ولكنَّ هذه الشخصية القوية العنيفة التي صدر عنها ذلك الأدبُ الغزير،
واختلجت جوانح صاحبها بأشتات الخواطر والمعاني في جميع فروع المعرفة،
وأقسام الفلسفة، لا تزال موضعًا للدرس، ومجالًا للبحث، وهذه محاولة
جديدة لفهم الكيان النَّفسي لأبي العلاء، وإدراك العوامل المؤثرة في
حياته وتوجيهها، وتقدير شخصيته العامة على أساس من الواقع الجسمي
والنفسي للرجل دون إسراف في الفروض، ولا ذهاب في الاعتبارات الادعائية
إلى حدٍّ بعيد … وكأنَّما اطلع أبو العلاء بظهر الغيب إلى هذه المحاولة
الجديدة في فهمه يوم قال:
وإذ قد ولع المحدثون بوصف الرجل بالفلسفة، ودعوه الشاعر الفيلسوف،
وحكيم الشعراء، وشاعر الحكماء، وإمام الحكماء وأشباه ذلك، فإنَّا
نُدير القول على أساس من التقسيم الفلسفي فنتحدث عن:
مسألة المعرفة عند أبي العلاء
وهو في سعة من القول، وفكاك من قيود النظم. يقول في الفصول والغايات:
٧
«يُدرك العلم بثلاثة أشياء: بالقياس الثابت، والعيان المدرك،
والخبر المتواتر.» كما يقول: «العقل نبيء، والخاطر خبيء، والنظر
ربيء، ونور الله لهذه الثلاثة معين.»
٨ فالمعرفةُ عنده ممكنة وسبيلُها العقل، والمشاهدة،
والخبر، وهو يؤيد ذلك في شعره ويكرره، إذ يقول:
خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه
ولا يرجُوَن غير المهيمن راج
ولا تطفئوا نور المليك فإنه
ممتع كل من حجى بسراج
فاسأل حجاك إذا أردت هداية
واحبس لسانك أن يقول مجازا
تفكر، فقد حار هذا الدليل
وما يكشف النهج غير الفكر
فيطمئن إلى هدى العقل، ويرى التفكير الصحيح سبيل الوصول،
ويقول:
إذا تفكرت فكرًا لا يُمازجه
فساد عقل صحيح هان ما صعبا
ولم يتناول درة الحق غائص
من الناس إلا بالروية والفكر
ولو صفا العقل ألقى الثقل حامله
عنه ولم ترَ في الهيجاء معتركا
وحسن ظنه في ذلك فقال:
إذا قرن الظن المصيب من الفتى
بتجربة جاءا بعلم غيوب
ورأى في الاستدلال مخلصًا من الحيرة:
تحير مسترشد
فوفق لما استدل
وتحدث عن القياس حديث الواثق المطمئن، فكان من قوله في
ذلك:
وقس بما كان أمرًا لم تكن تره
فالرجل تعرف بعض الموت بالخدر
أيها الملحد لا تعصِ النهى
فلقد صحَّ قياسٌ واستمر
وفي تصديق الخبر يقول:
فاعرف لصادقك الأنباء موضعه
واجزِ الكذوب على ما قال تكذيبا
ويرى تكذيب الصادق رزأ:
ومما أدام الرزء تكذيب صادق
على خبرة منَّا وتصديق كاذب
وهو يمضي قدُمًا فيحذر مما يُفسد هذه المدارك للمعرفة، ويدخل
الخطأ عليها فينصح بأن يتقيَ الحاكم بالعقل هواه وعاطفته، ولا يدع
لهما سبيلًا على حكمه ونظره:
ومَنْ كان في الأشياء يحكم بالحجى
تساوى لديه مَن يحب ومن يقلي
وأن يرجع مستمع الأخبار إلى عقله:
وخبره صادق بالحديث
فإن شك في ذاك فليختبر
والحديث المسموع يوزن بالـ
