تفلسف أبي العلاء
لنعرف أكان صنيع الرجل فيما دُوِّن من آثاره صنيع متفلسف، فنخضع عمله لمنطق العقل، ونحتكم إليه في فهمه ودفع تناقضه، أم كان صنيع مُتفنن أديب متأمِّل، فنُخضع ذلك كله لمنطق العاطفة والوجدان، ونُقدِّر فيه أثر العوالم النفسية المختلفة؟
وهو قول لا يفترق كثيرًا عن الفكرة العامة في الفلسفة، وأنها دائمًا هي البحث الحر عن الحقيقة مهما تختلف الاعتبارات في تعريفها.
- أولًا: ليس لأبي العلاء بحثٌ بالمعنى الصحيح عن الحقيقة، وليس هنالك إلا خواطر منثورة في جملة، أو فقرة قصيرة، أو منظومة في بعض شطر، أو في شطر من بيت، أو في بيت، أو بيتين، أو أكثر من ذلك قليلًا، فليس من الإنصاف لتاريخ الفلسفة ولجهد الفلاسفة أن يسمَّى مثل هذا الصنيع فلسفة وبحثًا، مهما تتناول هذه المنثورات أو المنظومات من آراء وفِكَر فلسفية، ومهما يكن نوع الفلسفة التي تشير إليها هذه الفِقَر والمعاني الإجمالية إشارات مبهمة، أو لامحة مجملة لا أكثر ولا أقل، وإنما قول أبي العلاء في كل ذلك هو أشبه شيء بالمثل العامي ينتظم فكرة، قد تكون رأس فلسفة، وخلاصة مذهب، وما هي في حساب قائلها الأول أو ضاربها الثاني إلا مغزى حكاية، وثمرة ممارسة؛ وملحظًا واقعيًّا لحادثة أو عمل كان، وذلك شيء غير البحث الفلسفي والتأمل الدارس، الذي يُجرِّد المتفلسف قواه له، ويصطنع له منهجه، ويأخذ نفسه بطريقته في المعرفة؛ ليعرف حقائق الأشياء على ما هي عليه كما يقول الأقدمون، وليفكر ويقدر، ويسبب ويعلل.
- ثانيًا: أن مسألة المعرفة — وهي شطر الفلسفة — لم نستطع أن نعرف لصاحبنا فيها اتجاهًا، ولا منهج تفكير، فهو فيما عرضنا — أول الحديث — من شعره ونثره في أدوار حياته المختلفة، ومراحل سنِّه المتباعدة، يثبت إمكان المعرفة ويذكر وسائطها، ويُنكر إمكان المعرفة، ويهدر تلك الوسائط واحدة واحدة، فهو يوقن، وهو يشك، وهو يحار، وهو يطمئن، وهو ينفي، وهو يثبت، وهو لا يثبت، ولا ينفي، فلا يسع المدقِّق إلا أن يعدَّ ما نظمه أبو العلاء في المعرفة ومذاهبها ضربًا من الشعر التعليمي يمكن اتخاذ عناوين منه لمختلف الآراء في المناهج التفكيرية الفلسفية، أو يمكن اتخاذ عناوين له من تلك المذاهب التفكيرية. وأمَّا أن يكون شيء من ذلك النظيم والنثير مذهبًا في المعرفة خاصًّا فما أحسب هذا يهون ولا يُقبَل! وكما لا نطمئن إلى أنَّ لهذا المتحدِّث عن الفلسفيات دستورًا للتفكير أو البحث.
