لماذا تناقض أبو العلاء؟

١

لماذا تناقض الأديب المتفنِّن في نثره وشعره هذا التناقض الشامل، الذي عمَّ الدين والدنيا، والأدب، والعلم، والفلسفة حينما يعرض لشيء منها؟ إن للقدماء — عند نظرهم في الدينيات واضطراب الرجل فيها — تعليلًا أدبيَّ الأصل والمرجع، هو ما ساقه الذهبي عن ابن سلفة؛ إذ يقول: من عجيب رأي أبي العلاء، تركه تناول كل مأكول لا تنبته الأرض شفقة بزعمه على الحيوانات، حتى نُسب إلى التبرهم، وأنه يرى رأي البراهمة في إثبات الصانع وإنكار الرسل، وتحريم الحيوانات وإيذائها، حتى الحيات والعقارب؛ ففي شعره ما يدل على غير هذا المذهب، وإن كان لا يستقر به قرار، ولا يبقى على قانون واحد، بل يجري مع القافية إذا حصلت كما تجيء لا كما يجب.١

تعليل باندفاع الشاعر ومتابعة القافية دون تحرُّج، وقد يكون لهذه المتابعة بعضُ التأثير، وبخاصة إذا ضُمَّ إليها ميل أبي العلاء للصنعة اللفظية، وإدارة المعنى على التحسين اللفظي وصنعة البديع الشكلية.

ولكن مثل هذا التعليل لا يكفي ولا يقنع، بل هو أهون من أن يوقف عنده؛ ذلك لأن الرجل يتناقض في النثر كما يتناقض في الشعر، يناقض بعض نثره بعضًا كما يناقض بعض شعره بعضًا، وكما يناقض نثره شعره، وليس هذا النثر بالقليل، بل هو فيما وصل إلينا يضاهي شعره. فهل يعلَّل هذا كله بالخضوع للقافية، أو الجريان معها إذا حصلت كما تجيء؟! أحسب أن هذا تعليل لا يصلح حتى في متقابلات شعره وحدها؛ لأن صاحبنا ليس بالذي تغلبه القافية أو تضيق به، وهو الذي التزم ما لا يلزم، ونظَم الآلاف من الأبيات، لم يتجلَّ فيها ضيق النفس، ولا قلق القافية … ثم هو في كل حال تعليل سطحي ممن يدرس رجلًا كشاعرنا أقحم نفسه والفن في كل شيء، ثم هو في الوقت نفسه تعليل لا يستقيم في متقابلات النثر، وقد رأيتها فيما سقنا من الشواهد الوافرة المستوفاة تساوق متقابلات الشعر، وتجيء معها في كل موضوع، فلا يمكن الوقوف عند هذا التعليل، بله الاكتفاء به في درس متفنِّن كبير كأبي العلاء، وإنه لتعليل يكشف عن سطحية الدراسة الأدبية، وذهابها مع الظواهر المتبادرة القاصرة ذهابًا لن يتيسر لنا معه تفهُّم شيء من هذا الأدب تفهُّمًا جديرًا بأهميته الفنية وقيمته الحيوية، وهو — كما قلت وأقول دائمًا — فهم الأدب والأديب في الألفاظ والظواهر الخارجة التافهة الخادعة، لا في الكيان النفسي والوجود الفني.

٢

على أنَّا نجاوز هذا التعليل الذي يبدو أن القدماء أرادوا به أن يخففوا التبعة في الناحية الدينية، أو أن يقولوا فيها شيئًا ما، يُسكت الناقدين أو يهوِّن وقْع ما أُثِر عن أبي العلاء في هذا الجانب الديني الذي تتأثر به النفوس في ذلك العصر تأثرًا قويًّا، وتنتبه إليه أكثر مما تنتبه إلى غيره، فتُعنى به، وتلتمس فيه المعاذير. وفي هذه السبيل يفصلون الجانب الاعتقادي من حياة الإنسان عن سائر حياته النفسية، أو قل: إنهم يفضِّلونه ويهتمون به أكثر من جوانب النفس الأخرى، على حين لا نرى نحن من الصواب في شيء ما، الفصل بين حياة الإنسان الاعتقادية والفنية — أو الوجدانية بعامة — وحياته العقلية الفكرية؛ لأنها كلها من الناحية النفسية متصلة متفاعلة.

تجاوز هذا التعليل إلى تعليلات أخرى لم يذكرها القدماء في المعري بخاصة، بل ألمُّوا بها في أحاديثهم الأدبية، فأشاروا إلى ظواهر من التقابل والتخالف، أو من عدم الصدق والتحري في أقوال الأدباء، لنرى في تعليلهم لها ما قد يصلح وجهًا لتفسير تقابل آراء صاحبنا. ولا عجب في أن تلتمس مثل هذا من قول القدماء في صنيع الأدباء؛ لأن أبا العلاء — كما بدا مما قدمنا — ليس بالفيلسوف الذي تفسر حياته وأقواله تفسيرًا عمليًّا عقليَّ المنطق، بل هو — فيما قدَّرنا — أديب متفنن ينبغي أن تفسر ظواهر حياته بمنطق العاطفة، ووحي الشعور أولًا، ثم هو في كل حال قد خلَّف تراثًا أدبيًّا واسعًا عظيمًا، وفيه وجدنا هذه المقابلات، فحتى مَن عدَّه فيلسوفًا لا مندوحة له عن تقدير هذه الظاهرة الأدبية فيه، وهي في كل حال مما يسوغ لنا التماس أقوال الأدباء في التناقض أو التقابل لنعرض عليها حال صاحبنا، فلعلها تفسر ما بدا لنا من أمره في تقرير الشيء وما يقابله، فنسوق هنا هذه الأسباب، وننظر في كفايتها وإقناعها لمن رام فهم أبي العلاء، فمنها:
  • (١)
    تتبع الأدباء للمعاني الأدبية كلما كان مجال القول فيها ذا سعة، ولو لم يكن ما يقولونه فيها حقًّا عندهم، أو رأيًا لهم يلتزمونه، أو يدينون به، والجاحظ وهو إمام في الصناعة الأدبية يلحظ هذه الظاهرة من حال الأدباء، ويصفها حين يتحدث في رسالة «المعلمين» عن قول الأدباء فيما يدركهم من حرفة الأدب، وشؤمه على أهله حتى يأتوا من ذلك بما ليس صحيحًا ولا واقعًا، ويقول الجاحظ في تعليل عملهم: «إن قولهم هذا ليس صحيحًا دائمًا، وليس الذي يحمل أكثر الناس على هذا القول إلا وجدان المعاني والألفاظ، فإنهم يكرهون أن يُضيعوا بابًا من إظهار الظرف وفضل الشأن وهم عليه قادرون.»٢هكذا يقول الجاحظ بيانًا لهذه الحال من صنيع الأدباء، وهو يبدو قريبًا مما ساقه الذهبي، وأوردناه آنفًا من جريان أبي العلاء مع القافية كما تجيء؛ لأنه جريان مع المعنى كما يجيء ما داموا قادرين على القول فيه.
    وما نحيل أن أبا العلاء قد يتأثَّر بشيء من ذلك أو يقع فيه حين يُعنى العناية الجادة بالألفاظ ونواحي تطابقها وتجانسها، وما إلى ذلك من حسن لفظي وتزويق كلامي، فهو بلا مراء لغوي غني، يجد من مادته اللغوية وفرًا من اللفظ، ويدير المعاني كثيرًا على ما تستجيب له الألفاظ، وتسعف عليه، وليس يبعد أن يكون المعنى غير حقيقي ولا واقعي، ولا هو في مكان الرأي عنده ومنزلة المذهب أو الفكرة التي تنفعل بها النفس انفعال التأثر أو الاقتناع، ولا نقول هذا من الأمر استنتاجًا فحسب، بل إنه هو نفسه قد تنبَّه إليه، وألمَّ في «الغفران» بشيء يتصل بما وصفه الجاحظ من صنيع الأدباء في قولهم ما لا حقيقة له، وسماه أبو العلاء: تحسين الكلام على مذهب الشعراء بما لم يفعل حقًّا،٣ وعلى أساس هذا ينكر في الغفران تشيع ابن الرومي الذي يدعونه له، ويستشهدون عليه بشعره، حتى يقول ما نصه:
    «ما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء.»٤ بل هو يقرِّر في موضع آخر من هذه الرسالة نفسها فكرة عامة عن عدم دلالة منطق اللسان على اعتقاد الإنسان، ويقول: «… إذا رجع إلى الحق فنُطْق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان.»٥

    فليس بعيدًا أن يكون أبو العلاء قد تأثَّر بهذا بعض التأثر، فقال ما ليس صحيحًا في نفسه، ولا واقعًا في ذاته، أو قال ما لا يراه ولا يعتقده، ثم خالفه بقول ما هو واقع صحيح، أو ما هو رأي معتقد، فخالف لاحقه سابقه، وكلاهما ليس رأيًا ولا اعتقادًا ما دام فيه المجال لتحسين الكلام كما يقول هو، أو ما دام بابًا توجد معانيه وألفاظه وهو عليه قادر كما يقول الجاحظ!

