إخلال أبي العلاء بمنهج الفلسفة
- أولًا: أن هذه الفلسفة ليست إلا البحث الحر، لا يحد نظر
المفكِّر فيه حد، ولا يحتكم في عقله غير منهجه، فهو لا
يعترف بأسرار محجبة، ولا يسلم بوجود مناطق في الكون
محرَّمة على العقل، وذلك جلي في طابع التفلسف لا
يحتاج إلى فضل بيان أو تأييد، ولكن صاحبنا يخلُّ بهذا
في مثل قوله بعد حديثه عن الروح:
ورَوم الفتى ما قد طوى الله علمَهيُعدُّ جنونًا أو شبيه جنون٢: ٣١٠فيجعل في موضوع البحث والتفكير ما طوى الله علمه، ويرد العقل عنه، بل يقسو في رده، فيعد رومه معرفة هذه المطويات جنونًا أو شبيه جنون! وإنَّك لتقرأ هذا في حديث مَن سموه فيلسوفًا عن الروح، فتذكر حين تقرؤه أنَّ الغزالي — وهو رجل قد عادى الفلسفة وناهضها، ووقف في وجه حريتها العقلية بكل ما يستطيع — يسمع قول القرآن كتاب دينه عن الروح: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فلا يمنعه ذلك من تقرير إمكان التحدُّث في الروح، وتفسير كونها من أمر ربه تفسيرًا لا يجعل رومها جنونًا، ولا شبيه جنون، كما يقول أبو العلاء المتفلسف الموصوف بالجرأة.
وإني إذ أقرِّر ذلك لأذكر أنَّ أبا العلاء — كدأبه — قد قال ما يُغاير هذا المعنى حين رأى أنَّ الظنَّ والتَّجربة كافيان لمعرفة الغيوب:
إذا قُرن الظن المصيب من الفتىبتجربة جاءا بعلم غيوبفلم يثبت على رأيه حتى النهاية، وإن كان هذا القول الأخير لا يُناقض المعنى الأول تمامًا؛ إذ قدرة العقل بالتجربة على علم غيوب لا تنفي أن في الغيوب مناطق قد طوى الله علمها فلا ترام، ورومها جنون أو شبيه جنون …!
وكذلك يُخلُّ أبو العلاء بأصول التفلسف إخلالًا يزيد ظهوره ووضوحه حين تعرف من أمره:
- ثانيًا: أنَّ الفلسفة إنما هي فهم العالم فهمًا عقليًّا
يقوم على تقرير أن المسبب يترتب على سببه،
والنتيجة تتلو مقدمتها؛ لثبات النواميس الكونية،
والسنن الفطرية، وارتباط المسببات بأسبابها، وإنكار
التخلف، ونفي الصدفة، وما إلى ذلك. ولعل الخلاف في
مسألة الأسباب والمسببات، وما يتصل بها، هو أكبر ما بين
الدينيين والحكماء من خلاف؛ فالدينيون — على اختلافهم
— ينكرون هذه السببية، واطراد السنن، ويقولون بلسان
الغزالي — وهو من أكثرهم تنورًا — حين عرض لهذه
المسألة في تهافت الفلاسفة١ فقرر: أن الاقتران بين ما يُعتَقد في
العادة سببًا، وما يُعتَقد مسببًا ليس ضروريًّا عندهم
— أي المليين — وأن مثل الري والشرب، والشبع والأكل،
والاحتراق وملاقاة النار، والنور وطلوع الشمس، والموت
وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وهلم جرًّا، إلى كل
المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم، والصناعات
والحِرَف، فاقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه
لخلقها على التساوق لا لكونها ضروريًّا في نفسه، غير
قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق
الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة، وهلم
جرًّا، إلى جميع المقترنات. وفاعل الاحتراق عند
ملاقاة النار هو الله تعالى، إما بواسطة الملائكة
أو بغير واسطة. وأما النار فهي جماد لا فعل لها، وليس
لهم — أي الفلاسفة — إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند
ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، لا على
الحصول به.