- ثالثًا: إذا ما كانت الفلسفة هي الحكمة العملية بالأدلة والأفكار كما في تعريف إيبيقور الذي احتسبوا أبا العلاء صديقًا لفلسفته، فلئن كنَّا قد نتسمَّح بأنَّه يسوق في آثاره فكرًا فإنه لا يستدل لها إلا بالتشابه اللفظي بين الكلمتين، أو بالملاحظة الساذجة، أو المناسبة المستملحة على ما يشعر به المتصل اتصالًا ما، بشعره ونثره، ولا حاجة بنا إلى الاستكثار بسَوق الشواهد المجتمعة عليه هنا؛ لأنه واضح مستبين يجده القارئ في كل ما يصيب من آثار صاحبنا، ومثل هذا من المجانسة أو المشاكلة أو المشابهة أو المناسبة وما إليها في لفظ وتعبير لن يعدَّ في حساب الفلسفة استدلالًا ولا شبيهًا به، وإلا فقل لي بربك: كيف يدل اتخاذ الكلل للنساء على أنهنَّ أذًى وكيدٌ يحبسن فيها؟ وكيف يدل اتفاق النعش والانتعاش في لفظهما على فضل الموت ووجوب التخلص من الحياة؟ وكيف وكيف مما يعرفه مَن قرأ آثار أبي العلاء؟! وهل هان الاستدلال الفلسفي إلى هذا الحد فصارت الصنعة اللفظية التي يمقتها الأدب وينكرونها أو ينكرون الكثير منها على أبي العلاء عملًا فلسفيًّا عقليًّا يسلك به الرجل في زمرة الحكماء إذا جودل في احتسابه من الشعراء؟
- رابعًا: أنا إذا ما تساهلنا في كل ذلك، فعدَدْنا هذه المرسلات المتفرقة آراء فلسفية، وتركنا الأدلة والاستدلال جانبًا، ورُحنا نعرِّف مذهب أبي العلاء، والوحدة الفلسفية التي تعنون مذهبه، فماذا نجد؟ إنَّك لتجهد في أن تعرف مذهب أبي العلاء فيما عرضت عليك من كثير قوله في الشئون الإنسانية؛ كالزهد، والجد، وحب الحياة، وكرهها، والمرأة، والزواج، والنسل، والعزلة وو … إلخ، فلا تستطيع أن تخرج بشيء معين، فهو — كما رأينا وسمعنا — زاهد وكادح، منكر للزهد، وحاضٌّ على التنعُّم، وهو ناسك يتحسَّر على الشباب، وهو محرم النسل، يعده أفضل ما عملت في الدنيا، وهو معتزل منفرد، لو حُبِيَ الخلد فردًا لما أحب في الخلد انفرادًا وهو … ثم هو … فأين نضع بين الفلاسفة صاحب هذه المتقابلات التي شملت كل شيء تعرض له؟ وما مذهبه من هذه المتقابلات؟٣
- خامسًا: إنَّ الفلسفة إنَّما تتميز بتأثيرها على سلوك
الفيلسوف، وعدم اختلاف قوله عن فعله، وهي بذلك تفترق
عن العلم؛ إذ تطبع فلسفة الفيلسوف سلوكه، ولا كذلك يفعل
العلم؛ فالفيلسوف الذي انتهى به الدرس الباحث إلى
كذا من الرأي في الخلق والعمل، لا تجده يُخالف هذا
الذي ذهب إليه وانتهى به درسه، على حين ترى العالم
الرياضي أو الميكانيكي مثلًا، بوهيمي السلوك، مشوَّش
العمل، مضطرب التناول، رغم ما وقف عليه حياته من دقة
وضبط، وتحديد ونفاذ. وإنما نعني بالفيلسوف والعالم
الأصيل منهما صاحب الصفة الكاملة فيهما؛ فالفيلسوف هو
المفكِّر المتأمِّل الأصيل الذي يُسخِّر قواه لمعرفة
الوجود، ويُتبع عمله رأيه، وليس هو متعاطي الفلسفة
قراءةً أو تعليمًا أو ترجمةً أو نحو ذلك من اتصال قد
تبعث عليه أناقة، أو طرافة، أو تلهية، أو تكاثر، أو نحو
ذلك مما يقع للمتصلين بالفلسفة، والواصلين أنفسهم بها،
أو الذين وصلتهم ظروفُ الحياة بها، فهؤلاء هم مَن لا
نعنيهم إذا أشرنا إلى تأثير التفلسف على السلوك،
وطبعه له، وتوجيهه إياه، فلا يشتبه الأمر في
ذلك.
