مقدِّمة
من أجل المنهج
تفهمتُ أبا العلاء سنين، حتى انتهيت إلى هذا الرأي الذي أعلنته منذ سنين (١٣٥٩ﻫ/١٩٤٠م) ثم تركتُه بعدها للمدارسة والترديد، حتى نُشر اليوم، فلعله بذلك يكون قد جاء الحياة سويًّا قويًّا.
واعتمدت في قراءتي على النسخ المعروفة في خير صور نشرها، وليس كلُّ الذي نُشر منها قد أُثبت نسبُه وحقِّق نصُّه … وبذلك كان اكتفائي بما نُشر — كاكتفاء قومي حولي — غير وفاء بالمنهج الأدبي كما أفهمه وأدعو إليه …
على أنه إن يكن قومي — أفرادًا وجماعات — قد آثروا عدم الوفاء بالمنهج إيثارًا، بعدما دعوا إليه جهارًا، وبعدما عُني به آباؤهم قبلهم، ثم عُني به المحدثون في الغرب حولهم، فإنِّي أنا إنما اضطررت إلى هذا القدر من غير الوفاء اضطرارًا … ثم ها أنا ذا أقدم به قولي، صدر الحديث معك حيث يلتمس رضاك بالتقديم أو التقريظ، فهل تدري لِم كان هذا؟ … لا تعجب إذا ما قلت لك: إن ما كان من غير الوفاء بالمنهج، إنَّما كان من أجل المنهج نفسه.
المنهج الأدبي خارجي وداخلي
إكمال المنهج الداخلي
نحاول من هذا الدرس، وذلك المثال، المثابرة على تحقيق الغاية المرجوَّة التي نؤمن أنها أجلُّ وأكبر ما ينقص حياتنا الأدبيَّة، تلك هي: تحرير المنهج وتكميله … والمنهج هو الدستور الذي يقرر أصول التفكير على اختلاف ألوانه، ويضبط قواعد الإدراك على تنوع قواه في الإنسان … وعند الجامعة والجامعيين يلتمس الناس هذا التحرير والإكمال وعنهم يُؤخذ، ولا خير في عمل من أعمالهم ما لم يقُم على المنهج المصحح الكامل، وإلا فما حال ذلك الذي يُعاني درس الأدب وتاريخه: فيصف العصور، ويحلل الشخصيات، ويتذوق الفن، ويتحدث عن مزاج الأمم والأفراد، ويحكم تلك الأحكام البعيدة المدى الجريئة التناول في كل ذلك جميعًا، وهو لا يدري كيف يُثبت نصًّا، ولا كيف يحقق نصًّا، وأمَّا كيف يقرأ نصًّا أيضًا قراءة دارس متفهم فهو عليه أبعد وأشقُّ! من أجل ذلك: كانت العناية بالمسألة المنهجية آكد وأعظم ما تخدم به النهضة الأدبيَّة.
ولئن قلت — قريبًا: إنَّ القدماء قد أصَّلوا المنهج الأدبيَّ! فإنَّ من الحقِّ أن أقيِّد ذلك بأنَّه تأصيل للجانب الخارجيِّ الذي أشرنا إليه لا غير.
فقد قرَّروا من القواعد في جمع النصوص ونقلها وإثباتها وتحريرها ما لا يزال حتى اليوم كافيًا صالحًا للبقاء …
أما المنهج الداخلي المتناول لفهم النص الأدبي فلا مفرَّ لنا من تقرير أنهم فيه لم يوفوا على الواجب، وأن فرق ما بين عملهم فيه وبين ما ينبغي اليوم منه ليقاس بفرق ما بين التقدم العقلي بين أمسهم الغابر ويومنا الشاهد، وما بين معرفة الإنسان بالكون وظواهره، والنفس وقواها، في عهدهم البعيد، وعهدنا الحاضر …
نعم … إنَّ وراء هذا الظاهر الخارجي لقوًى نفسية تصنع الفن، وتؤلِّف القول، وتصوِّر المعنى، وتجري ذلك كله على يد المتفنن، بعمل لو زعمت أن منه ما ليس إراديًّا لم تخطئ ولم تبعد … وإن عبارات صاحب الأدب لتظل تحمل لذلك كلِّه آثارًا قوية، وإن لم يشعر بها أصحابُ الخطة اللفظية، جلية، وإن لم يستبنها أصحابُ الطريقة المادية، وعلى متفهم الفنِّ أن يلتمس ذلك بخبرته النفسيَّة، ولمحاته الوجدانيَّة، ويتبينها بأضواء المعرفة الإنسانية لحركات النفس، وحياتها، وتأثرها، وتأثيرها …
وكذلك ينبغي أن نُكمل المنهج الداخليَّ للأدب، فنفهم الأدب والأديب فهمًا نفسيًّا … ومن ذلك الفهم النفسي سقْت هذا المثال من فهْم أبي العلاء؛ إذ انتهيت فيه إلى هذا الرأي …
•••
- (١)
النظر في أدب الأديب جملة، وعلى أنَّ له وحدة متماسكة بحيث يتصل في فهمك وتذوقك، قريبه ببعيده، وأوله بآخره … ثُم أنت منسقه على فنونه، وناظر إليه فنًّا فنًّا على النحو الَّذي أصفه بعد بأوسع من هذا الإجمال هنا.