    ليس ذلك كله بعيدًا عن أن يقع، أو لعله قد وقع فعلًا في آثار أبي العلاء، ولكن هل يكفي وجهًا لتعليل الظاهرة التي شهدناها واضحة من تقابل آرائه؟ هذا ما لا يسهل القول به فيما نرى، وليس من الصواب الوقوف عنده ونسيان أو تناسي اعتبارات واضحة في أقوال صاحبنا تفترق بها عن أقوال الأدباء الآخرين، منها:

    أن هؤلاء الأدباء إنما يذهبون مع القول حين يتسع مجاله، ويجدون ألفاظه ومعانيه في أشياء يفيدون منها فوائد مادية، وتجدي عليهم مغانم حيوية؛ كشكوى حرفة الأدب وشؤمه؛ لتدرَّ عليهم العطايا، وصاحبنا لم تتقابل آراؤه في مثل هذه السبيل، ولا هو قد حرص على شيء منه، أو جعل فنه وسيلة إليه، وما إكبارنا له اليوم إلا لأشياء من خيرها هذا المعنى.

    ومنها: أن هؤلاء الأدباء جميعًا أو كثرتهم الغالبة لم يتناولوا في أدبهم ما تناول أبو العلاء من شئون الكون والحياة الإنسانية يتأملها، ويسجل خواطره فيها، بل تناولوا عبر هذا كلِّه من المدح والرثاء والهجاء، وما إلى ذلك من استخدام عملي للفن، فهم فيما يلمُّون به من هذه الفنون منصرفو النفوس عن الانفعال أو الاعتقاد لما يقولون أو اعتباره رأيًا، أو مذهبًا، أو شيئًا يُشبه هذا من قريب أو بعيد. على حين لم يتناول أبو العلاء — غالبًا — إلا أمورًا بعيدة أكبر البُعد عن هذه الأجواء، والنفس بفطرتها منفعلة بها، مهتمة بتعرُّفها، متطلِّعة بغريزتها إلى تبيُّنها، ومثل هذا مما لا يكون الذهاب فيه مع المعاني الموجودة والألفاظ الميسرة إلا ذهابًا قليل الأثر إن وُجد، يسير الخطر إن تحقق.

    ومنها: أن هؤلاء الأدباء أيضًا لم يذهبوا مع الألفاظ الموجودة والمعاني الميسورة في الحديث عن مقررات هي عقائد مقدسة أو مسلَّمات سماوية قد قُتل الناس بإنكارها، بل بالاقتراب، أو محاولة لقرب منها بما يمكن أن يئول على أنه مساس بها، وصاحبنا إنما مسَّ تلك المقدَّسات، وعرض لتلك المقرَّرات، وتقابلت فيها أقواله، وجهرت بالمخالفة فيها آثاره، فلن يكون جريانه فيها مع القول الميسور والمعنى الموجود، إنما هو الاندفاع القوي عن تأثُّر نفسي، ينسيه التحوُّط، ويضيع عليه الحذر، ويصرفه عن المداورة …!

    فكذلك ليس من الحق أن نعلِّل أو نفسِّر تقابل آراء أبي العلاء بمثل هذه العادات الأدبية التي يتسمَّح بها الأدباء في أشياء غير ما وجَّه صاحبنا إليه فنه من مشكلات ومعتقدات لها حرمتها ولها أهميتها.

    •••

    ومن الأسباب العامة التي ألمَّ بها الأقدمون، واصفين أو مفسرين تقابل أقوال الأدباء:

  • (٢)

    ما ساد في بعض العصور بتأثير عوامل دينية أو اجتماعية مختلفة جعلت المتأدبين يحرصون على كسب المقدرة الكلامية، واللباقة الاستهوائية بحيث يحتج الأديب للشيء وضده، ويحسِّن الشيء حينًا ويقبحه حينًا، فتكون له الأقوال المتقابلة بل المتنافرة، ومن هذا ما جاءنا من قولهم في المحاسن والأضداد، أو المحاسن والمساوئ؛ كالكتاب المنسوب إلى الجاحظ بالعنوان الأول، وكتاب البيهقي (ق٥ﻫ) بالعنوان الثاني، وكلاهما مطبوع متداول.

    وهي ظاهرة أدبية عرضت لها في بحثي «منهج تفكير الجاحظ»٦ فبيَّنت لِم كان الأدباء لا يعدون مثل هذا كذبًا؟ وكيف أثَّر هذا على نظرهم في تعريف الصدق والكذب الذي تعرضت له الكتب البلاغية تأثرًا بهذه الصناعة الأدبية، ومروجاتها المختلفة إذ ذاك، كما يبيِّنه البحث في تاريخ البلاغة العربية.

    وإذا ما أشرنا هنا إلى هذه المقدرة الأدبية على الاستهواء واللباقة الخطابية في التأثير، شعرنا — ونحن نتفهَّم أبا العلاء — بضرورة الوقوف لحظة، والتمهُّل حينًا، لنحدق في جانب من شخصية صاحبنا هو:

شخصية أبي العلاء الواعظ

إذ تبدو للناظر في آثاره التي جاءتنا، أو التي سيق إلينا خبرها ووصفها — وإن لم نرها — شخصية خطابية قد عنيت بالخطابة الدينية الواعظة المستهوية، بل كادت عنايتها بهذه الناحية من الخطابة الدينية، تستأثر بالثمار الأدبية كلها لفن أبي العلاء، وليس عجيبًا أن نتحدث عن شخصية الواعظ في رجل قد اتُّهم في دينه، وجرت كلمات الأجيال المختلفة فيه بلون ما من هذا الاتهام، وشُغل الناس من نفسه بتلك الناحية دون غيرها، أو أكثر من غيرها، ليس عجيبًا أن نتحدث عن شخصية الواعظ في رجل هذا شأنه؛ لأن مادة هذا الحديث وعناصر تلك الحقيقة في أيدينا مهما يهمل القدماء أو المحدثون التعرض لها. فهذا أبو العلاء يقول عن نفسه في التأليف: اجتهدت على أن أتوفر على تسبيح الله وتمجيده إلى أن اضطر إلى غير ذلك فأمليت أشياء.٧فكان التأليف المحبب له أو الذي اختار أن يقف قلمه عليه، هو التسبيح والتمجيد لله، وهو ما دعوناه وعظًا أو خطابة دينية لا لهذا القول فحسب، بل لأن حريدة كتبه كما ساقها المؤرخون ووصفوها تفسِّر ما يعنيه بالتسبيح والتمجيد؛ فكتاب الفصول والغايات، وهو — كما وصفوا — سبعة أجزاء في مائة (١٠٠) كراسة إنما هو في المواعظ. وفي القدر الذي نُشر منه مثَل صادق لهذا الوعظ الاستهوائي الذي أشرنا آنفًا إلى أن أبا العلاء يفقد فيه سمة الباحث والمفكر، ويلبس رداء الوعاظ، فيصدر عنه ما سمعنا من حديث عن قدرة الله، ذلك الحديث الذي ينفي فيه الأسباب، ويجيز للقدرة تناول المستحيلات، ويضطرب تقديره للمستحيلات العقلية والعملية على ما أشرنا إليه في موضعه، (انظر ص١١٤ وما بعدها)، وكتابه الذي يسمونه «الأيك والغصون»، ويذكرون أنه اثنان وتسعون جزءًا — وقد يزيدونه على ذلك — في ألف ومائتي كراسة (١٢٠٠) إنما هو في العظات وذم الدنيا، وكتاب «تضمين الآي» في أربعمائة (٤٠٠) كراسة، إنما السبب في تأليفه أن بعض الأمراء سأله أن يؤلف كتابًا برسمه، ولم يؤثر أن يؤلف في غير العظات والحث على تقوى الله فأملى هذا الكتاب. وكتابه سيف الخطبة إنما هو ديوان خطب منبرية يشتمل على خطب السنة، وفيه خطب للجُمَع والعيدين والخسوف والكسوف والاستسقاء … إلخ. وهو جزءان في أربعين (٤٠) كراسة، وكتابه «تاج الحرة» في عظات النساء خاصة نحو أربعمائة كراسة (٤٠٠)، كما ذكروا له في ذلك كتاب «رقعة الواعظ»، وكتاب «سجع الحمائم»، تكلم فيه على ألسن الحمائم في العظة، وهو أربعة أجزاء في ثلاثين كراسة (٣٠)، وكتابه «المواعظ الست» نحو خمس عشرة كراسة (١٥)، «وكتابه السجعات العشر» على كل حرف من المعجم عشر سجعات، كما أن له رسالة على لسان ملك الموت٨ ونحو ذلك من آثار خطابية وعظية الروح، وهي مع أقواله في التأليف مما يكفي للحكم بأن له شخصية واعظة قد عُنيت بالخطابة الدينية عناية لا يُقبل من الباحث إهمال دلالتها على خصائص في فن الرجل وأدبه حين ننظر — كما هو المنهج السديد — في هذا الفن وذلك الأدب على أنه وحدة متماسكة وكلٌّ متصل الجوانب.

