بهذه اللهجة الرقيقة المهذَّبة.
عاد الرجل يقول: سيدي … إننا نستحلفك بكل ما تُؤمن به أن تصدقنا القول … فنحن في مهمَّة عاجلة نُريد أن ننتهي منها.
هزَّ «باسم» رأسه مندهشًا وقال: إنني رهن إشارتكما.
الرجل: إننا يا سيدي نبحث عن شيء تعرفه … ونحن نسألك سؤالًا واحدًا محدَّدًا … هل وجدتم هذا الشيء؟
باسم: أؤكد لك يا سيدي أنني لا أعرف عن أي شيء تتحدَّث.
تصلَّب وجه الرجل وقال: كنت أتمنَّى أن تكون صادقًا، ولكن ما تقوله الآن شيء لا يُصدَّق … فنحن متأكِّدون أنكم تعرفون هذا الشيء.
باسم: أُكرِّر لك يا سيدي … إنني وزملائي … لا نعرف عن أي شيء نبحث بالضبط …
بدت الدهشة على وجه الرجل؛ فقد كان واضحًا من أسلوب «باسم» أنه يقول الصدق … وقال الرجل: لا تعرفون عن أي شيء تبحثون؟!
باسم: لا … إننا فعلًا تعرَّضنا للاختطاف والتخدير، وللقتل أيضًا كما تعرف، دون أن نعرف لماذا يحدث كل هذا!
نظر الرجل إلى زميله، وتبادلا حديثًا سريعًا بلغة لا يعرفها «باسم» وإن تصوَّر أنها اليابانية أو الصينية … ثم التفت الرجل إلى «باسم» قائلًا: هل تعرفون «كراولي»؟
باسم: نعم. تشرَّفنا بمعرفته عندما جاء إلى الورشة عندنا ليُودِع سيارته في الجراج … ولم نرَه بعد ذلك.
الرجل: حسن يا سيدي. إننا نُريد منكم فقط أن تُسلِّمونا السيارة التي أودعها عندكم.
باسم: هذه السيارة التي كدتم تقتلونا من أجلها؟!
الرجل: آسف جدًّا يا سيدي على ما حدث … لقد حذَّرناكم أن الشر يُقابَل بالشر، والخير بالخير، كما قال معلِّمنا «بوذا».
باسم: وماذا تُريد من السيارة؟
الرجل: نُريد أن نُفتِّشها بحثًا عن ذلك الشيء.
باسم: أؤكد لك يا سيدي أن الشيء الذي تبحثون عنه ليس موجودًا بالسيارة.
الرجل: كيف تقول هذا وأنت لا تعرف هذا الشيء؟!
باسم: لأننا فككنا السيارة قطعةً قطعة، ونحن متخصِّصون في السيارات، ولم نجد فيها شيئًا مطلقًا غير ما يُوجد في أي سيارة … الآلات وغيرها.
بدا الغم واليأس على وجه الرجلَين، وعادا يتحدَّثان بلغتهما الغريبة لحظات، ثم قال الرجل: إننا يا سيدي أشخاص بؤساء محكوم علينا بالموت إذا لم نعثر على هذا الشيء.
باسم: ألا تقول لي فقط ما هو هذا الشيء الذي تبحثون عنه؟
الرجل: ما دمت لا تعرف يا سيدي … فمن الأفضل لك أن تظل جاهلًا به، وإلَّا حلَّت عليك اللعنة كما حلَّت على «كراولي».
باسم: أنت حر يا سيدي أن تخفي سرك. وكل ما أرجوه أن تتأكَّدوا أننا لا نعرف هذا الشيء … ولم نجده، وإن كنا سنبحث عنه بنفس الحماس الذي يحملكم على البحث عنه.
الرجل: لماذا يا سيدي؟!
باسم: ما دام هذا الشيء قد عرَّضنا للقتل وغيره كما قلت لك، فمن واجبنا أن نعرف ما هو على الأقل.
الرجل: وإذا وجدتموه، ماذا تفعلون به؟
باسم: نحن لا نأخذ شيئًا لا يخصُّنا … سنُعيده إلى أصحابه.
الرجل: مهما كانت قيمته؟
باسم: مهما كانت قيمته!
الرجل: هل أنت متأكِّد يا سيدي؟
باسم: أُعطيك كلمتي عن نفسي وعن زملائي.
عاد الرجلان يتحدَّثان … وطال حديثهما هذه المرة … ثم التفت الرجل إلى «باسم» وقال: في هذه الحالة يا سيدي … وإذا أعطيتني كلمتك كرجل شريف … فسوف أقول لك ما هذا الشيء الذي يُمثِّل السلام، وتدور حوله كل أحداث العنف التي لا تعرف أنت منها إلَّا القدر اليسير … ولكن لي مطلب آخر؛ ألَّا يعلم أحدٌ مطلقًا، سواء في دوائر الشرطة أو الصحافة ما أقوله لك، وإلَّا تعرَّضنا كما قلتُ لك الآن للموت … وربما لما هو أفظع من الموت.
ازدادت دهشة «باسم» وقال: أعدك بذلك أيضًا.
جلس الرجل وتبعه زميله وقال: هل تسمع عن مدينة الصمت أو المدينة الصامتة يا سيدي؟
ردَّ «باسم»: لا … للأسف.
الرجل: ليس ثمَّة ما يدعو للأسف يا سيدي … فهي مدينة صغيرة جدًّا، بعيدة جدًّا، وقليل خارج بلادنا من يعرف عنها شيئًا. إن هذه المدينة المقدَّسة في جنوب بورما، حيث صلَّت يومًا روح المعبود «بوذا» واستمتعتْ بالصمت الذي يرين على هذه المدينة.
وسكت الرجل لحظات، ثم عاد يقول: وحيث صلَّت روح المعبود … أُقيم معبد صغير ولكنه من أهم معابدنا نحن البوذيين … وهو رمز لكل ما هو مقدَّس في حياتنا.
ووضع الرجل مسدسه في جيبه، ثم استسلم لنوع من تركيز الذهن الخارق، ثم قال: هل تسمع صمت مدينتكم الآن يا سيدي؟
ردَّ «باسم»: «بيروت»! لا أظن أنها تصمت أبدًا.
الرجل: في مثل هذه الساعة يا سيدي كانت النار المقدَّسة تشتعل في خشب الصندل حول تمثال الإله المعبود.
وتهدَّج صوت الرجل بالألم العميق وهو يقول: ولكن هذا التمثال الذي ظل في مكانه أكثر من ألف سنة … لم يعد موجودًا في مكانه يا سيدي. إن النار المقدَّسة انطفأت منذ ثلاثة شهور.
فجأةً أدرك «باسم» ما الذي يبحث عنه هؤلاء الآسيويون. إنهم لا يبحثون عن شحنة من الماس، إنهم يبحثون عن إلههم ذاته … عن تمثال هذا الإله المقدَّس. ونظر إلى الرجل وقال: وهذا التمثال هو ما تبحثون؟!
وانحدرت دموع الرجل وهو يقول: نعم يا سيدي … تمثال الإله «بوذا» الذي صُنع من مائة جوهرة كلٌّ منها جاءت من أرض مقدَّسة.
صمت الرجل … وبدت «بيروت» صامتة … وبدا ﻟ «باسم» أن الدنيا كلها قد صمتت أمام كلمات الرجل الحزينة التعسة.