وهذا هو ما ينكره الفلاسفة ويرون استحالته، ويقول ابن رشد بلسانهم في الردِّ على الغزالي فيما قال سابقًا:٢
… أما إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات فقول سوفسطائي، والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه، وإما منقاد بشبهة سوفسطائية عَرضتْ له في ذلك …
فالعقل ليس هو شيئًا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة، فمَن رفع الأسباب، فقد رفع العقل. وصناعة المنطق تضع وضعًا أن ها هنا أسبابًا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها، فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورافع له.
وفي مناقشة ابن رشد لما يسميه المليون في حصول هذه الأشياء «عادة» يذكر الفيلسوف اطراد النواميس، ويحتج لها بأنَّ الله عز وجل يقول: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا.تلك هي مسألة من أهم ما فرق بين الفلسفة والدين، وأساسها كما قرأنا من قول ممثلي الطرفين هو تحكُّم أصحاب الدين في توسيط قدرة الله بين السبب الطبيعي والمسبب، وجعلها الفاعلة باختيار لكل شيء، وإنكار أن يكون لهذا السبب المشاهد فعل، وأن يتقرَّر بذلك ناموس ثابت لا يتخلَّف لرغبتهم في أن تبقى الكلمة للقدرة الإلهية حتى تحول بين المؤثرات والأثر، فتكون نار ولا إحراق، ويكون إحراق بلا نار، ويكون قطع رقبة ولا موت …
ولو رُحتَ ترقب حرية الفكر في المليين، لاستطعت أن تجعل هذه المسألة مقياسها، وأنه بقدر ما يقبل الديني من هذه السببية وثبات الناموس يكون حر الفكر، أو يكون محافظًا، وهكذا تجد المعتزلة مثلًا يقرِّرون هذه السببية ويوفِّقون بينها وبين فعل الله لكل شيء، وقدرة الله على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا مواد، كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد٣ حين تسمع أهل السنة يقرِّرون مثل الذي قرأت من تحكُّم قرره الغزالي في نص التهافت السابق.وتجد المتجددين من الدينيين في العصر الحديث يحرصون على تقرير: أن ثبات السنن إرشاد لم يُعهد في غير القرآن، وينكرون على المليين في جميع الأجيال أن تكون أفعال الله كأفعال الحاكم المستبد تستند إلى المشيئة المطلقة، وتقرأ عن هذا قطعة طريفة للأستاذ الإمام رحمه الله في تفسير المنار.٤وحيث كانت المسألة من الأهمية على ما رأيت حتى بسطنا القول فيها نوعًا ما، فمن البيِّن أن نعرض أبا العلاء على الآراء فيها؛ لنستبين قربه أو بعده من الروح الفلسفية أو الدينية، فماذا يرى أبو العلاء في القدرة الإلهية والأسباب والسنن الكونية؟
نحن نعرف من آثاره أنه عرض لهذه المسألة الكبيرة الأثر في بيان الفرق بين الأصلين: الديني والحكمي، فهل كان يُفكِّر فيها تفكير متفلسف له الشخصية الحرة التي يدَّعيها له مفلسفوه؟ سنسمع من قوله الإجابة عن ذلك.
إنَّ أبا العلاء قد أحسَّ حينًا ما ثبات الفطرة، وجنح نوعًا ما إلى استقرار النواميس، فتسمع له مثل قوله في بعض رسائله.