•••

فأبو العلاء قد عُني بالخطابة الدينية هذه العناية الواضحة، وهي إنما تقوم على المقدرة الاستهوائية والبراعة الخلَّابة التي تستطيع تزيين الشيء والتحبيب فيه، وتقبيحه والتنفير منه، وهو ضرب من القول في المحاسن والأضداد، أو المحاسن والمساوئ الذي عرضنا لذكره كي نعرض عليه تقابل آراء أبي العلاء، ونلتمس فيه تعليلًا كافيًا لها، ومن أجله أشرنا تلك الإشارة العارضة إلى شخصية الواعظ في صاحبنا، وليس بعيدًا أن تكون معاناة هذا الأدب الخطابي بعد اتجاه نفس الرجل إليه، واجتهاده في قصر نفسه عليه ما لم يضطر إلى غيره اضطرارًا ليس بعيدًا أن يكون ذلك كله سببًا لشيء من القول المتقابل أو المتغاير الذي نجد في ثبت المؤلفات نفسه شاهدًا عليه إن نسينا ما سبق من شواهد هذا التقابل على كثرته، وما نجده من التقابل في ثبت المؤلفات هو ما ذكروه في جريدة تلك المؤلفات من أن أبا العلاء ألَّف كتابًا اسمه «شرف السيف» لرجل بدمشق كان يوجِّه إليه بالسلام، ويخفي المسألة عنه، فأراد جزاءه على ما فعل فألَّف له هذا الكتاب.

وهل تراه قال في شرف السيف ما هو من وادي تلك العظات المسبحات لله الممجدات له، الزاهدة في الدنيا المنفِّرة منها، المرغِّبة في الآخرة الداعية إليها على نحو ما نراه — على الأقل — في كتابه الفصول والغايات؟ لا بد أنه لم يقُل في شرف السيف إلا ما يختلف عن تلك النزعة الواعظة والروح المستضعفة، وكذلك نجد حتى في مؤلفاته شواهد هذا الاختلاف والتقابل الذي يشبه القول في حسن الشيء وقبحه على نحو ما عُرف من هذا الصنف في الكلام …!

ولعلنا لا نبعد أبدًا إذا ما قلنا: إنَّ هذه الروح الخطابية متصلة الأثر بالشعر العلائي في الموت وفناء الدنيا وكراهتها، والحط من شأنها، وتزهيد الناس فيها، ولوم الناس وذمهم، ذلك اللوم القاذف الساب، الذي ظللنا نسمع الكثير منه في الخطب المنبرية لعهد قريب، لما يتغير تمامًا في بعض جهات مصر بعد، ودارس أبي العلاء يجد ريح هذا في اللزوميات غير قليل، ويستطيع القول بأنه أثر لتلك الشخصية الواعظة فيه.

على أنَّا حين نصل بين النثر الواعظ والشعر الزاهد للرجل، ونربط بين الخطيب الواعظ فيه، والشاعر الناقد، ونقدر أثر الطابع الخطابي في ذلك كله، ونُدخله تحت باب القول في المحاسن والأضداد من صناعة الأدب، دون أن يكون ذلك كذبًا عندهم أو تصويرًا لاعتقادهم … إلخ، حين نفعل ذلك كله نسأل بعده: أتكفي هذه الاعتبارات لتعليل تقابل أقوال أبي العلاء ذلك التقابل الذي وصفناه؟

وقبل أن نجيب القارئ عن هذا السؤال — أو قبل أن يتجه هو للإجابة عنه — نضع أمامه معاني يجدر به تقديرها قبل هذه الإجابة، منها: أن هذا الباب من القول في المحاسن والأضداد لا يبعد كثيرًا عما قبله، بل هو من واديه في تحسين الكلام، وإظهار للمقدرة القولية في القائل، دون أن يعدَّ ذلك القول منه رأيًا أو عقيدة، بل دون أن يظن ذلك فيه. وأبو العلاء لم يؤلف كتبه النثرية أو الشعرية لمثل هذا الغرض من المرانة القولية أو لتقديم المادة الأدبية لطلابها على نحو ما فعل الجاحظ مثلًا في كتاب المحاسن والأضداد، أو فعل غيره بعده.

ومنها: أن أبا العلاء كان جادًّا فيما يعرض له من تحسين أو تقبيح، بل كان جِدُّه يبدو في ألم وسخط، أو تحرُّق وغيظ، أو تمنٍّ وتوسل، ينمُّ على أن صاحبنا لا يقول مثل هذه الأقوال بيانًا للمقدرة الأدبية والقوة البيانية فحسب، وإن كان يستعمل في ذلك ثروته اللغوية ومادته الأدبية من رواية وحفظ، بل إنه إنما يتخذ تلك المقدرة وسيلة للتقبيح أو التحسين عن شعور، أو بعبارة أدق إنما يتخذ ذخيرته اللغوية وثقافته الأدبية وسيلة للتعبير الدقيق عن خواطر نفسية، وتأملات فنية، وخلجات داخلية، كانت تزخر بها نفسُه، ويجيش بها صدره، دون أن يعرض لما يعلنه أولئك الأدباء من تناول الشيء وضده، تقنُّنًا أدبيًّا ومرانة قلمية لا غير.٩

ومنها: أن أصحاب هذه الصنعة في المحاسن والمساوئ إنما يعرضون لأشياء من مألوف الحياة وحطام الدنيا؛ كمحاسن الجواري وضد ذلك، ومحاسن الوصائف والمغنيات، ومحاسن الهدايا وضد ذلك، ومحاسن فلان وفلان … إلى مقابح ومفاسق أخرى من لذائذ الحياة، وضد ذلك، على نحو ما تراه في كتبهم، وأبو العلاء إنما يُعنى بغير ذلك من مشكلات الوجود والحياة، على ما أشرنا إليه في النوع السابق من تحسين الكلام.

فإذا ما كانت هذه الجرأة الأدبية في صنعة الخطابة قد أثَّرت في فن أبي العلاء، فإن هذه القدرة لا تكفي سببًا لتعليل تقابل أقواله فيما تقابلت فيه من دقيق جليل وهام عظيم، ليس مما يُعنى الأدباء به، ويكدُّون له في أدبهم وفنهم.

وإذا كانت النزعة النفسية للتسبيح والوعظ قد أثَّرت في شعر الزهد وذم الدنيا، ولوم الناس من اللزوميات، فإن غير ذلك من حركات النفس قد أثَّر في حب الدنيا، وتمجيد القوة، ونسيان الزهد في ذلك الشعر والنثر الذي رأينا شواهده آنفًا فيما سبق من الصورة غير المتعارفة لأبي العلاء.

ومن كل أولئك لا يسهل على الباحث أن يجد في تلك الأسباب التي أشار إليها الأدباء في تقابل الآراء ما يفسر صنيع أبي العلاء الذي جرى في غير مجراهم، وعرض لغير ما عرضوا له، بروح غير روحهم، وتناول مخالف لتناولهم، ولن يكفيَ بعض تلك الأسباب مفردًا، ولا تكفي تلك الأسباب كلها مجتمعة، تعليلًا لتلك الظاهرة التي شملت فنَّ الرجل، وسادت فيه سيادة واضحة، ووجب إذن على الدارس الدقيق أن يلتمس سببًا وراء ذلك كله، وهذا ما وجدنا أن أهدى السبيل إليه هو الاستعانة بالنفسيات، والوصل بين الأديب وأدبه، والابتداء بشخصيته وما عُرف من حالها في فهمه وتذوُّق فنه وتبيُّن ما غمض أو استبهم منه، وذلكم هو الدرس النفسي الذي طمعنا في أن نُقدِّم منه مثالًا في فهم أبي العلاء. على أنَّا — حفظًا لما بين المعاني من التداعي واستيفاءً للفكرة عن هذا التقابل في آراء الرجل — نسوق كلمة عن:

تناقض أبي العلاء عند المحدثين١٠

وتستطيع الاطمئنان إلى أنهم لم يولوا هذه المسألة عناية كافية، بل أهملوها وهوَّنوا من شأنها؛ لأنهم جميعًا — فيما أعرف — يفلسفون الرجل، ويعجبهم من تفلسفه هذا الاهتمام بالمظاهر العملية للإنسان في حياته الخاصة، ويقدرون أن ما يتصل بالدين من شعر أبي العلاء ليس شيئًا بالقياس إلى الفلسفة العلائية التي تناولت أطراف العلم الإنساني، وبحثت عن المظاهر العملية للإنسان في حياته الخاصة،١١ وبعد أن يفلسفوه ويحققوا فيه معنى الفيلسوف، وهو الباحث الملائم بين حياته وعمله — على ما ناقشناه سابقًا في ص — يبحثون عن الأصل النظري له، ويقررون فيه ما يقررون — مما ناقشناه أولًا في بحثنا عن مسألة المعرفة عنده، (ص٩٩ إلى ص١٠٣) — فينتهون إلى تقرير أنه: مهما يكن من شيء فإن لأبي العلاء آراءً ثابتة قد استقر عليها حياته كلها لم ينكرها ولم يشكَّ فيها،١٢ فهم بذلك كله يكبرون عنايته بالمظاهر العملية للإنسان في حياته بعد تقرير موافقة عمله في الحياة لبحثه الفلسفي، ويرون له بعد ذلك آراء ثابتة لعلها لا تكون عندهم أكثر ما تكون، وأثبت ما تكون إلا في المظاهر العملية للإنسان في حياته؛ إذ تقضي بها ضرورة مطابقة سلوك الفيلسوف لأصوله الفلسفية، ويزيد ذلك عند أبي العلاء ما له من عناية خاصة بتلك المظاهر العملية للإنسان في حياته — على ما يقولون — والقارئ يذكر أنَّا لم نختر من فلسفة أبي العلاء التي لم يثبت فيها على رأي، والتي تتقابل فيها آراؤه ذلك التقابل الجلي الواضح، لم نختر شاهدًا لذلك التقابل إلا هاتيك المظاهر العملية للإنسان في حياته الخاصة، ومع مجتمعه الصغير، وهو الأسرة، ومجتمعه الكبير وهو الأمة — على ما مر في الصفحات من ١٠ إلى ٨٩.

ومن كل أولئك يتضح ما نشير إليه من إهمال المحدثين لهذا التناقض في آراء الرجل، أو ما آثرنا أخيرًا أن نعبِّر عنه بكلمة التقابل، تاركين التناقض والنقيض للجو الفلسفي، جو هذه الاصطلاحات، إذ ارتحنا إلى أن صاحبنا ليس فيلسوفًا.

على أن من المحدثين من التفت إلى هذا التقابل التفاتًا يسيرًا؛ كالأستاذ الميمني، وقد ذكر في ذلك كلمة عن وجود جانبَين لشيء واحد تكون له حالة خاصة بكل واحد منهما، وأن هذا سبب ما تناقض فيه قول أبي العلاء، وناقشنا هذه الكلمة، وبيَّنَّا عدم وضوحها وعدم صلاحيتها لشيء من التعليل، وأن الفكرة التي فيها ليست مما يقرِّره أبو العلاء بإطلاقه القول في الشيء الواحد (انظر هامش ص٩٨).

ولعله منذ كثر القول في هذا التناقض بعد المحاضرة بهذا الرأي في أبي العلاء ومناقشته في بعض المجلات الأدبية المصرية، ونشر طرف يسير منه١٣ كانت للمحدثين عنايةٌ ما بهذا التناقض، فقرأت قولًا مجملًا لبعضهم١٤ يشير فيه إلى أن كثيرًا من المتناقضات التي نزعمها في حياة المعري آتية من تطور حياته الفكرية؛ فكثيرًا ما ناقض الشاعر في دور الكهولة والشيخوخة ما قاله في دور الفتوة والشباب، وهذه الناحية قلَّ مَن راعاها، وهو إجمال لا يمكن من مناقشة صاحب هذا القول في سعة، ولا هو مؤيَّد بشاهد أو دليل على تأثُّر هذا الاختلاف بتطور الحياة الفكرية؛ كهولة وشيخوخة وشبابًا. وبحسبي هنا أن أقول: إنه ما دام تطور الحياة يؤثر في آراء الرجل، فقد وجب أن تكون دراستنا له منتهية بنا إلى مصور مختلف الألوان يمثل تغيُّر هذه الآراء وتطورها، وألا نُطلق القول بتفلسفه إطلاقًا، وألا نقرِّر أن حياته كانت وفق مذهب فلسفي وعلى أصل ثابت … إلخ. على أنه لم يخفَ أثرُ اختلاف أدوار الحياة على أحد، وقد حاولنا وحاول غيرنا كثيرًا أن تُرتَّب آثار أبي العلاء ترتيبًا زمنيًّا تفصيليًّا دقيقًا، فلم يتيسر ذلك، وهو غير متيسر تمامًا ما دامت تلك الفجوات في آثاره فارغةً بضياع الضائع، بل نحن بعد العثور عليها جميعًا لا نهتدي لذلك الترتيب الزمني المحدود المفصل لضياع معالمه. لكن قد استطاعت الدراسة الأدبية إلى حدٍّ كبير أن ترتب الموجود من آثاره ترتيبًا عامًّا، يعيِّن ما كان منها في زمن الشباب، وما كان منها بعد ذلك، وبخاصة توزيع هذه الآثار على العهدَين الواضحين اللذَين ذكرهما المعري وميَّزهما البحث في حياته على ما سنشير إليه فيما يلي.

وهذا الترتيب لم يؤثر في مسألة تقابل آراء الرجل؛ لأننا نجد المتقابلات في كل عهد من عهوده؛ شبابًا وكهولة وشيخوخة، بل نجد المتقابلات في المكان الواحد وفي القطعة الواحدة، كما أنك تجد المتقابلات فيما لا يتغيَّر فيه الرأي؛ لأنه أصل ثابت للتفكير؛ كمسألة المعرفة. والمذهب فيها على ما مرَّ. ولو قد سمعنا شيئًا من التفصيل لأثر الزمن في تناقض الرجل عند صاحب الإشارة السابقة لناقشناه، ولكنا نقول رغم هذا الإجمال: هل التفلسف أن يترك الرجل آراء مختلطة ضائعة المعالم، لا ندري متى وكيف قال بها؟! وهل التفلسف أن يختلف الرأي اختلافًا بيِّنًا مطلقًا في الأصول والأسس؟! وهل … وهل …!

•••

وحيث قرأت تلك الإشارة عن التناقض وتأثره بتطور حياة المعري قرأت خبر محاولة في التوفيق بين متناقضات أبي العلاء، ولم يتهيأ لي أن أطلع على شيء من تفصيلها. فإن يكن هذا التوفيق عقليًّا منطقيًّا، فقد عدنا به إلى دعوى فلسفة الرجل بعد ما مضى من قول فيها، وبعدما أنسنا بطلانها، وقد خلَّف صاحبنا في كل حال آثارًا فنية الطابع، فنية الموضوعات، فنية التناول، فلعله ليس من الحق والصواب أن نحاول ردَّ تناقضها، والتوفيق بين متخالفها توفيقًا نظريًّا منطقيًّا عقليًّا. وأما إن كان هذا التوفيق نفسيًّا فنيًّا فإنا لنرجوه ونتمنَّى أن يستطاع، وإن لم يكن يُعنى أصحاب الفن بهذا التوفيق بين متناقضات متفنن؛ لأنهم لا يُعنون بأن يقيموا قضايا صحيحة على النظر، ولا قياسات سليمة المقدمات مؤدية إلى النتائج، وإنما يُعنى أصحاب الفن بأن يدركوا من نفسية المتفنن وشخصيته ما أدى به إلى هذا التناقض أو التقابل؛ ليفهموا بذلك مراميه، ويدركوا خواطره، وهذا البحث النفسي عن سر التقابل في معاني أبي العلاء وتأملاته الفنية هو ما قصدنا إليه، ورجونا أن نُقيمَه على وجه صحيح من أمر هذه النفس الجليلة، فهمًا لفنِّها وتمثُّلًا له.

والآن قد انصرفنا عن فلسفة أبي العلاء لما أوردنا قبل ذلك من أوجه، واطمأننا إلى تفنُّنه، ونظرنا إلى آرائه على أنها تأملات فنية، ولمحنا فيه ظاهرة التقابل بادية غالبة، بل عامة إن شئت، فما بنا بعد استبعاد تفلسفه أن نسميَ هذا تناقضًا أو نلتمس له تفسيرًا عقليًّا. فلما رحنا نلتمس أسباب التقابل فيما ذكره القدامى من الأدباء لم نجد من هذه الأسباب ما يرتاح إليه الناظر المتعمِّق في أدب الرجل وتراثه الجليل، سواء في ذلك ما علَّلوا به تناقض أبي العلاء نفسه، (انظر ص٩٥ و١٢٥)، أو ما أوردوه في التقابل مطلقًا، (انظر ص١٢٧ وما بعدها)، فحق علينا بعد ذلك كله أن نلتمس السبيل الميسرة والطريق المؤدية إلى هذا التعليل والتبيين، وإنما هي — فيما أقدِّر — الفهم النفسي للأديب وأدبه فهمًا ينتفع فيه بما عرفت الحياة العلمية عن قوانا النفسية ونواميسها. وأول ما تقضي به هذه الرغبة في الفهم النفسي هو تقدير:

حال أبي العلاء الخاصة

فنعني بها تلك الحال الجسمية لما بين الجسم والنفس من صلة وثقَى، لا محل للإطالة في الكلام عنها، وكذلك نرجو أن نفهم شخصيته النفسية فهمًا عامًّا مجملًا بما عُرفَ من خبر واصف لحاله الجسمية المادية، فنتبيَّن أثرها النفسي عليه بصفة عامة، وفكرة جامعة نظفر منها بما يكشف عن معانيه ومراميه، فنفهم آثاره الأدبية بما وراء ألفاظها وما بين سطورها لا بكلماتها وجملها فحسب، ثم نمضي بما يتكشَّف لنا من سرائر هذا الفن، فنكمل صورة الشخصية النفسية للأديب المدروس، وكذلك نفهم الأدب بشخصية صاحبه، ونستكمل فهم شخصية الأديب بفهم الأدب في تبادل متسق لا دور فيه ولا اضطراب.

