أبو العلاء بين قوله وفعله

إذ سمعنا مفلسفي الرجل أنفسهم يقولون: إن الفلسفة بحث تخضع حياة الباحث لنتائجه، وناقشناهم في ذلك كله من أمر صاحبهم، (انظر ص٩٩ وما يليها)، بعدما افتقدنا الأصل الفلسفي الذي يقيم عليه الفيلسوف فلسفتَه وهو مذهبه في المعرفة، فلم نظفر للرجل في هذا بمذهب، وبعدما التمسنا رأيه في شئون حياة الإنسان العملية التي زعموا لأبي العلاء بها عناية خاصة، فوجدناه فيها جميعها ينفي ويثبت، ويأمر وينهى، ويُحسِّن ويُقبِّح، فلم نستطع من أجل ذلك كله أن نجد لسلوك أبي العلاء العملي أصلًا فلسفيًّا نُقيمه عليه ونعزوه إليه. وقررنا بذلك أننا لا نستطيع أن نعزوَ أسلوبه في الحياة إلى فكرة فلسفية سيطرت عليه؛ لأننا لا نجدها ولا نراه يثبت على شيء منها، فلا نعرف إلى أيِّ قولَيه ننسب فعله إن كان له فعل ثابت متسق قد اطَّرد، وإنه لخليق بنا — والأمر كذلك — أن نعلِّل أفعاله بغير التفلسف الذي يتبع فيه السلوك النظر ويتأثَّر الفعل بالرأي.

ونحن قد اطمأننا فيما مضى إلى أن أبا العلاء الذي لا نلمح فيه سماتِ الفيلسوف — بل نجد منه الإخلال الواضح بالمنهج الفلسفي — إنما هو رجل وجداني، متفنِّن، قوي الإحساس، دقيقه، صادق التعبير عنه، جريء القول به، قد أعطانا سجلًّا نفسيًّا لعوالمه المختلفة، لعلنا لا نظفر بمثله من أديب، سجَّل اعترافاته بدقة وتفصيل، معلنًا قصده إلى الاعتراف، ومصمِّمًا على المصارحة، كما اطمأننا إلى أن حياة الرجل كانت — كما يقضي بذلك الواقع الجسمي — خاضعة لفعل الناموس النفسي المعروف الذي تدين الحياة والحضارة لآثاره في أعمال مَن نقصتهم الدنيا بعض قواهم، فعوَّضوا نقصهم وسدُّوا عجزهم، وأن حياة صاحبنا قد تعرضت بذلك للون من الاستعلاء الكابت في دورَيها الواضحَين، فكان ذلك خليقًا بأن ينقل الرجل بين عوالم متغايرة وأجواء نفسية متقابلة يصدق تعبيره المحس الدقيق عنها، فيترك في قوله تلك الآثار الواضحة من التعارض الذي يبدو جليًّا بينًا لمن قرأ أدبه، فوصل بين أطرافه وربط بين أجزائه، ونظر إلى الوحدة المتصلة بين أوله وآخره وبعيده وقريبه. وإذا ما بطل التعليل الفلسفي لبعض فعله أو كله، فقد بقيَ علينا ولا بد أن ننظر إلى ما يمكن أن يكون لهذا الفهم النفسي للرجل من أثر في فعله؛ لنفهم حياته العملية كما فهمنا حياته القولية فهمًا ذا أصول ثابتة صادقة، تمدُّها الخبرة النفسية وتؤيدها المعرفة العلمية، لا فهم نقولٍ ومرويات يعتريها ما يعتري الأخبار دائمًا من اضطراب وتأثُّر، ولا فهم فروض ينال منها الهوى والتحكم، وذلك هو تمام ما ندعو إليه في فهم شخصية الأديب فهمًا يُجدي على فهم أدبه، فهمًا متمثلًا متذوقًا.

فلننظر أولًا فيما عُرف وصحَّ نقلُه عن أسلوب حياة الرجل، فأما:

زهد أبي العلاء

فقد كان في العصر الثاني من حياته يكتفي بدخله القليل لا أكثر، وهو ضرب من الاعتدال المترفع، ليس كالزهد الذي وصفه وأطنب فيه، حينما كان يتجه إلى القول في الزهد. فلا هو ترك الدنيا الترك التام ولا حرَم نفسه ذلك الحرمان الشبيه برهبنة الرهبان، وما إلى ذلك مما تراه فيما أسلفنا من حديثه عن الزهد، وهي حال من القناعة، لعلَّك تراها أيسر ما تحمله عليه نفسيته التي وصفناها آنفًا، وإنك لتجد غير قليل من الشواهد على توجيه نفسيته له نحو هذه القناعة والاعتدال أو الزهد إن أبيت إلا أن تسمِّيَه كذلك، فهو عاجز عن الغنى، وبخاصة بعد تجربته طوال الدهر الأول من حياته أيام الشباب والأمل، فبقي أن يكون الصبر عنده أروح من تكلف الطلب؛ لأنه يستطيع حمل نفسه عليه، حين يعزُّ عليه سبيل الطلب ووسائله، كما يقول:

الصبرُ أروحُ من حاجٍ تَكلُّفُه
تُزجي له الخيل والمهريَّة القودا
١: ٢١٧

فهو يكتفي بالقناعة عن عظائم لا تبلغ إلا بالجد ويقول:

