المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية
(١) العالم والفراغ الفِكري
مع انتصاف القرن العشرين دخل العالم مرحلة تحوُّل أو انتقال جذري شامل لكلِّ مناحي الحياة: الفكر والاقتصاد والسياسة والثقافة والعلاقات والبنى الدولية في الشرق وفي الغرب، مرحلة يصدق معها وعليها قول ابن خلدون: «إن الأحوال إذا تبدلت جُملةً، فكأنَّما تبدل الخلق من أصله، وتحوَّل العالم بأسره وكأنه خلق جديد.»
والعالم حقًّا منذ انتصاف القرن العشرين — ولا يزال — يعيش هذه الصورة، أو يعيش أزمة وآلام مخاض تحول لم تتحدَّد معالِمه وإنْ تجسَّدت أمراضه، وتفاقمت تناقضاته، وهذه المرحلة، شأن كل مراحل الانتقال الاجتماعي، تغيم فيها الرؤية حينًا، وتسقط الغشاوة عن نظريات وأفكار، أو ينتهي صدقها المرحلي، ويعيش المجتمع أو العالم مرحلة فراغ فِكري، وتفكُّك في العلاقات والهياكل، وعدم استقرار، وظهور تيارات فكرية متناقضة ومتدافِعة في محاولةٍ يائسة أو ناجحة جزئيًّا للإمساك بطبيعة أمور وأحداث الواقع المتجدِّد الذي تجاوز أسس الفكر والنظر السابقين أو التقليديين، ويتراوح الوضع ما بين رجوع، أو رِدَّة إلى ماضٍ أو سلف التماسًا ليقين ولَّى زمانه، وما بين مراجعة عقلانية نقدية تاريخية للواقع الراهن في ضوء مستجدات العصر واحتمالات المستقبل.
وحَريٌّ أن نشير بدايةً إلى أن بعض مظاهر الإنجاز والتقدُّم هي أيضًا — ومن خلال تداعياتها — سبب أو مظهر للأزمة وتفاقُمها، أذكر مثالًا: التقدُّم العلمي وما حقَّقَه من إنجازات إيجابية في عالم الاتصالات، والتحوُّلات في الاقتصاد العالَمي؛ إذ ضاعفَ من قدرات وإمكانات البشرية، وفاقمَ في الوقت نفسه من مشكلات بيئية واجتماعية وغيرها، وأدَّى كذلك إلى تغيير جذري في هيكلية العلاقات في الأنشطة البشرية المختلفة، كذلك استقلال المستعمرات السابقة، وهو واقع أو إنجاز إيجابي، ثم ظاهرة فشل العديد من حركات التحرُّر الوطني؛ إذ أخفقت في بناء نظم جديدة قادرة على مواكبة التقدُّم والاندماج في حضارة العصر بوصفها قوة قادرة على الإنتاج والفعل والتأثير على الصعيد العالَمي السياسي والاقتصادي، ناهيك عن عجزها عن بناء مجتمع ديمقراطي وعن بناء أسس للعدالة الاجتماعية وتحولت إلى قوى طرد سكاني هو موضوع جدل واسع عن أزمة الهجرة والمهاجرين من الجنوب إلى الشمال.
ويمثِّل كلُّ هذا في آنٍ واحد زوال الوهم بشأن حقيقة البرامج الإصلاحية وصوابها التي دعا إليها كلٌّ منهم، أو يمثِّل انتهاء مرحلة الصلاحية النظرية لفِكر كلٍّ منهم بعد أن تجاوزَتْه وقائع تطوُّر الحياة، ويعني هذا أيضًا سقوط الركائز التي تنبني عليها مشروعية نُظُم الحكم التي أقامت مشروعيتها على أساس تلك البرامج والنظريات، وانتفت مع هذا أسباب الاستقطاب العالَمي، ما بين اشتراكي ويساري أو ديمقراطي، وما بين ليبرالي ومحافظ أو تقليدي.
ويعني هذا أيضًا سقوط فلسفات حركة التنوير الغربي التي نادت بما زعمته نزعة كلية للثقافة الغربية عن العقل والمعرفة، وأكدت أن هناك ما يُسمَّى مبدأ العقل الكلي النظري المجرَّد الذي يتطابق بين الجميع في تجلياته واستنتاجاته، ويتجسَّد أساسًا ونهاية في عقل الباحث والمفكِّر الغربي.
وزعمت فلسفات التنوير الغربي أن الغرب هو الحداثة، وأن التحديث تغريب، وثقافة الحداثة هي ثقافة الغرب، وأن الحضارة في ذروتها وكمال صورتها هي حضارة الغرب أو عقله، أو هي التي تتجسَّد سياسيًّا واجتماعيًّا ومؤسساتيًّا وتنظيميًّا وثقافيًّا فيما سمَّتْه «المجتمع المدني» الذي يضمُّ المواطن المثالي، أي الغربي المُعبر عن كل هذه التجليات، والتي هي معيار المواطنة المدنية.
ويمكن أن نجمل فيما يلي عناصر الأزمة ومظاهرها في الشرق والغرب، وإنْ تباينت الخصوصيات التاريخية والواقعية زمانًا ومكانًا، والجهد المبذول في كل موقع لتجاوز الأزمة، ويمثل كل هذا جدول أعمال أهل الفكر للالتزام به في بحثهم لقضاياهم:
-
(١)
سقوط الليبرالية كعامل محدد للمناخ الثقافي الكوكبي Geoculture وسقوط مبادئها «الحرية – الإخاء – المساواة» في الممارسة على الصعيد العالمي.
-
(٢)
سقوط نبوءات الليبرالية بأن النظام العالمي الاقتصادي والسياسي سيؤدِّي إلى تحسُّن تدريجي لرفع المظالم في داخل المجتمعات وفيما بين المجتمعات.
-
(٣)
ثبوت زيف الزعم أن الحضارة غربية المنشأ، أو أنها بلغت ذروة كمالها وازدهارها على أيدي الغرب والجنس الأبيض، وأن الحضارات تطوَّرَت وتقدَّمَت على مدى مسار خطِّي أُحادي إلى حيث تجلي الروح الكلي «العقل الغربي»؛ إذ زعم فكر المركزية الأوروبية في تصوُّره لمعنى الحضارة وسيرتها بأن «القيم الحضارية» ترجع تاريخيًّا إلى الرومان والإغريق من الإنسان الأبيض، ولكن أصبح هذا الرأي هدفًا لهجوم علمي ومراجعة نقدية جذرية في ضوء البحث العلمي لتطوُّر المجتمعات والدراسات الأنثروبولوجية والاكتشافات التاريخية، إننا نخطئ خطأً بليغًا إذا قلنا إن ثقافة اليابان البوذية ثقافة هندية باعتبار الهند مهد البوذية التي أضحت محورًا أساسيًّا في التاريخ الثقافي لليابان، ونخطئ خطأً بليغًا إذا قلنا إن الثقافة الاجتماعية المصرية هي فقط حصاد وجماع ثقافة شبه الجزيرة العربية مهد الإسلام، ذلك لأن الجغرافيا هي مسرح أحداث التاريخ وتجلي التفاعل الإيكولوجي بين الإنسان/المجتمع والبيئة، ومن ثَمَّ صوغ الثقافة في صورة جديلة جامعة لأحداث التاريخ والإنسان في تعاقُبها وتفاعُلها.
-
(٤)
ثبوت زيف المبادئ المعيارية المحورية لفِكر التنوير الغربي المتمثِّلة في النزعة الكلية والنزعة الماهوية للإنسانية جمعاء، مع رفض الخصوصية الزمانية والمكانية في ديناميتها المتطوِّرة، أي ثبوت زيف مقولة العقل الكلي والمعرفة الكلية واليقين الكلي، أي عقل ومعرفة الغرب، والحاجة إلى ابتكار إطار فكري جديد، يؤكِّد خصوصية ونسبية الغرب؛ ذلك أن الفلسفة السياسية الليبرالية الحداثية قدمت نفسها في صورة خطاب أيديولوجي نظري أو ميتافيزيقي خالص يعبِّر عما ظنته جوهر الاجتماع السياسي البشري أو ماهيته؛ إذ زعمت أن معيارية المواطنة المدنية لها أولوية وسبق تاريخي وأنثروبولوجي على ظاهرة الاجتماع البشري، قبل فرض ظروف وأوضاع ثقافية قسرية، لذلك فإن الهوية المدنية هي في زَعْمها الهوية الفطرية الأصلية وماهية الإنسان، وترى أن هذا الفهم مذهب كُلي شامل عن الإنسان والتاريخ وعن طبيعة العقل وماهيته والأشياء في ذاتها، الحداثة الغربية مفهوم كُلي كَوْني، وكذا التحديث حسب النهج الغربي وثقافته، الكلية بمعنى أن الرؤية الغربية رؤية تصلح لجميع البشر، وأن مفاهيم التنوير تتعالى بحكم كليتها على كل الخصوصيات الثقافية، إنها مطلقة، وطبيعي أن مثل هذه النزعة تنفي إمكانية تعدُّد مسارات التطوُّر التحديثي، وكأن المسار خطي أُحادي مُطلَق، كما تنفي النسبوية بين الثقافات، وتنفي الخصوصيات الجزئية مما يعني نَفْي حق المجتمعات الأخرى.
والماهوية essentialism أو القول بجوهر الطبيعة البشرية، وأنه في البدء حرية ومساواة، ويتنافى هذا مع ما أثبته العلم بشأن تطوُّر الإنسان والمجتمعات.وامتدَّ هذا إلى القول بأن جوهر طبيعة شعوب المستعمرات غير جوهر طبيعة الإنسان الأبيض، وغير مقوماته ورسالته الحضارية، وتأكد الآن أن هذا كله أحكام أو مفترضات ذهنية منحازة عرقيًّا من منطلق المركزية الغربية وغير واقعية.
كذلك القول بأحادية المسار الخطِّي للتطوُّر أدَّى إلى مفهوم حتمية التقدُّم أسوةً بالغرب «المثل الأعلى» للإنسانية حسب منظور المركزية الغربية، وأصبح لهذا المفهوم السيادة على العلم الاجتماعي والسياسي بوصفه أساسًا لتفسير تاريخ العالم وتبرير نظريات المراحل في تطوُّر المجتمعات، ومن ثَمَّ التبايُن بين مجتمعات متقدِّمة أو تنشد التقدُّم والتغيير بطبيعتها وأخرى مُتخلِّفة، وأضحت هذه النظرة تبريرًا وذريعة للتدخُّلات السياسية في البلدان «المتخلِّفة» ومُبرِّرًا للسياسيين في الغرب لفرض رؤيتهم فرضًا على الآخَر باسم طبيعة الأشياء، وهذا هو ميراث التنوير الفِكري، الذي ورثته الولايات المتحدة عن أوروبا وتحاول تطبيقه صراحةً وقَسْرًا على بلدان أخرى بحُجة تطويرها وإصلاحها، أي إنفاذ الرسالة الحضارية المتوهمة للجنس الأبيض إلى بقية العالم.
-
(٥)
سقوط الاعتقاد بأن التقدُّم حتمي، وفقدت الشعوب — وأولها شعوب الغرب — مصداقية وعد التنوير بتحسُّن الأوضاع.
-
(٦)
سقوط اليقين، إذ لا يقين كما رأت الحداثة على لسان فلاسفتها ومُفكِّريها، وسقوط الزعم بوجود قوانين كلية حاكمة لجميع الظواهر الطبيعية والاجتماعية وأنها مُطلَقة الصدق، وهذا ما تذهب إليه نظرية التعقُّد أو الشواش الآن complexity or chaos theory في نقدها للعلوم الطبيعية والإنسانية ودعوتها إلى إسقاط مقولة الثقافتين، أي الفصل بين علوم طبيعية وأخرى إنسانية، وإنما دمج الإنسان مع الطبيعة في نظرة علمية متكاملة، ويلاحظ أن سقوط اليقين اقترن بمظاهر ردة أصولية قرين حالة من عدم الاستقرار، والتوجُّه ضد الدولة أو بداية حقبة شك وتهاون في سلطة الدولة في عديد من البلدان.
-
(٧)
سقوط عديد من حركات التحرُّر الوطني، وهو ما يتمثَّل في عجز أكثرها عن بناء نظم حكم ديمقراطية ملتزمة بما دعت إليه قبل الاستقلال من تحقيقٍ لعدالة اجتماعية وبناء دولة مؤسسات، وهذا ما تؤكِّده ثورات الجماهير وانفصالها عن حكامها، حتى ليمكن القول بأن نُظُم الحكم فيها لا تستند إلى شرعية ديمقراطية.
-
(٨)
انهيار اليسار التقليدي وغالبية النُّظُم المنتمية إلى الفِكر الماركسي، فيما عدا بضع دول، مثل الصين، تعمل جاهدة على التكيُّف مع الجديد من حيث الفِكر والممارسة التطبيقية.
-
(٩)
انهيار الثقة في النموذج الكينزي في الغرب، وانهيار مجتمع أو دولة الرفاه، وتعدُّد التوجُّهات والجهود وتباينهما بحثًا عن نظرية لنظام جديد على نحو ما نرى في دعوة أو دعوات باسم الطريق الثالث.