ـعقل فيضوي إليه عرف ونكر
وأما تمجيده للعقل ومقدرته فشيء يوفِّر الثقة التامة
به، فمن قوله في ذلك يخاطب الروح:
تركتِ مصباح عقل ما اهتديت به
والله أعطاك من نور الحجا قبسا
والعقل أولى بالإكرام والتصديق:
نكذب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرام وتصديق
وعليك العقل فافعل ما رآه جميلًا:
عليك العقل وافعل ما رآه
جميلًا فهو مشتار الشوار
والعقل خير مشير ضمه النادي:
فشاور العقل واترك غيره هدرًا
فالعقل خير مشير ضمَّه النادي
والعقل قطب المدار:
اللبُّ قطبٌ والأمور له رحًى
فبِه تُدبَّر كلُّها وتُدارُ
ومن اهتدى بسوى العقل هلك:
من اهتدى بسوى المعقول أورده
من بات يهديه ماءً طالما تبلَا
والعقل أفضل أنصاره وأعوانه:
لا أشرب الراح أشري طيب نشوتها
بالعقل أفضل أنصاري وأعواني
والفكر حبل يناط بالثريا:
الفكر حبل متى تمسك على طرف
منه ينط بالثريا ذلك الطرف
والعقل بحر لا يغيض:
والعقل كالبحر ما غيضت غواربه
شيئًا ومنه بنو الأيام تغترف
والعقل يحيل ليلك نهارًا مشمسًا:
وإنَّك إن تستعمل العقل لا يزل
مبيتك في ليل بعقلك مشمس
ولا إمام لأبي العلاء سوى العقل:
كذب الظن لا إمام سوى العقـ
ـقل مشيرًا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلب الرحـ
ـمة عند المسير والإرساء
وسيرحل عن الدنيا ولا إمام له سوى العقل:
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدًا
وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي
وهذا العقل الإمام المتبوع نبيٌّ عنده:
أيها الغرُّ إن خُصصتَ بعقلٍ
فاسألنْه فكلُّ عقل نبيُّ
وقد سمعناه ناثرًا يقول: العقل نبيء … وهو حين يطمئن إلى المعرفة
هذا الاطمئنان، ويمجد العقل هذا التمجيد يشاجر السفسطة ويخالفها،
ويقول:
وقال أناس ما لأمر حقيقة
فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى
وشكك في الإيجاب والنفي معشر
حيارى جرت خيلُ الضلال بهم سعما
١٠
فنحن وهم في مزعم وتشاجر
ويعلم ربُّ الناس أكذبنا زعما
هذا الفتى أوقح من صخرة
يبهت من ناظره حيث كان
ويدَّعي الإخلاص في دينه
وهو عن الإلحاد في القول كان
يزعم أن العشر ما نصفها
خمس وأن الجسم لا في مكان
•••
تسمع ذلك كله ومثله معه فتقول: إن المعري رجل عقلي لا يؤمن إلا
للعقل وحده، وهو يرى رأي الفلاسفة النظريين من اليونان والمسلمين
في الاعتماد على العقل خاصة.
١١
لكن رويدك واستمع إليه، فإنه بعدما أدرك العلم بالخبر المتواتر
شعر بخطر النقل على الأخبار وإفساده إياها.
والنقل غيَّر أنباء سمعت بها
وآفة القول تقليل وتكثير
أتاني بإسناده مخبر
وقد بان لي كذب الناقل
فاتهم الأخبار لهذا وتساءل:
هل صحَّ قول من الحاكي فنقبله
أم كلُّ ذاك أباطيل وأسمار؟!