ويكفيك التقنُّعُ من قريب
عظائم ليس تُبلغ بالتونِّي
٢: ٣١٨

وهو مستطيع أن يُخفيَ مطعمه، فلا يدري أحد ماذا أكل؛ كقوله:

لنفسيَ ما أطعمتُ لم يدرِ آكلٌ
سوايَ أحلوًا جاز في الفم أم مُرَّا
١: ٢٨٨

وبهذا ومثله من أخذ النفس بالصبر يثري مع فقد المال ويقول:

إذا أثريتَ من صبر جميل
فأنت وإن فقدتَ المال مثر
١: ٣٢٢

وهكذا يثري بالمعالي فيقول:

كثير من تكثر بالمعالي
على ما كان من قل وكثر
١: ٣٢٢

ويكون العقل الوافر خيرًا من المال في قوله:

فإن لم تنلْ وفرًا من المال فاستعِن
وفارة عقل فهي أزكى من الوفرِ
١: ٣٠٨

وهكذا يستعلي على العجز ويغلي نفسه إذا ما أرخصه الناس، ويسجل ذلك قائلًا:

لما رأيت سجايا العصر تُرخصني
رددت قدري إلى صبري فأغلى بي
١: ١٠٥

وهي قوة نفس لا عجب في أن تكون عند أبي العلاء، وأن يكافح بها ما فاته من قوة وقدرة على الغلاب، ولكن أجل وأكثر من هذه القوة على الصبر، قوته على الجهر وصدق وصفه لنفسه في غير مواربة ولا مداجاة، ويتمثل لك ذلك إذا ما قدرت أن هذا البيت الأخير: «لما رأيت سجايا العصر … إلخ»، وهو جليٌّ تمام الجلاء في وصف الحال النفسية وناموسها الذي أشرنا إليه وأجرينا حياته عليه. هذا البيت إنما يقوله بعد قوله:

وحبُّ دنياك طبعٌ في المقيم بها
فقد مُنيت بقرن منه غلَّاب
١: ١٠٥

فيجهر صريحًا بحب الدنيا وغلبة ذلك له، كما يجهر بما اتقى به ذلك؛ إذ أرخصه العصر فأغلى به الصبر، ويرحم الله الشيخ فما أقواه، ثم ما أصدقه، وقد فسر لنا قناعته خير تفسير وأصرحه؛ ولذلك نفهم عنه زهده مع استمرار أمله، بعدما عجز، فهمًا نفسيًّا واقعيًّا، لا تفلسف فيه ولا هو مذهب له، ولا حاجة بنا إلى تكلف كهذا. وفي الذي مضى من قوله المتقابل في هذا الزهد ما يتم به هذا الفهم النفسي ولا نعيده هنا.

ومن هذا الزهد: تحريم الحيوان — وقوله فيه متقابل — على ما رأيت فيما مضى، وفعله فيه مفهوم غير مستعصٍ على هذا البيان النفسي، دون الزيادة عليه ببرهمة أو غيرها من الدعاوى. وأما:

العزلة

فإن الرجل بعدما أعلن عن عزمه عليها ما أعلن في رسالته إلى أهل المعرة وبعدما قال في فضلها ما قال كما قال في ضررها ما قال، (انظر ص٨٨ وما بعدها)، لم يصِر منها إلى حال تحوج إلى التعليل الفلسفي أو النفسي؛ إذ لم يلتزمها كما يشهد بذلك من آثاره، مثل قوله:

يزورني القوم هذا أرضُه يمَنٌ
من البلاد وهذا أرضه الطبَس١
٢: ٢١

وقوله:

وشُهرت في الدنيا ومَن لي أن أرى
كالنيِّر الفاني مع الإشهار
١: ٣٦٦
وأخبار القدماء مؤيدة لهذا، كما أن المحدثين يذكرون فشله في طلب العزلة٢ وليس الذي يعنينا أنهم يؤيدون الأخبار الواردة بذلك، وإنما المسألة هي تقريرهم أن هذه العزلة كانت أمنية ضائعة؛ لأن أبا العلاء وإن زهد في كل لذات الحياة لا يستطيع أن يزهد في العلم والتأليف اللذين قد ملكاه واستأثرَا به، وكلاهما يكلفه عِشرة الناس لاحتياجه إلى مَن يقرأ له ويكتب عنه.٣هكذا يفسرون هذا العجز عن الاعتزال، وهو تفسير لا أرتاح إليه؛ لأن التأليف والكتابة يحوجان إلى واحد أو آحاد قليلة، لا ينفي الاتصال بهم تحقق العزلة والبعد عن الناس! ثم هو في كل حال تفسير احتمالي لا غير. على أنك إن تركت هذا التفسير فإنك لن تترك ما تلاه من القول في بيان أن الرجل — لما سبق — لم يلبث بعد استقراره بالمعرة أن اشتغل بالتعليم فالتفَّ حوله الطلاب. وما هو إلا الزمن القليل حتى كثر سوادُهم حوله، ثم لم تمضِ على هذه الحال أعوام حتى أخذ الناس يزورونه، ويكتبون إليه فاستحالت عزلتُه إلى أشد أنواع المعاشرة.٤

لن تترك هذا القول دون تعليق؛ لأن الحاجة إلى من يكتب أو إلى من يقرأ لا يترتب عليها أن يشتغل أبو العلاء بالتعليم، ثم يكثر سواد الطلاب حوله، ثم يزوره الناس، ويكتبون إليه فتستحيل عزلتُه إلى أشد أنواع المعاشرة!