ولأبي العلاء بخاصة من حاله الجسمية ما يؤذن بنفسية جديرة بالدرس، مسعفة في الوقت نفسه على الفهم، يتجلَّى فيها بوضوح ما أشرنا إليه من تأثير الجسم في النفس وتأثرها بحالته، ولا حاجة بنا إلى الإطالة في بيان ما لهذا الفهم النفسي من فضل الابتناء على أصول مقررة، ومعاني محققة، لا على فروض واحتمالات، أو تخرُّصات وادعاءات، أو وقوف عند نقولٍ يعتريها ما يعتري الخبر من آفات، فهو فهمٌ أكثر واقعية، وأدنى إلى الصدق من ظنون متخرصين أو متعصبين لحب أو كره، غافلين عن نواميس الحياة للنفس البشرية؛ إذ لم تكن تسعفهم معارف عهدهم على التنبُّه لها، وهو الفهم الذي يوائم الكرامة العقلية لهذا العصر، ويرد العمل الأدبي إلى الضبط الصحيح والدقة العميقة.

•••

إيفَ أبو العلاء — وهو حَدَث — تلك الآفة القاسية التي ألِمَ منها ألمًا شديدًا، ما زال يشكوه حتى آخر عام من عمره؛ إذ يقول لداعي الدعاة: «وبصري عن الأبصار نقيل، قُضيَ عليَّ وأنا ابن أربع، ألا أفرق بين البازل والريع.»١٥ كما شكاها سائر حياته شكوى تعتبر وحدها فنًّا بذاته، يؤثر بالدرس المفرد، فهو يقول للدنيا:
وأوقدْتِ لي نارَ الظلام فلم أجد
سناك بطَرفي بل سنانَك في ضِبني١٦
٢: ٣٠٤

كما يقول للناس:

وجوهكمو كلفٌ وأفواهكم عدًى
وأكبادُكم سودٌ وأعينُكم زُرقُ
وما بيَ طرقٌ للمسير ولا السُّرى
لأني ضريرٌ لا تُضيءُ ليَ الطُّرق
٢: ١٠٣

وليلته بآفته صارت ثلاث ليال متراكبة، وهو يألم لأثر الآفة وما تُحدِثه من ضعف؛ إذ تحبسه عن المنَى والرغائب:

حبستْكَ أقدار ذوتك عن المنَى
فمضى الصِّحاب وأنت ثاوٍ حابسُ
٢: ٢٥

كما يقول ناثرًا: «… والحوج على ذات عوج، وهي على سواي سهلة كالأنفاس، ولو شاء الخالق لجعلني مثل الناس.» (ف٢٧١)، وهي تلزمه الحاجة إلى الناس، فهو المستطيع بغيره كما يقول في الغفران (ص٢٠٦)، وهو الذي يعد العصا يسارًا:

غدا العميانُ في شرق وغرب
يعدُّون العِصيَّ من اليسار
قنيُّ فوارسٍ ما كان منهم
فوارسُ رحرحانَ ولا النسارِ١٧
١: ٣٢٨

•••

عصًا في يد الأعمى يرومُ بها الهدى
أبرُّ له من كل خِدن وصاحبِ
١: ٩٦

وإذ يعد إرشاده إلى الطريق صدقة:

تصدَّق على الأعمى بأخذ يمينه
لتهديَه وامنُن بإفهامك الصُّمَّا
٢: ٢٤٠

وإذ يلتمس لأمثاله الرحمة من الناس إذا ما مروا بهم:

إذا مرَّ أعمى فارحموه وأيقنوا
وإن لم تُكَفُّوا أن كلَّكمو أعمى
٢: ٢٤٢

ويشكو في لوعةٍ نفوسًا لا تحنُّ على أقدامهم العاثرة:

نشكو نفوسًا إلينا غيرَ محسنة
ما إن تحنُّ على أقدامنا العُثُرِ
١: ٣١٤

ويغيظه بخل الناس عليهم حتى بغوا الحياة من الموتى بالقراءة على قبورهم:

عميانُكم قرأتْ على أجداثكم
وأتَوا لكم بالبرِّ مَن آتاكمو
أحياؤكم بخلتْ عليهم بالنَّدى
فبَغوه بالفرقان من موتاكمو
٢: ٢٣٨

وتقرؤه في قطعة عنيفة قد جمع فيها كلَّ آلامه، ومظاهر فقدانه من آفته إلى ضياع لذة الدنيا إلى البعد عن الخمر وتسريتها عن النفس، ففقد الشباب الذي لا عوض له، والحرمان من الحب، فهو يقول:

عمَى العينِ يتلوه عمى الدين والهدى
فليلتيَ القصوى ثلاثُ ليال
وما أزمَتْ نفسي البنانَ على التي
إذا أزمَتْ عضَّت بشوك سيالِ
ولا قصَّرت لي أمُّ ليلى بشربها
حنادسَ أوقاتٍ عليَّ طيال
إذا ما اجتمعنا هاجت الحزن ألفة
محدِّثة عن جمعنا بزيالِ
لحا اللهُ غاراتِ السنين فإنها
مبدِّلةٌ ظلمانها بريال
وما سرَّني ربُّ الخيال بشخصه
فيطلبُ مني النومُ طيفَ خيال
وهوَّن أزراء الحوادث أنَّني
وحيدٌ أعانيها بغير عيال

وهي شكوى باكية عدم النسل أيضًا. وإنك لترهب زفراته المحرقة إذ يقول بعد ذلك كله:

فدعني وأهوالًا أمارس ضنكها
وإياك عني لا تقف بحيالي
٢: ١٨٧، ٨٨

هذه الآفة بيِّنة الأثر في الحياة، ما يحتاج أمرها إلى استشهاد، ولكنك تسمع هذا من أبي العلاء لتدرك وقعها عليه، ومدى عنائه بها، فتقدِّر تأثيرها في حياته، وفعلها في نفسه.

أبو العلاء رجل كالناس خاضع للنواميس الحيوية كما يقول هو:

ودنياكَ سارت بالأنام مغذَّةً
فلا فرقَ فيها بين سيري وسيركا
٢: ١٣١

ويقول:

خلقتُ من الدنيا وعشتُ كأهلها
أجدُّ كما جدُّوا وألهوا كما لَهُوا
٢: ٣٣٥

فهو متأثر بآفته هذا التأثر الحاد ولا سيما حين يقدر دارسه أنه خرج إلى الدنيا بوراثة طامحة من أب قد نمته أسرة عُرفت بالعلم وتولي القضاء، وأمٍّ من حلب، التي يقول أبو العلاء عن نسائها في الغفران: «فطالما كنَّ أجود غرائز من رجالهنَّ، وربما كان في نساء حلب شواعر.» (ص٢٠٥) فهي وراثة كريمة دافعة إلى ابتغاء الرفعة، والآفة كابحة معوقة، فالشعور بها حاد ثائر. ومن هنا يبدأ فهم نفسية أبي العلاء بالنواميس المقررة في نفوس الناس.