خبرتني أمرًا فقل راشدًا
من أين هذا الخبر الشارد
والشهادة يؤديها العدول بين يدي القاضي متهمة عنده:
ورب شهادة وردت بزور
أقام لنصها القاضي عدوله
وهاجم الخبر الديني:
أتتني أنباء كثير شجونها
لها طرق أعيى على الناس خُبْرها
صفا دونها قس النصارى وموبذ الـ
ـمجوس وديان اليهود وحَبْرها
وخطوا أحاديثًا لهم في صحائف
لقد ضاعت الأوراق فيها وحبرها
وعاب اعتماد الأديان على الأخبار:
وإذا غلبت مناضلًا عن دينه
ألقى مقالده إلى الأخبار
أقسام لفظك ستة وجميعها
لا مين يلحقه سوى الإخبار
آليت ما الحبر المداد بكاذب
بل تكذب العلماء والأحبار
ووجدت أصناف التكلم ستة
بالمين منها أفرد الإخبار
وتعقب ذلك بما يستوفى في الكلام عن رأيه في الدين، وهو لا يقف
عند مهاجمة الخبر الديني وحده بل يجاوز ذلك إلى الخبر كلِّه، ويرى
الافتراء عملًا متوارثًا في الناس:
وجدت أباك مفتريًا حديثًا
فأنت على مقص الشيخ تفري
وتنتهي به تجربته إلى ألا يصدِّق خبرًا:
لقد جرَّبت حتى لم أصدق
حديثًا عن قريب مدى نقيلا
فيخرج الخبر من أن يكون عنده سبيل معرفة؛ إذ يقول:
لم تعطنا العلم أخبار يجيء بها
نقل ولا كوكب في الأرض مرصود
•••
وندع الخبر إلى القياس الذي سمعت تقريره له، فإذا هو يبغيه فلا
يستطيعه:
قد نفضت السهام أبغي المقاييـ
ـس فلم يثبت الرمية نفضي
وإذا المقاييس قد عيت بأمور الناس:
لعمري لقد أعيا المقاييس أمرنا
فحندسنا عند الظهيرة مظلم
وإذا هذا القياس لم يثبت للناس شيئًا:
رموا فأشووا ولم يثبت قياسهم
شيئًا سوى أنَّ رمي الموت تسديد
وهكذا هو يتهم قياسهم:
وقد بالغوا في قياس بان زخرفه
يُوهي العيون ولم تثبت له عمد
وهو لا يُنكر قياس الناس لخطئهم فيه؛ بل لأن القياس نفسه عمل
خاطئ؛ إذ إن أحكام الحوادث لا تقاس:
غنى زيد يكون لفقر عمرو
وأحكام الحوادث لا يقسنه
وليست هناك نواميس ثابتة ولا أصول لهذا النظام مضطردة، فالقياس
ضلال:
تروم قياسًا للحوادث ضلة
وتلك أصول ليس يجمعها حصر
•••
ولعل هذا التضليل للقياس لم يجئ إلا متأخرًا، وقد سبقته مراحلُ
أخرى نستخلصها في سهولة من شعره؛ فأبو العلاء يتشوق للمعرفة التي
سمعنا إلحاحه في تقريرها، فهو يقول متلهفًا في وصف الإنسان:
ويجهل حتى يسأل الفلك الذي
يدور عليه كيف بدء مداره
يحاور نجم الليل جهلًا كأنه
على طول نأي طامع في انحداره
وهو يجد الحق في دار حريزة يطوف بها متلصصًا، ولا يفيده
التطواف في سبيل الحق شيئًا، بل هو في حندس مظلم لم يُلفِ مَن يهديه
إلى مَعلم:
طوفتَ في الآفاق عصرًا فما
أسفرت من حندسك المظلم
سألتَ أقوامًا فلم تلفِ مَن
يهديك من رشد إلى مَعلم
والجهل أغلب على الناس:
والجهل أغلب غير علم أننا
نفنى ويبقى الواحد القهار
فهو يصرخ من الحيرة، فيقول ناثرًا: يا مقبس، ويا مقتبس، إن أمرنا لملتبس.