•••

إنك لتلمح في صدر هذا الكلام — المبين لسبب فشله في طلب العزلة — إشارة إلى حالته الجسمية وحاجته بها إلى غيره دون مضي في ترتيب أثر آخر على هذه الحاجة، وكان من القريب أن يقدر أثر هذه الحاجة النفسي، فلعله يكشف وجه الرأي والتعليل لفعل أبي العلاء في العزلة. وهذا التفسير — فيما يبدو لي — هو تتمة الذي مضى من بيان أثر الناموس النفسي المعروف على المحرومين والمنقوصين، ويرجع إلى أن الرجل بعد دوره الأول في الاستعلاء على حالته المادية، وبعد فشله في ذلك وخروجه من بغداد، جعل يستعلي على الدنيا والناس، أو قُل: جعل يستعلي على غريزته الاجتماعية وهو استعلاء شاقٌّ مرهق لا يتيسَّر النجاح فيه؛ ولهذا أعلن رغبته بل تصميمه على العزلة، ولكن غلبه من نفسه ما بقي فيها من الفطرة الاجتماعية، فلم يتهيأ له الاعتزال، فعلَّم وألَّف، ولقي الزوار، وتلقَّى الكتب. وهذه البقية الفطرية التي لم يتيسر له التغلب عليها هي التي ظل حتى آخر عمره يعترف بدفعها له وتأثيرها عليه اعترافًا دقيقًا صادقًا شجاعًا صريحًا فيحدث عن حبِّه الدنيا وميله إلى لذائذها، وأنه لم يزهد فيها ولكنها أخطأته، فتجمَّل بالصبر مترفعًا، وظلَّ يقاسي هذا العناء النفسي الدائم، فيُعلن حينًا ترفُّعَه عن عِشرة الناس وانتقاصهم والنصح بالبعد عنهم، وما إلى ذلك من مختلف معانيه في الوحدة والنفرة، ولكنه لا يعتزل ولا ينفر. ولا يخطئك رغم ذلك من شعره ونثره ما يعطيك هذا التفسير النفسي الملحوظ من الاختلاط ثم الفرار عجزًا مع استمرار مراودة الآمال؛ كقوله:

لجأت إلى السكون من التلاحي
كما لجأ الجبان إلى الفرار
ويجمع منِّيَ الشفتين صمتي
وأبخلُ في المحافل بافتراري
وكان تأنُّسي بهمو قديمًا
عِثارًا حُمَّ في شأو اغتراري
يئستُ من اكتساب الخير لما
رأيتُ الخيرَ وُفِّر للشرار
١: ٣٢٧

وقوله:

هويتُ انفراديَ كيما يخِف
عمَّن أعاشر ثِقلُ احتمالي
٢: ٢١٠

مع قوله:

وما احتجبت عن الأقوام من نسك
وإنما أنت للنكراء محتجب
١: ٦٦
وهو ما تقرؤه في نثره٥ إذ يقول: «نابي تاب، واليد ليست ذات أكناب،٦ فأنا للناس أخو جناب.»٧

ولعلك مستطيع أن تلمح في فشل طلبه العزلة مظهرَ ما يشكوه من مراودة آماله له مدى الدهر؛ لأن هذه العزلة انطواء على النفس يليق به ويُريحه ويستطيع معه الفراغ للعلم والتأليف دون توسع في لقاء الناس، ولكنها النفس الإنسانية تنازعه وهو معها في غلاب، كما قال كثيرًا فصدق الناس القول عن نفسه. وأما:

المرأة والنسل

فإن الرجل لم يحاول منهما شيئًا، مهما يختلف قوله بشأنهما كما أسلفنا بيانه، وسوق غير القليل من متقابله، ولسنا نطمئن إلى أن الانصراف التام عنهما إنما كان من الرجل فلسفة تذهب إلى كذا وكيت، أو تلتزم ما رأت في ذلك من رأي؛ لأن الرأي كما أمضينا القول لا يتجه وجهة بعينها، والتفلسف لا يؤيده شاهد، بل تنقضه الشواهد، فلأي شيء ترك أبو العلاء حياة الأسرة تركًا تامًّا؟ وهلَّا كانت نفسه تنازعه فيحاول ولا يصل كما فعل في العزلة مثلًا؟ لن يُفسر هذا الترك بالنفور من الناس؛ لأنه خالط كما سبق، كما لا أحسبه يُفسر بالفقر وقلة المورد؛ لأن هذا الرزق الثابت كان يكفي أبا العلاء وخادمه، فكان يكفيه مع زوج مكان خادم. وهبها الحاجة وضيق ذات اليد، فهل تقوى الحاجة على منازعة نفسه فلا يحاول الاتصال بالمرأة أبدًا حتى في عصر نشاطه واستعلائه على ضعفه وجدِّه في سبيل النجاح حينما كان يطمع ويطمح ويقول:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل

أما إني منذ تركت الاستراحة إلى تفلسفه وتحريمه النسل فلسفة، ومِلتُ إلى البيان النفسي جعلت لا أقف عند هذه الظاهرة من فعل الرجل في ترك الزواج والنسل، بل أسأل نفسي: لماذا جانب أبو العلاء المرأة؟ ومضيت أبحث عن سرِّ أبي العلاء، لِم لَم يتزوج؟