-
(١٠)
هذا فيما يتعلَّق بتصدُّع الإطار الفِكري الغربي، وهناك عامل جديد مُتعدِّد الأبعاد عميق التأثير؛ ذلك أن بلدان المستعمرات السابقة — خاصةً شرق آسيا وجنوبها — فرضت حضورًا قويًّا بعد استقلالها، استلزم مراجعة أسس الفكر العالمي الذي ساد على مدى قرون بشأن معنى الثقافة والحداثة وقوانين الفكر الإنساني، والحراك والتطوُّر الاجتماعي والديمقراطية وحقوق المجتمعات وحقوق الإنسان وأزمة البيئة ومصداقية التاريخ الذي كتبه الغرب، ومعنى الهُوية، إذ كان الغرب يرى نفسه «الأنا»، الذات، ويرى المجتمعات غير الغربية هي «الآخَر»، والبقية the west and the rest، واقترن هذا بمحاولة قطب واحد أصولي النزعة أن يتحدَّى عناصر الأزمة وعقلانية التحليل ليفرض رؤى أصولية موروثة، تحقِّق له أطماع السيادة السياسية والاقتصادية والعسكرية مع فرض هيمنة ثقافية ضد مقولات التعددية والنسبية.
-
(١١)
وقد يبدو غريبًا أن نضيف إلى ما سبق عاملًا آخَر يغيب عن الأذهان في عالمنا العربي، وأعني بذلك أنه مع انتصاف القرن العشرين بدأ يستبد بالولايات المتحدة — في تزايد مطرد — هاجس ما اصطلح على تسميته «نهاية القرن الأمريكي»، وسبق أن أشرنا في دراسة لنا إلى أن هذا القرن الأمريكي بدأ مع انتصار حرب الاستقلال الأمريكية وبداية التطلُّع إلى خارج الحدود تحت شعار الرئيس مونرو «أمريكا للأمريكيين»، أي الاستئثار بنصف الكرة الغربي باعتباره مرحلةً أو قضمة أولى، وشهدت الولايات المتحدة حوارات وسجالات فكرية حمي وطيسها، خاصةً خلال العقدين الأخيرين محورها السؤال: «هل من قرن أمريكي جديد؟» وتسعى السلطات الرسمية في الولايات المتحدة، خاصةً في ظل الأصولية الإنجيلية الصهيونية إلى أن تؤكد بالترغيب والترهيب الغشوم زيف الهاجس وضرورة إنقاذ رسالة الرب ضد محور الشر، وانعكس هذا في صورة سياسات يحكمها البطش العسكري، مما أدَّى إلى المزيد من التفكُّك كوكبيًّا وغلبة مشاعر الإحباط.
(٢) البداية مع حركة التنوير
التنوير حركة ثقافية عريضة انبثقت عن الحروب الدينية والعرقية والطبقية التي امتدت على مدى القرنين ١٦، ١٧ وعُرفت باسم حروب المائة عام. واجَهَ المفكِّرون ما رأوه نزعات عرقية وطبقية ودينية لا نهاية لها، وجمعت هذه الحقبة بين نقيضين: الصراعات التي تنذر بالتفكُّك وتخلق حالة من الفوضى، علاوة على تفشِّي نزعة الشك الذي طال كل شيء وانتفى اليقين، وبين إرهاصات التقدُّم العلمي الذي يستلزم اليقين والمعرفة الموثقة قرين بدايات التحوُّل في طبيعة الإنتاج إلى إنتاج صناعة يستلزم توثيقًا للروابط وخلق وحدات قومية أو وطنية تتجاوز الساحات العرقية والدينية والأطماع الطبقية وضمان الأسواق.
التمسَ المفكِّرون سبيلًا للخروج من هذه الورطة، وتأسيس قاعدة ثقافية محايدة تلتقي عندها وجهات النظر الدينية والعرقية المتصارعة بهدف الوصول إلى اتفاق يحقن الدماء، ويدعم حركة التوحُّد والتقدُّم، لذا عمدوا إلى ابتكار مفاهيم جديدة عن العقل والمعرفة، والتي عرفت فيما بعد باسم «المنهج العلمي» ضمانًا للحيادية الثقافية والموضوعية، وظلَّت الأفكار التي صاغتها الفلسفات السياسية لكلٍّ من جون لوك وديكارت وروسو وبنتام وكانط وميل هي الأفكار المحورية على مدى القرون الثلاثة حتى منتصف القرن العشرين؛ إذ قدَّمَت هذه الأفكار تفسيرًا ظلَّت له السيادة عن المثل العليا الديمقراطية والليبرالية بشأن الحرية الفردية والمساواة وحقوق الإنسان والعقل والمعرفة والعقد الاجتماعي والفردية الأصيلة.
وقدَّمَت الفلسفات السياسية تفسيرات أنثروبولوجية نظرية عن طبيعة الاجتماع البشري، وعن نشوء المجتمعات وعن الطبيعة البشرية لبيان زيف الواقع الاجتماعي القائم على التناحُر، وقدَّمَت هذه الفلسفات أيضًا مفاهيم عن جوهر العقل والمعرفة عند الإنسان، وزعمت أنها تعبِّر عن موقف يتعالى على جميع المعتقدات الجزئية المشروطة تاريخيًّا، وذهبت إلى أن العقل مستقلٌّ ذاتيًّا في تقويم كلِّ ما يتصل بالحق ولا يخضع لأيِّ سلطان غير ذاته، ونعني هنا سلطان رجال الدين، أو عصبية عِرقية، أو الأمراء الإقطاعيين، وترى النظرية السياسية الليبرالية الحداثية أن مهمة العقل المستقل ذاتيًّا — وهو العقل المدني — أن يكون المَرْجع والمسئول عن الترتيبات السياسية في التطبيق العملي، ويمثِّل هذا، فيما ذهبت إليه، تجسيدًا للمواطنة الديمقراطية الليبرالية.
ومبدأ العقل الإنساني المستقل ذاتيًّا هو محور المشروع الثقافي التنويري الغربي، عبَّر هذا المبدأ عن الاعتقاد بأن العقل الإنساني بذاته وفي ذاته يمكنه — إذا ما استخدمَ مناهج مُستمَدَّة من تحليل قدراته الذاتية — أن يتعالى على الحدود والقيود التي فرضتها الظروف التاريخية، وأن ينجز معرفة صحيحة وكلية، وهذه هي دعوة للانعتاق من القيود الاجتماعية القَسْرية، رغبةً في تأسيس مجتمع جديد هو المجتمع المدني الذي يُهيِّئ إمكانيةً للفرد الغربي من أن يبني حياة جديدة، والخلاص من عصر الفوضى والانقسامات والاقتتال.
وهكذا تأسَّسَت الديمقراطيات الليبرالية في الغرب باسم حقوق الإنسان الكلية والطبيعية، وقيل نظريًّا إنها حقوق جميع البشر، وهو ما كذَّبَته وقائع التطبيق العملي لسياسات الغرب مع المستعمرات، وعمدت النظريات السياسية الليبرالية الحداثية إلى إثبات أن المُثل العليا الأخلاقية والسياسية يمكن استقراؤها من مفاهيم ميتافيزيقية تتسم بالصواب الكلي عن الطبيعة والعقل.
وظهرت نظريات أو سرديات العقد الاجتماعي، وهو مكوِّن أساسي في الثقافة المدنية التي تنقل الإنسان والمجتمع من حالة الفوضى البدائية والتفكُّك والبربرية إلى مجتمع مدني، وصاغ الفلاسفة السياسيون رؤاهم النظرية عن حالة البشرية في البدء؛ حيث كان الناس أحرارًا متساوين؛ إذ إن الحرية والمساواة هما من طبيعة الأمور، ولكن النُّظُم الطائفية والعِرقية هي نُظُم نشأت بفعل القسر والإكراه.
وهكذا كانت دعوة فلاسفة التنوير ومفكِّريه هي الانتقال إلى مجتمع مدني يكفل الوحدة والتضامن الاجتماعيين، وإعمال العقل الفردي المستقل، وبذا يكون المجتمع المدني هو المجتمع المستنير، وكذا المواطن المدني هو المواطن المستنير.
وهذا هو أساس الثقافة المدنية والمواطنة المدنية، الباحث أو المواطن المدني لا يتكلم بلسان طائفة أو طبقة أو عقيدة محدودة، بل بلسان العقل الكلي العام المتحرِّر من الالتزامات والانحيازات الجزئية الطبقية، وبذا يكون حديثه عن الجميع وللجميع باعتباره مجتمعًا أكبر عالميًّا، أي يتكلَّم من منطلق الهُوية المدنية، هُوية المرء بوصفه عضوًا في مجتمع مدني، مجتمع الإنسانية جميعها.
وحسب هذا التصوُّر يكون المثقف بمعناه الجديد، والذي نفتقده نحن الآن في عالمنا العربي، هو الأنا المتعالية الذي يحرص إراديًّا وعقليًّا على الاحتفاظ بمسافة نقدية فاصِلة بينه وبين الانحيازات الجزئية العرقية أو الدينية أو السياسية … إلخ، وأن يكون بينه وبين المجتمع السياسي، أي السلطة السياسية المسافة ذاتها، إن المثقف — المواطن المدني — موقف، هُويته أو ذاتيته مستقلة تمامًا، وعقل نقدي مَحْض بغيَّة الوصول إلى معرفة الحق الكلي، وهذا هو التطابق أو التوحُّد بين المواطن المعياري المثقف، وبين الذات العارفة المَحْضة، وتمثل هذه المسافة الفاصلة أساسًا للثقافة المدنية، إنها تهيِّئ معيارًا واضحًا لتطوير القدرات الصحيحة للمواطنة الحداثية، وإذا كانت فِكرة الذات العارفة المَحْضة المستقلة ذاتيًّا عن السياق باتت أسطورة الآن، إلا أن هذا لا ينفي دور وواجب وهدف المثقف المدني — المواطن — في الالتزام بالمسافة الفاصلة عن المجتمع السياسي ضمانًا لصِدق وبراءة التعبير عن المجتمع المدني في شموله داخل مساحة التوتُّر المتصل بين المجتمعين: السياسي (السلطة) والمدني (الجمهور).
معنى هذا أن كلمة مدني في قاموس التنوير تحمل معنيين نقيضين: تعني المواطن الحر (الغربي) المهذب والكيِّس والمتحضِّر نقيض البربري والهمجي، وتعني أيضًا في الأصل الروماني تميُّزًا له، ثم أصبحت تعني الأوروبي الذي يجسِّد الحضارة دون سواه.
واستخدمها مفكِّرو التنوير للتمييز بين مجتمعهم المدني، وبين مجتمعات التعصُّب والحروب والاقتتال، أي مجتمعات الأمراء ورجال الدين ودعاة العصبيات العرقية، ولكنهم استخدموها أيضًا للتمييز بين مجتمعاتهم الأوروبية والمجتمعات غير الأوروبية، ولعلَّ من الأمور ذات الدلالة على الانحياز الغربي هنا أن العلوم أو الدراسات الاجتماعية التي نشأت في ظِل فكر التنوير اختصَّت بدراسة المجتمعات المدنية أو الغربية، بينما ابتدعَ الغرب مبحثَين آخَرين اختصَّا بدراسة المجتمعات غير الأوروبية، أو لنقل غير المدنية، وهذان المبحثان هما الاستشراق والأنثروبولوجيا.
وصاغ الفلاسفة مذاهبهم السياسية وفي خلفيات رءوسهم هذا المعنى: الحضارة أوروبية، أو سارت مسارها التاريخي الخطِّي والأحادي، ابتداءً بالبرابرة والهمج لتبلغ ذروتها، وليبلغ العقل كماله مع الإنسان الأبيض، ومن هنا ذهبوا في تفسيرهم لحركة التاريخ أن الإغريق هم أهل الحكمة ومبدأ الفلسفة وعبقرية الإبداع، وأن الإنسان الأبيض هو المتحضِّر أو المدني بطبيعته وفطرته، وبلغ المجد من أطرافه عقلًا وحِكمةً وعلمًا، وأن من دونه برابرة، ومن ثَمَّ كان القول بأن التحديث تغريب، محاكاةً للمثل الأعلى (الغرب) ولذلك أيضًا لم يكن غريبًا على فلاسفة التنوير أن يكون بعضهم شريكًا وصاحب أسهم في شركات تجارة العبيد إلى العالم الجديد.
إذَن كلمة مدني، حسب هذا الاستعمال، تدل على مفهوم نخبوي تفضيلي تأسيسًا على وضع تراتبي هرمي للمجتمعات على عكس ما يدعو إليه ظاهر فكر حركة التنوير من أخوة ومساواة وحرية، وأن البشر جميعًا أحرار سواسية. وأصبح هذا الفكر تبريرًا نظريًّا للسياسات الغربية التوسعية الإمبريالية. كما أصبح التوسع الاستعماري رسالة الرجل الأبيض لنشر الحضارة، وإقامة مجتمعات مدنية على نحو دعوة الإصلاح التي تدعونا إليها الولايات المتحدة الأمريكية أسوة بدعوتها ونصيحتها قبل ذلك لبلدان أمريكا الجنوبية. ولكن منطق الفكر التنويري يقرِّر أن الشعوب الأخرى بطبيعتها وجبلَّتها ليست أهلًا للتحضُّر والإبداع العبقري شأن الرجل الأبيض.
وامتد هذا الفكر من أوروبا إلى الولايات المتحدة مع هجرة الرجل الأبيض وسيطرته على الأراضي بعد قتل ودحر أهلها الأصليين بأساليب عسكرية وحشية بربرية وغير أخلاقية. وفرض الإنسان الأبيض «المدني»، باسم طبيعة الأمور والأشياء، هيمنة الولايات المتحدة، أو نيو إنجلاند تحديدًا، على بلدان جنوب الولايات المتحدة ثم بلدان أمريكا الجنوبية تحت شعار أمريكا للأمريكيين. ثم سيطر على اليابان عقب الحرب العالمية الثانية وعلى غيرها. وبرَّر الإنسان الأبيض «المدني» سلوكه بأنه صاحب رسالة حضارية لإصلاح وبناء مجتمعات المؤسسات الديمقراطية الليبرالية الحداثية، زاعمًا أن هذا هو الأسلوب الوحيد للتحديث الاجتماعي. ولكن سقطت جميع هذه المزاعم في التطبيق العملي.
