في الفجر … دون هدف
مضت لحظات حزينة، ثم قال «باسم»: ولكن كيف وصل تمثال «بوذا» إلى «بيروت»؟!
قال الرجل: إنها قصة طويلة يا سيدي … فقد استطاعت عصابة أن تسرق التمثال من قاعدته. في ليلة كنا نُقيم فيها قُدَّاسًا في الغابة، وعندما عدنا في الصباح نحن حراسَ معبد الإله، فوجئنا بالكارثة … وكنا متأكِّدين أنه إذا علم الشعب بسرقة التمثال فسوف تقوم ثورة ضارية … وسيُحكم علينا بالموت حرقًا … وهكذا بدأنا مطاردة العصابة … ونحن قوم فقراء؛ فكانت المطاردة بالنسبة لنا عمليةً شاقَّة … وقد تنقَّلنا في مختلِف قارَّات العالم خلف التمثال، حتى علمنا أن «كراولي» قد اتفق على شرائه من العصابة في إيطاليا … وعندما وصلنا إلى هناك علمنا أن «كراولي» قد غادر إيطاليا ومعه التمثال إلى جهة غير معلومة. وبعد بحث شاق، علمنا أنه وصل إلى «بيروت» … فجئنا خلفه … وتعقَّبناه، ولكنه استطاع الإفلات منا.
باسم: ولكنكم قتلتموه!
الرجل: لسنا نحن يا سيدي … إننا لم نكن لنقتله أبدًا لأننا لا نقتل أحدًا … رغم أنه ورجاله قتلوا زميلًا لنا في الجبل.
استغرق «باسم» في التفكير. إن الآسيويين لم يقتلوا «كراولي»، فمن الذي قتله؟! هناك احتمالان لا ثالث لهما … إمَّا أفراد عصابته الثلاثة … وإمَّا أن يكون المشتري قد اختلف معه على الثمن فقتله.
قال «باسم» وهو ينظر إلى ساعته: إن الأمور قد اتضحت إلى حدٍّ بعيد … ولست أعدكم بشيء محدَّد … ولكني سأرجع إلى زملائي أولًا … وأغلب الظن أنهم سيوافقون على أن نُساعدكم في استرداد التمثال.
قال الرجل بضراعة: إنني أتوسَّل إليك أن تُقنعهم بذلك يا سيدي … لقد ضاع وقت كثير، ولن نستطيع أن نكتم عن شعبنا ضياع التمثال أكثر من هذا.
باسم: وكيف أتصل بكم؟
قال الرجل: لقد استأجرنا منزلًا صغيرًا في الجبل، ومعنا الكاهن «تاكانا» الذي يُصلِّي ليل نهار من أجل استعادة التمثال …
باسم: إذن تستطيع إبلاغ «تاكانا» بأننا سنُساعدكم، وسآخذ عنوانكم ورقم التليفون لأتصل بكم إذا عثرنا على التمثال.
الرجل: ألا نُساعدكم يا سيدي؟
باسم: سنتصل بكم إذا احتجنا لمساعدة!
الرجل: إننا باسم الإله «بوذا»، وباسم شعبنا نشكركم يا سيدي على كل ما ستفعلونه من أجلنا؛ فنحن نشعر باليأس، ونظن أن تمثال الإله لن يعود … وإذا شئت الاتصال بنا فاطلبني … إنني عبدك المتواضع «سوفانا» …
انحنى الرجلان ﻟ «باسم» في تحية خاشعة، ثم انسحبا بهدوء، وأغلقا الباب خلفهما، وظل «باسم» جالسًا في فراشه واقعًا تحت تأثير القصة الغريبة، والعطر الغامض الذي تركه الرجلان خلفهما.
وبعد فترة من التفكير قرَّر أن يُغادر فراشه، ويذهب إلى مقر الشياطين السري … وترك حقيبته على أن يعود لأخذها فيما بعد.
وعندما وصل «باسم»، وجد «عثمان» يقوم بنوبة حراسة في الدور الأول، توقُّعًا لهجوم جديد … ودُهش «عثمان» لعودة «باسم» وقال: هل عثرتَ على شيء؟!