وللمرأة مكانها في فنِّ صاحبنا مهما يكن القول الشائع عن رأيه في الزواج والنسل، ولقد جاءك من صورته الثانية التي لم يرسمها له مؤرِّخوه ولا دارسو أدبه ما قرأت في ص٧٨ وما بعدها، من رأيه الحسن في المرأة، وهو — بدقيق حسِّه وصريح قوله وجريء تعبيره — يعطينا الكثير عن منزلة المرأة في هذا الفن، أو مكانتها في نفس الرجل؛ فقد تغزل غير قليل في شعره الذي يجمعه سقط الزند،٨ وفي هذا الشعر ما يمثل العهد الأول من عهود حياته، وهو عهد الشباب والأمل. ومهما يكن التقدير الفني لهذا الغزل عند دارسه، ومهما يكن الرأي أنه تقليدي، فإنه لا شك يدل على شعور بالمرأة، ومكانها في الفن وهو قدر لا مشاحة فيه. على أنه بعد ذلك في عهده الثاني لم تخلُ لزومياته الوقورة — بل لم يخلُ نثره — من حديث المرأة مع الخمر أو وحدها، فوق ما سمعت من ذلك في حديثنا السابق عن رأيه غير الشائع في المرأة؛ وصفًا لها، أو حديثًا عن حلِّ الطيبات، أو عن الحرمان من كذا وكذا منها؛ كالطيف والرضاب … إلخ. وإليك طرفًا منه:
يا حبذا العيشُ الأنيق ولم تَرُم
هدمَ السرور من الخطوب زلازلُ
٢: ١٥٩
ولا قصَّرتْ لي أمُّ ليلى بشربها
حنادس أوقات عليَّ طيال
٢: ١٨٧
ويعجبني شيئان خفض وصحة
ولكنَّ ريب الدهر غيَّر شيَّاني٩
وما جبل الريان عندي بطائل
ولا أنا من خود الحسان بريان
٢: ٣٠٧
خمور الريق لسن بكل حال
على طلابهن محرمات
ولكن الأوانس باعثات
ركابك في مهالك مقتمات
١: ١٥١
بيض دَوار للقلوب كأنَّها
عين بدوَّار وعين دَوارِ١٠
هذي أواريُّ المنازل ما درت
أني أُواري في حشايَ أُواري
أما فواري العين عنك فصادفت
سمعًا وأما الوجد منك فواري
١: ٣٣٣
ولو اطمأننت إلى أثر الشعور النفسي في قوله؛ لوجدت في غزله ووصفه مثل الذي تجد في ذمِّه لهنَّ، وفقده إياهنَّ من الدلالة على الشعور بهنَّ، بل على الاتجاه إليهنَّ؛ ولذلك مثل غير قليلة، حتى في حديثه عن التسبيح والتمجيد حين يطلب أو يغري بالأجر عليه، فيذكر أنه يوصل لرضاب الحور، ويقول في الفصول:١١ «ومَن مزج رضابه بذكر الله لم ييأس من رضاب الحور.» على أنك ستقرأ في نثره من أسفه وتشهِّيه ما هو جليٌّ واضح؛ كقوله:١٢ «الشبيبة أضعت الحبيبة، فكيف ورأسك خليس؟ سوداء مختلطة ببياض …» وقوله١٣ مخاطبًا الله تعالى: «إن تصوير ابن آدم لعجب بديع، ما أقدرك على تغيير ما نحن فيه، إن أردت التبديل، لا أكتمك ما أنت به عليم، إن أسفي على الدنيا لطويل، نفد عمري وغيري المصيب، رأسي أسحم، ولذاتي شيب.» وإذ يقدر اللذة وعمارة الدنيا بها في مثل قوله:١٤ «… وقول الحق أفضل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي …» ولو ألممت ببكائه الشباب، والتبرُّم بالمشيب، وما يتصل بذلك، لأوفيت على كثير من الاتجاه إلى المرأة. ولهذا كله درسه المستقل المفرد، وحسبنا هنا تقرير أنَّ أبا العلاء متجه إلى المرأة، شاعر بالفطرة البشرية، متنبِّه إلى الحاجة الإنسانية، فلماذا أمسك عن الزواج إذن؟

إنَّ الرجل لم يترك هذا السؤال بغير جواب؛ فقد تحدَّث فنُّه عنه غير قليل من الحديث، وقد أشرنا أيضًا إلى بعضه فيما مضى من حديث عن المرأة واختلاف رأيه فيها، وبقي من ذلك ما لو أحطنا به وتأملناه، فلعله موفٍ بنا على تعليل ترتاح إليه النفس أكثر من قول القائلين بالتفلسف، وتحريم النسل، وما إلى ذلك من فروض تركوا فيها واقع الرجل، وأهملوا دراسة فنِّه، ثم راحوا يتحدثون عن كل أولئك من أمره، بعيدين عنه، غير متصلين به.