١٢ ويقول: وبعلمه — أي الله — أرخيت السجوف دون المنجوف —
المستخرج — وثبت القِتر في الكِتر
١٣ — أي النصل في السنام — وهكذا فالعالم حائر:
كأننا في قفار ضلَّ سالكُها
نهج الطريق وما في القوم خريت
تحيَّرت العقول وما أساءت
دوائبُ في التقى متهجِّدات
فالنفس قد شكت في يقين الأمر:
والنفسُ شكَّت في يقين الأمر والـ
ـكفَّان إن رمتَا قنيصًا شكَّتا
وكأنما ساد الشك عصره كله لا هو وحده:
وقد عدم التيقن في زمان
حصلنا من حجاه على التظني
وما العلم إلا ظن فحسب:
ومن عجب دعواك علمًا وحكمة
وعلمك شيء قيل بالظن أو حُزي
بل قد اختلط العالم فلا تطلب لبابًا صريحًا:
ولا تطلبن اللباب الصريح
فقد سيط عالمنا وامتزج
وهكذا ينفي أبو العلاء اليقين:
أما اليقين فلا يقين وإنما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
نعم، إنه ينفي يقين علمه بالغد في هذا الموضع الأخير، فهل تراه
لا ينفي اليقين إلا في الأمور الغيبية، ولكنه لا ينفيه في عالم
الشهادة ولا يبسط ظل الشك على هذا العالم …؟
١٥ إن حسبت ذلك فاستمع إليه؛ إذ ينفي العلم في الظواهر
الطبيعية وتعليلها فيقول:
لا يعلم الشَّرْيُ ما ألقى مرارته
إليه والأَرْيُ لم يشعر وقد عذبا
١٦
سألتموني فأعيتني إجابتكم
من ادَّعى أنه دارٍ، فقد كذبا
وإذ يعلن أنه لم يلقَ جوابًا لسؤاله عن الحقائق — مطلقًا — إلا
حرف جحد:
سألت عن الحقائق كلَّ قوم
فما ألفيت إلا حرف جحد
فعنده أن لا سبيل إلى المعرفة:
ليل بلا نور أجن بمهمه
حبس الأدلة ليس فيه منار
وهو يُقسم أنه لا هو يدري ولا عالمه يدري — مطلقًا:
آليت ما أدري ولا عالمي
مَن كوكبي في الحندس الداجي
وقد قدر ألا تسير الأمور ولا تختبر، فتلك طبيعتها:
الليل والإصباح والقيظ والـ
إبراد والمنزل والمقبره
كم رام سبْر الأمور من قبلنا
فنادت القدرة: لن تسبره
والرأي عنده ما قال (في الفصول ٢٧١)، والعقول ضالة في ملك الله
أشد ضلال.
•••
ولكن أهذا هو العقل الذي بلغ لدى أبي العلاء من الشأن ما بلغ
ومجَّده هذا التمجيد كلَّه …؟! نعم، إنه ليس سلسَ القياد وهو غير عليم
ينقاد حينًا وينفر حينًا:
وأشعر أن العقل يصحب تارة
وينفر أخرى وهو غير عليم
وأن الطبع يحاربه فيفله، كالشمس يسترها الغمام وظله:
يتحارب الطبع الذي مزجت به
مُهَج الأنام وعقلهم فيفله
ويظل ينظر ما سناه بنافع
كالشمس يسترها الغمام وظله
وها هم أولاء الناس لم يُغنهم طول إعمال عقولهم:
وقد أعمل الناس أفكارهم
فلم يُغنهم طول إعمالها
إذن فهي سفسطة، وليس ما أصَّلوه من أصول إلا وهمًا
توهموه:
كبار أناس مثل جلة سائم
يربون أطفالًا كما ارتضع البُهم
توهم بعض الناس أمرًا فأصَّلوا
يقين أمور بات يتبعها الوهم
•••
هكذا قال المعري في مسألة المعرفة: فمن أي المفكرين نعدُّه
…؟
هل نعدُّه في السفسطائيين؛ لأنه نفى المعرفة وأقسم على نفيها،
ونفاها في الدينيات والدنيويات وفي الغيب والشهادة؟ لا، لن نعدَّه