باسم: عثرتُ على تفسير لهذا اللغز العجيب.
عثمان: ما هو الشيء الذي يدور حوله الصراع … هل هو شحنة ماس فعلًا؟!
باسم: إنها شحنة ماس فعلًا … مائة ماسة … ولكن القيمة الحقيقية ليست في الماس ذاته … ولكن في التمثال الذي صُنع منه.
عثمان: أي تمثال؟
باسم: تمثال «بوذا».
وروى «باسم» ما سمعه من ذوي الوجوه الصفراء. وعندما انتهى من قصته قال «عثمان»: معك حق أن قاتل «كراولي» لا بد أن يكون واحدًا من اثنين؛ إمَّا عصابته لخلاف بينهم، وإمَّا المشتري.
باسم: المهم الآن، ما هي النقطة التي نبدأ منها؟
عثمان: نقطة البداية بالطبع هي البحث عن التمثال في الأماكن التي تردَّد عليها «كراولي» … وما دام اليخت قد تمَّ تفتيشه، وكذلك الفندق، والسيارة، فلم يبقَ إلَّا الجبل … وكما قالت «إلهام»: إن الجبل كلمة كبيرة جدًّا … فكيف نُضيِّق نطاق البحث؟
باسم: هل تتخيَّل «كراولي» رجل العصابات المدرَّب يذهب إلى الجبل، ويحفر حفرةً مثلًا ويُخفي التمثال فيها؟ هل من المعقول أن يقوم رجل بهذه القدرات الرهيبة بترك تمثال لا يُقدَّر بثمن في مكان يمكن لأي شخص أن يعثر عليه … إنني أشك كثيرًا في هذا يا «عثمان»!
عثمان: ما هو البديل إذن؟
باسم: لا أدري. لقد نسينا مغارة «جعيتا».
عثمان: إنك تنسى أنها مكان يدخله عشرات بل مئات الأشخاص كل يوم … وهو بطبيعته الصخرية لا يمكن إخفاء شيء فيه؛ فمن الصعب الصمود على الجوانب الصخرية والحفر فيها ووضع التمثال.
باسم: لنترك المناقشة للصباح. لقد نمت فترةً في الفندق وسأتسلَّم الحراسة، وتستطيع أنت أن تذهب لتنام.
عثمان: لقد تسلَّمت الحراسة منذ ساعة فقط، وقد نمت منذ أول الليل، ولا أعتقد أنني سأنام مرةً أخرى هذه الليلة.
نظر «باسم» في ساعته وقال: على كل حال لم يبقَ إلَّا القليل؛ فالساعة قد تجاوزت الرابعة.
عثمان: إنني لا أتوقَّع هجومًا جديدًا الليلة على المقر السري. تعالَ نخرج إلى الجبل ندور حول الأماكن التي تردَّد عليها «كراولي» لعلنا نعثر على شيء يكسر هذا الجمود الذي يُسيطر على الموقف.
باسم: سأتصل بمقر الآسيويين؛ لعل عند «سوفانا» معلومات محدَّدة عن الأماكن التي تردَّد عليها «كراولي».
واتصل «باسم» بالرقم الذي تركه له «سوفانا»، وردَّ عليه صوت هادئ قائلًا: لقد تحدث إلينا «سوفانا» من الفندق وأخبرنا بالاتفاق الذي تمَّ بينه وبينكم … وقال إنه سيعود فورًا هو وزميله، ولكنه حتى الآن لم يعد.
فكَّر «باسم» قليلًا، ثم سأل: هل عندكم معلومات عن الأماكن التي كان يتردَّد عليها «كراولي»؟
قال ذو الصوت الهادئ: نعم، كانت كلها حول مغارة «جعيتا».
باسم: بالمناسبة، ما هو حجم التمثال؟
الرجل: طوله ٢٥ سنتيمترًا يا سيدي.