تحدث أبو العلاء عن زواجه في مثل قوله:

أنا للضرورة في الحياة مقارن
ما زلت أسبح في البحار الموج
وصرورة في شيمتين: لأنني
مذ كنت لم أحجج ولم أتزوج
١: ١٧٣

وقوله:

أسير عن الدنيا وما أنا ذاكر
لها بسلام إن أحداثها حمس١٥
صرورة ما حالين: ما لكعابها
ولا الركن تقبيل لديَّ ولا لمس
ولم أرث النصف الفتاة ولم ترث
لي الربع بل ربع تطاول أو خمس١٦
٢: ١١

فهو مع حديثه في هذه الأبيات الأخيرة عن التقبيل واللمس والحرمان والشدة يجمع بين الحج والزواج في أنه صرورة عنهما، كما قال في البيتين السابقين (صرورة)، و(مقارن للضرورة)، فلأي ملاحظة جمع بين الحج والزواج وحرمانه منهما هذا الجمع؟ إنه يجمع بينهما أيضًا في حديثه عن غيره كما جمع بينهما في حديثه عن نفسه، فمن قوله في غيره:

قد يحجُّ الفتى ويَغنى بعرس
وهو من صُرَّة اللُّجَين صرورة
١: ٣٠٣

فلأمر ما هذا الجمع بين الحج والزواج؟ أهو يقدر فيهما الاستطاعة والمقدرة المالية بملك صرة اللجين، وهو لا يملك شيئًا؟ ربما كان هذا هو سبب الجمع بينهما، ويرجحه قوله بوضوح في الحج:

لا ملك لي وأرى الدنيا تحاصرني
وما حججت وقد لاقيت إحصارا
١: ٢٩٧

وهذا الإحصار الذي يذكره، اصطلاح فقهي، يريدون به المنع من الحج بعذر قاهر من مرض أو عدو يحول بين الشخص وأداء الشعائر، وهم يعقدون له فصلًا خاصًّا في كلامهم عن الحج، فهل ذكْرُ هذا الإحصار يفسر المعنى الذي جمع من أجله صاحبنا بين الحج والزواج؟ إنَّ أبا العلاء قد يكون محصرًا عن الحج بضعفه وعجزه؛ إذ هو مستطيع بغيره — كما يقول — لا بنفسه، وهو لا يجد نفقة السفر له ولخادم يُعينه، ثم هو في كبرته قد انضم إلى أسباب إحصاره أيضًا، الضعف الذي لعله لا يستطيع معه السفر، فهل منعه من الزواج أنه غير مستطيع المهر والنفقة؟ إنَّه يتحدث عن الحج والعجز مرة أخرى في قوله:

ولم أقضِ حجًّا في منًى وبلادها
وكم عاجز قد زارها متنفِّلا
٢: ١٦٨

فقد تكون في هذا القول إشارة ما إلى عجزه عن الحج. وجملة هذه تلفت النظر — في غير بعد — إلى أن الشيخ قد عجز عن الحج والزواج أو أُحصر عنهما كما يقول ما دام يجمع بينهما هذا الجمع أكثر من مرة، وهي نتيجة لا بُعدَ فيها، ومقدماتها تعطيها من قرب، فبقي أن نعرف سبب إحصاره عن الحج والزواج؟ أهو المال وعدم وجدانه؟ أم هو شيء آخر؟ وهل سبب الإحصار واحد فيهما؟ لقد كان العجز المالي سببًا واضحًا في الحج؛ لأنَّه رحلة ونقلة تتطلَّب نوعًا من القدرة، وتلزم بمزيد من المال لا يمكن معه قضاء الأمور — كما في الإقامة — بما يتيسر. ولكنَّ العجز المالي في الزواج ربما لا يُظهر سببًا للإحصار لما قدَّمنا من أن أبا العلاء كان يعيش مع تابع ولا بد، فلو كان هذا التابع فتاة، أو امرأة كيفما كانت لم يزد عليه بذلك شيء من المال. بل لعل أبا العلاء كان يجد فيها معونة على المعيشة بدخله اليسير، لا يجدها بدونها مع الخادم الرجل. ولم يكن يعجزه أن يجد كريمة فقيرة تشاركه هذه الحياة الخفيفة الحاجات المحدودة المقدرة. ومن ذلك وما إليه نستطيع الاطمئنان إلى أن العجز المالي ليس سببًا قويًّا للإحصار عن الزواج، ومن الدقة أن نمضيَ في التماس سبب آخر. وقد وجدنا في الحج سببَين للعجز، هما المال، ثم ضعفه إلى حدٍّ ما. وقد بعد — إلى حدٍّ ما كذلك — أن المال من أسباب العجز عن الزواج، فبقي أن هناك سببًا آخر، فهل هو ضعف عن الزواج؟ وهل في المسألة اعتبارٌ جسمي جنسي له دخله في هذا التصرف؟ لا بعد في أن يكون ذلك، وواجب البحث يقضي علينا بالمضي في اختبار هذا الفرض.

وفنُّ أبي العلاء هو دائمًا مادة هذا الاختبار وأداته؛ لأنه فنٌّ دقيق صريح صادق عميق. وعند هذا الاختبار نجد في أدب صاحبنا ذكْرَ سرٍّ أو أسرار في حياته، قد تكون أسرار الكون والمعرفة أحيانًا كما يحتمل من قرب أن تكون أسرارًا من غير هذا الصنف، ومن حديثه في الأسرار التي لا يبدو أنها أسرار الكون وخفايا الحقائق، مثل قوله:

ولديَّ سرٌّ ليس يمكن ذكره
يخفى على البصراء وهو نهار
١: ٢٧٥

فما هذا السر يا ترى؟ إنه يذكره في سياق الحديث عن بني آدم وولادة أمهم إياهم عاركًا في غير طهر، كما سيتحدث بعد بيتين اثنين من ذكر هذا السرِّ عن الغريزة المسيئة وزجرها، مريدًا بها تلك الغريزة الجنسية، لقوله:

فازجر غريزتك المسيئة جاهدًا
واستكف أن تتخير الأصهار

فهل يرجح هذا الجو العام للحديث أنَّ الحديث عن سرٍّ يتصل بهذه الغريزة؟ وإن كان يقول عقب السرِّ مباشرة:

أما الهدى فوجدته ما بيننا
سرًّا ولكن الضلال جهار

فإنَّ هذا السرَّ من الهدى غير ما في سياق الحديث العام، ومع هذا فترجيح أن السرَّ الأول هو سرُّ الغريزة لا بُعدَ فيه.