في السوفسطائيين؛ لأن المتفلسف السوفسطائي رجل يطمئن إلى عجز العقل
عن المعرفة، ويلتزم ذلك ولا يحيد عنه، فلا يبتغي الحقائق ولا يلتمس
القياس ولا يجعل العقل ندًّا، وصاحبنا — على ما سمعنا — قد أثبت
إمكان الوصول إلى الحقيقة وعدَّد وسائطها، وشاد بذكر العقل على نحو
ما رأينا، وأكثر في ذلك كله إكثارًا واضحًا …
فهل نعدُّ المعري لا أدريًّا شكَّاكًا؟
١٨ … لا أيضًا، لن نعدَّه في الريبيين … لأن المتفلسف اللاأدري رجل لا يرى طريقًا للتثبت
ولا سبيلًا للاستيقان، ويلتزم ذلك
فلا يستيقن حينًا ما، ويأتم بالعقل حينًا ما، كما فعل أبو العلاء
وشهدنا ما قال في ذلك …
هلَّا نعدُّه عقليًّا؛ لأنه رفع من شأن العقل هذه الرفعة وجعله
نبيًّا، وابتغى علم الغيوب بالظن والتجربة ودفع الحيرة بالاستدلال
… و… وإلخ مما قدَّمنا قريبًا؟ ولكن لا أيضًا، لن نعدَّه في
العقليين؛ لأنهم ثابتون في مكانهم، لا يثبون من طرف إلى طرف بين
يوم وآخر، ولا يرون العالم مجموعة غير قابلة للتعليل حتى في مرارة
المر وحلاوة الحلو وفي القيظ والإبراد، ولا يقرون سيطرة الشك
واضطراب النواميس وحكم القدر بألا نسبر الأشياء ولا نختبر، كما
سمعنا أبا العلاء ينادي …
فماذا يكون أبو العلاء إن لم يكن سفسطائيًّا ولا شكَّاكًا ولا
مستيقنًا؟
هذا سؤال نرجئ الجواب عنه الآن … نرجئه حتى نفرغ من الإجابة عن
سؤال أسبق منه، وهو:
زهد أبي العلاء
وننظر إلى الزهد والنسك بعامة، فنسمع أبا العلاء يقول ناثرًا:
«انسك وفي مشيك فسك — امش هونًا — فعل جائع وجد فترك لا مضطر أكل
فأبرك، وأعان الله رجلًا كالعود الهرم لا حلب
عنده ولا طلب.»
١٩
وأما في الشعر فهو المفضل عيش الفاقة على عيش الغنى، وزي الراهب
على زي الملك:
وأفضل من عيش الغنى عيش فاقة
ومن زي ملك رائق زي راهب
ويأمر بالارتياح إلى النسك وأصحابه:
إلى النسك ارتح وأصحابه
إذا فاتك القوم لم يرتح
ويجعل النسك فوزًا يأمر به:
ففوزوا بنسك في الحياة وثبتوا
لأقدامكم في الأرض قبل انهيارها
وعصا النسك عنده أحمى من رمح عامر العامري وأشرف من قوس حاجب بن
زرارة:
عصا النسك أحمى ثم من رمح عامر
وأشرف عند الفخر من قوس حاجب
وهو يبين هذا النسك، فيرى أن الحق منه ما كان عن يسر في صحة
واقتدار، وذلك هو الدين عنده:
الدين هجر الفتى اللذات عن يسر
في صحة واقتدار منه ما عمرا
ويكون النسك والمرء شارخ، أما التنسك بعد سن الأربعين
فضرورة:
تنسكت بعد الأربعين ضرورة
ولم يبقَ إلا أن تقوم الصوارخ
فكيف ترجى أن تثاب وإنما
يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ
ولا قيمة عند هذا الزاهد لكل ما تعطى وتملك من حطام:
وتضن بالشيء القليل وكل ما
تعطى وتملك ما له مقدار
وأهون بالمال عنده:
والمال كالتابع أهون به
ورب يسر في قوام العدم
وعنده أن الغنى أصناف ثلاثة: فالغنى الأكبر هو الموت، والغنى
الأوسط القناعة، وثالثهما غنى المال، فاستغن عن المحظور بالمباح.