- (٢)
وصل الأديب بأدبه، وفهم الأدب بشخصية صاحبه كما تفهم الشخصية الأدبيَّة نفسها بآثار صاحبها في غير دور ولا تداخل، إذ يتقدَّم من فهْم الشخصية في ظروفها الجسميَّة والحيوية وما إليها ما يُعين على فهْم خفايا الأدب، ثُم يتأخر من فهم هذه الخفايا الأدبية ما يُكمل فهم الشخصيَّة النفسية لصاحبها، فيتم الوصل بين الأدب والأديب في هذا الفهم النفسي وصلًا مجدِيًا غير مضطرب.
- (٣)
الانتفاع الدائم المتجدد! بما عُرِفَ ويُعرَف في دوائر الدرس النفسي المجرب الدقيق لقوى الإنسان وملكاته ومشاعره وغرائزه، ويتم هذا الانتفاع بتعاون الدرسَين — النفسي والأدبي — تعاونًا يخصُّ علم النفس الأدبي بالعناية المثمرة التي تمدُّ الأدباء بالأضواء الكافية لفهْم الأنفس، وتكشف لهم عن آثار ذلك في الفنون.
ولا أزيد الآن على هذا الإجمال لأركان الفهم النفسي للأديب والأدب مُكتفيًا هنا بالمثال العملي الذي يقدمه «رأي في أبي العلاء» تاركًا تفصيل هذه الخطوات لفرصة أخرى، لعلها — إذا أعان الله — تكون تكميلًا لدرس أبي العلاء نفسه.
حلقات متصلة
ثُمَّ البيئة … أيضًا
وإذ تردَّد الحديث عن المنهج الأدبي وتحريره وتكميله، وقد سبقت قبل الآن كلمتي عن «إقليمية الأدب»، وشدة تأثر الفن ببيئته، وضرورة مراعاة ذلك في درس الأدب وتاريخه، فلعلك سائلي: أفلا يكون إذن أهدى لدرس «أبي العلاء» أن يقوم به أحدُ أبناء بيئته؟ فأجيبك: أن نعم … لكن هناك أشياء في هذا الدرس، وفي الأديب المدروس ينبغي أن تقدِّرها.
فأمَّا في الدرس: فإنِّي إنما حاولت فهْم الكيان النَّفسي لأبي العلاء، وتبين سمات شخصيته الفنية قبل كل شيء، وتركت ما وراء ذلك من بقية الدرس لأدبه: لفظًا، ومعنًى، وموضوعًا، وفي ذلك يكون ابن بيئته أهدى مني وهو باقٍ له.
- أولهما: أنَّه حين أغمض عينَيه مبكرًا عما حوله من ظواهر الوجود قد عكف على باطنه يستلهم مذخوره ومحفوظه، فخفَّ نوعًا ما، أثر البيئة المادية عليه، واعتمد على أقدار مشتركة من الميراث الأدبي للعربية، جعلت الصِّلة بينه وبين أبناء البيئات الأخرى قريبة قوية.
- وثانيهما: وهو الأجلُّ الأخطر، أنَّ أبا العلاء في أدب العربية قد تفرَّد — أو كاد — بجعل الفن القولي — كما ينبغي أن يكون الفن — أداةً لفهم الكون والإنسان، كما كان الدين، وكانت الفلسفة، وكان العلم، وكان غير ذلك، من محاولات إنسانية خالدة، وبذلك أخضع مُشكلات الحياة والكون الكبرى لتأمل المتفنن ووجدانه، وأشرف من ذلك على آفاق بعيدة تلاقي آفاق التفلسف والتدين والتصوف في سعتها، فدنا — بذلك كله — من نفوس متفهمي الإنسانية جميعًا، بله متذوقي أدب العربية، وساغ لكل مستمتع بالفن متأمل في الوجود أن يجول في آثار أبي العلاء فيجد الخفقات الكبرى للروح الإنسانية، ويُبصر من أسرار هذا الهيكل البشري ما تكشفه له أضواء الخبرة النفسيَّة.
وبهذا القدر كان أبو العلاء قريبًا من البيئات العربية — بل الشرقية أو غير الشرقية أيضًا — قربًا لا يقصر درسه على أبناء بيئته.
وبعد …
فمن أجل المنهج الأدبي الداخلي واستكماله، حاولت درس أبي العلاء وفنه على أساس نفسي … وأدعو إلى درس أدبائنا جميعًا على مثل هذا الأساس؛ لنفهمَ فنَّهم من أرواحهم لا من ألفاظهم فحسب.