وتسمع من حديثه في الأسرار قوله:

طوي عنك سرًّا صاحبٌ قبل شيبة
فلما انجلى عنه الشبابُ جلاه
٢: ٣٣٦

فهو قبل هذا ببيت واحد يتحدَّث عن حمار الوحش يفتك به القدر فيطلق عرسه كارهًا، ثم يأمر في البيت الذي قبل حديث السر، بعدم الاستسلام لهمِّ النفس، كما يأمر في الشطر الثاني بالإدلاج إذا ما نام الركب، وبعد هذا يذكر حديث السر المطوي قبل الشيب، والمجلو بعد انجلاء الشباب، وقريب من السياق، ومن ألفاظ البيت أنَّه سرٌّ يتصل بالغريزة المذكورة. ومن الممكن حقًّا أن يكون سر الزواج، فتضم إلى هذا قوله حين يتحدث عن حياته، وأنه فيها سامري يقول: لا مساس، كما قال السامري في بني إسرائيل، وذكره السر في هذا المقام بقوله:

ولم يُطل سامري حديثي
بل عشتُ في الدهر سامريَّا
لو علم العاذلون سرِّي
لأصبح القوم عاذريَّا
٢: ٣٦٢

فهو سرُّ الوحدة وسرُّ السامرية التي تقول: لا مساس، وهو سرٌّ يعذر من يعرفه في هذه الوحدة والسامرية، فهلا يرجح هذا أنه سرُّ ترك الزواج، أو سرُّ الغريزة كما قلنا؟ أحسب أنه ترجيح مقبول على أنك لو جمعت إلى هذا مثله من قول الشيخ لوجدته يزداد جهرة، فهو في صراحته التي عهدناها، وشجاعته التي كثرت شواهدها، وفي دقته التي أودع بها خواطره آثاره الفنية، يقول ما هو أكشف وأبين؛ كقوله:

ولم يلقَ في دهره أجربي
هوانيَ فلينأ عنِّي هواني١٧
وعنديَ سرٌّ بَذيُّ الحديث
كنَتْ عنه في العالمين الغواني
٢: ٣٢٨

فما السر البذي الحديث الذي تكني عنه الغواني في العالمين؟ أليس هو السر الذي ليس يمكن ذكره كما قال، وهو السر الذي يخفى على البصراء لا يعرفونه، وهو نهار في آثاره ونتائجه، كما وصفه أيضًا هو هو غالبًا. والسر البذي الذي لا يمكنه ذكره، والذي تكني عنه الغواني في العالمين، والذي هو خفي على البصراء، هو سرُّ الغريزة فيما ترجح مطمئنًّا، هو سرُّ الإحصار عن الزواج، هو السر الذي يزيده كشفًا قوله في البيت التالي لما سبق:

إذا رملةٌ لم تجئْ بالنبات
فقد جهلتْ أن سقَتها السواني١٨

فلم يكن إلا جهلًا أن يتزوَّج، وهو كالرملة التي لا تجيء بالنبات. ولعلك تجد شواهد في فن الرجل الصريح على هذا السر، وإن لم يذكر فيها لفظ السر، كأن تسمعه يقول ناظمًا:

وهممت أن تحظى ولكن طالما
خذلتك عن نيل المراد خواذل
٢: ١٥٩
ويقول ناثرًا:١٩ «أحب الدنيا وآلتها ليست فيَّ، وقد يئست من بلوغها واليأس مريح فإلامَ التشوُّف إلى الضلال؟» فهل صدق أحد الناس حديث نفسه في حب الدنيا والتشوُّف إلى ضلالها كما صدق أبو العلاء الصريح؟ أحسبه بهذا الصدق نفسه قد صدقهم الحديث عن حظِّه من الغريزة حتى ما كانوا في حاجة بعدها إلى أن يرجموا بالغيب، ويذهبوا مع الفروض، ويتركوا مع ذلك كله حديث الرجل عن واقعه وتقديره الصحيح لصلة الجسم بالنفس، «وأن استقامة العالم لا تكون ولذة الدنيا منقطعة»، كما يقول هو:

أما إنِّي من هذا الطريق النفسي الواقعي أطمئن إلى أن صاحبنا قد منعه من الزواج مانع مادي، وأنه أُحصر عن الزواج إحصار المحرم بالحج عن أداء الشعائر، ولكني لا ألقى غيري بهذا، إلا على أنه فرض في فهْم هذه القطع من الشعر، وهاتيك الإشارات البعيدة والقريبة من النثر، فرضٌ أضعه بين يدي الدارسين، ولهم رأيهم في قبوله أو رفضه، رغم اطمئناني أنا إليه كما اطمأننت إلى ردِّ صنيع أبي العلاء كله في الحياة إلى أسباب واقعية قضت بها حاله الجسمية، ونفس مقيدة بهذا الجسم، وهي فيه أسيرة وبه لا بغيره تصول.