المجتمع المدني
وجدير بالذكر أن توماس بين (١٧٣٧–١٨٠٩) المفكر البريطاني المولد، وأحد زعماء الثورة الأمريكية وصاحب كتاب «حقوق الإنسان» هو أول مَن مايز بين الدولة والمجتمع المدني. رأى أن الدولة كيان مختلق ومفروض قسرًا لأنها اغتصبت دور الفرد، كما اغتصبت الجهد الطوعي لأنها بطبيعتها سلطة وتسلط.
وذهب إلى أن المجتمع وليد حاجاتنا ومتطلباتنا، بينما الحكومة نتاج المكر والدهاء الإنساني. الأول، أي المجتمع، يغرس ويوحِّد أفضل دوافعنا، بينما الثاني، أي المجتمع السياسي أو الحكومة، يكبح رذائلنا … المجتمع المدني راعٍ وضامن، بينما الحكومة جهاز معاقبة وأداة قسر. وتقع المؤسسات المدنية في المساحة الفاصلة بين الفرد وقوى السوق لتهيِّئ للإنسان، المواطن، الفرد، أفضل سبل الحياة.
والمجتمع المدني في رأيه يزدهر بازدهار الفضائل المدنية: التعاون، حب الإنسان، الروح الجماعية، النشاط الطوعي، المساواة، العدالة، التعالي على الانحيازات. وتمثل الفضائل المدنية خير دعامة ضد الحكم الشمولي وضد الإفراط والمغالاة. ويجسد المجتمع المدني الساحة الأخلاقية بين الحاكم والمحكوم، ومفهوم المجتمع المدني هو الساحة التي تضم مؤسسات طوعية حرة تتوسط بين الفرد والدولة؛ حيث المواطنون الأفراد يعملون في آنٍ واحد على نحو فردي وجماعي مشترك، ومن ثَم فإن فعالية الإنسان هي أكبر الفضائل. وصاغ توماس بين رؤاه عن المجتمع المدني في صورة جمهورية فاضلة، هي موطن الحرية المتحررة من الحكم القسري التعسفي، والتي تزدهر فقط حال توفر روابط حرة دينامية بعيدة عن السيطرة المنفردة للمجتمع السياسي (الحكومة).
مفهوم المجتمع المدني إذَن هو صياغة لتنظيم صورة الواقع والموقع في سلم تراتُبي تفضيلي قياسًا إلى السابق في أوروبا، وقياسًا إلى حاضر المجتمعات غير الأوروبية، وظهرت فلسفات التنوير، وسرديات العقد الاجتماعي لتفسر مسار تطوُّر المجتمعات تاريخيًّا من الوضع الطبيعي، وضع الفطرة، حيث البشر أفراد أحرار سواسية تعاقدوا — حسب زعمها — طوعيًّا للاجتماع، ثم بفعل القهر والقسر تحوَّلت إلى مجتمعات عِرقية وعصبية دينية وأرستقراطية طبقية.
وترسم فلسفات التنوير السياسية الطريق للخلاص وبناء المجتمع المدني المتحرِّر من هذه الانحيازات، والمتلاحم في وحدة وطنية حضارية، والعودة إلى ما سمَّتْه «الطبيعة البشرية في جوهرها»، في ظل سلطة ديمقراطية ليبرالية وليدة اقتراع حُر، ويعني هذا أن المجتمع المدني حسب التعريف هو المجتمع الديمقراطي الليبرالي الحداثي، والحضاري الغربي، إنه النموذج الكلي الذي يتعيَّن بلوغ مستواه لمَن شاء أن يوصف بأنه مدني (حضاري) ولكن ليس الأمر ميسورًا للجميع.
وشرعية السلطة أو الدولة في المجتمع المدني الديمقراطي الليبرالي رهن مواطنين أحرار متساوين، يختارون بملء إرادتهم الحرة ومسئوليتهم الواعية، النظام الحاكم متعالين — بحكم تثقيفهم وتعليمهم مدنيًّا — على الانحيازات والحزازات الطبقية أو الدينية أو العرقية … إلخ، إذ المجتمع غير المدني يحكم باسم الدين أو العِرق أو الطبقة أو العائلة، إنه مجتمع غير ليبرالي ولا ديمقراطي ينظم المؤسسات التعليمية والسياسية والإعلامية وغيرها من مؤسسات اجتماعية لدعم صاحب السلطة؛ إذ له المشيئة، ولكن المجتمع المدني ديمقراطي ليبرالي في التعليم والثقافة والسياسة، وفي شرعية الحُكم وفي مساحة حقوق الإنسان ومشروعيته باعتبار أن الناس أحرار متساوون، والمجتمع المدني ليس ضد الدين، ولكن ضد تسلُّط رجال الدين باسم الدين، تحقيقًا لمآربَ جزئية، فهم بشر تربطهم مصالحهم، وتحكمهم الانحيازات، فضلًا عن أن قضايا المجتمع بحكم التطور والتعقد تتجاوز كثيرًا حدود قدراتهم المعرفية المتخصصة أو المحدودة بعد أن تشعبت تخصصات الحياة، والثقافة المدنية هي أساس التعليم المدني الذي يضفي نظرة نسبية لا مطلقة على المنظومات التراتُبية الناجمة عن ثقافات مجتمعات محلية طائفية.
وتسود المجتمع المدني ثقافة خالقة للمواطن المدني وللمواطنة المدنية، هي ثقافة ليبرالية ديمقراطية تُلزم الدولة بمعاملة جميع المواطنين باعتبارهم أفرادًا أحرارًا متساوين؛ حيث إن أبناء المجتمع مواطنون، لا رعايا لمؤسسة دينية أو لأمير أو لرئيس، وحيث السلطة إدارة بالوكالة عمَّن اختاروهم بإرادتهم الحرة في اقتراع سِرِّي من بين مواطنين أحرار متساوين لهم حق الترشُّح لتولِّي السلطة، وحيث شرعية السلطة رهن هذه الإرادة الحرة، إذ المواطنون الأحرار هم مصدر شرعية السلطات.
ومواطن المجتمع المدني تصوغه — من خلال التربية والتعليم والإعلام والتنشئة الاجتماعية — ثقافة سياسية تدعم الفضائل المدنية من مثل التسامح إزاء اختلاف الرأي أو العقيدة أو العِرق، ومن مثل الاستعداد لحسم المنازعات عقلانيًّا، أي تحكيم العقل المستقل ذاتيًّا ومصالح المجتمع الأكبر، والإيمان بمسئولية الآخَرين الأحرار عن أفعالهم وحقهم، ورفض كامل لأي تراتُبية أو امتيازات أو انحيازات لمنصب أو عقيدة … إلخ.
وتجسد ثقافة المجتمع المدني وآليات التثقيف معتقد التنوير بشأن العقل والمعرفة الذي يقرِّر — ويؤكِّد — حرية تكوين المؤسسات الدينية المستقلة ذاتيًّا، علمية وسياسية وطوعية … إلخ، لتكون روافد تستجمع زخم الجهد الاجتماعي، ولتكون تجسيدًا للمُثل العليا المدنية، ووعيًا جمعيًّا ديمقراطيًّا موازيًا للمجتمع السياسي (السلطة) وحائلًا دون انفراده بالأمر، وهنا تكون الديمقراطية ممارسةً وتجلِّيًا للحريات والاستقلال.
وتبني الثقافة المدنية منظومة ذهنية جديدة عن المواطَنة والمُثُل العليا للمواطنة، ويتجلَّى هذا كله في السلوك الفردي والعام والسياسي للدولة، وفي احترام معايير المواطنة والأصالة والحرية، وإن إحدى مهام الدولة في المجتمع المدني توفير موارد لحفز المواطنين على استحداث وتطوير قدرات مناسبة لمواطنة ثقافية كاملة، أي الانتماء الأصيل؛ ذلك لأن المواطنين لا يتطلَّعون إلى مواطَنةٍ لا يفهمونها، أو لا تتوفر معايير مصداقيتها وفُرصها، أو مستمدة من مُثُل عليا وأُطُر معرفية تقليدية فقدت موضوعيتها واغتربت عن الواقع الحياتي، وثمة تغذية متبادلة داعمة بين معايير الثقافة المدنية من جهة، وبين التعليم والإعلام والتنشئة والممارسات الحياتية على صعيد الأفراد وسياسة الدولة من ناحية أخرى، وإذا حدث وفقدت الأفكار المحورية للثقافة المدنية مصداقيتها فإنها سُرعان ما تفقد قُدرتها على خَلْق عادات المواطنة المدنية مما يتهدَّد المجتمع بالتفكُّك.
والمُثُل العليا للمواطَنة الثقافية في المجتمع المدني في نشأته هي:
-
(١)
الأصالة، أي أن يعبِّر المرء عن ذاته، بالأصالة عن نفسه، ويكون هو ذاته عملًا ورأيًا، وصاحب عقل مستقل في حُكمه على قضايا الحق والخير والسياسة، وهو ما لا يتحقَّق إلا في مناخ من الحرية.
-
(٢)
الاستقلال الذاتي، أي حقه في أن يصوغ حياته وفق اختياره المستقل، وهو ما لا يتحقَّق إلا في مجتمع مُنتِج وديمقراطي حُر.
-
(٣)
الإيمان بأولوية تاريخية وأنثروبولوجية للطبيعة الحُرة المتساوية والفردية للوجود الإنساني السابق على أي اجتماع بشري قسري إقطاعي أو ديني أو طائفي، وهو ما يعني إيمانًا بأن الحرية والمساواة فطرة بشرية، وهذا ما ثبت خطؤه علميًّا، وإن كان الخطأ لا ينفي مبدأ حق الحرية كشرط للمواطنة.
وتتجسَّد هذه المعايير والمُثُل العليا في مؤسسات المجتمع المدني وتقاليده وأخلاقياته وأعرافه ومواطنيه لبناء المواطنة أو الهُوية المدنية والمواطن المدني، لذا فإن تجسيد هذه المعايير مهمة ثقافية مدنية.
(٣) المجتمع المدني وأزمة الغرب
ولكن مع انتصاف القرن العشرين وبداية التحوُّلات الجذرية في العلوم والفلسفات والفِكر الاقتصادي والسياسي والتي شملت كلَّ الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية، واجهَ الغرب أزمة عميقة صدعت أُطُره الفكرية التقليدية، أي أُطُر فِكر التنوير، وخاصة المجتمع المدني، وأشرنا في صدر كلامنا إلى مظاهر هذا السقوط وتجلياته، وتهاوت على مدى النصف الثاني للقرن العشرين، ولا تزال، أسباب معقولية وقبول هذه الأفكار.
وأكثر من هذا أنه على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، والآن، تجلَّتْ خصوصيات مجتمعات شقَّت طريقها نحو النهضة الحداثية، دون التزام بالنهج الغربي في التحديث الثقافي، وهي مجتمعات شرق آسيا والهند تحديدًا، لم تعُد هذه المجتمعات مثلما كانت في فِكر التنوير مجتمعات برابرة، ولم تعُد كذلك موضوعًا للاستشراق والأنثروبولوجيا في ضوء النظرة الغربية التقليدية، وإنما أصبح لهذه المجتمعات حضورها السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري، وأُجريت دراسات علمية مقارنة عن أسس التفكير وعن المنظومات الذهنية لهذه المجتمعات والمنظومات الذهنية التقليدية عند الغرب، وكشفت هذه الدراسات المقارنة عن أن ما ساد أكاديميًّا على مدى قرون بشأن قوانين الفِكر وقواعد الإدراك ومسار الحضارات، إنما يمثِّل خصوصية غربية، وليست قوانين كلية عامة لكل إنسان في كل زمان ومكان، وأصبح لزامًا مراجعة كل ما توارثته البشرية في محاولة لاستكشاف قوانين جديدة، أو قوانين الخصوصيات النسبية وقواعدها للفِكر الإنساني في ضوء توزيع نسبي جغرافي زماني.
وظهرت دراسات أخرى عن حضارات هذه الشعوب كشفت انحيازًا غربيًّا في اختلاق مسار خطِّي أُحادي لتطوُّر الحضارات يدعم نظرة المحورية الغربية، والزعم بأن الحضارة الغربية هي ذروة كمال التطوُّر الحضاري وعندها ينتهي التاريخ.
ولم يعُد مقبولًا مع تقدُّم العلم الزعم بأن الوضع الطبيعي للبشرية البدائية هو الفردية الحرة المتساوية، ومن ثَمَّ نفي العملية التاريخية التطورية للبشر والمجتمعات، إن العبيد صَنعَتهم ثقافة عبيد، والأحرار صَنعَتهم ثقافة أحرار بفضل فعالية إنسانية اجتماعية متطوِّرة المراحل، ومع تقدُّم العلم أيضًا ثبت خطأ الزعم بأن الباحث المستنير هو العارف المستقل ذاتيًّا بالمعنى النظري الميتافيزيقي، ذلك أن العلم نشاط اجتماعي لباحثين علميين بينهم تفاعُل على صعيد محلي وكوكبي، إذ أصبح العلمُ — من حيث هو مشروعات بحثية ضخمة وتنظيم مؤسسي وتمويل وطني — مختلفًا تمامًا عن تصوُّرات ديكارت وكانط.