وضع «باسم» السماعة، ثم قال ﻟ «عثمان»: «سوفانا» وزميله لم يعودا بعدُ إلى مقر الآسيويين، وأعتقد أن ثمة شيئًا قد حدث. وقد كان «كراولي» يتردَّد على أماكن حول مغارة «جعيتا».
عثمان: سأُحضر سلاحًا، وسنذهب نتجوَّل هناك.
أسرع «باسم» فكتب مذكرةً سريعةً ﻟ «أحمد» بما حدث في الفندق، ثم ركب هو و«عثمان» سيارةً انطلقت بهما في ضوء الفجر الشاحب إلى الجبل. لم تكن السماء تُمطر، ولكن ضبابًا كثيفًا كان يُغطِّي جبال لبنان العالية.
قاد «عثمان» السيارة بهدوء، وجلس «باسم» بجواره هادئًا يُفكِّر. وبعد نصف ساعة أشرفا على المنطقة التي تقع بها المغارة الشهيرة … وأخذا يدوران، وفجأةً صاح «باسم»: سيارتنا المسروقة!
وأشار إلى جانب منخفض من الجبل. وكانت السيارة التي سُرقت من «قيس» بعد تخديره تقف مفتوحة الأبواب تحت مجموعة من الأشجار.
قال «عثمان»: لقد أخذها الآسيويون!
باسم: نعم … فهم فقراء … وقد سرقوها مضطرين لاستخدامها في مطاردة «كراولي» وعصابته.
عثمان: لعلَّ «سوفانا» وزميله كانا بها!
باسم: هذا ما أُرجِّحه.
نزل «عثمان» و«باسم» مسرعَين، وأخرج «عثمان» كرته المطَّاط الشهيرة، بينما تسلَّح «باسم» بمسدس، واقتربا من السيارة … وعلى ضوء الفجر الشاحب … كان واضحًا أن إحدى عجلات السيارة مفرَّغة من الهواء، وعندما انحنى «باسم» عليها قال: لقد أطلق عليها الرصاص.
فحص الصديقان السيارة بسرعة … لم يكن هناك شيء غير عادي سوى الرصاص الذي أصاب العجلة. ووقفا ينظران هنا وهناك، ومن بعيد بدا ضوء فيلا منعزلة، وقال «باسم»: تعال نتجوَّل حول هذه الفيلا. إن وجود ناس مستيقظين في هذه الساعة المبكِّرة مسألة تدعو إلى النظر.
واتجها معًا إلى الفيلا … ولم يكادا يقتربان حتى اشتمَّا رائحة الخطر … كانت هناك سيارتان بجوار الفيلا ورجل يقف عند باب الحديقة، وقد أمسك بين يدَيه رشَّاشًا، وهمس «باسم»: أظننا وقفنا على شيء.
واقتربا بهدوء من الفيلا. وفي الصمت العميق الذي يرين على الجبل في هذه الساعة المبكِّرة من الصباح، سمعا صوت نقاش حادٍّ يصدر من الفيلا. لم يتبيَّنا الكلمات، ولكن تبيَّنا أسلوب الحوار الخشن … وقال «عثمان»: من الأفضل أن نقترب أكثر!
باسم: هل تستخدم كرتك العزيزة؟
أمسك «عثمان» بكرة المطاط الجهنمية، وأخذ يهزُّها، ثم انثنى إلى الخلف وأطلقها كالقنبلة، وسمعا صوت ارتطامها برأس الحارس، ثم صوت سقوطه على الأرض. وتوقَّفا قليلًا في انتظار ما سيحدث … ولكن الصمت استمر … كما استمرَّت أصوات الحوار الغاضب …
اقتربا مسرعَين ولكن بحذر … وسحبا الحارس الضخم جانبًا ووضعاه بين الحشائش الكثيفة … وتناول «عثمان» كرته العزيزة، ولمعت أسنانه البيضاء وهو يبتسم.
اقتربا من الفيلا مسرعَين … واختار «عثمان» نافذةً قريبةً ألصق أذنه بها ومضى يستمع، بينما كان «باسم» يُمسك بمسدسه يحرسه.