على أنِّي حين أترك للدارسين رفض هذا الفرض أو قبوله، يدفعني حظي من الاطمئنان له إلى أن أدعوَ الدارسين من النفسيين إلى تكملة إيضاح هذه الحال النفسية، وتبيُّن سائر آثارها بعدما بدا فيها من أثر الآفة الظاهرة، ثم آفة الغريزة الخفية على البصراء، فإن هذه الأحوال من شخصية الرجل لتفتح آفاقًا فسيحة من البحث النفسي، وتُلقي على فنِّه أضواءً لا بد منها لفهمه. بعدما رأينا منه المثل القوي الواضح لضرورة فهْم الأدب ذلك الفهم النفسي.

وأخيرًا في سبيل تحديد القول وضبط الفكرة، أُجمل خطوات هذا الرأي فأبيِّن في إيجاز أني:

قلت آنفًا

  • (١)

    إن أبا العلاء قد استمر الحديث عنه يتجدد، وهو كقوله: خليق بأن يكرر ليفهم، فحاولت فهمه، على أن يكون عملي في ذلك مثلًا من الفهم النفسي للأديب وأدبه، وتبعت في ذلك ما اشتهر على الأعصر، من نعته بالفلسفة، فالتمست رأيه في أصول التفلسف، ومسألة المعرفة، ثم في آراء الفيلسوف الثابتة التي أقام عليها مذهبه، فكانت النتيجة:

  • (٢)

    أن أبا العلاء لم يترك في مسألة المعرفة، ومنهج التفكير شيئًا لم يقلْه، كما لم يقف في ذلك عند رأيٍ بعينه، بل ذكر من ذلك كلَّ متقابل ومتخالف، فتركت مسألة المعرفة إلى آرائه ألتمس ما ثبت منها، واخترت ما يسمى بالفلسفة الإنسانية لبُعدها عن الغموض والاضطراب، ولأنها ناحية تأثير الفلسفة على سلوك الفيلسوف، ولأن مفلسفيه يذكرون اهتمامه بشئون الحياة الإنسانية، فتبين من النظر في ذلك:

  • (٣)

    أن أبا العلاء تتقابل آراؤه في كل شيء من الدين والدنيا، ومن شئون السلوك الإنساني كله حتى ليمكنك وضع ثبت من ذلك بمتقابلات معانيه، يساير فيه التيار الموجب تيار سالب. ومن هذا استطعت أن أقول:

  • (٤)

    إنَّ أبا العلاء من حيث المعرفة أو المذهب الفلسفي لم يعين شيئًا تستند إليه فلسفة، ثم تبين إلى جانب ذلك أنَّه لم يترك التفلسف فقط، بل كانت له اتجاهات تخلُّ بالمنهج الفلسفي إخلالًا واضحًا؛ فقد حدَّد مقدرة العقل، وقرَّر وجود الأسرار التي لا ترام، ونفى ثبات النواميس واطراد السنن الكونية، وترك الكون للمشيئة المطلقة، وليس كذلك يقول، حتى الدينيون المحدثون، كما بينت في نفي الفلسفة عنه والإخلال بمنهجها، نواحي أخرى متعددة.

    وإلى هنا تعيَّن ألَّا تفهم آثار أبي العلاء بمنطق الفلسفة المنظم للتفكير العقلي، وبقيَ أنَّه متفنِّن، أديب، لعله تبع منطق العاطفة، وهدى الوجدان، فوجب أن نفهمه فهمًا نفسيًّا تدل فيه حالة النفس على ما اتجه إليه إحساسُ الرجل، وما وجده من وقع الحياة على روحه لا على عقله، وفي معاناته المنطقية التفكيرية. ومن أصول هذا الفهم النفسي:

  • (٥)

    أنَّ أبا العلاء من حيث هو إنسان خاضع للنواميس النفسية العامة تترك حاله الجسمية فيه أثرها، أو آثارها النفسية، والرجل ذو آفة شديدة الوقع، فلا بد أنها تركت فيه أثرًا في تناوله وتفنُّنه وتصرفه. والناموس العام للناقصين والمحرومين هو: فعل مركب النقص أو عقدة العجز في نفوسهم، وأبو العلاء منهم، فلا أن يكون لهذا الناموس مظهره في حياته، وبالاستعانة بأقوال أبي العلاء نفسه وخواطره الخصبة الوافية والتي دوَّنها، تبيَّن:

  • (٦)

    أنَّ أبا العلاء قد كانت حياته استعلاءً متصلًا، وتعويضًا متلاحقًا؛ إذ مرَّ بدورَين واضحين في فهمه هو لنفسه، ووصفه لشئون حياته في آثاره التي بلغت حدَّ الاعترافات الصريحة المفصَّلة الدقيقة الصادقة. وبملاحظة هذا الناموس يمكن تفسير وقائع حياة أبي العلاء، ويتجلَّى مراده مما يقول نثرًا وشعرًا. ومن كل أولئك يصدق حكمنا عليه بصحة فهمنا له، فعرضت لفهم أبي العلاء من قوله المتقابل وفعله المسير بالمؤثرات النفسية، فتبيَّن من ذلك:

  • (٧)

    أنَّ أبا العلاء تقنَّع وصبر على رغبة في الحياة ملحة. فليس هو فيلسوفًا متقشفًا، ولا زاهدًا قد غلب نفسه، بل هو محروم مترفع.