ويشهد تاريخ الأحداث على أن مفهوم العقل الكلي، ويعني عقل الغرب المتحضِّر، ومفهوم المعرفة الكلية، التي تعني معارف هذا العقل وصدقها الكلي، كانا أساسًا لدعم المركزية الغربية وفرض عصر للهيمنة الكوكبية الغربية، واستطاع الغرب من خلال التوسُّع الإمبريالي أن يفرض بقوة وسلطان القنابل وآلات الحرب، وبفضل التفوُّق التكنولوجي والعسكري، أن ينشر مع التوسُّع نفوذ مفاهيم التنوير عن الطبيعة والحرية والحق باعتبارها ثقافة الغرب، وهذه هي المصطلحات أو الكلمات التي حددت معنى الحداثة الثقافية، وغرس الغرب وهمًا بأن لا انفصام بين التحديث الاقتصادي والتكنولوجي، وبين التحديث الثقافي على النمط الغربي، أي ضرورة التغريب شرطًا للحداثة والتقدُّم الحضاري.
وليس خافيًا أيضًا أنه على مدى النصف الثاني من القرن العشرين — باسم طبيعة الأمور والصدق الكلي — فرضت الولايات المتحدة على اليابان وعلى عدد من الدول الزراعية في أمريكا الجنوبية دستورًا ديمقراطيًّا ليبراليًّا لإيمانها، أو ظنًّا منها حسب إطار الفكر التنويري، أن هذا الوضع هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون وفق الرؤية الكلية لمعنى العقل – الطبيعة – المعرفة – المجتمع المدني، وفرضت دستورًا ديمقراطيًّا غريبًّا عن الثقافة القومية بحجة أن الشعوب إذا أُتيحت لها فرصة الاختيار التلقائي الحر سوف تختار التشبُّه بأمريكا؛ لأن هذه هي الطبيعة التي حرمتها منها ظروف وأوضاع قسرية، ولكن إنجازات اليابان ومن بعدها الصين وغيرهما من بلدان شرق وجنوب آسيا، وهي إنجازات حداثية، تحقَّقَت لأسباب أخرى، وليس بسبب الإصلاح الخارجي، كذلك المكسيك وبيرو وبورتوريكو وبلدان أمريكا الجنوبية أخفقت لأسباب أخرى، على الرغم من فرض دستور ديمقراطي ليبرالي، أي صورة مجتمع مدني، ولكن لا تزال الولايات المتحدة الرسمية تتعلَّق بأذيال التنوير الغربي أو بأوهامه، وترى فرض «الإصلاح» من خارجٍ، ورفض مبدأ التنوُّع الثقافي، ظنًّا منها أن ثقافة «الأنجلو ساكسون» أو الرجل الأبيض هي الأرقى والأحق بالسيادة، وطبيعي أن فرض الإصلاح من خارجٍ على يد قوة مُهيمِنة يعني إذعان الضعيف وإلزامه بتوفيق أوضاعه بما يتلاءم مع مصالح الطرف الأقوى ليشهد له بالصلاح.
وهكذا واجه — ويواجه — مفكِّرو الغرب أزمة عميقة صدعت أُطُر الفِكر التقليدي أو الحداثي الغربي، وأصبح لزامًا على الغرب إصلاح ذاته، وغني عن البيان أن الإصلاح المنشود عند الغرب غيره عند المجتمعات الأخرى لأسباب تاريخية واجتماعية وثقافية … إلخ، وكانت ثورات الشاب الغربي في الستينيات نذيرًا بالفشل التام لفكر التنوير في صورته الكلية، ودعوة لتجديد الفكر الغربي والالتزام بالخصوصية الغربية على قدم المساواة مع الخصوصيات الاجتماعية الأخرى، والاعتراف بالمستجدات من أحداث على الصعيد العالمي، وبالتنوُّع الثقافي وتعدُّد سُبل التحديث وصولًا إلى الحداثة، أي تجديد جذري لمفهوم وآلية المجتمع المدني الديمقراطي الليبرالي.
وخرجت من تحت عباءة ثورات الشباب في الستينيات تيارات فكر ما بعد «المودرنزم» أو ما شاعت تسميتها — وإنْ خطأً — ما بعد الحداثة، وأصبح مطلوبًا فك الارتباط بين الديمقراطية الليبرالية ونظرة التنوير التقليدي إلى العالم (النظرة الكلية) للوصول إلى مفهوم عن المجتمع المدني الغربي وعن ثقافة المواطنة الغربية، مفهوم يؤكد الصواب الأخلاقي والمكانة الثقافية الجزئية لثقافة المواطنة المدنية الغربية.
المجتمع المدني إذَنْ — وحسب التعريف — مجتمع غربي، وقضية المجتمع المدني المثارة الآن في الغرب قضية غربية بامتياز، والأزمة هي أزمة تجديد الفكر الغربي وإصلاح المجتمع المدني الغربي، واحتلَّ التفكير في المجتمع المدني مكان الصدارة بعد ثبوت إخفاق الليبرالية السياسية الحداثية التي جردت المواطن من فعاليته، وأصبح لزامًا تجديد فعالية المواطن الغربي وإعادة بناء الثقافة المدنية على أساس من الخصوصية الجزئية، وهذا هو التحدي أمام الغرب، التحدي الثقافي والفكري، تحدي تغيير المفاهيم ولغة النظرية الليبرالية السياسية الحداثية التي تعزِّز خطابات أُطُر الفكر الكلية والتي تحول دون فهم التحولات الجديدة واستيعابها في العالم، أي تدعم المركزية الغربية وتغفل الجديد مع ظهور العالم الثالث.
ويرى التيار الإصلاحي الغربي أن الغرب بحاجة إلى لغة جديدة غير لغة قاموس التنوير التقليدي للحفاظ على الخصوصية الغربية إيمانًا بالتنوُّع الثقافي، إننا — كما يقولون — بحاجة إلى الْتِماس الطريق لإبداع ثقافة مدنية بعد تنويرية قادرة على دعم المؤسسات الليبرالية الديمقراطية وسط عالم متكافئ العناصر الحرة، ويتساءلون هل يمكن تجديد المعيارية المحورية المحدِّدة للمُثل العليا السياسية الليبرالية للحرية الفردية والمساواة، وأن يأتي التجديد متلاحمًا ومتسقًا، على الرغم من تجريده من زخارف التنوير التي تحمل مُسمَّى الرؤية الكلية الجوهرية؟
السؤال الآن: كيف يمكن لثقافة الغرب عن المواطنة المدنية — بعد أن سادت ثلاثة قرون وفرضت مفاهيمها ورؤاها على العالم باعتبارها النظرة الميتافيزيقية الكلية إلى العالم والتي قدمها التنوير — أقول كيف يمكن لها أن تعيد تأويل ذاتها لتحديد معالم أسلوب ثقافي جزئي للحياة مميزًا عن الآخرين، أسلوب حياة له معاييره ولكنه قاصر فقط على مواطني الديمقراطيات الليبرالية في شمال الأطلسي؟
أزمة الثقافة الغربية هي أن الأفكار السياسية الليبرالية الحداثية التي كانت حاسمة لخَلْق ثقافة مدنية ليبرالية، ثقافة المجتمع المدني، فقدت مصداقيتها، ومن ثَمَّ بات لازمًا البحث عن أشكال جديدة فعالة للثقافة المدنية وللتعليم المدني وإعادة تأسيس المجتمع المدني، وغني عن البيان أنه لكي تؤدِّي المؤسسات الحرة في المجتمع المدني بعد الحداثي أو بعد التنويري دورها بكفاءة يلزم توفُّر مواطنين طوروا بالفعل المواقف والاستعدادات والقيم المعيارية الملائمة للمواطنة المدنية لعصر ما بعد التنوير: الإيمان بالتنوُّع وحرية الذات والآخَر واستقلال العقل والمساواة بين الجميع وحق الاختلاف فيما بينهم.
وضمانًا لتحقُّق هذا الشكل ولتكاثر هؤلاء المواطنين المدنيين يجب أن يمتلك المجتمع الوسائل الثقافية التي تمثل وتعبر لنا عن المعايير الديمقراطية الليبرالية للحرية والمساواة بأسلوب متماسك مُقنِع ومُتَّسِق منطقيًّا، أي ابتكار شكل بعد حداثي لثقافة مدنية جديدة، شكل يجسِّد معايير الحياة المدنية في صورتها الجديدة، دون حاجة إلى معايير معرفية كلية، أي إسقاط الشمولية المعرفية.
وإذا كانت قضية المجتمع المدني في ضوء ما سبق، وحسب التعريف والتاريخ المحددين لها قضية خارجية (غربية)، أعني ليست قضية مصرية أو عربية، وإنما نحن نردِّدها، كما جرت العادة، ونكون رجع صدى لقضايا الفكر الغربي: الطريق الثالث، الشمولية، والمجتمع المدني … إلخ؛ إذَنْ يكون السؤال هو: ما هي قضيتنا نحن بالفعل، إذا لم تكن بنية المجتمع المصري، ولا أي من المجتمعات العربية، تجسيدًا لصورة المجتمع المدني؟ وطبيعي أن ما يُسمَّى «إصلاحًا» منشودًا رهن فهمنا لطبيعة مجتمعنا نحن التزامًا بالخصوصية.
(٤) الإصلاح
شهادة الأمم والتاريخ
تنبثق الدعوة إلى التغيير من بين ركام الفشل، ويولد النهج والنظرية من بين تنوُّع وصراع الآراء، وتاريخ الأمم التي ثارت على واقعها وخطت بقوة وعزم على طريق النهوض والتجديد شاهد على هذا، أبدعت أوروبا إطارها الفكري التنويري، الذي تجاوزت به عثرات ومآسي الحروب العرقية والدينية والطبقية على مدى مائة عام، وبنَتْ نهضتها وتقدَّمت، وسادت ثقافة المواطنة المدنية والمواطن المدني في مجتمع مدني، وأبدعت اليابان نهجها للوحدة والتقدُّم بعد صراعات وحروب محلية امتدت خلال القرن السابع عشر، وعانت آلام صراع فكري بين التقليد والتجديد على مدى القرن الثامن عشر، ثم تساءل الجميع، «أيهما أحَبُّ إليك، كونفوشيوس أم الحقيقة؟»، وكان جواب الجميع: «لقد كان كونفوشيوس ساعيًا للحقيقة يؤثرها على نفسه»، وانتصرت الحقيقة، حقيقة عصر العلم والتجديد، أو العقل والواقع، وأصبح امتدادًا حضاريًّا لتراث اليابان وثقافتها في صورة جديدة، ومهد عصر الطوكوجاوا، وهو عصر الصراعات الفكرية، الطريق للنهضة التي انعقدت ولايتها لعصر الميجي.
وشهدت الصين في تاريخها القديم (٥٠٠–٦٠٠) قبل الميلاد صراعات دموية في عصر الممالك المتحاربة، وظهرت مدارس فكرية تتأمَّل أسباب الأزمة، وهي المدارس الست، ومن أهمها مدرسة كونفوشيوس، ومع العديد من المفكرين مثل منشيوس وهسون تزو، وراج شعار أو حكمة صينية قديمة: «دع مائة زهرة تتفتح، ودع مدارس الفكر تتصارع»، وصاغ الحكماء نهجًا للاستقرار والنظام والحكم الصالح، كذلك الحال في تاريخ الصين الحديث، فقد شهدت الصين في النصف الأول من القرن العشرين صراعات فكرية وحروبًا، ودارت معارك بين دعاة التحديث والتقليد، وتناظر الصين مصر في هذه المرحلة، إذ عرفت الصين — مثلما عرفت مصر — العديد من دعاة التحديث/التغريب، وانتشرت ترجمات لمدارس الفكر الغربي: داروين وهكسلي وغيرهما، وزار بكين برتراند رسل، وجون ديوي وغيرهما حيث ألقوا المحاضرات، ولكن الصين خرجت من الحروب والصراعات إلى نهج جديد تطور مع تجارب السنين، وأبدعت الصين إطارها الفكري التنويري الذي يحمل كل عناصر الثقافة الصينية التاريخية في صيغة تأويلية جديدة تدعم وتدفع حركة التطوير والتقدم.
هكذا استطاع المفكرون في هذا البلد أو ذاك أن يستوعبوا الأحداث وأن يصوغوا نظرياتهم عن نهضة تتوفر إمكاناتها المادية في المجتمع وعن نوع الإنسان المنوط به الإنجاز وإمكاناته وقدراته. وكانت لكلِّ بلد رؤيته المعبِّرة عن خصوصية قضاياه وثقافته، وليس غريبًا أن يحتدم الصراع ويصل إلى حدِّ الاقتتال والاتهام بالتجديف والفكر؛ إذ ثمة هدف ينشده الجميع، وثمة ضغوط اجتماعية وحضارية تحفز الجميع لالتماس سبيل للبناء وتحقيق الذات في الداخل وللمنافسة مع الآخَرين، وسد الذرائع أمام الطامعين من الخارج، وكانوا جميعًا يتطلعون بأبصارهم إلى المستقبل وليس إلى الماضي، ويقفون بأقدامهم على أرض الواقع، وليسوا محلقين مع تهويمات في الفراغ، ولهذا انتصر كل بلد أو إقليم على عوامل الشقاق والنزاع، وتوصل إلى نهج مميز للتحديث، ليس انسلاخًا عن الذاتية القومية، وإنما امتداد حضاري لتراث تاريخي عريق، وقطيعة معرفية مع القديم الذي كان صالحًا لزمانه، وتكيفًا ناجحًا مع مقتضيات العصر وتحدياته.