•••

أراد أبو العلاء مع هذه الوراثة وهاتيك الآفة أن يستعيض عما فاته، ويُكمِل ما نقصه خضوعًا للناموس النفسي١٨ في ذلك حين يكون العيب الطبيعي سببًا في تقوية الروح المعنوية وعاملًا في بروز الشخصية رغبة في التعادل النفسي، وسعيًا إلى التكافؤ، وطلبًا للتعويض عن النقص. وهذا هو ما يشير إليه أحد النفسيين المحدثين حين يقول: إن الحضارة كلها نتيجة المساعي التي تُبذَل للتغلب على الشعور بالنقص الذي ينشأ عن عاهة تلحق الجسد. فكان الدور الأول من حياته إلى سن الثلاثين — على ما يحدده هو فيما سيجيء — منفعلًا بهذا الشعور، فاعتزم اعتزامًا قويًّا — على ما قال في الفصول — أن يفرَّ من القدر: «ولقد فررت من القدر» (ف٢٨٣)، قد فررت من قدر الله (ف٢٥١). ولذلك تجاهل الواقع الجسمي المادي فيه، وراح يطلب الدنيا في جد وتصميم، معتزمًا أن يساوي الآخرين فيها، فكان منه في هذا الدور ما وصفه مترجموه في قولهم: عجب من العجب، شاعر ظريف يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فنٍّ من الجد والهزل، يقول:
أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.١٩وهكذا أراد أبو العلاء بالقول والفعل معًا أن يقهر آفته وينكرها، ويعترف بالحياة ومطامعها، ويمضي في طلبها — مغطيًا لنقصه — استجابة للناموس النفسي، فحفظ ودرس، ولقي الأشياخ، ورحل في طلب العلم والدنيا، ونضج مبكرًا، فقال في هذا الدور شعرًا يظهر فيه جليًّا أثر الناموس النفسي المذكور من إنكار الواقع والاستعلاء عليه؛ فهو يفخر فخرًا متوسعًا، وهو متغزل، وهو يحب الاجتماع … إلخ. تقرأ قصيدة من شعر شبابه فتراه فيها ذا إقدام، ولا إقدام لمثله، وذا نائل وهو مكد لم يوسر، يغدو ولو أن الصباح صوارم، ويسري ولو أن الظلام جحافل، وما إلى ذلك. فهو يعيش في هذا الكبت المستمر منكرًا واقعه الجسمي، مشاركًا في الدنيا، راغبًا آملًا، ولكن رغم هذا الكبت تتنفَّس الحقيقة أحيانًا، فيتمنى البصر في الصبا؛ إذ يقول:
فليت الليالي سامحتني بناظر
يراك ومن لي بالضحى في الأصائل
فلو أن عيني متَّعَتْها بنظرة
إليك الأماني ما حلمتُ بغائل
سقط ٢: ٣٢

وهكذا يمضي العصر الأول، أو الدور الأول، أو الصراع الأول، إن شئت في عناء عنيف، من التكمل والاستعلاء وإنكار الواقع، والطمع فيما لم يُمنَح آلته، وذلك كله في زمن ليس بالخير ولا بالمستقر، من حيث الشئون السياسية والاجتماعية؛ فالصراع في مثله شاقٌّ على المسلحين، فكيف به على مثله؟! لم تواته ظروفُ الحياة؛ إذ كانت مضطربة، وكانت قاسية، فلم يستطع الفرار من قدره، بل راض صعاب آماله فكانت شموسًا كما يقول:

ورُضْتُ صعابَ آمالي فكانت
خيولًا في مراتعها شمسنَه
٢: ٢٩٩
أبو العلاء نفسه يقسِّم حياته إلى دورين في النثر والشعر، فهكذا يقسمها في رسائله إلى الداعي،٢٠ وهكذا يقسمها في اللزوميات بقوله:
رضيتُ ملاوة فحفظت علمًا
وأحفظني الزمان فقلَّ حفظي
٢: ٧٠

وأبو العلاء نفسه يصف هذا الدور من حياته الأولى نثرًا وشعرًا، ويتضح في الوصف التقسيم والتحديد، فهو يقول في الفصول (٢٧٩): «ما زلتُ آمل الخير وأرقبه حتى نضوت كملًا ثلاثين، كأني ذبحت بكل عام حملًا أبرق — فيه سواد وبياض — بياضه الأيام، وسواده لياليه، وهيهات كأنني قتلت بالسنة حية عرماء. إن الزمن كثير الشرور، فلما تقضَّت الثلاثون وأنا كواضع مرجله على نار الحباحب علمت أن الخير مني غير قريب.»

كما يقول (ف٢٣١): «وإن الله خلقني لأمر حاولت سواه فألفيت المبهم بغير انفراج.» ويقول: «هجَّرت فما أغنى التهجير، وأدلجت فما أغنى الإدلاج.» (ف٢٨٥).

كما يتحدَّث في شعره غير قليل عن أمل كالقنا، وحال في قصر السهم:

أقمتُ برغمي وما طائري
براضٍ إذا ألِفَتْه الوكونُ
ولي أملٌ كأتم القنا
وحالٌ كأقصر سهم يكون
٢: ٢٨٩

كما يقول:

أرجِّي أمورًا لم يقدَّر بلوغها
وأخشى خطوبًا والمهيمن كافيها
٢: ٣٤٥

طلب مكارمًا فأصاب كلامًا، فهو قد أراد غير الشعر، وأكثر من الشعر:

طلبت مكارمًا فأجدت لفظًا
كأنَّا خالدان على الزمان
٢: ٣٢١

هكذا انتهى الدور الأول الذي حدَّده أبو العلاء، ووصف حاله المكبوتة فيه ذلك الوصف الصريح الدقيق الذي سمعته.

•••

أدرك أبو العلاء أن هذا القدر أخو الحياة، فقال: هل أطأ على غير الأرض، أو أبرز من تحت السماء؟! أدلجت فأصبح أمام المدلجين، وهجرت وهو مع المهجرين، قال وعرَّس مع القالة المعرسين (ف٢٥١) لا مفر له من هذا الواقع المادي، ولا مخلص له من همته ومطامحه، فهو يغير الميدان، ولكن المعركة هي المعركة، بل هي أحمى وطيسًا، وأعنف صراعًا. فإذا هو في الدور الثاني يعترف بالواقع الجسمي، وينكر الدنيا، أو ينكر ما في الفطرة من طلاب هذه الدنيا، ينكر ذاك كلَّه استعلاءً وتغطيةً وتعويضًا وخضوعًا دائمًا للناموس النفسي الذي بنى دفعه الحضارة الإنسانية بجهاد المتغلبين على ضعفهم.

هو في كلَا دورَيه منكرٌ الواقع، مستعلٍ عليه، حامل نفسه على غير ما تحتمل. أنكر أولًا آفته، واعترف بالدنيا يطلبها وليس من المزاحمين فيها، ثم أنكر ثانيًا فطرته في طلاب الدنيا حين اعترف بواقع ضعفه، فليسعد بالحرمان حين يسعد الناس بالنوال، فهو يدَّعي كراهة الدنيا، بل قُل يأخذ نفسه صادقًا بكراهيتها، فيرتفع عن الطلب، ويحقر المنى، ويرى الآخرة أفضل وأسعد، فهو في فنِّه الأدبي لهذا الدور يتحدَّث عن فضل الزهد وخيره، وقبح الحياة الدنيا وفنائها، ويذم الناس وجهلهم وجشعهم، ويفر منهم ويدعو إلى اعتزالهم، وما هو في كل ذلك إلا مكبوت يحاول قهر فطرته، فتغلبه حينًا ويغلبها حينًا، يغلبها فيوقع أنغامًا حزينة راحلة واعظة مودعة مستروحة ريح الأخرى، وتغلبه فطرته فيقول الحقيقة في صدق وشجاعة، ويوقع ألحانًا آسفة على الحرمان ناعية الفشل، ويسجل حقائق قوية جريئة عن نسك أصحاب الهمم البعيدة حين يزعمون النسك.

ومن المفهوم في هذا الدور وقد اعترف بواقع القدر الملازم أن يقول: العمى عورة والواجب استتاره في كل أحواله. ويتخذ مغارة ينزل إليها ويأكل فيها (الرسائل ١٣٠، ط أكسفورد) بعدما كان يقول: إن العمى نعمة.٢١ وهكذا تُعَنون دورَي حياة الرجل عبارتاه: العمى نعمة، والعمى عورة.

•••

وأبو العلاء نفسه يصف هذا الدور الثاني أيضًا في دقة وصراحة وشجاعة، فيقول: أنا لا أضبرُ — أثبُ — فهلا أصبر! كما يقول: وما اعتزلت إلا بعدما جددت وهزلت، فوجدتني لا أنفذ في جد ولا هزل، ولا أخصب في التسريح ولا الأزل، فعليَّ بالصبر، لا بد للمبهم من انفراج، (ف٢٩٧)، وليس الصبر بالهين عليه ولا السهل، فهو يقول: لست أخا صبر ولا حليف ضبر، (ف٣٠٤).