وهذا التأثير للفلسفة على السلوك مما لحظه مفلسفو أبي العلاء في هذا العصر؛ فعقد الأستاذ الدكتور طه حسين بك في كتابه «ذكرى أبي العلاء» فصلًا عنوانه: هل أبو العلاء فيلسوف؟ أورد فيه تعريف الفيلسوف، وبيَّن تحققه في أبي العلاء، وإليك قوله بيانًا لفكرة تأثير الفلسفة على السلوك، فهو يقول:مهما كان أصل هذا اللفظ في اليونانية، ومهما كانت معانيه عند المسلمين، فإنَّا نفهم منه رجلًا درس٤ العلوم الطبيعية والإلهية والخلقية درسًا علميًّا متقنًا، وبسط سلطانها على حياته العلمية وسيرته الخاصة، فلم يكن تناقض بين هذه العلوم وبين أعماله، وكذلك كان الأقدمون من فلاسفة اليونان يفهمون هذا اللفظ؛ فالرجل الذي أتقن هذه العلوم، ولكن حياته تناقضها، فهو يعرف الفضيلة ويناضل عنها، ولكنه لا يصطنعها في سيرته، ليس بالفيلسوف عندنا الآن، وإنما هو عالم بالفلسفة، والرجل الخيِّر يُؤثر الفضيلة ويحرص عليها؛ لأن نفسه قد فُطرت على ذلك من غير أن يكون متقنًا لهذه العلوم ليس بالفيلسوف عندنا الآن. أيضًا، وإنما هو رجل خير فحسب، فإذا جمع بين هذين الطرفين فأجاد الحكمة علمًا وعملًا — أي بحث عن حقائق هذا العالم — وكانت حياته موافِقة لنتائج بحثه، فهو الذي نفهمه في هذا الكتاب من لفظ الفيلسوف أو الحكيم.وهذا الذي فهمه الأستاذ، وانتهى إليه من أن الفيلسوف بحث عن حقائق هذا العالم، وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، هو ما نريده هنا من الفيلسوف أو الحكيم، لكن الأستاذ تقدَّم بعد ذلك فيما يلي من هذا الفصل لإثبات هذه الصفة لأبي العلاء فقال:
إذا صحَّ هذا فما قدَّمنا في المقالة الثانية من سيرة أبي العلاء وأخلاقه وحياته في منزله وبين الناس، ومن درسه للفلسفة في أنطاكية وطرابلس وبغداد، يدلُّنا على أنه قد كان فيلسوفًا حقًّا، كما سيدلنا على ذلك درسنا «للزوميات». ا.ﻫ. من (ذكرى أبي العلاء ص٣٢٩-٣٣٠، من الطبعة الأولى).
ونرجع إلى المقالة الثانية فنقرأ أنه: كانت بأنطاكية مكتبة عربية تشتمل من نفائس الكتب على عدد غير قليل، فحفظ منها أبو العلاء ما شاء الله أن يحفظ، (الذكرى ص١٥٤، ط أولى)، وأن أبا العلاء وصل إلى طرابلس، وكانت بها مكتبة كبيرة، وقفها أهل اليسار، فدرس أبو العلاء منها ما شاء، ثم عاد إلى معرة النعمان (الذكرى، ص١٥٧، ط أولى)، وأما في بغداد «فمما لا شك فيه أنَّه لم يجلس مجلس التلميذ من أحد (الذكرى، ص١٩٠، ط أولى)، ولم يكن في بغداد أستاذًا ولا تلميذًا، وإن كان قد زار مكتبتَيها، وقرأ ما فيهما من كتب الحكمة، وحضر المجمع الفلسفي بدار عبد السلام البصري (المصدر السابق، ص١٩٢)، وإذا ما كان درس أبي العلاء للفلسفة في أنطاكية وطرابلس وبغداد أيضًا هو الحفظ من المكاتب، فإنَّك لن تطمئنَّ إلى أن هذا هو البحث عن حقائق العالم الذي عرفنا أنه شطر عمل الفيلسوف، على أنك تجاوز هذا، وتفرض أن أبا العلاء أجاد الحكمة علمًا وعملًا — أي بحث عن حقائق هذا العالم — وتسأل: أكانت حياته موافقة لنتائج بحثه كما يجب أن يكون الفيلسوف في تقرير مفلسفي أبي العلاء أنفسهم»؟
وهنا يبدهك في الإجابة عن هذا السؤال ما قرأته لأبي العلاء من نتائج بحث — إن تساهلت فسميتها كذلك — فلا تعرف له نتيجة ثابتة لم يخالفها، ولم يقرِّر غيرها، فإلى أي نتائج بحثه كان يستند سلوكه، وقد قال الشيء وضده دائمًا، أو على الأقل، فيما قرأت هنا من أمور الحياة العملية؟! وإذا لم تعرف إلى أي نتيجتَي بحثه، وأي عبارتَي قوله استند فعله، فقد بقي أنَّ فعله لا يستند إلى شيء من قوله، ولعل هذا ما نستطيع القول به حين نتحدَّث عن «أبي العلاء بين قوله وفعله» فيما يلي من هذا الرأي.