وأصبحت ثقافة التجديد والتطوير هي ثقافة المجتمع المعاصر، وأصبح المواطن فعالية وطنية نشِطة في سياق حضاري جديد يواكب مقتضيات العصر، كانت القضية في وقت الأزمات في كلٍّ من هذه البلدان: تشخيص الداء، تحديد الهدف في سياق التحديات المحلية والخارجية، رسم المنهج اللازم للوصول إلى الهدف، بناء إنسان مواطن جديد في ضوء استراتيجية تطوير تُعبِّر عن آماله وحاجاته وتطلُّعاته، وسيادة ثقافة وتعليم وإعلام هي قوة داعمة لبناء هذا الإنسان الحر الملتزم، المسئول الفعَّال، بمعنى أن الجهود دائمًا تصب — حسبما هو مفترض — في السعي من أجل تطوير فعالية الإنسان العام وتعظيم رأس المال البشري وإن اختلفت الثقافة الحضارية الجديدة من بلد إلى آخَر حسب خصوصيته الثقافية والتاريخية.
وصنع التطوير رهن رصيد ومُنتَج أو عائد، رصيد يكفل قدرة الفرد أو الجماعة أو الأمة على صنع حياة ميسورة ومقبولة لتطوير حياة مادية ومعنوية صحية سوية في ضوء إطار مفاهيمي، وهو ابتكار ذاتي، لمعنى هذه الحياة وتحدياتها، ويتألَّف الرصيد من حزمة عناصر هي جماع رأس مال الأمة الاقتصادي والمالي والاجتماعي والإنساني:
-
(١)
رصيد الموارد الطبيعية والموارد المالية (مدخرات واحتياطات ونهج استثمار وثقافة داعمة لهذا النهج).
-
(٢)
رصيد ممتلكات قومية (جسور وطرق وعقارات وموجودات عامة وثقافة الحفاظ عليها وتطويرها).
-
(٣)
رأس المال المؤسسي (مؤسسات قانونية حامية، وإدارات حكومية ديمقراطية ذات كفاءة وفعالية، ومؤسسات مدنية علمية وتعليمية واجتماعية وسياسية في مناخ من ثقافة الحرية والطوعية).
-
(٤)
رأس المال المعرفي (تنشئة، تعليم عام، جامعات، براءات اختراع، مراكز التفكير الاستراتيجي، إنتاج معرفي، والتي تصب فيما نسميه رأس المال البشري).
-
(٥)
رأس المال البشري (مستويات ونوعيات التعليم، المهارات، القدرات الإبداعية كمًّا ونوعًا وتنوُّعًا، حرية تفكير وتنظيم).
-
(٦)
رأس المال الثقافي (ثروة إنتاج ثقافي، رصيد القيم الحاكمة للسلوك والداعمة للإبداع وللارتقاء والتطوير والمنافسة، تراث ثقافي مرن قابل للتأويل، استجابة لمقتضيات التطوير وقابل للتفاعل والتسامح، وإيمان راسخ بالمثل العليا للمواطنة المدنية).
-
(٧)
رأس المال الاجتماعي في صورة انتماء وتضامن وعوامل إيجابية، تعزِّز ذلك من حيث التفاعل الحر وعلاقة ديمقراطية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، أي السلطة.
-
الوعي بالتاريخ وعيًا موضوعيًّا، خاصةً وأن التاريخ القومي كان ضحية تشويه من قِبَل الغزاة وأصحاب السلطان ضمانًا لثقافة الولاء.
-
الثراء المعرفي، لا الفقر المعرفي بما يواكب تحديات العصر.
-
توفر رؤية مشتركة إزاء استراتيجية تطوير شامل تكون موضع اتفاق للآراء وموضوع حوار حُر وتمثل عقيدة اجتماعية للتطوير وأساسًا للمنافسة.
-
-
(٨)
التغذية المتبادلة بين الرصيد المُنتَج أو العائد الاجتماعي في إطار الاستراتيجية، وتجري التغذية في شفافية وحرية المعلومات والتعبير، مناخ ديمقراطي ونقد موضوعي.
-
(٩)
فهم عقلاني علمي نقدي لمجريات أحداث العالم وتياراته الفكرية والعلمية والسياسية … إلخ، وقدراته وإجابة نقدية موضوعية عن المعوقات الذاتية.
إصلاح أم تطوير؟!
إجادة التشخيص خطوة أساسية نحو تحديد العلاج اللازم، وتجري على الألسنة الآن كلمة «الإصلاح» لأنها الكلمة أو النصيحة، الدعوة الواردة على لسان سادة العالم اليوم في نظرنا، وكثيرًا ما نكون — إن لم نكن دائمًا في العصر الحديث — رجع صدى لقضايا الخارج أو متطلباته منا، وهكذا زخرت ساحتنا الإعلامية والثقافية بكلمات مثل: الشمولية، الطريق الثالث، تمكين المرأة، الديمقراطية، التنمية، وغيرها وغيرها، ومنها كلمتا المجتمع المدني والإصلاح.
ولكن ما هو الفارق بين التنمية والإصلاح في حالتنا نحن؟ وهل هي كلمات واضحة المعنى ومحدِّدة للهدف الذي يشكِّل طوق النجاة لحياتنا، أحسب أن الكلمتَين مضللتان من حيث المدلول والهدف المتوقَّع إنجازه، ومن ثَمَّ خاطئتان، الإصلاح إدخال تعديلات على بنية أساسية قائمة وغير مطلوب تغييرها أو تجاوزها، لذلك فإن إصلاح المجتمع المدني في أوروبا أمر واضح، إذ المطلوب الحفاظ على المجتمع المدني، ولكن في إطار منظور جديد لتصويب أخطاء موروثة من عصر التنوير، وتعني التنمية تغيُّرًا كميًّا على صعيد أفقي، مع الحفاظ على البنية الاجتماعية الأساسية والواقع الثقافي وهيكل العلاقات، ويكفي هنا مؤشِّرًا على التنمية كمثال زيادة متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي، لذلك كانت التنمية في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية كلمة صحيحة للدلالة على الحفاظ على البنية الليبرالية الديمقراطية مع إعادة تنشيط الإنتاج ودعم دولة الرفاه.
ولكن التطوير تغيُّر كيفي على صعيدٍ رأسي، انتقال المجتمع من طور إلى طور من حيث الإنتاج وأدواته والثقافة والعلاقات الاجتماعية وهيكل المؤسسات ودورها في القوانين الاجتماعية الحاكمة وفعالية الإنسان العام باعتباره قوة مشاركة إيجابية وبنَّاءة ومسئولة، لهذا كان انتقال اليابان من عصر «الطوكوجاوا» إلى عصر «الميجي» تطويرًا لا تنمية، أي انتقال إلى مرحلة حضارية جديدة، هي حضارة التصنيع بكل مقتضياتها، لم ينقلها ما سُمي «الإصلاح الأمريكي» وإنما صراع اليابانيين من أجل بناء بلدهم الذي أوجزه شعار «أمة غنية وجيش قوي»، ودفعها هذا إلى الْتِهام تكنولوجيا الغرب وعلومهم والمشاركة الإيجابية، بل والسبق في تطويرهما، وهذا هو ما يصدق على الصين؛ إذ كانت نظراتها منذ خمسينيات القرن العشرين ليست إصلاح البنية الأساسية القائمة آنذاك للمجتمع الصيني، بل تطوير الصين والانتقال بها إلى حضارة عصر العلم والتكنولوجيا، والآن عصر المعلوماتية واقتصاد المعرفة، وفرض هذا عليها، مثلما فرض على اليابان وعلى الغرب، سياسات جديدة في التعليم والعلم والثقافة الاجتماعية والإعلام … إلخ، ولهذا يبقى السؤال بالنسبة لمصر: إصلاح أم تطوير؟
مصر والتغيير
الحديث عن الإصلاح في مصر ليس جديدًا، ولكن الجديد أنه مطلب خارجي، وهذا أمر بحاجة إلى دراسة نقدية تحليلية لخروجه عن طبيعة الأمور على الرغم من وقوع الحدث، عرفَتْ مصر في تاريخها الحديث على مدى القرنين الأخيرين مرحلتين من صعود قرين دعوة للإصلاح، ثم انحسار قرين صمت أو إعداد لحمل جديد، وأخفقت المرحلتان أو انحسرتا مبتسرتين دون أن تبلغ أي منهما مداها المأمول، واعتدنا في الحالتين أن نرد الفضل إلى مؤامرات الاستعمار، أي إلى سبب خارجي فقط، دون أن نكمل النظرة النقدية بالبحث عن أسباب كامنة في ذاتنا، في ثقافتنا باعتبار الثقافة هي المحدِّد للسلوك، لذلك لم تقترن دعوات الإصلاح بنزعة شك في الموروث والأُطُر الفكرية النافذة أو المعتمدة، ويلاحظ أننا رددنا مرارًا السؤال: لماذا تخلَّفْنا وتقدَّمَ غيرُنا؟ ولم نقرأ بعدُ إجابةً صحيحة، وجدير بالذكر أن المجتمعات عادةً حين تواجه صدمة الفشل تسأل أحد سؤالين: ما الخطأ فينا؟ والذي جعلنا فريسة للفشل؟ أو «مَن فعلَ بنا هذا»؟ السؤال الأول سألَتْه اليابان وأوروبا والصين وماليزيا وغيرها عند تعبئة الجهود للنهضة، السؤال الثاني هو السؤال الذي اعتدنا نحن أن نسأله، والإجابة مؤامرة الآخر، ثم ينسدل الستار دون رؤية نقدية للذات.
المرحلة الأولى للإصلاح أو التغيير مع أواخر القرن الثامن عشر، وأثمرت مع مطلع القرن التاسع عشر، وكان نظام حكم محمد علي، كما سبق أن وصفناه في كتابنا «التراث والتاريخ»، مناسبة لا سببًا للإصلاح أو التطوير الذي يستهدف مصر حضارة وتاريخًا وإنسانًا، وأعني به الفلاح المصري، وزار مصر آنذاك وفد ياباني، مثلما زار عددًا من الدول المتقدِّمة آنذاك، ليدرس كيف تكون النهضة، وعرفَتْ مصر أعلامًا مثل رفاعة الطهطاوي إمام النهضة الثقافية المصرية الحديثة، والذي كان امتدادًا — أو تلميذًا — لمثقفين ومفكِّرين إصلاحيين عاشوا في مصر مثل الشيخ حسن العطار وغيره، عرفت في المجال العسكري أحمد عرابي، ابن الأرض السوداء وفلاحي مصر، الذي أعلن أنه لم يكُن يريد امتيازًا ولا تميُّزًا لمصري دون شركسي أو تركي، أي عبَّرَ عن مفهوم تنويري لمجتمع مدني منشود، ثم من بعدهما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، وانحسرت حركة الإصلاح مع انحسار طموحات محمد علي وتقييد أطماعه، ولكن بقي منها ما لم يستطع أحد أن يمحوه، ألا وهو خروج المصري الفلاح لأول مرة في تاريخه خارج المعزل الذي حاصره منذ غزو الفرس، خرج ليتعلم ويشارك إذا ما تهيأت له الفرصة.
وشهدت مصر في أواخر القرن التاسع عشر ميلاد زعماء إصلاح أو تغيير ليبراليين جُدد احتلوا الساحة على مدى النصف الأول من القرن العشرين: طه حسين، علي عبد الرازق، سلامة موسى، أحمد لطفي السيد، أحمد أمين، فؤاد صروف، شبلي الشميِّل، عباس العقاد، علي مشرفة، وآخرين، وتجلى هذا كله في تنظيمات دستورية ومؤسسات اجتماعية وسياسية وتعليمية امتدت أصداؤها وتأثيراتها إلى أنحاء المنطقة العربية، واستهدفت الجهود بناء مجتمع مدني على غرار الغرب، وشهدت الساحة الثقافية صراعات فكرية حول قضايا التقليد والتجديد، تحديث أم تغريب؟! … إلخ، ولم تبلغ الحركة كامل عنفوانها ونضجها، وانحسرت مع النصف الثاني من القرن العشرين وإن تباينت أسباب الانحسار أو الانتكاس على مدى فترات الحكم الثلاثة في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي اتصفت بخاصية واحدة مشتركة، وهي تعطيل الفعالية الحرة الفردية والجماعية للمواطن المدني المصري، ومن ثَمَّ المجتمع المدني الذي كان مشروعًا تطوُّريًّا على مدى النصف الأول من القرن ولم يتحقَّق.
والتغيير على طريق التطوير استجابة مجتمعية، وابتكار ذاتي إزاء تحديات مفروضة، استجابة مجتمع يتميز بعافية وقدرة ومن خلال آلية حرة منظمة تكفل أكبر قدر ممكن من صواب رد الفعل، ولكن حين يغيب رد الفعل المجتمعي على الرغم من الصدمات والأحداث الجسام التي تحيط بالمجتمع، كما نرى الآن، فإن هذا يعني أن المجتمع بات مصيره مجهولًا، وليس أمره بيده، والتغيير والتطوير في عصرنا الحديث ليس جهد أمير أو سلطان أو حاكم فرد مهما خلصت وصلحت النوايا، نحن نعيش عصر الإنسان العام، أو عصر الجماهير ومثقفي الجماهير وحكام الجماهير، عصر زعماء يتحركون بالجماهير المنظمة مؤسسيًّا وبالإنسان العام الواعي ذي الفاعلية العقلانية الواعية، ومن خلال مؤسسات مُعبِّرة عن كل مجالات الأنشطة والمصالح الاجتماعية في إطار المساواة والحرية والسيادة القانونية.