٢٠
وهو يسوي بين الغنى والفقر
وإن الغنى والفقر في مذهب النهى
لسيان بل أعفى من الثروة العدم
الفقر أروح في الحياة من الغنى:
والفقر أروح في الحياة من الغنى
والموت يجعل خائلًا كمخول
٢١
والفقير أقل الناس همومًا وحسرةً كفاقد الرشد:
أقل بني الدنيا همومًا وحسرةً
فقيدُ غنًى للمال والرشد عادم
وقد احتقر أصحاب التنعم وعدَّهم نعامًا:
كأن ذوي التنعم في البرايا
نعام راح يلتقط الهبيدا
وهتف المعري هتفة أشبه بهتاف المسيح — عليه السلام: من شاء
التخلص من أذى الدنيا فليحطَّ أثقاله وليتبعني:
حياة وموت وانتظار قيامة
ثلاث أفادتنا ألوف معان
فلا تمهرا الدنيا المروءة إنها
تفارق أهليها فراق لعان
ولا تطلباها من سنان وصارم
ضراب بيوم أو بيوم طعان
وإن شئتما أن تخلصا من أذاتها
فحُطَّا بها الأثقال واتَّبعاني
لو أن كل نفوس الناس رائية
كرأي نفسي تناءت عن خزاياها
وعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا
ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها
وحوَّل بلباقته اللفظية أسماء الجواهر والمعادن إلى ألمٍ وإيذاء،
فقال في ذلك ناثرًا:
الفضة تفض خاتم الديانة، والدر يدر المعصية، والنضار يترك الأوجه
غير نضرات
٢٢ كما يقول شاعرًا:
وما نلت مالًا قط إلا ومال بي
ولا درهمًا إلا ودرَّ بيَ الهمُّ
ما فضة الإنسان إلا فضة
والتبر تتبير وجدك ظاهر
والدر در للهموم تسره
إن الجواهر بالأذاة جواهر
وحصلت من ورِق على ورَق
بيض يشق متونها الحِبر
فضت نهاك بفضة سبكت
ولقد قضى بتبارك التبر
وطالما هوَّن أبو العلاء من أمر الملك:
لكون خلك في رمس أعز له
من أن يكون مليكًا عاقد التاج
الملك يحتاج آلافًا لتنصره
والميت ليس إلى خلق بمحتاج
فعنده أن المليك هو الفقير المحتاج:
والملك فينا هو الفقير لما
يلزمه من معونة الخدم
وهو يحرِّض على ترك لذات الملوك لهم:
فاترك لأهل الملك لذاتهم
فحسبنا الكمأةُ والأحبَلُ
٢٣
وكره لنفسه أن يكون ملكًا وجهر بذلك مرارًا:
وما أختار أني الملك يُجبى
إليَّ المالُ من مَكس وخَرج
أُسَرُّ أن كنتُ محمودًا على خُلُق
ولا أُسَرُّ بأني الملكُ محمود
لا كانت الدنيا فليس يسرني
أني خليفتها ولا محمودها
محمودُنا الله والمسعودُ خائفُه
فعَدِّ عن ذكر محمود ومسعود
فمَن مبلغٌ عني المآلكَ معشرًا
عليًّا ومحمودًا وخانًا وآلكا
فما أتمنَّى أنني كأجَلِّكم
ولكن أضاهي المقترين الصعالكا
ويرى رفض السيادة على الناس ولو سوَّدوا الشخص لأنهم
أشرار:
لا خيرَ في الناس إن ألقوا سيادتَهم
إليكَ طوعًا فخالفهم ولا تَسُدِ
وينهى عن ولاية الشئون العامة إمارة أو إمامة أو خطابة:
أنهاك أن تلي الحكومة أو ترى
حلف الخطابة أو إمام المسجد
وذَرِ الإمارة واتخاذك دِرَّة
في المصر تحسبها حسامَ المنجدِ
تلك الأمور كرهتُها لأقارب
وأصادقٍ فابخل بنفسك أو جُدِ
ويرى أن العلا جملة يجلب الشر:
والشر يجلبه العلاء وكم شكا
نبأً عليٌّ ما شكاه قنبر
ويحذر من لصوص الأماني وويلات النفس بها:
فاحذر لصوص الأماني فهي سارقة
ردت عن الدين قلب المرء منقوبا
فويح النفس من أمل بعيد
لأية غاية في الأرض تجري
ويحرِّض على أعمال النسك ومظاهر الزهد؛ من مشاركة الفرس الشعير
إذا غلا البُر، والتحلية بالزبيب، والائتدام بالزيت، والشرب في الفخار،
والاكتفاء بالساتر من الثياب، وما إلى ذلك، وترى هذا في نثره إذ
يقول:
«بلغة من المأكل وحاجب من السترات ومذهِبٌ للظمأ من الأفواه
خير من مال غمر ونهي وأمر وعسل وخمر.» فصول ٣٩١.