فلو كانت العزلة والوحدة — كما دعا إليها وحبب فيها أحيانًا — لوجب أن يلتزم العزلة دائمًا. ولكنه لم يفعل هذا — كما سترى — ولو كانت العزلة غير محبوبة، والاختلاط والتعاون والسعي في الأرض خيرًا لوجب أن يكون ذلك عمله، ولكنَّه كذلك لم يفعل هذا دائمًا، أو لم يفعله على وجهه؛ فقد حاول العزلة، وأعلن أنه صمَّم عليها، ولكنه ظلَّ يختلط ويدرس ويتثقف، ويلقَى الناس كثيرًا أو قليلًا!
ولو كانت الحياة كما كرهها، وكرَّه فيها، لحرص على التخلص منها، ولكنَّه رغب في هذا التخلص ولم يفعل.
ولو كانت الحياة مُحبَّبة بالغريزة وهو يحبها، كما قال، لأقبل عليها واطمأنَّ إليها، ولكنه لم يفعل ذلك خالصًا ولا متسقًا. وفي كل حال فإنَّ صلة ما بين قوله وعمله لم تجرِ على دستور الفلاسفة المعروف، الذي قرأت تقريره في قول مفلسفي أبي العلاء أنفسهم. وقد فعل أشياء وافقت بعض قوله، ولكنها خالفت كذلك بعض قوله، فمالَ إلى الإقلال والقناعة، وكفَّ عن التكثر والتمتُّع وترك الزواج، وبذلك لم ينسل، وأنت غير مستطيع أن تجعل هذا موافقة لقوله، أو لنتيجة بحثه؛ لأنَّه يُوافق بعض القول حين يُخالف بعضه، فبقي أن تلتمس مرجحًا آخر غير هذا القول المتفلسف، أو التفلسف الباحث. قد كان سبب ما جنح إليه أبو العلاء في أمر حياته ونظامها، وهو ما وعدناك أن نعود إليه بعد الانتهاء إلى وجه الرأي في تفلسفه الذي رأينا منه حتى الآن: أنَّ أبا العلاء لا يظهر فيلسوفًا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، ولا له فلسفة خاصة تقوم على منهج تفكير، وأسلوب بحث، ومذهب في المعرفة، وتقرر آراء واضحة معينة، وإنَّنا لهذا لا نجد حتى الآن ما يدلُّنا على أنَّه قد كان فيلسوفًا حقًّا، بل إنَّا لنجد غير قليل مما يدلنا على …
وليس معناه أنه كان يهذي هذيان المعتوهين، بل الحقيقة ليس في الدنيا شيء إلا وله جانبان من جهة حُسنه في بعض الأحيان وقبحه في غيره؛ فالفيلسوف الطبعي هو الذي لا يغفل عن الجانب الآخر، والطبيب الحاذق هو الذي يعرف بمحل الداء ومقداره، فيصف له الدواء الصالح؛ فأبو العلاء إذن فيلسوف بالطبع لا بالتصنُّع والتكلُّف حتى تغلب عليه الفلسفة في غير حينه، شأن الفلاسفة المتفيهقين. ا.ﻫ