والتغيير على طريق التطوير حسب هذا المعنى تعبئة وحشد وتطوير لكل الجهود والطاقات: معرفية ومعلوماتية وعلمية وتعليمية وتراثية وثقافية وتربوية وإعلامية واقتصادية وعسكرية، لتصب جميعها من خلال مؤسساتها في جهود بناء الإنسان الجديد، ويتلخَّص هدف التطوير وصورته في شكل إطار فكري نظري صالح للتطبيق بفضل هذا الإنسان ومعبِّر عن حصاد جهد وحوار جمعي، ولهذا نحن في مصر بحاجة أولًا وأساسًا إلى إطار فكري تنويري تميزه خصوصية الواقع وأحداث التاريخ، قرين رؤية نقدية ذاتية لتراثنا الثقافي والسياسي، ويكون بوصلة مُوجَّهة للسلوك وقادرًا على حشد زخم القوى الاجتماعية وحفز الحركة قُدمًا على طريق التطوير.
وينبني مثل هذا الإطار الفكري، لكي تتوفَّر فيه الخصوصية المميزة، على أساس دراسة تُسهم فيها كل المؤسسات المدنية ذات المصلحة المنوط بها إنجاز نشاط اجتماعي ما، ولا يكون حبيس رأس حاكم وحده مهما بلغت حكمته، وتتصف هذه الدراسة بأنها متعدِّدة الأبعاد: تاريخية وثقافية اجتماعية واقتصادية وسياسية وأنثروبولوجية … إلخ، ودراسة مقارنة لواقع أزمة المجتمع المحلي وواقع حال المجتمع الإقليمي والعالمي وتناقضاتهما وإنجازاتهما وتحدياتهما، إنه إطار فكري لاستراتيجية بعيدة المدة وإن قسَّمَها المجتمع إلى مراحل، وهو دائمًا موضوع الحوار والاختلاف والصراع، وتجري هذه الدراسة بالضرورة في إطار الحرية والعقلانية والمنهجية الموضوعية مع مساحة للصراع الفكري الحر الملتزم بالعقل العلمي وقبول الاختلاف مع الآخَر، والتعالي عن الحزازات والانحيازات الدينية والطائفية والجزئية التزامًا بمصلحة المجتمع العام، وذلك ضمانًا لحشد القوى ليكون تغييرًا جمعيًّا ما دام أنه يستهدف الإنسان/المجتمع، أو المواطن العام صاحب المصلحة، وتتحدَّد معه آليات التنفيذ الحر من تثقيف وتعليم وتنشئة اجتماعية وإعلام وحق الاقتراع والانتخاب والترشيح وبناء المؤسسات علمية وسياسية، والاعتراف بالذاتية المستقلة الحرة للمواطنة وبالروح الجماعية التي لا تعني نظرة أيديولوجية شمولية تحجب الاختلاف، وإنما تسمح به وتتسامح معه وتملك آلية صحية لمعالجتها.
إن الدعوة إلى الإصلاح أو التطوير يتعيَّن أن تكون دعوة عامة ومسئولية عامة لمراجعة نقدية لكل مقومات المجتمع، ويلزم أن نسأل أنفسنا ضمانًا لجدية الخطو على طريق النهضة في اتساق مع مقتضيات العصر:
كيف نفكِّر في قضايانا ومشكلاتنا؟ ما هي مرجعيتنا في التفكير: عقل علمي، أم عقيدة موروثة؟ ما هو تراثنا الثقافي في التفكير، تنافس، أم قناعة بميزة نسبية تتمثَّل في موجودات طبيعية؟ تواكلية في السلوك، أم إبداع وتحدٍّ؟ صراع على السلطة، أم صراع على برامج ومناهج عمل؟ التركيز على رأس المال المادي/المالي أم رأس المال البشري المعرفي؟ رعايا أم مواطنون، ووصاية أبوية أم حرية فردية مسئولة؟ هل نعتمد التراتبية الرأسية أم الجدارة والمرونة؟ هل دأبنا سياسة رد الفعل أم المبادرة الداعمة للفعل واستباقه؟ السلطة هي المفكِّر الرئيسي أم الأمر مشاركة فاعلة مُنظَّمة من الإنسان العام والمؤسسات؟ هل نهجنا في الحياة والإصلاح إعادة توزيع الثروة أم خلق الثروة؟ هل نلتزم نظام حكم قائم على نزعة أبوية أم الابتكار والمشاركة الديمقراطية بين مواطنين أحرار متساوين؟ هل رأس الدولة غايته الاستقرار والمحافظة أم التطوير والتغيير والتحدي.
ولنا أن نسأل ما هي ثقافة قيادة الأمة في الحكم وفي الأحزاب وفي مشروعات الأعمال؟ كيف يصوغون استراتيجياتهم على النحو الذي نراه، إن كانت لهم استراتيجية، ولماذا لا يعملون على هدى استراتيجية، ويقنعون بسياسة رد الفعل؟ كيف تفكِّر الجماعات والأحزاب في قضايا الأمة؟ هل التفكير في إطار قبول التحدي والمنافسة البرنامجية وفي أسلوب الأداء أم كفالة البقاء؟ في أي المجالات تؤكد القيادات وجودها وقوتها، الأمن، الاستقرار (أمن السلطة واستقرارها أم الوطن والمواطن)، خلق الثروات، دعم التنافس، تطوير الإنسان وتعظيم رأس المال البشري، الحريات والديمقراطية، تطوير رؤية مشتركة والمشاركة في صنعها، أم رؤية فردية، المصالح الشللية والمحسوبية أم المساواة أمام القانون صاحب السيادة في الحقوق وفي فرص العمل والثروة؟
ما هي الثقافة الاجتماعية وثقافة القيادات السياسية وتجلياتها في التعليم والإعلام والتنشئة والتفاعل الاجتماعي …؟ هل هي ثقافة مقاومة للتغيير أم غرس قيم التغيير ومعاييره وفضائله؟ إبداع وسائل غير تقليدية والالتزام بالمنهج العلمي في التفكير وفي فهم مشكلات الداخل ومشكلات العالم من حولنا؟ قد يكون التحدي خلق نماذج ذهنية أو إعادة بناء المنظومة الذهنية الحاكمة لثقافتنا العامة وثقافة القيادات، وهو ما يتأكد ويتحقق من خلال الحياة السياسية العامة داخل منظومات حرة؟ هل التغيير من خلال الناس وبالناس بوصفهم مواطنين أحرارًا في مجتمع مدني، أم تأسيسًا على نظام الوصاية؟ بات ضروريًّا تغيير النماذج الذهنية الأساسية الموروثة التي تشكل طريقة المرء في التفكير بشأن المخاطرة والثقة والمنافسة والسلطة … إلخ، وحَريٌّ أن يمثِّل هذا بؤرة جهود التغيير وأن يتجلى في التعليم والنشاط العلمي والسياسي.
فعالية الإنسان المصري في التاريخ
ثمة سؤال ثقافي اجتماعي يلح كثيرًا على الأذهان: إذا كان التغيير والتطوير استجابة مجتمعية ردًّا على تحديات، فلماذا الإنسان المصري يتصف بضعف رد الفعل إزاء التحديات الحضارية في الداخل والخارج؟ ويتطور السؤال أحيانًا: لماذا المجتمعات العربية لا تحركها أحداث جسام مثل هزيمة عسكرية أو احتلال أرض أو تفوق خصم علميًّا وتكنولوجيًّا بينما تثور غاضبة هائجة عند وقوع حدث يمس شيئًا له القداسة مثل الاعتداء الصهيوني على المسجد الأقصى؟ وسبق أن قال المقريزي: «قال الرخاء: إني راحل إلى مصر، فقال الذل: وأنا معك»، وتكرَّرَ مثل هذا المعنى على لسان آخرين.
ولكنني إذ أرفض السؤال على هذا النحو أرى أن أصوغه على النحو التالي: ماذا حدث للإنسان المصري على مدى قرون من التاريخ قاربت ألفين وخمسمائة عام ليصبح على حاله الذي هو عليه الآن؟
السلوك الإنساني وشكل فعالية الإنسان والاستجابة الاجتماعية، جمعية أو فردية، أمور يصنعها واقع الحياة في التاريخ، أو بمعنى آخر: الثقافة الاجتماعية الحاكمة للسلوك نتاج تفاعل أيكولوجي يشمل البيئة وطبيعة التعامل معها لإنتاج الوجود، ويشمل العلاقات بين الناس، والعلاقات مع الحكام ونظم الحكم، ويشمل الصراعات مع الخصوم والأعداء والطامعين، ويترسَّب حصاد هذا كله في صورة ثقافة، أي شكل من أشكال التكيف والرؤية تعبِّر عنه أقوال مأثورة وأمثلة عامية هي حكمة المجتمع المستخلصة من واقع حياته، ويتجلى سلوكًا فرديًّا وعامًّا، والثقافة بهذا المعنى آلية تكيف قصد امتلاك أو اقتناص فرصة للبقاء.
وإذا تأمَّلْنا تاريخ مصر منذ غزو الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد نجد أن مصر عاشت طوال هذا التاريخ حتى منتصف القرن العشرين خاضعة لحكام غزاة رعاة أجانب استنزفوا خيراتها ونزحوها إلى بلادهم في الخارج، ودمروا مؤسساتها التعليمية والعلمية والدينية المقامة في صورة معابد، وسام الحكام الإنسان العام المصري سوء العذاب والإفقار والتجهيل، أصبح المصري منذ هذا التاريخ غريبًا على أرضه ليس له الحق في المشاركة برأي أو كلمة، وإنما عليه الطاعة في خوف، وأن يعمل كادحًا لينتج ما لا نصيب له منه، وعاش المصري — الفلاح المصري — فيما يشبه المعزل العنصري، كسر محمد علي جدار هذا المعزل ليستخدم الفلاحين جنودًا، وخرج من بينهم أحمد عرابي ورفاعة الطهطاوي.
أذكر هنا أن جمال الدين الأفغاني أرَّقَه هذا الوضع في مصر وهو يحرِّض على الثورة، وشاءَ له أن يُذكِّر المصريين بأمجادهم وتاريخهم باعتبارهم صُنَّاع حضارة، وهذه هي الأمور التي عمد الغزاة والطغاة والحكام المستبدين إلى طمس معالمها لكسر النخوة الوطنية، وتجريد المصري، ليسلس قياده، من أسباب الاعتزاز بنفسه، ومن أية قدرة على التحدي أو إمكانية استعادة ذاتيته بوصفه صاحب حق في حياته وفي أرضه وبناء مستقبله باختياره.
وقال جمال الدين الأفغاني في هذا الصدد: «إنكم معشر المصريين قد نشأتم على الاستعباد، وتربيتم في حجر الاستبداد، تناوبتكم أيادي الغاصبين من الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك، وكلٌّ منهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه، ويستنزف قوام حياتكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم، بالعصاب والمقرعة والسوط، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار طِيبة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وأجدادكم، هبوا من غفلتكم، واصحوا من سكرتكم، عيشوا مثل باقي الأمم أحرارًا، أو موتوا شهداء، وأنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض بفأسك لتستنبت ما يسد الرمق، لماذا لا تشق قلب ظالمك؟»
نعم هناك تاريخ صامت لثورات المصريين، وهبَّات هنا وهناك ضد الغزاة الطغاة، ولكن التاريخ ينطق عادةً بلسان الحكَّام محليين أو غزاة ويصمت عن سواهم، وابتدع المصري آلية ثقافية تكفل له فرصة البقاء وهو المغترب على أرضه، تمثلت هذه الآلية في الهجرة إلى الغيب التماسًا للسلامة والعزاء، وقد تكون الهجرة بعيدًا عن وادي النيل إلى بطن الصحراء، وقد تكون توحُّدًا ظاهريًّا مع الغاصب المعتدي: «إيد تبوسها وعايز تقطعها»، «وإن كنت في بلد تعبد العجل حش وارميله»، وقد تكون انطواءً على النفس ودعاءً إلى الله وموَّالًا مشحونًا بالأنين يفرغ فيه أحزانه وأشجانه في عتمة الليل، ولكنه في الحالين أعزل ومعزول فاقد الحيلة.
خلق هذا المناخ وبيئة الاستبداد وفقدان الحيلة على مدى القرون الطويلة ثقافة جامعة بين النقيضين على قدر الحال، ثقافة تجمع بين الغضب الصريح من بطش الحاكم وتمني هزيمته أو كتمان الغضب كرهًا، والاستسلام لحكم القوي على الضعيف، ورسخ هذا الوضع ثقافات الردة والماضوية والاكتفاء بالدعاء على الظالم، والتحليق في فراغ الخيالات.
وهكذا تحول المجتمع المصري إلى نثار، تجمع سكني دون انتماء، وتراث ثقافي موروث في صيغة أسطورية؛ ذلك لأن العقل الجمعي تخلقه فعالية جمعية، وبرزت على السطح مأثورات الانطواء والسلبية واللامبالاة، وكم هو عسير — إن لم يكن من المستحيل — بناء نهضة بإنسان لا منتمٍ أو إقامة مجتمع علمي أو حضارة علم وتكنولوجيا قوامها الإبداع المنهجي المنظم وسط تجمع بشري لا يعرف النظام وإنما تسوده فوضى، وتحول الإنسان المصري بسبب الاستبداد الممتد والاغتراب المفروض قسرًا، ناهيك عن فساد الإعلام والتعليم والتراتبية الهرمية الاجتماعية التي لا تعتمد الكفاءة لصالح المجتمع معيارًا أوحد، تحول الإنسان المصري بسبب هذا إلى كائن حي وليس فعالية، وتحول إلى غريزة منفلتة، طموحه المتاح هو أن يبقى على قيد الحياة لا أن يبني مجتمعًا لا ناقة له فيه ولا جمل.