  • (٨)

    أنَّ أبا العلاء لم يستطع أن يعتزل الناس لبقية حبِّه الحياة، وعنائه بالحالة النفسية التي قاساها طول حياته بفعل الناموس النفسي.

  • (٩)

    بقي النظر في موقفه أمام المرأة والنسل، وقد حق علينا فهمه كذلك فهمًا نفسيًّا بعدما تعيَّن أنَّ هذا هو طريق الفهم السليم، فتبين من النَّظر في فنِّه ذاته.

  • (١٠)

    أنَّ أبا العلاء — فيما أرجِّح — قد منعه من الزواج والنسل مانعٌ جنسي غير الفلسفة والزهد، ولهذا المانع أثره الخطير في نفسية الرجل، كما كان لآفته المادية أثرها، ودارسو النفس الإنسانية خلقاء بأن يزيدونا فهمًا لأثر هذا المانع في نفس الرجل. وبعدما تبين أنه ليس فيلسوفًا ولا خاضعًا للمنطق العقلي، وبعد الذي رأينا من معونته الصادقة القوية لنا على فهم نفسه من آثاره الصريحة الجريئة الصادقة؛ أدركنا في جلاء:

  • (١١)

    أنَّ أبا العلاء رجل وجدان، دقيق الحس، عميق الإدراك، صادق التعبير جدًّا، جريء التعرض للمعاني والخواطر، كاد يكون — أو قد كان فعلًا — في الأدب العربي هو الرجل الذي وجد نفسه، وتحدَّث عن نفسه أدقَّ حديث وأرهفه حسًّا، وأعمقه تأملًا، لم يدع نفسه قيثارة لإطراب الآخرين، ولا قصبة تصفر فيها رياح أهوائهم، وأكاذيب مجدهم.

وإنِّي بعد هذا الاتصال الطويل، والتفهم المتأنِّي لأبي العلاء أقول:

سلام على أبي العلاء بين ذوي النفوس الصادقين.
سلام على أبي العلاء بين العظماء من المتفننين.
سلام على أبي العلاء بين الأدباء الخالدين.

•••

وإذ انتهيتُ إلى مثل هذا من الرأي في أبي العلاء؛ فقد حقَّ عليَّ أن أقول لأصحاب الأدب وتاريخه:
  • (١)

    هذا أبو العلاء في الضوء النفسي، فأعيدوا النظر في كل ما قرَّرتم عن تفلسفه، وتدينه، وزهده، وحياته … إلخ. وأصدروا في ذلك كلِّه أحكامًا أصح وأدق وأصدق … ثم أقول لهم:

  • (٢)

    إن أبا العلاء بقوة نفسه قد قدَّم لنا فنًّا صادقًا، أعطانا الفهم النفسي له مثلًا واضحًا لما تجديه الدراسة النفسية للأدب وتاريخه، من دقة وصحة في تذوق الأدب، وتفهُّم الحياة الفنية، بل الحياة الخاصة لأصحابه، وتأريخ ذلك كله تأريخًا محققًا، لا تقليد فيه، ولا تضطرب أحكامه باضطراب أهواء الناقلين، أو خطأ مناهجهم حين كان يُعوزهم التحليل، وتخدعهم الظواهر. وبهذا المثل تبيَّن لنا أنه ينبغي أن ندرس أدباءنا جميعًا دراسة نفسية، وإن شقَّ ذلك علينا، وخفيت معالم طريقنا إليه؛ لأننا بدون هذا الفهم النفسي، والتصحيح الضروري لمنهج درس الأدب لن نتذوق هذا الأدب، ولن يصحَّ لنا حكمُ ناقد، ولن نكتب مع ذلك التاريخ الصحيح للأدب.

فاعملوا — يا قوم — جادِّين على رفع القواعد من المدرسة النفسية في درس الأدب وتاريخه، وإنكم إن شاء الله لعاملون.

أمين الخولي
١  الطبسان: كورتان بخراسان.
٢  الدكتور طه حسين بك: (ذكرى أبي العلاء: فصل فشله في طلب العزلة، ص٢١٦، ١٧، ط أولى).
٣  الدكتور طه حسين بك: (ذكرى أبي العلاء: فصل فشله في طلب العزلة، ص٢١٦، ١٧، ط أولى).
٤  المصدر السابق.
٥  الفصول ص٢٧٠.
٦  الأكناب غلظ اليد إذا استمرت على العمل.
٧  المجانبة.
٨  تجد من ذلك ما في ١: ١٨٢ و١٨٥ و٢٠٨ و٢٠٩ وج٢: ٤٦ و٦٥ و٧٨ و١٠٠ و١٤٢ و١٥٨ من طبعة مصر سنة ١٣٢٤ إلى مواضع أخرى من شعره ونثره.
٩  الشيَّان: هو المعروف بدم الأخوين، يريد به الحمرة وغضارة الحسن.
١٠  دوار خواتل، ودوار رمل مستدير، ودوار بيت لهم في الجاهلية يطاف به.
١١  ص٣٣٨.
١٢  الفصول ٢٦٧.
١٣  الفصول ٢٦٦.
١٤  الفصول ص٣٥٨.
١٥  أي شديدة.
١٦  الربع والخمس من أظماء الإبل.
١٧  أي هوانيه الذين يهنئون جربه، أي يطلونه بالقار ونحوه.
١٨  النوق يسقى عليها.
١٩  الفصول ص٢٥٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