سمع «عثمان» صوتًا مهدَّدًا يقول: إنكما تعلمان أين أخفى «كراولي» التمثال.
ردَّ الرجل: لقد أقسمنا لك يا سيدي إننا لا نعرف … وإذا كنا نعرف فلماذا لم نحصل على التمثال … لقد كرَّرنا هذا عشرات المرات.
كان الرد مقنعًا … ومع ذلك استمر الصوت المهدِّد يقول: لقد دخلتم جراج السيارات الذي وضع فيه «كراولي» السيارة «البونتياك» … ألم يكن التمثال هناك؟!
الرجل: لا يا سيدي … لقد سألتَنا عشرات المرات هذا السؤال وقلنا لك … لا …
ساد الصمت لحظات، ثم قال ذو الصوت المهدِّد: لعنة الله على «كراولي» هذا وعلى طمعه وشراهته. كان يُريد الاحتفاظ بأكثر النقود له، ولو كان عادلًا لما حدث شيء!
تدخَّل في الحديث صوت ثالث هادئ وناعم قائلًا: لقد انتهى أمر هذا التمثال بالنسبة لي، وسوف أُغادر لبنان غدًا … فإن رجال الشرطة في لبنان يبحثون عن قاتل «كراولي» وعن قاتل الرجل الأصفر … وأعتقد أنهم في النهاية سوف يصلون إلى هنا … إنني لم أشترك في هذه الجرائم، وليس ثمة ما يدعو لبقائي أكثر من هذا!
قال ذو الصوت المهدَّد: أعطنا فرصةً أخرى يا «ديمورييه». لقد طفنا حول العالم بهذا التمثال اللعين … وليس من المعقول أن نُضيِّع صفقة العمر بهذه الطريقة.
ديمورييه: لقد تسرَّعتم بقتل «كراولي» … وها هو قد مات وأخذ سره معه … ولن نعرف أبدًا أين أخفى التمثال.
قال ذو الصوت المهدَّد: امنحنا يومًا آخر. إن التمثال لم يتبخَّر في الهواء وقد بحثنا كما بحث هؤلاء الآسيويون في أكثر الأماكن التي تردَّد عليها «كراولي» اللعين. ولم يبقَ سوى مكان أو مكانان، فأعطِنا فرصة.
لم يردَّ «ديمورييه» على الفور … ثم قال بعد لحظات: سأنتظر حتى آخر نهار الغد فإذا لم تُحضِروا التمثال فلن أنتظر دقيقةً واحدةً زيادة.
قال ذو الصوت المهدَّد: اتفقنا. سنُمضي هذا اليوم كله، والليل في البحث، وسنسلخ هؤلاء الصفر إذا لم نجد التمثال … فلا بد أنه في حوزتهم.
ديمورييه: هذا ليس شأني … إنني تاجر وليس لي علاقة بما تفعلون … ولو استمعتم إلى نصيحتي وقابلتموني في باريس لانتهى الأمر.
قال ذو الصوت المهدَّد: لقد كان هؤلاء القرود الآسيويون يتبعوننا، وقد اختار «كراولي» «بيروت».
وفجأةً أحسَّ «عثمان» بحركة باب يفتح … فانبطح على الأرض … وظهر رجل على باب الفيلا أخذ ينظر في الظلام، ثم صاح: «بوتشيني»!
أدرك «عثمان» أن الرجل يُنادي الحارس … ونظر بحذر إلى حيث كان «باسم» … فوجده قابعًا تحت شجرة … وكان ضوء الفجر قد ازداد انتشارًا … وأدرك أنهما في خطر … وعاد الرجل يُنادي: «بوتشيني» … أين أنت؟!
ولمَّا لم يردَّ «بوتشيني»، سمع «عثمان» صوت أقدام تجري داخل الفيلا … وصوت أسلحة تستعد للإطلاق … فأشار ﻟ «باسم»، وتسلَّلا مبتعدَين، وسرعان ما كانت السيارة تحملهما إلى مقر الشياطين السري في «بيروت».