وقد ذكر من حاله فقد أسباب العلم بآفته، ونشأته في بلد لا عالم فيه، وأنه ليس صاحب الثروة فكيف الحداء بغير بعير؟ فقال: فإن بلغ سيدي الشيخ أن ساري الليل قبض على سهيل، وأن الأرض أنبتت وشيًا وحريرًا، والسحاب أمطر مدامًا وعبيرًا، فهو أعلم بردِّه على المبطلين، حسب الأرض أن تعتو بخلة وحمض، وعادة السحاب المرتفع في السماء أن يأتيَ بريِّ الظماء … إلخ.٥فهو — كما ترى — يعد مخالفة طبائع الأشياء من قول المبطلين، ويطلق القول بذلك الثبات للنواميس لا يستثني ولا يقيد. لكن أبا العلاء، كما عرفته في هذا البحث، لا يكفيك في فهمه بعض قوله دون بعض، فامضِ قدمًا، تسمعه حينًا آخر يقرر ثبات النواميس لكن في تحوُّط واستعداد للانسحاب — كما يقول الحربيون الآن — فاقرأ قوله في الفصول:٦ «… والشيء كما فُطر حتى يأذن له خالقه بالتغيير، فإن قيل: إنَّ الديمة مطرت مدامًا، وإن الأرض أنبتت أهدامًا — جمع هدم، وهو الكساء الخَلَق — وإن البرة — الخلخال ونحوه من الحلي — صيغت من الكعبرة — واحدة الكعابر، وهو شيء يخرج في العضاه، وكل عقدة صغيرة مثل الجوزة ونحوها، فهي كعبرة، وكعابر الرأس عُقدُه — وإن حضنًا — جبل بنجد — غار، وتهامة أتت حجرًا — وهي قصبة اليمامة — فقد كذب القائلون، إنَّما يتنزَّل من السماء غريض الماء، وتعنو الأرض بالنبات الغضِّ، وتجود السمرة — شجرة ترعاها الإبل — بمر الثمرة، ولا تنتقل تهامة أبدًا، ولا يوجد حضن إلا منجدًا، فاستغفر الله.»فهو كما قرأت يكذِّب القائلين بإخلاف الطبيعة وتغير أوضاعها، لكنك تلمح في صدر الكلام هذا الاستعداد الذي أشرنا إليه؛ إذ يقول:
«الشيء كما فُطر حتى يأذن خالقه بالتغيير.» فيجعل للثبات غاية هي الإذن الإلهي بالتغيير.
ومثل ذلك قوله في احتياط:٧ «أنَّ رضوى لا يخاف أبدًا من ضوى — صغر — الجسم حتى يأذن رب الجبال»، فبقاء جبل رضوى على حاله مرهون بإذن رب الجبال! وبذلك ومثله تحس اهتزاز يقين صاحبنا بتلك السنن، وسببية الأسباب، فإذا ما مضيت تقرؤه وجدته ينفي السببية في قوة، حين يقول:وقد يأمر الله الكهامَ إذا نبافيفري وقد ينهَى الحسام فيَكهمُ٢: ٢٢١ويقول:لو ينطق السيف نادى ليس لي عملإذا قضى مالك الأفلاك أنضانيمتى أراد فصفحايَ اللذان همابحرا الردى من حياض الموت حوضانوإن كهمتُ فأمر الله أكهمنيوإن مضيتُ فأمر الله أمضاني٢: ٣١٦فقوله هذا في نداء السيف: ليس لي عمل، وأن كهامه يفري بأمر الله، وأنه إن مضى فبأمر الله، وإن كهم فبأمر الله؛ كافٍ في أنه ينفي بذلك الأسباب نفيًا لا هوادة فيه، وأنه لا يرى لهذا الكون نواميس طبيعية، وإنما هي القدرة الإلهية والأمر الإلهي. وأبو العلاء بسيفه هذا أمضى في قول الدينيين وأبلغ؛ فالري ليس من الشرب، ولا الشبع من الأكل، ولا الموت من جزِّ الرقبة، ولا قطع بضرب الحسام؛ لأنه قد ينهاه الله فيكهم. وقد بعد الرجل عن ميدان الفلسفة بهذا التقرير بُعدًا تامًا، ومضى يمعن في بُعده هذا، حتى لتحس إذا تابعت قراءته أن هذا الذي فلسفوه حقًّا يسلط القدرة الإلهية والمشيئة الربانية على الكون وشئونه، ويعرض من ذلك لما يلتحق بالمعجزات طورًا وبالكرامات تارة، ويأمل تحقق ذلك من غير طرائقه ومعتاد أمره، تارة لنفسه التي يبدو حبها للحياة والقوة في مثل ما قرأت أول هذا البحث، وحينًا يأمل هذه الخوارق لغيره، أو يمجد الله لقدرته المطلقة ومشيئته النافذة في إمكان تحقيقها قائلًا: لو شاء ربنا وهو القادر لا يُعجزه شيء.