ولكن هذا الواقع الممتد تاريخيًّا لا يعني أبدًا أن ثقافته تعبير عن تكوين جبلي، كما زعم المقريزي، إذ كانت شعوب الأرض في ظلِّ النظم العبودية قديمًا على هذه الصورة، هكذا كان الأوروبيون قبل التنوير وفي ظِلِّ محاكم التفتيش، وهكذا كان الصينيون قديمًا، ويؤكد العلم أن الإنسان تحكمه ثقافته الاجتماعية، ولكنه أيضًا هو الخالق لثقافته، ومن هنا كانت دعوة حركة التنوير في أوروبا إلى ثقافة مدنية للمجتمع المدني لصوغ المواطنة المدنية وبناء المواطن المدني المؤمن بالحرية والعقل والمساواة وصاحب الفعالية العقلانية والذي ساهم في بناء المجتمع المدني والحفاظ عليه، ولهذا يتعيَّن النظر نظرة نقدية إلى ثقافتنا وعلاقتها بالتغيير والتطوير، وصولًا إلى ثقافة جديدة لا تحفز إلى ردة ولا إلى تقليد بل إلى فعل إبداعي عصري تضعنا أندادًا لأهل التقدُّم، وهكذا روح المصري الثائرة المتمردة ثاوية في أعماقه، طواها بين جوانحه خوفًا من البطش والاستبداد، وقناعة بالدعوات والكلمات أو النكات، ولكنها تنطلق عارمة مدمرة في لحظات الهبَّات والانتفاضات وكأنها تنتظر قوة تنظيمية حرة هادفة لتكون قوة بناء منهجي لخير الجميع.
ثقافة تطوير لا إصلاح
قضيتنا تطوير وتحوُّل حضاري وليست إصلاحًا أو تنمية، فليس في واقع البنية الاجتماعية والثقافية بحالتها الراهنة ما يستحق أن ننميه، وأزمتنا هي أزمة فعل التطوير الاجتماعي الحضاري في إطارٍ من ثقافة الفعل الإنتاجي، لا ثقافة الكلمة والسكون، وثقافة الانتماء لا الاغتراب التاريخي، وليس الهدف البقاء لمجرد البقاء عيالًا على الآخَر المتقدِّم المُنتِج حتى وإن زينا هذا اللغو بقولنا، كما قال فقيه شعبي: «لقد سخَّر الله لنا الغرب»، وإنما الهدف هو الوجود، والفارق بين الاثنين أن البقاء اطراد عشوائي شأن بقية الحيوانات والقناعة بالميسور، ولكن الوجود مشروع إنجازي إرادي يحقِّقه المجتمع بجهد الفكر والعمل، ويحقِّق من خلاله ذاتيته أو هُويته في تكامل متطوِّر، والوجود صراع وتحدٍّ، وتكيف مطرد في استجابة لهذه التحديات المتواترة، ولهذا فإن ثقافة المجمع هي آلية التكيف، ودعامة التطوير والتغيير، وتتصف بالمرونة الدينامية وغرس روح الفعالية والنهم المعرفي باعتبار ذلك قيمة أخلاقية ومثلًا أعلى.
وسبق أن قلنا في دراسة لنا (الترجمة في الوطن العربي – الواقع والتحدي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ١٩٩١) أن المجتمعات، أو لنقل الثقافات الاجتماعية في رأينا صِنفان، والتصنيف ليس قدرًا أبديًّا، وإنما السيادة والغلبة لهذا أو ذاك رهن شروط وجودية للنهوض أو الانحسار، أقول صِنفان هما: ثقافة الوضع، وثقافة الموقف، ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخ الموروث، والمعرفة عندها، أو قل العلم الأسمى، لا يتجاوز حدود تأمُّل هذا الرصيد، وأقول السلف والأولين، والأمل عود على بدء، ومن ثَمَّ عزوف عن الإبداع والتجديد، والزمان امتداد متجانس فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول والأهم، فهو بداية التاريخ وغايته، وليس غريبًا أن تسود هذه الثقافة مقولة: «الشرور في المحدثات، فكل مُحدَث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.»
هذا بينما ثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار عزم على التغيير، والتجديد، وفَهْم مجريات الأحداث والظواهر، وتراكُم متجدِّد متطوِّر لرصيد المعلومات والمعارف، ومن ثَمَّ تطوُّر وارتقاء مطرد للهوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكون والبحث عن هوية مجهولة في غيابات التاريخ.
ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادةٍ من خارجها، وثقافة الموقف تخوض غمار لجج نهر الحياة الصاخب الدافق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى وتستجيب تأسيسًا على الفهم والوعي والعقل الحُر الناقد الفعَّال، إنها إبداع الحياة وصناعة التاريخ.
وليس غريبًا أن علاقة الثقافة بالتطوير باعتبارها أحد المقومات الأساسية تمثِّل اليوم موضوعًا رئيسًا في الدراسات الثقافية الاجتماعية، وموضوعًا محوريًّا في الجهود النهضوية سعيًا لتأويلها تأويلًا جديدًا داعمًا للحراك النهضوي الاجتماعي، وهذا ما فعلته أوروبا النهضة وما فعلته اليابان وتفعله الصين الآن، والثقافة هنا ليست فقط مجرَّد مشاهد الإنتاج الثقافي من أفلام وندوات وكتب وحفلات وكأنها جزر معزولة عن النسيج الاجتماعي العام، وإنما ينصب الاهتمام على النماذج الذهنية أو المنظومة الثقافية الذهنية المحدَّدة للقيم والأفكار وما ينبغي وما لا ينبغي أن أفعله، أي حاكمة لطريقة النظر والتفكير في الأمور والعلاقات وما يتوجَّب على المرء من سلوك، إنها بذلك القاعدةُ الأساسية التي تنتظم حولها أنشطة المجتمع والمصداقية الاجتماعية لهذه الأنشطة وضمان أن تكون ثقافة تغيير ديمقراطية النهج، وثقافة خلق للثروة وليست القناعة بالموجود، وطبيعي أنَّ تأويلًا جديدًا للثقافة يعني توتُّرًا مرحليًّا بين ثقافة تقليدية وتطوير يستلزم تغييرًا في أنماط السلوك.
ولهذا عمدت أكثر هذه الدراسات إلى بيان توزيع المجتمعات بين مجتمعات نزاعة إلى الحركة والتغيير والتقدُّم أو ناهضة تسودها ثقافات تقدمية داعمة للتقدُّم، ومجتمعات متخلِّفة تسودها ثقافة سكونية، وعلى الرغم من أننا لا نؤمن بأن مثل هذا التقسيم هو تقسيم جامد مطلق الصواب، وإنما هو نسبي مشروط بظروف وأن المجتمعات قابلة لظروف بعينها سياسية أو اقتصادية … إلخ، أن تكون هذا، وقابلة لظروف أخرى أن تكون ذاك، وإنما نرى من المفيد أن نعرض هنا ما أجمله الدارسون من خصائص تميز هذه المجموعة أو تلك:
الثقافات التقدمية | الثقافات السكونية |
---|---|
(١) تؤكد على بناء المستقبل والتأثير في المصير بجهد وإرادة الإنسان/المجتمع، وترى الحقيقة والصواب ثمرة بحث علمي لعلماء العصر من أبناء المجتمع. | (١) تؤكد على الحاضر أو الماضي وترى الجزاء والحقيقة والصواب من فم رأس الدولة أو التقليد. |
(٢) محورية العمل من أجل حياة جديدة قوامها الإبداع والإنجاز. | (٢) العمل عبء، وأفضل الثروات ما يأتي مجانًا مع قناعة بالموجود. |
(٣) المبادرة الفردية والإبداع أساس للتقدم والتطوير. | (٣) قمع المبادرة الفردية والإنجاز، وترى الحياة والسلامة داخل النص: نص التقليد ونص إرادة السلطان. |
(٤) الادخار أصل الاستثمار والأمن المالي وضمانة اجتماعية. | (٤) الادخار — إن وُجد — فهو شأن فردي أو ليكن لي يومي الذي أعيش فيه. |
(٥) التعليم مفتاح التقدُّم وإشباع وتحقيق للذات، وأداة تغذية وصياغة واستكشاف جديد وإثراء معرفي. | (٥) للتعليم أهمية هامشية وليس طريقًا للإبداع والتفوُّق في الإنجاز وإنما تأكيد للتقليد. |
(٦) الجدارة أساس التقدُّم والترقي. | (٦) المحسوبية أساس تسلُّق النظام الهرمي. |
(٧) الثقة تمتد إلى نطاق المجتمع العام. | (٧) الثقة قاصرة على الذات أو الأسرة أو الطائفة، والتهرُّب الضريبي للإفادة الذاتية. |
(٨) القانون أكثر التزامًا وأقل فسادًا. | (٨) القانون إرادة السلطة أو رجال الدين. |
(٩) السلطة تميل إلى الانتشار وتكون قسمة مشتركة ومسئولة عامة وموضوعًا للمحاسبة. | (٩) تراث السلطة استبدادي، والسلطة شديدة المركزية، فردية مطلقة. |
(١٠) نفوذ السلطة الدينية محصور في نطاق ما يخص الدين وسؤال العامة. | (١٠) نفوذ السلطة الدينية يمتد إلى كل مجالات الحياة متجاوزًا خصوصيتها وتخصصها، وتابعة للسلطة السياسية وضمانة لاستمرارها. |
(١١) آليات المجتمع في التنشئة والإعلام والتعليم وممارسات السلطة داعمة للتطوير ولمصداقية القيم الثقافية النهضوية. | (١١) ثقافة التنشئة داعمة للتقليد والانحياز والتبعية والولاء الأبوي مع تأكيد فضيلة الطاعة والخضوع للسلطة، وأن الفرد رعية والحاكم هو الأب الراعي. |
(١٢) الفرد مواطن وفاعلية إيجابية في حرية ومساواة بين الجميع الحاكم والمحكومين ومصدر للتشريع والسلطات. | (١٢) أبناء المجتمع رعايا، والحاكم هو الأب الوصي له البيعة، والفعالية استجابة في طاعة وولاء لأمر الحاكم، هو المرجعية الأعلى ولا رادَّ لمشيئته. |
(١٣) ثقافة التجديد والتغيير وتداول السلطة تأسيسًا على الاقتراع العام الحر، والزمان حركة مجتمعية مستقبلية مطردة التقدم بفضل الفعالية الإنتاجية لمواطنين أحرار. | (١٣) المحافظة، رفض التغيير، أي رفض دور الزمن كحركة متقدمة ورفض لفعالية الإنسان، وإنما الزمن دوراني الحركة والأمل ردة إلى عصر ذهبي مضى. |
وجدير بالإشارة هنا إلى أن بلدان أمريكا الجنوبية التي أخفقت في التقدُّم بعد أن طبقت النصائح الأمريكية للإصلاح، عادت لتسأل السؤال نفسه الذي اعتدنا نحن أن نسأله: لماذا تخلَّفْنا وتقدَّمَ غيرُنا؟ واختلف المفكِّرون هناك زمنًا طويلًا دون إجابة، وأخيرًا بدأ الاهتمام ببحث دور المنظومة الثقافية وكذا مسئولية السياسيين ودور الاثنين في شيوع التخلُّف والفساد.
ونذكر من بين هؤلاء الكاتبة الأرجنتينية ماريانو جروندونا في دراسات لها معاصرة، وكذلك الكاتب ماريو فارجاس الذي يؤكد أن الإصلاحات الاقتصادية والتشريعية مع ضرورتها لتحديث البلاد لا يمكن تحقيقها:
ما لم يسبقها أو يصحبها إصلاح لأعرافنا وعاداتنا وأفكارنا وكل المنظومة المعقدة من العادات والمعارف والتصورات والصور التي نفهمها حين نقول «الثقافة»، إن ثقافتنا الآن لا هي ليبرالية ولا ديمقراطية، لدينا حكومات تُسمِّي نفسها ديمقراطية، ولكن مؤسساتنا وردود أفعالنا وعقلياتنا وسلوكنا أبعد ما تكون عن وصفها بالديمقراطية، إنها لا تزال خصائص استبدادية مطلقة، وعقائدية جامدة.
وثمة كتاب، من بين كتب أخرى كثيرة، من تأليف لورانس هاريزون بعنوان: «التخلُّف حالة ذهنية»، ويدرس الكتاب التطوير الاقتصادي والاجتماعي من زاوية ثقافية، وعقد مقارنات ثنائية بين عدد من الدول، مثال ذلك أن غانا في الستينيات كانت أكثر تقدُّمًا من كوريا الجنوبية، ولكن كوريا الآن تحتل مكانة مرموقة بين الدول المتقدمة، بينما تراجعت غانا كثيرًا، ولنا أن نضيف إليه مثال مصر واليابان في أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ كانت مصر أكثر تقدُّمًا من اليابان، بل تطلَّعَت اليابان لدراسة النهضة من خلال التجربة المصرية، ولكن واقع الحال شاهد الآن بما يملأ النفس مرارة وحسرة.