كما تقرؤه في شعره:
وإذا غلا البُر النقي فشارك الـ
ـفرس الكريم وساو طرْفك تمجد
واجعل لنفسك من سليط ضيائها
أدمًا ونزر حلاوة من عنجد
٢٤
وارسم بفخار شرابك لا ترد
قدح اللجين ولا إناء العسجد
يكفيك صيفك من ثيابك ساتر
وإذا شتوت فقطعة من برجد
٢٥
جشب كفاك مطاعمًا وعباءة
أغنتك أن تتخيَّر الأوبار
وأنت إذا استعملت أكواب عسجد
أسأت ويجزيك الإناء من الصفر
قض الزمان بأجمال وتمشية
للأمر إن وراء الروح مِغولها
والورد يكفيك منه شربة حملت
في الركب إن منعتك الأرض جدولها
وإن طلب الرزق طالب فليطلبه في الروض لا في الوغى بأسنَّة ومناصل،
وليتشبَّه بالطير تغدو خماصًا وتعد اليسار ملءَ الحواصل:
واطلب الرزق بالمرور من الشجراء
لا من أسنة ومناصل
وتشبه بالطير تغدو خماصًا
وتعُدُّ اليسار ملءَ الحواصل
ولا يتطلع المتنسك لجمال فهذا مفسد لنسكه:
إذا قيل إن الفتى ناسك
ورام الجمال فلا نسك له
•••
وحين يرشد إلى ذلك لا يترك أن يصف أمر نفسه في النسك وأنه فعل
مثل هذا الذي نصح به، فأبو العلاء في قوله رجل لا يحب ولا يكره،
عاش من أيسر حل وتشبه بظل:
يا صاحِ ما أهوى وما أقلي
ثقلي عليَّ فلا تَزدْ ثقلي
عِشتُ من أيسر حل
وتشبَّهتُ بظلِّ
يفرح باليسير ويقنع:
من مذهبي ألا أشدَّ بفضة
قَدحي ولا أصغي لشَربِ معوَّج
لكنْ أُقضِّي مدَّتي بتقنُّع
يُغني وأفرح باليسير الأروَج
هذا ولستُ أودُّ أني قائم
بالمُلك في ثوبَي أغرَّ متوَّج
فيقنعه ستره ودفئه قد شرب بالخزف وتغنَّى في الأمور، فنابت قدماه
عن المركب:
مقنعي من الزمان ستري ودِفئي
من لباس راق العيونَ وفرش
قد شربت المياه بالخَزَف الوخْـ
ـش فأغنى عن محكمات بخَرش
٢٦
وتغنيت في الأمور فنابت
قدماي عن ركوب دُهم وبُرش
قوته غناه، وطمره ساتره، والتقى كنزه:
قوتي غناي وطمري ساتري وتقى
مولاي كنزي وورد الموت موعودي
لباسه ليس بالملون، وقوته يأبى مثله الفصيح والألكن:
وقوتي الشيء أبى مثله
فصيح هذا الخلق والألكن
قد ترك أعمال الدنيا لا يحفر بئرًا ولا يعرش نخلًا ولا ولا
…
ما أنا بالواغل يومًا على الشـ
لا أعرشُ الجفرَ ولا النخلَ في الـ
ـدنيا وما تبقى يدُ العارش