ثم هو فيما يورده من ذلك تجري على لسانه عباراتٌ واصطلاحات تتصل بمقررات لأصحاب علم الكلام الإسلامي، أو أصحاب الفلسفة العامة، فتكون حينًا وفق ما قرروها، وحينًا غير ما عُرف عنهم؛ ولهذا كله سببٌ قوي من عوالم الشيخ النفسية — أو مما يكشفه الدرس غير ذلك — وفي كل حال لا يحسن أن نعرض لصنيعه في حديث القدرة والمشيئة قبل أن نذكِّر القارئ بالمهم من هذه الاصطلاحات ليقضيَ برأيه في صنيع أبي العلاء عن بيِّنة، ويرى رأيه في مكانه بين الفلسفة والدين على أساس صحيح.
•••
فأصحاب الكلام يذكرون المستحيل ويريدون به ما لا يمكن وجوده بل يستحيل وجوده في الخارج؛ لأنه إذا تصورت ذاته مجردة من كل اعتبار لم تكن إلا مستحيلة الوجود بحكم العقل القاطع لا بحكم العادة؛ فالذهن لا يستطيع أن يتصور له ماهية كائنة، والعدم من لوازم ماهيته. وذلك هو المستحيل العقلي كاجتماع النقيضين الوجود والعدم، فإن الذهن لا يستطيع أن يتصور كون الشيء موجودًا وغير موجود في آنٍ واحد، وكخلو الجرم عن الحركة والسكون معًا؛ فإن العقل يجزم في مثل هذين بعدم تحقُّق أحدهما لذاته؛ إذ لا يمكنه تصوره.
وإذا كان هذا هو المستحيل العقلي الذي انتفى فيه الوجود، واستحال التحقق بحكم العقل القاطع فهناك مستحيل سموه: المستحيل العادي، تحكم بعدم وجوده في الخارج العادة والإلف، وما عهده الناس من شئون الكون، لكن العقل يتصوره ويجده ممكنًا، وله بهذا وجود ذهني، لا خارجي، ثم قد يكون له هذا الوجود الخارجي في حال خاصة من تقدُّم علم الناس بقوانين الكون ومعرفتهم قانونًا جديدًا مما يسير عليه الوجود، كما قد يوجد في الخارج بمعجزة كان يمكن أن تجريَ في عصر المعجزات على يد أحد المرسلين،٨ ومثال ذلك المستحيل العادي الذي لا يمكن عادةً وجوده وإن أمكن عقلًا وجوده: مشي الإنسان على الماء، أو طيرانه في الهواء وصعوده السماء، وما إلى ذلك مما تحقَّق بالمعجزة فيما مضى، ويتحقَّق اليوم بالأجهزة أو بتقدُّم معرفة الناس بالنواميس، فهو قبل هذا لا يقبل الوجود عادة، وفيما عهد الناس من الوجود وعرفوا من قوانينه، ثم يصبح ممكنًا واقعًا كالطيران وسماع مَن في أقصى الأرض، وما إلى ذلك مما علم الناس بعد تقدمهم أنه من سنن الكون ونظم الوجود. فالمستحيل الأول العقلي هو مخالفة النواميس الفطرية النظرية، أي الخاصة بما لا يتوقف على المادة في تصوره كالمنطقيات والرياضيات، والمستحيل الثاني — أي العادي — هو مخالفة النواميس الطبيعية الواقعية العملية، أي الخاصة بما يتوقف تصوره على المادة كالطبيعيات وما إليها، ويزيد هذا بيانًا أن أذكِّرك بتقسيم القدماء للعلوم: إلى ما يتوقف على المادة في تصوره ووجوده، وهو العلم الطبيعي، وما لا يتوقف على المادة في تصوره وإن احتاج إليها في وجوده، وهو العلم الرياضي، وما لا يتوقف على المادة لا في تصوره ولا في وجوده، وهو العلم الإلهي. وقد كان هذا التقسيم مما نظن أبا العلاء قد قرأه أو حفظه فيما ألمَّ به من التحصيل الفلسفي. كما نرجِّح أنه عرف من قول الكلاميين هذين المستحيلين: العقلي والعادي. وسنرى تناوله الفني لهذه المعاني، وأين يقع من الصواب فيها؟