وفي شعره من وصف هذا الدور غير قليل؛ فلقد سمعناه قبل يقول:

لما رأيت سجايا العصر ترخصني
رددت قدري إلى صبري فأغلى بي
١: ١٠٥

ويتحدث عن غناه بالقناعة وقعوده إذا طلب الناس:

إذا طلبوا فاقنع لتظفر بالغنى
وإن نطقوا فاصمت لترجع باللبِّ
١: ٩٦

كما يقول:

خلافك بعض الناس يرجى به الغنى
وفي الدهر أقوام خلافهمو حزم
فأفطر إذا صاموا وصُمْ عند فطرهم
على خبرة إن الدواء هو الأزم٢٢
٢: ٢١٩

كما يقول أيضًا:

ولست من الركب إذ
يعوجون في المعلم
إذا طمعوا فاقتنع
وإن جهلوا فاحلم
٢: ٢٧٤

كما يعترف في شجاعة جديرة بالإكبار أن آفته سبب فيما فعل من رغبة في الاعتزال والبعد عن الناس في مثل قوله:

إذا كُفَّ صِلٌّ أُفعوان فما له
سوى بيته يقتات ما عمَر التُّربا
ولو ذهبت عينَا هزبرٍ مساورٍ
لما راعَ ضأنًا في المراتع أو سِربا
١: ٨٠

كما يجهر عقب ذكر الآفة بقوله:

وما زال نِعمَ الرأي لي أن منزلي
كأنِّيَ فيه مضمرٌ كَنَّ في نعما
٢: ٢٤٢

وهو يسجل الصراع النفسي في دقة شاعرة، ولا يمتنع من الجهر بالواقع كما هو، فلا يأنف من أن يصرِّح بأنه لا يفعل لنسك بل لتأثُّره بما أصابه فيقول بعد ذكر المرأة:

ولم تتُبْ لاختيار كان منتجبًا
لكنك العود إذ يُلحى ويُنتجَبُ٢٣

ويعقب عليه بقوله في العزلة:

وما احتجبت عن الأقوام من نسك
وإنما أنت للنكراء محتجب
قالت لي النفس: إني في أذى وقذى
فقلت: صبرًا وتسليمًا كذا يجب
١: ٦٥، ٦٦

ويذكر هواه وتشهيه كثيرًا ولوعته على الفوات، ويكرر القول بأنه لم ينسك وإنما حرم، وفي القطعة التالية ترى مثلًا لذلك واضحًا:

هواك مشابه فرسًا جموحًا
وما ألجمته فعليك رسنه

ويتحدث عما فاته بقوله بعد:

ولا يُعجبك روضٌ باكرَتهُ
غمائمُه وأغصانٌ يمِسنَه
ولا الأفواه تضحك عن غريض
فرائدُ في مُدامتها غُمسنَه

ويذكر كبته لنفسه بقوله:

ألم ترَني حميتُ بناتِ صدري
فما زوَّجتهنَّ وقد عنسنَه
ولا أبرزتهنَّ إلى أنيس
إذا نورُ الوحوش به أنِسنَه

ويجهر في صراحة بأنه ليس ناسكًا:

وقال الفارسون حليفُ زهد
وأخطأتِ الظنونُ بما فرسنَه
ورضتُ صعابَ آمالي فكانت
خيولًا في مراتعها شمسنَه
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارَها عنِّي خنسنَه

وهكذا يصرُّ أبو العلاء على أن يُحسن فهم نفسه، ويرد فعاله إلى أصولها النفسية، كما أصرَّ على أنه عاش كسائر الناس، ولَها كما لهوا وجدَّ كما جدُّوا، فليس من الخير في شيء أن يعلل فعله بالفلسفة والتفلسف والدعاوى الواسعة.

تغاير آرائه ظاهرة نفسية

انتهت حياة أبي العلاء على هذه الحال التي صار إليها في دوره الثاني، فأمضى حياة كلها إنكار للواقع واستعلاء عليه، ورغبة في تكميل ما نقصه، فيومًا يُنكر آفته ويومًا يُنكر بشريَّته، حينًا يطلب الدنيا بغير آلتها، وآنًا يُخرج نفسه من الدنيا وهو فيها، ذكاؤه دافع، وآماله واثبة، واقعُه قاسٍ، ونقصُه غير يسير، ورغبته في التكمل جامحة، فهو ونفسه أبدًا في جذاب كما قال:

إني ونفسي أبدًا في جذاب
أكذبها وهي تحب الكذاب
١: ١٢٣

وفي هذه الحال النفسية واجه أبو العلاء الحياة في حسٍّ مرهف وشعور دقيق، وروح ساهرة، وراح يدوِّن خواطره تدوينًا موسعًا مفصَّلًا دقيقًا شاملًا للعوالم النفسية المختلفة التي تمرُّ به ويمرُّ بها، مدركًا في دقة أخفى غوامض هذه العوالم النفسية، فهل يستغرب بعد ذلك أن يغضب هذا الرجل، فيواثب القدر، ويهاجم الأقداس، ويلعن الناس، أو أن ينظر إلى حاله، فيرى الأمر حظًّا واتفاقًا لا غير، ويلعن هذا الحظ؟ أو أن يروِّض نفسه فتلين حينًا وتسخر من الحياة ومَن فيها، ومن مُتَع الدنيا والمتقاتلين عليها، وتشوه ذلك تشويه زاهد، ممعن في التجرد والتخلي، أو أن تشعر هذه النفس الدقيقة بالحياة الواقعة كما أخضعت الناس، وخضعوا لها، فتحلل من ذلك ما تحلل تحليلًا بارعًا، وتصفه وصفًا قديرًا، أو أن تلجأ هذه النفس إذا قسَا عليها الواقع إلى فسيح الرحمة الإلهية ورحب العوالم السماوية؟ لا بُعدَ في شيء من ذلك، ولا غرابةَ أبدًا، بل شأن النفس المكبوتة هذا الكبت المتطلِّعة ذلك التطلُّع أن تتنقل مثل هذا التنقُّل.

ولو أن رجلًا عاديًّا خالصًا من هذا الصراع الدائم في نفس أبي العلاء قد راح يدوِّن خواطر نفسه في شعور تام بها، وتتبع متنبِّه لها، واستيعاب شامل لعوالمها، لمرَّ في الحياة بنواحيَ مختلفة، تختلف بها خواطره، ولخرج بشبيه لما قاله أبو العلاء يختلف فيه مرحُه عن غضبه، وهزيمتُه عن نجاحه، وفرحه عن حزنه، فكيف بأبي العلاء وهو يتردَّد بين أمرين أحلاهما مرٌّ؛ بل هما مريرٌ وأمرُّ، واقع قاسٍ وإنكار جريء؟٢٤
فالسرُّ في تناقض أو تغاير آراء أبي العلاء نفسيٌّ محض، يرجع إلى أمرين في نفسه، أو إلى ظاهرتين فيه:
  • أولاهما: الرغبة المتوثبة في الاستعلاء على ضعفه والقهر لواقعه، وهو ما ساد دورَي حياته على السواء.
  • وثانيتهما: دقة هذه النفس الشاعرة في إدراك عوالمها المختلفة وخوالجها المتغايرة، ثم يؤازر هذين العاملين انقطاعُ أبي العلاء لتدوين خواطره وفراغه لذاك وتوافره عليه.

هكذا تغايرت آراءُ أبي العلاء ومعانيه، دينيها ودنيويها، فنيها وعمليها، بل هو في غير الديني قد يكون أكثر تغايرًا أو تقابلًا. وهكذا ينبغي أن نفهم آثار أبي العلاء — فيما أرى — فهمًا نفسيًّا صحيحًا صادقًا دقيقًا عميقًا ممتعًا مقبولًا على هذا الأساس.

وإذا ما فهمنا أبا العلاء على هذا الوجه، فقد فهمناه من نفسه هو، لا من نفوس دارسيه وقارئيه، كما حصل ذلك في القديم والحديث، وفي الذي سمعت لهم من أحكام وآراء، إن ينهض بها جانب من قوله، قعدت بها جوانب أخرى وجوانب!

فأما في القديم فحيث كانت العناية بالناحية الدينية واضحة في المترجمين له لم يُعنوا بتناقضه إلا في المسائل الدينية، فذهبوا يفسِّرون حاله حينًا بالشك وحينًا بالإلحاد الذي تاب منه وأناب، وحينًا بعدِّهم ما لم يتفق مع العقيدة مكذوبًا عليه كما يُعنون براوية أخبار أو منامات دالة على حسن حاله وسعادة مصيره … إلخ. ما نعرف من الحكم عليه وعلى غيره حكمًا أخرويًّا في هذه الدنيا!

وأما حديثًا فباتباع بعض المتحدِّثين عنه مثل هذه الخطة، ولو أخلُّوا بالمنهج العقلي في الدراسة إخلالًا واضحًا كالذي فعل مَن٢٥ أنكر أن يكون في غير اللزوميات إلحاد، فعمَّم ذلك فيما لم يره من كتب قائلًا: «… ولا إن شاء الله في كتبه مما لم يصلنا، اللهم إلا نزر يسير …» فحكم على ما لم يصلنا من كتب المعري بحسن الرغبة وطيب الأمل أنها خالية مما يكفِّر إن شاء الله.

ومن فهمه في نفس دارسيه حديثًا ما نقرأ في دائرة المعارف الإسلامية، (١: ٣٨٢، ٨٣)، من الترجمة العربية، أنه ليست هناك عقيدة إسلامية لم يسخر منها أبو العلاء، وأنه كان يرى الدين من صنع العقل الإنساني، ونتيجة للتربية والعادة، ولم يقبل أية صورة من صور الحياة الأخرى، وكان ينظر إلى الفناء على أنه خلاص سعيد من الحياة … إلخ!