وفسر هاريزون هوة التطوُّر بعوامل ثقافية: قيم ثقافية تدعم التطوير، وأخرى سلبية تعيق النزوع إلى التغيير، ويقول ثمة قيم ثقافية إيجابية: التغيير والمنافسة، الإبداع، العمل الجاد، التفرُّد، التفوق، النظام، الالتزام، العقلانية، السلطة للعقل وقسمة مشتركة ليست لحاكم منفرد، ويضيف قوله: «يسود ثقافة المجتمع المؤمن بالتغيير مفهوم أن الثروة ليست ما أملك، وإنما ما أبدعه، أن أبدع ما ليس موجودًا بعد، كما وأن العقل والفعل الاجتماعيين هما مبدع الثورة.»
ونعود لنؤكد — في ضوء ما سبق — أن التطوير الحضاري للمجتمع موقف من الحياة، ونمط سلوكي في الاستجابة للتحديات، وهو ثقافة حوار بين الإنسان – المجتمع – والبيئة والمجتمعات المحيطة، وثقافة إنجاز، وفضول معرفي، ويمثل العلم والمعرفة العلمية روح العصر، لذا فإن الثقافة العلمية هي جوهر آلية التكيف، والوجود الاجتماعي الآن، حسب منطق العصر، ليس وجودًا تراتبيًّا هرميًّا رأسيًّا وسيادة علوية على رعية كما كان الحال في حضارة الرعي أو الزراعة، بل أصبح وجودًا شبكيًّا أفقيًّا متكافئًا، وهذا هو جوهر الوجود الديمقراطي الآن في عصر المعلوماتية وانفجار المعرفة، وثقافة التطوير الحضاري ثقافة نهم معرفي للتوظيف المعرفي المنهجي من أجل التكيف، إنها ثقافة تمرد على الجمود والتقليد والتماس التجديد، لذلك فإن عملية التطوير هي إبداع اجتماعي ذاتي المنطلق لا يأتي مفروضًا من خارج، سواء خارج الذات في الزمان أو من خارج الوطن، إن التفاعل مع الخارج غير الانفعال بالخارج، التفاعل استفادة إرادية نقدية للاستجابة الفاعلة وفق هدف ومصلحة، والتفاعل أيضًا قرين فعل داخلي وتكامل معه على نحو يكشف الإمكانات الإبداعية الذاتية لاطراد التطوير.
وتستلزم ثقافة التطوير مُثقَّفًا يتصف بالاستقلالية الذاتية الحرة والنهج المعرفي العلمي والتعالي على الانحيازات، كما يمتلك أفقًا رحبًا شاملًا لقضايا المجتمع، ويتصف أيضًا بالحرص على أن ينأى بفكره وثقافته وجهده عن خدمة أمير أو سلطان، بل خدمة الجماهير في ضوء رؤية إبداعية مستقلة أصيلة، ويغدو بفضل جهده وصفاته، أداة إثراء فكري لمجتمعه، وهذه إحدى مظاهر أزمة الثقافة والمثقَّف في مصر، إذ ظل المثقَّف وثقافته على مدى القرون، ولا يزال، في خدمة صاحب السلطان حتى باتت ثقافته ليست أداة تحرُّر، وإنما توجهه على طريق التبعية والتماهي بين ذاته والسلطة.
وحيث إن نهج التطوير والتغيير قيمة ثقافية، وموقف من الحياة، فإن لنا أن نسأل عن طبيعة القيم الثقافية السائدة في المجتمع التي تحدد للإنسان العام، أداة البناء، ومن ثَمَّ للمجتمع تطلُّعاته واستجاباته ونظراته وتأويلاته؟ كيف نرى الوجود من خلال ثقافتنا الاجتماعية؟ وما هي تصوراتنا عن الحياة وإلى أين ينصرف مخاضنا أفرادًا ومجتمعًا؟ وما هي القيم التي تستثير فينا نوازع الغضب أو الرضا والإقدام والفعل بعامة، والتي تمثِّل مفتاح السلوك أو «الزرار» الذي إذا ضغطنا عليه حرَّك فينا كوامن النفوس واستنفر الروح منا.
إننا نحصر قيم الوجود في العبادات والحدود الدينية وحدهما، بمعنى الحلال والحرام دينيًّا فقط، هذا بينما يجدر بنا أن نضيف إلى هذه القيم قيمًا ثقافية جديدة لازمة لكي نتحرك على طريق التقدُّم، أو جدير بنا أن نقدم تأويلات تدعم هذا التوجُّه نحو التطوير وتجعل من التطوير قيمة، مثلما نجعل من العمل والإبداع قيمة سلوكية في التطبيق العملي، إن الفن قيمة، والإبداع العلمي قيمة، والموضوعية قيمة، والتناغم الاجتماعي قيمة، والحفاظ على البيئة قيمة، والفضول المعرفي أو مغامرة الاستكشاف المعرفي قيمة، وصنع حياة جميلة ميسورة وعادلة قيمة، والاستقلال قيمة، بينما الأمية والاستبداد والظلم والفقر والتخلُّف رذائل وكبائر.
وإذا كنا ننشد بناء مجتمع مدني على مستوى حضارة الصناعة والمعلوماتية باعتبار أن هذا هو التطوير (لا الإصلاح) المنشود، فحَريٌّ أن ندرك أنه بالضرورة مجتمع مواطنة حرة ومؤسسات حرة متكافئة متشابكة، ومواطنين أحرار ذوي عقول حرة وفِكر حر متساوين، لهم ثقافة الفعالية الاجتماعية وقدرة على مغامرة الاستكشاف المعرفي والإبداع، لنقف أندادًا مع المجتمعات المتقدمة.
وحَريٌّ أن ندرك أن الفقر حرمان من الحرية، والأمية حرمان من الحرية، وقصور البحث العلمي حرمان من الحرية، والتخلُّف بجميع صوره حرمان من الحرية على الصعيدين المحلي والدولي، والتحجر والجمود والتعصب نفي للحرية، هذا بينما التطوير الحضاري هو التوجُّه الصحيح على طريق الحرية لخلق مجتمع حر لمواطنين أحرار، مجتمع إنتاج حضاري مبدع بذاته في تعاون شبكي على النطاق العالمي.
العالم الآن بصدد أن يصوغ، من خلال الشبكة الفضائية، ما يُسمَّى المخ الكوكبي، ويعني التفاعل المتبادل أخذًا وعطاءً بين علماء العالم ومُفكِّريه وباحثيه، وهناك أيضًا دعوة لِما يُسمَّى المصادر المفتوحة عبر الشبكة الفضائية، حيث لا أسرار يخفيها باحث أو مبدع، وإنما تفاعل حر مفتوح بين كل علماء العالم وباحثيه، وطبيعي أن ليس بإمكان مجتمع ما أن يسهم بنصيب إيجابي إلا إذا كان مجتمعًا منتجًا للمعرفة، وله علماؤه المبدعين، وله القدرة على التحاور والأخذ والعطاء، وبدون هذا يظل المجتمع أشبه بمنطقة في المخ أصابها عطب وعاطلة عن الفعل مما يضاعف من فرص ضمورها.
لذلك ربما يكون من باب التفاؤل القول؛ نحن الآن عند مفترق طرق، وأمامنا الفرصة الأخيرة للاختيار، إن كانت هناك قدرة وعزم على الاختيار، لا نود أن يكون حديثنا في المطلق حديثًا نظريًّا محضًا، بل أن نتحدث عبر الحقيقة والواقع وبمنهج علمي، نتحدث عن بشر، عن مجتمع حقيقي يمثِّل ظاهرة اجتماعية/ثقافية/سياسية/أو اقتصادية في الزمان والمكان، ظاهرة هي جزء من واقع أيكولوجي، أعني واقعًا متفاعل العناصر على صعيد متكامل من بشر وبيئة اجتماعية، وعلاقات، ومناخ وبيئة جغرافية، وغير ذلك من مؤثرات تخلق من الجميع ظاهرة واحدة، الإنسان – المجتمع مكوِّن عضوي فيها مع نظرة نقدية مقارنة للذات وللآخر، ولعل هذه هي السبيل إلى الإنجاز، بدلًا من تكرار السؤال قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، لماذا تخلَّفْنا وتقدَّم غيرُنا؟
الحديث عن مجتمع مدني نظري غير قائم، حديث في فراغ وفضاء ميتافيزيقي يبدو بليغًا وينتهي بنهاية الخطاب دون إثمار، لذا حَريٌّ أن ينصبَّ الحديث على واقع عياني تاريخي متعدِّد الأبعاد، في ضوء هدف محدَّد وفهم نقدي لهذا الواقع وللهدف معًا، وإذا كان المجتمع المدني مجتمع مواطنة ومواطنين، إذَن ليكُن بحثنا عن مقومات المواطنة والمواطن في الواقع الحياتي باعتبار هذا شرطًا وسبيلًا للتحرُّك قُدمًا.
لهذا نؤكد أن التطور الحضاري للمجتمع ليس مجرَّد حيازة لإنجازات العصر، بل مشاركة إيجابية في إبداعها، وأذكر هنا ما قاله شرايبر في كتابه «التحدي الأمريكي» في خمسينيات القرن العشرين وهو يتنبَّأ بتحدي الولايات المتحدة لأوروبا ودفعها إلى مستوى بلدان من المرتبة الثانية، إذ قال: «ليس الأمر فقط امتلاك جهاز ما، بل القدرة على صيانة الجهاز وتطويره»، وأذكر أن هذا ما فعلته اليابان ومن بعدها الصين ونمور شرق آسيا، وكيف أن القدرة على الصيانة والتطوير حددت مسارات أنشطة اجتماعية عديدة ومنها التعليم، هذا بينما نحن هنا عاجزون حتى عن أن نعالج القمامة وقش الأرز وحرائقهما.
لهذا فإننا إذ نطالب بالتطوير الحضاري لا التنمية ولا الإصلاح، فإن هذا يعني أن يكون التطوير إبداعًا ومنطلقًا ذاتيًّا، وقبولًا للتحدي، وتأكيدًا للهُوية التي طالما بحثنا عنها إلا في كلمات بعيدة عن الفعل الاجتماعي الذي هو جوهرها، ويعني التطوير الحضاري أيضًا إعادة تشكيل البيئة الاجتماعية وعلاقاتها وفقًا لمقتضيات العصر على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية، بنية أو منظومة محلية داخل منظومة أعلى في تفاعل إيجابي متبادل، ومن ثَمَّ قدرة على الفعل الإنتاجي الإبداعي، ويعني كذلك بناء مجتمع مدني، بالمعنى سالف الذكر، ويحمل خصوصية التاريخ والواقع، مجتمع مؤسسات حرة معبرة عن كل أنشطة المجتمع، ويعني تطوير التعليم والإعلام والأنشطة السياسية وتنظيماتها وضمان فعاليتها الحرة.
إنه تطوير شامل لكل مناحي الحياة، ولا يأتي التطوير استجابة لرأي فرد، وإنما استجابة لحوار إيجابي بين المؤسسات الرسمية والأهلية أو المدنية، مثال ذلك: إن تطوير التعليم لا يكون برأي رئيس أو وزير ولا حتى برأي وزارة، وإنما الوزارة إحدى المؤسسات، تشاركها المؤسسات التعليمية والحزبية والمؤسسات الاجتماعية الأهلية للعلماء والباحثين والمعلمين ورجال الصناعة والاقتصاد وكل من يعنيهم أمر التعليم، تعليمًا عامًّا أم جامعيًّا، مع دراسة لوضع التعليم في البلدان المنافسة أو المماثلة وطبيعة التحديات التي نعدُّ المواطن لمواجهتها من خلال آلية التعليم باعتبار التعليم وظيفة لغاية، وهنا يكون للمؤسسات الرسمية والأهلية دور متكامل، وتكون سياسة التعليم تعبيرًا عن ذلك الجهد المؤسسي الجمعي وتكون آلية مدنية لتحقيق هدف منشود.
وإن مقتضيات حركة التطور الحضاري وثقافته أن نبحث طبيعة الموروث أو التراث الثقافي وتجلياته السلوكية في عملية ما يمكن أن نسميه بناء الموطن الملائم تاريخيًّا، ومدى ما يتصف به من مرونة أو جمود وعطاء في عالم يستلزم قدرة دينامية كبيرة على التكيف والتفاعل، وجدير بالذكر أن جميع التراثات الثقافية للمجتمعات في مراحل تقدمها ونهوضها يجري تجديد التفكير بشأنها وتأويلها بما يتلاءم مع مقتضيات الحركة التكيفية للمجتمع، والتراث عملية تراكمية لثقافات اجتماعية متجدِّدة تؤكد صلاحيتها الاحتياجات الاجتماعية العملية.
ولهذا دعوت يومًا في دراسة سابقة إلى دراسة طبيعة ما يمكن أن نسميه مجازًا «الجينوم الثقافي العربي» ومفاتيحه، مكوناته الشعورية واللاشعورية التي انتقلت عبر الأجيال وتجلياتها في التاريخ من حيث قابلية التغيير والتجديد والفاعلية والتفاعلية، وطبيعة القيم التي تشكل محورًا للوجود والسلوك وإليها ينصرف مخاضنا وجهدنا.
نحن بحاجة إلى ثقافة اجتماعية جديدة، ثقافة تحفز إلى التغيير والتطوير إبداعًا ذاتيًّا في تحدٍّ ومنافسة، لتكون أساسًا ودعامة لبناء إنسان جديد، وعقل جديد في مجتمع مدني منشود.