وإذا أشرنا مضطرين إلى هذه المقررات الفلسفية والكلامية لإكثار صاحبنا من التعرُّض لها تعرضًا يحتاج إلى الرأي، فإننا نستطيع أن نُلمَّ بعد ذلك بقدرٍ من أقواله في هذا الشأن، ولعل أكثرها مما أشار إليه في تسبيحه الله وتمجيده بما كُتب في الفصول والغايات؛ إذ للعالم النفسي المسيطر عليه ديني واضح.
وقد أشرت إلى أن أبا العلاء يذكر تمكُّن هذه القدرة من تحقيق أشياء تمنَّاها لنفسه وفيها الأدلة على خوالجه؛ كألا يستبعد على مشيئة الله أن تجعله في حالٍ خير من حاله، فيقول:٩ «… الملك لك، غالب الغالبين، لو شئت لجعلتني راعي فِرْق١٠ أرقب ثرَّته١١ والعزوز١٢ وأميز الشطور١٣ والثلوث١٤ أو صاحب هجمة١٥ أتلكد١٦ بها أنوف١٧ الكلأ، همتي في المنغرة١٨ والمخزاب١٩ …» ويبدو في الصيغة روحُ التمني، لا تقرير أن ذلك في متناول قدرة الله فحسب. ومثل ذلك قوله:٢٠ «الحوج على ذات عوج، وهي على سواي سهلة كالأنفاس، ولو شاء الخالق جعلني مثل الناس …» وما ابتغاه من الثروة والقوة والاضطلاع بأعمال الأقوياء الأصحاء مهما يكن قريب التحقق أو بعيده، فإنه أمنية مَن يطمع في تغير واقع الكون، حتى يبصر ويفعل ويفعل … على أن الرجل يبعد في ذلك ويكثر، فيقرر اقتدار الله على تحقيق أشياء لعلها لو تحققت لناله منها أيضًا خيرٌ كثير؛ كقوله:٢١«يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجرى دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الرائحة بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النير وسنير٢٢ حتى يريَا كفرسَي رهان، وينزل الوعل الزعل٢٣ من النِّيق٢٤ ومجاوره السَّوذنيق٢٥ حتى يشدَّ فيه الغرض، وتكرب عليه الأرض، وذلك من القدرة يسير، سبحانك ملك الملوك وعظيم العظماء …» وتسمع في هذه القطعة الأخيرة مع تغيير القوى ونظام التكوين الإنساني، تقريب البعيد من الأرض، ومجاورة القاصي للداني، وقد أكثر الشيخ من هذا، مقرِّرًا قدرة الله على تغيير ما جرى عليه الأمر من شأن السماء والأرض والكواكب وغيرها ينقلها من أماكنها، أو يجريها في غير ما أجريت فيه ونحو هذا مما تقرؤه في مثل صفحات: ٢٦٤، ٣٦٤، وسواها من الفصول والغايات، كما أورد من ذلك ما هو من صنف ما عرف من معجزات للرسل؛ كقوله:٢٦ «إن الله إذا أذن، روى الشعب من القعب.»