ولو قُرئ أبو العلاء ليفهم من نفسه وفي نفسه، لكان حاله في الدين كحاله في الدنيا، خاضعًا لمؤثرات تتطلَّب التفسير المطرد الصحيح، سواء أكان ذلك التفسير بالناموس النفسي الذي وصفناه أم كان بغير ذلك مما يمكن أن يقوله غيرنا، ما دام تفسيرًا قائمًا على أصل صحيح غير ادعائي ولا تحكمي كما كان ذلك حتى الآن، وإذ ذاك سيكون القول بتفلسف أبي العلاء، وشرح فلسفته أخف مما هو الآن حدَّة، وأضيق دائرة، وأقل تحكمًا في فهم حياة الرجل ما دام الدرس قائمًا على أساس من التجربة الخبيرة بالدنيا والناس.

والآن وقد اطمأننا إلى هذا التفسير النفسي لحياة أبي العلاء الأديب وفهم أقواله على أساسه بقيَ علينا أن نتقدَّم إلى بحث آخر هو:

١  الرسائل، ص١٣٤، ط أكسفورد.
٢  رسائل الجاحظ، على هامش الكامل للمبرد، ط الطوبي ١: ٢٥.
٣  رسالة الغفران، ط هندية، ص٣٩.
٤  الرسالة نفسها ص١٦١.
٥  الرسالة أيضًا ص١٣٤. ويعنينا هنا أن نشير إلى أن هذه الاعتبارات التي ذكرها الجاحظ وأبو العلاء، لا تؤثِّر في دلالة الفن على نفسية صاحبه، بل نقرر أنها قد تكون أقوى دلالة؛ إذ تنمُّ عن طوايا يخفيها القائل، فلا يكشفها إلا حرصه على إخفائها وقوله غيرها؛ إذ تخرج فيها الدلائل على ما يخفي … وإذا كان نطق اللسان — كما يقول المعري — لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان، أو لا يعطينا وجهته الاعتقادية، فإنه ليعطينا دائمًا حالته النفسية التي دفعته إلى إخفاء شيء وتكلُّف قول غيره تكلُّفًا دالًّا مفيدًا في فهم النفس.
٦  بحث ألقيت خلاصته في أسبوع الجاحظ الذي نظمته كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول بالجمعية الجغرافية الملكية، ونشرت خلاصته السياسة الأسبوعية.
٧  ياقوت، معجم الأدباء، ١: ١٨٠، ط أولى.
٨  الحديث عن هذه المؤلفات ووصفها معتمد على ما في معجم الأدباء لياقوت ١: ١٨٠–١٢٩، ط أولى.
٩  نحب صونًا هنا لسلامة الفكرة النفسية في فهم الأدب أن ننبه القارئ إلى أن هذه الكتابة في المحاسن والأضداد، حتى عندما تكون للرياضة الأدبية، لا تتجرَّد من الدلالة على نفسية الكاتب من بعيد أو قريب، بل هي تظل سبيلًا لتلك الدلالة لا يصح نسيانها. وبيان هذا مما أتولاه في غير ذلك المقام.
١٠  من أطرف ما قرأت في ذلك حديثًا، ما نُشر في مجلة الأديب، عدد أيلول ١٩٤٤، ص٦١: أن الأستاذ عبد الله العلايلي قال لهم: أتى عن شدة إلحاحي بأن أقع على موضع تناقض فيه أبو العلاء، فلم أعثر إلا بوحدة فكر وانسجام رأي. ولعل الأستاذ يرجع إلى ما سبق من أقوال لأبي العلاء متقابلة أول هذا البحث.
١١  الدكتور طه حسين بك، (ذكرى أبي العلاء، ﻃ أولى، ص٣٢٧).
١٢  المصدر السابق ص٣٤٥.
١٣  نُشر في مجلة الأديب بحلب في عددها الخاص بأبي العلاء سنة ١٩٤٤م.
١٤  في مجلة الأديب عدد تموز ١٩٤٤م، ص٥٦، لحضرة الأستاذ محمد يحيى الهاشمي.
١٥  ياقوت: معجم الأدباء، ١: ١٩٨، ط أولى.
١٦  بالكسر ما بين الكشح والإبط.
١٧  يومان من أيام العرب.
١٨  اشتهر القول في هذه الحقائق النفسية حتى أغنى عن التفصيل هنا، وجملة ما نشير إليه منها: أنهم يجعلون الغرائز الإنسانية مجموعات أقواها وأهمها: مجموعة غرائز الذات، أو المركب الذاتي، الذي يتألَّف من عناصر تكون وحدة متماسكة، تصل بين العقل والجسم، وبها قوام الشخصية، فإذا ما اعترى هذا المركب الذاتي من العقبات ما يؤثر عليه؛ كالعيوب الطبيعية، وجدت عقدة الانحطاط، ومركب النقص. ولهذه الحال أثر في الشخصية يختلف باختلاف الأشخاص والأمزجة والطبائع، فقد يؤدي إلى مشكلات نفسية وحالات عصبية تعجز الشخصية، وقد يؤدي إلى شعور قوي بالذاتية وتماسك في الشخصية، رغبة في التعويض، وتحقيق التكافؤ النفسي. ولعل هذا يفسر المقولة المأثورة: كل ذي عاهة جبار.
١٩  معجم الأدباء، ١: ١٩٩، ط أولى.
٢٠  معجم الأدباء، ١: ١٩٩، ط أولى.
٢١  من الطريف بهذه المناسبة الإشارة إلى ما يقال من أن أديسون المخترع — وهو أصم — كان في وسعه أن يستردَّ سمعه بجراحة، وقد حُدد ميعاد لها، ولكنه أبى أخيرًا أن تُجرَى العملية، وقال: إن صممه يحجب عنه الضوضاء، ويقيه سماع كثير من الهذر، فيستطيع أن يكبَّ على عمله ويحصر ذهنه فيه، وهو شبيه بما يورده بعض المتأدبين بيانًا لقول المعري في أن العمى نعمة، أي إنها تريحه من رؤية الثقلاء. والمسألة في حقيقتها النفسية ترجع إلى ما أشرنا إليه، وهي كذلك في أديسون وصممِه.
٢٢  الإمساك عن الطعام بسبب الحمية.
٢٣  ينتجب أي يقشر.
٢٤  في هذا المقام الذي نذكر فيه اختلاف العوالم النفسية للإنسان اختلافًا ينتهي إلى خواطر في مثل تقابل معاني المعري لو دُوِّنَت كتدوين معانيه نشير إلى ما يقال عن شخصية واقعية لرجل عصري عملي جبار، روت المجلات الدورية من عمله ما يُشبه تناقض أبي العلاء القولي وبعض تصرفه العملي، وهو فيما يحكون: الزعيم الياباني المسيو تو يوما، أحد الرجال الذين يوجهون الحياة اليابانية الحاضرة، ويقولون عنه: إنه يبدو رجلًا عجوزًا هادئ الطبع، لطيف المعشر، ولكنه يدبِّر المؤامرات لأعداء الحكومة، حتى قيل: إنه قتَل في طوكيو أثناء عام واحد «١٢٠٠» رجل، وهذا الجبار المدير للمؤامرات يعيش في حجرة بسيطة لا أثاث فيها، ينام على الأرض، ويرفض أن يتدفأ في الشتاء، حتى لا يحرق الفحم الذي يجب أن يخصَّص لمصانع القنابل والذخيرة، ولا يأكل اللحوم؛ لأنه من أعضاء جمعية الرفق بالحيوان، وإذا ما رأى طفلًا في الشارع أسرع نحوه، وحمله ولاعبه ولاطفه، وإذا رأى قطة تتألم دمعت عيناه، ثم بعد ذلك كلِّه يعود إلى داره ويرتِّب المؤامرات لقتل أعدائه في الظلام، ويقتل منهم فعلًا مثل هذا العدد الذي ذُكر في عام واحد؟!
وسواء أصحت هذه القصة أم لم تصحَّ، فإنَّا لا نريد أن نقول: إن أبا العلاء من القلة النادرة في الشخصيات كهذه الشخصية الحية الآن، بل قد وصفنا من حاله النفسية التي هي أثر واقعه الجسمي المادي ما يفسر هذا التقابل والتناقض باختلاف عوالمه النفسية، وإنما أوردت الحكاية عن هذا الياباني للمناسبة القريبة في التقابل بين الرحمة التي تبكي لتألم حيوان والقسوة التي تحرم نفسها الدفء لتدخر للقنابل وتدبر للاغتيال!
٢٥  هو صاحب «أبي العلاء» وما إليه؛ إذ إنه في ص٢٩٠ بعدما اعترف بما له من الشعر في اللزوم واستغفر مما يرمي إلى المروق. يقول: «ولكن لا يوجد له شيء في غيره من هذا النحو، لا في س، ولا في ملقى السبيل، ولا إن شاء الله في سائر كتبه مما لم يصلنا اللهم إلا نزر يسير لا يصرح إلى الفرض فلا حاجة لنا إذن به …» وما أدري كيف حكم على ما لم يصلنا من آثار الرجل، وبنفي أو إثبات لما فيها؟! كما لا أدري كيف استثنى هذا النزر اليسير الذي لا يصرح، وهو لم يره إلا بعين الأمل؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