وأماني الشيخ لنفسه أو لغيره، وإخضاعه مختلف الكائنات لتغيير القدرة، وتوجيه المشيئة الإلهية مما يخالف ثبات السنن، ويدفع في استقرارها، ويهوِّن من سببية الأسباب، ويؤخرها عن مسبباتها، فهو من مخالفة القانون الطبيعي العملي المعروف لعهده، ثم منه ما قد كشفت بعد قوانين طبيعية أخرى صيرته واقعًا مألوفًا لا يلتحق بالمستحيل العادي، كما كان في مألوف الشيخ وعصره، حين قال:٢٧إن شاء الملك قرب النازح وطواه حتى يطوف الرجل في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر، طوفه بالكعبة حول قاف، ثم يئوب إلى فراشه، والليلة ما همت بالأسحار، ويسلم بمكة فيسمعه أخوه بالشام ويأخذ الجمرة من تهامة فيوقد بها ناره في يبرين وقاصية الرمال ويجأز٢٨ بأكيلته في قصور فرغان، فيعتصر٢٩ بماء المضنونة أو جراب.٣٠وأكثر هذا الذي ذكره من الانتقال السريع، أو الاستماع من النائي، أو الإيقاد من بعيد؛ قد تحقَّق اليوم عملًا، بعدما كان الشيخ يعدُّه من العجائب التي لا تنالها إلا قدرة الله. ودعك من أن يكون أبو العلاء بهذه المقالة قد استشرف لما كدَّت في سبيله الإنسانية فبلغته بعد أجيال طويلة حين كشفت نواميس فطرية مكَّنتها من هذا الانتقال الطائر، أو الاستماع العجيب، أو الإيقاد النائي، دعك من اعتداد قول هذا شيئًا لأبي العلاء؛ فإن ذلك من التعلات الطفلة التي لا تليق بالشيخ، ولا يحتسبها لنفسه لو بُعث اليوم فرآها.
•••
والآن وقد شرحنا إلى حدٍّ ما مسألة ما بين الدين والفلسفة في الأسباب والنواميس، وقد أشرنا إلى ما تناول أصحاب الكلام والحكمة من اصطلاحات حول القوانين الطبيعية النظرية والعملية ومخالفتها، وسمعنا مقالات صاحبنا فيما يتصل بالأسباب والنواميس، وقدرة الله على تغيير قوانين الوجود العملية الآن أدركنا ما يأتي:- (أ) أن أبا العلاء لم يسلم في هذه المسألة وما اتصل بها من تناقضه المعروف.
- (ب) أن أبا العلاء وإن ألمَّ بثبات النواميس وسببية الأسباب لم يلبث أن أخلَّ بالمنهج الفلسفي إخلالًا واضحًا، وجافى الروح الفلسفية مجافاةً بينة، وأخلد إلى منهج ملي ينكره أصحاب الفلسفة قديمًا، وينكره متجدِّدو الدينيين اليوم؛ لأنه يرفع الثقة بالمنطق والعقل، ويوسِّع الشُّقَّة الخلافية بين العلم والدين، على حين يبدو نفور القرآن منه واطمئنانه إلى تحرير العقل، وتقرير النواميس بقوة. وتلك هي النتيجة التي قصدنا إليها في هذا الفصل، وتكلَّفنا شرح ما شرحناه من مقررات دينية أو فلسفية؛ لأن الدوائر الجامعية٣١ في تفهمها لأبي العلاء قد تعلَّقت بمسألة العقل والقدرة المعجزة، وأدارت حولها كثيرًا من القول. وما زلت من أجل هذا أوثر العناية بما بقي من جوانب المسألة، فأتناول بالقول ما ذكره أبو العلاء من أمر المستحيلات، ومن أي الأنواع هي؟ أعقلية أم عادية؟ فلهذا الاهتمام أتابع القول فيها ثم لما وراء ذلك من فهم الشخصية العقلية لأبي العلاء فهمًا يجلي وجه الرأي الذي نطمئن إليه في أمر صاحبنا.
أي المستحيلات؟
لم يذكر أبو العلاء هذه الأماني وهاتيك المقدورات التي تنالها القوة الإلهية، وتستطيع أن تتجه إليها المشيئة الربانية ذكرًا مجردًا عن الوصف، بل نعتها أحيانًا بما تقف عنده لنرى صحته أو فساده، ثم لنرى دلالته على حظ صاحبنا من الثقافة العقلية والمقررات الفلسفية.
وكذلك يعطينا حديثُ أبي العلاء عن القدرة والمشيئة الإلهيتَين الفكرةَ عن إخلاله بالمنهج الفلسفي، ثم يقدِّم لنا الشاهد على ضعف ثقافته الكلامية الإسلامية التي تتصل بالتفلسف اتصالًا وثيقًا. ويرحم الله الشيخ؛ فقد كان وجدانيًّا أكثر مما كان شيئًا آخر.
وإذ ألممنا بما خاضت فيه الدوائر الجامعية من حديث القدرة الإلهية والعقل الإنساني، وحرَّرنا معاني ما ساقه أبو العلاء من قول فيه، فمن الوفاء بالموضوع أن نسوق كلمة مجملة عن:
مسألة المعرفة والقدرة الإلهية
فنجيب عن السؤال التالي وهو: هل حديث أبي العلاء عن العقل والقدرة حديث يمسُّ مسألة المعرفة، ويتصل برأيه في عجز العقل، أو اقتداره حتى يعلل به اضطرابه في مسألة المعرفة؟ وإنك لتجد من تفصيل ما مضى وجملته، أن صاحبنا فيما قاله من هذا واعظٌ مستهو، يمجد ويقدِّس، وقد غمره عالم روحي ديني مسيطر، كما تجد أنه فيما أورده من قول عن العقل والقدرة، لا يذكر من أمانيه لنفسه أو للناس، ولا من مظاهر تصرف القدرة شيئًا عقليًّا من مشكلات الحياة الإنسانية أو الكون، بل يذكر من ذلك أشياء حسية مادية هي كما قلنا من القوانين الطبيعية العملية، ومما يتوقف تصوره ووجوده معًا على المادة. وليس هذا في شيء من الصعوبة، ولا هو من عقد الإلهيات أو الرياضيات وما إليها. ألم تر أنه فيما قرأت من أمثلة يتحدَّث عن الأرض والبقاع، أو عن السماء والأفلاك والكواكب، أو عن النبات والحيوان ومظاهر حياتهما، أو الحواس الإنسانية وأطوار الوجود! وأنه حين صرَّح بما يمتنع في العقول، وما لا تحتمله الألباب إنما مثَّل بالعود البالي وخضرته. ومن هنا نستطيع القول في طمأنينة مجيبين عن السؤال السابق صدر هذا الكلام:
- ثالثًا: أنه حينما جادل نثرًا وفي السعة لم يفرق بين مواضع الدليل العقلي، ومواضع الدليل الشرعي، وقد لفته إلى هذا الإخلال داعي الدعاة٣٩ وكأن الشأن في المتفلسف أن يعكس فيلتزم الدليل العقلي دائمًا حتى فيما يكفي فيه الدليل الشرعي، لا أن يستدل لمعقوله بالشرعيات ويخطئ مكان سوق الدليل!
- رابعًا: إن أبا العلاء قد رأيناه فيما مضى يترك الوفاء بالاستدلال لأفكاره كما هو شأن المتفلسفين، ثم ها نحن أولًا نراه إذا ما استدل في القليل من الأحيان وهو يتحدث ناثرًا، فإنه يخلُّ بالمنهج الفلسفي إخلالًا واضحًا؛ إذ يدَّعي إدراك الحيوان مثلًا فيحتج بقول شعراء العرب بذلك، وأن مدافعة النحل لمن يشتار العسل مظهر هذا الإدراك. وما هي إلا معانٍ شعرية، وخواطر وجدانية، وملاحظ فنية، لا ينتظمها تحرٍّ ولا ينقحها تدقيق، ولن يحتجَّ بمثلها على ما يزعم صاحبنا أنه أنباء العقول الصحائح. مع أن هذه النحل تلسع الصبي الوادع الجميل في الروض، وهو غير مشتار ولا مبتغي عسل، ثم قدر مع هذا أن أبا العلاء حين يورد مثل هذه الحجج، ويعدها أنباء العقول الصحائح، كان قد عاش بضعًا وثمانين حجة، فتمَّ نضجه وكمل عقله، ولم يعُد يفوت مثل هذا على مثله لو كان متفلسفًا!
- خامسًا: أنه فيما يعترض به على الإلهيات أو التشريعات في
الإسلام والأديان الأخرى يتعلق بظواهر قريبة أو
لمحات عاطفية صِرفة حتى سهل على أشباه العلماء من
مدوِّني أخباره أن يردوا على اعتراضاته هذه بسهولة وقسوة؛٤٠ لأنه ينسى فيها أقرب الاعتبارات
الاجتماعية أو العلمية التي لا يصح أن تخفى على
مفكر عادي، بله متفلسف حكيم!
والحديث عن إخلال صاحبنا بالمنهج الفلسفي يذكِّرنا بما لمحناه قريبًا من قلة حظه في الثقافة الكلامية، (انظر ص١٢٠)، ثم ما نلمحه كذلك من الشواهد في أمور كلامية وفقهية قد تناولها، فهو في الكلاميات، مثلًا يتحدث عن مريد الشر ويجعله فاعلًا له، ولا يلتفت لما اشتهر من ذلك في البيئة الكلامية، وكثر قول القوم فيه من التفريق بين إرادة الشيء والأمر به.
وهو في الفقه يعدُّ نفسه مجتهدًا، ويرفض التقليد في كثير من أقواله؛ كقوله:وينفر عقلي مغضبًا إن تركتهسدًى واتبعت الشافعي ومالكًا٢: ١٣٢ولكنه في نثره يعرض لقياس صيد الحلِّ على صيد الحرم وغير ذلك من الفقه؛ كقياسه ترك المباح من اللحم على صلاة ما زاد عن المفروضة … إلخ، فيخلُّ بالمبادئ من أصول مثل هذا البحث الفقهي، ويدل على عدم تضلُّع من الثقافة العقلية بعامة، وليس هنا موضع القول المستوفى في هذه المسائل الكلامية والفقهية، وإنما يكفينا هذا الإلمام لنقول: إنه ليس من الحق المبالغة في تقدير قوة التعقُّل المنطقي لأبي العلاء، كما أنه ليس من الصواب عدُّه متفلسفًا.
ليكن أبو العلاء رجلًا ملمًّا بالأبحاث الفلسفية والمذاهب، وليكن قد ضمَّن شعره هذه المذاهب والأبحاث أو شيئًا منها، أو ليكن أبو العلاء حكيمًا كأولئك الحكماء الذين عرفهم العرب في الجاهلية، ورأوا في أشعارهم ثمارَ تجارب، وخلاصة فكر، وجمل حقائق عملية. ليكن أبو العلاء شيئًا من ذلك أو ما يشبهه. أما أن يكون فيلسوفًا يتخذ البحث والتفكير العقلي عملًا له، ويعتمد في ذلك على مقدرة منطقية عقلية فما أظن وما أظن …! فليس على المنطق العقلي تُعرَض أقواله، ويُحكم بتناقضها، ويُلتمس لها التعليل.
إنما أبو العلاء رجل وجداني، أديب متفنن، أو هو واعظ وخطيب أحيانًا كما سترى. وكل أولئك مما يراض بمنطق الوجدان والعاطفة، لا بغيره من منطق العقل والفكر، فلنسأل على ضوء هذا التقدير.