تحريم الحيوان

وإذا نظرنا إلى النسك والزهد نظرةً خاصة تفصيلية، فسنجد أبا العلاء يكره الذبح والدم؛ إذ يقول ناثرًا: إذا غمس القوم أيديَهم في الدم؛ فاغمس يدك في ماء الغدير. فصول: ١٢٩.

وعنده أن لا نسك للأسد ما دامت تخافه النعم والوحش:

ما دامتِ الوحشُ والأنعام خائفةً
فرسًا فما صحَّ أمرُ النُّسك للأسد
١: ٢٢٧

ويكفيه إدام الزيت، لم يُرق له دم ولا مسَّ الروح بسبب جريه ألمٌ:

يكفيك أُدمًا سليط ما أريق له
دمٌ ولا مسَّ روحًا إذ جرى ألمٌ
٢: ٢٢٩

فهو يعيب على الناس أكلَ أكباد الحيوان وطلبهم الممنَّع من هذه الأكباد:

ولم تكفكم أكبادُ شاءٍ وجامل
ووحشٍ إلى أن رُمتمو كبدَ الضبِّ
١: ٩٥

ولو أنصفوا لأعفوا لحوم السوام من الطبخ والإغلاء والإنضاج:

لو أنصفوا نزَّهوا سوامهمو
عن غليان الكسور في البرم١
٢: ٢٧٢

وهم بأكلهم اللحوم يجعلون أجوافهم مقابر، ويصونون دماءهم ويجعلون دماءها جُبارًا:

قد صيَّر الإنسان في أحشائه
قبرًا لغانية عن الإقبار
ما جاد من دمِه المصون بقطرة
وأجاد وصفَ دمائها بجُبار
١: ٣٤٢

وهو ينهى عن إرهاف المُدَى للاعتباط نهيه عن سلِّ السيف للأقران:

ولا تُرهف مدًى لعبيطِ نحضٍ
ولا تشهَر على قِرنٍ صقيلَا٢
٢: ١٧٤

ويعلنها رقة حس، كره معها مظاهر العنف في هذه الدنيا، فنهى عن طلب الدنيا والعيش بالسيف:

ولا تَطلُباها من سنانٍ وصارمٍ
بيومِ ضِرابٍ أو بيومِ طعان
٢: ٣١٠

ونهى عن سلِّ السيف مطلقًا:

ولا تشيمَنْ حسامًا كي تُريقَ دمًا
كفاك سيف لهذا الدهر ما غمدا
١: ٢١٥
كفتك حوادث الأيام قتلًا
فلا تعرض لسيف أو لرمح
١: ١٨٦

وكره الحديد حتى المِرود يسبر به الجرح إذ اقترن عنده بالسيف، فنهى عن استعماله:

فإن ترشدوا لا تخضبوا السيف من دم
ولا تلزموا الأميال سبر الجرائح
١: ١٨٤

وهكذا أمن الحيوان والطير كما أمن السمك إذ نُهي عن أكله كغريض الذبائح:

فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالمًا
ولا تبغِ قوتًا من غريض الذبائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافل
بما وضعت فالظلم شرُّ القبائح
١: ١٨٤

ولم يقف التحريم عند ذبحها، بل رأى أبو العلاء أن الحيوان إنما يعمل لنفسه، فما خُلِقت الخيل إلا لتركض في حاجاتها:

لم تُخلق الخيل من عُرٍّ ومصمتة
إلا ليرُكض في حاجاته الفرسُ
٢: ٢١

وما جمعت إلا لأنفسها النحل، ولو علمت بمشتارها ما عسلت:

خفِ الله حتى في جنى النحل ذقتَه
فما جمعت إلا لأنفسها الدَّبْر٣
١: ٢٤٥
تقِ الله حتى في جنى النحل شُرتَه
فما جمعت إلا لأنفسها النحلُ
٢: ١٤٨
فما أحرزته كي يكون لغيرها
ولا جمعته للندى والمنائح
١: ١٨٤
لو تعلم النحل بمشتارها
لم ترها في جبل تعسل
٢: ١٦٤

وهكذا نهى عما يعطي الحيوان فنهى عن اللبن إذ قال:

ولَابْيض٤ أمَّات أرادت صريحه
لأطفالها دون الغواني الصرائح
١: ١٨٤

وكره مشاركة الجدي في لبن أمه:

لا أُشركُ الجديَ في درٍّ يعيش به
ولا أروعُ بناتِ الوحش والضَّان
٢: ٣١٦
لا أفجع الأم بالرضيع ولا
أشرك هذا الفرير في اللبن
٢: ٣٢٤

كما نهى عن البيض:

فلا تأخذ ودائع ذات ريش
فمالك أيها الإنسان بِضْنَه
٢: ٢٩٥

كما نهى عن عسل النحل:

ودَع ضرب النحل الذي بكرت له
كواسب من أزهار نبت فوائح
١: ١٨٤
قد غدت النحل إلى نورها
ويحك يا نحل لمن تكسبين؟
يجيء مشتار بآلاته
فيلسَبُ الأرى ولا تلبسين٥
أتحسبين العمر علمًا به؟
لا بل تعيشين ولا تحسبين
٢: ٣٣٢

ولم يقف الأمر عند الذبح، ولا أخذ الثمار الحيوانية بل كره أبو العلاء كل ترويع للطير والحيوان ونهى عنه:

لا تُرع الطائر يغذو بُجَّه
يلتقط الحبَّ لكي يمجه٦
١: ١٦٨

وبكى الطائر يضربه فتى فيقتله، أو تنصب له الحبالة فيقع فيها، وهو المغني الهاتف:

وابكِ على طائر رماه فتًى
لاهٍ فأوهى بفهره الكتفا
أو صادفتْه حبالةٌ نُصبت
فظل فيها كأنما كُتفا
بكَّر يبغي المعاش مجتهدًا
فقصَّ عند الشروق أو نُتفا
كأنه في الحياة ما فرع الـ
ـغصن فغنَّى عليه أو هَتفا
٢: ٩٤

ووصف في تفصيل مصرع حمامة في اللزوميات ١: ٢٥٢.

وقال عن نفسه: إنه لا تخافه الظبيات ولا الطير؛ لأنها تشبهه في الضعف:

فيا طائر ائمني ويا ظبي لا تخف
شذاي فما بيني وبينكما فرق
٢: ١٠٣
وما الظبيات مني خائفات
وردن على الأصائل أو ربضنه
٢: ٢٩٥
لقد أمنتني الأدماءُ أضحت
تُراعي في مراتعها طُلَيَّا
٣: ٣٦٣

وآلمه ضرب الجمل واعتده ظلمًا له وطلب الرفق به:

يا ضاربَ العود البطيء وظهرُه
لا وزر يحمله كوزر الضارب
ارفق به فشهدت أنك ظالم
في ظالمين أباعد وأقارب
١: ١١٦

كما رابه ضرب العير بغير ذنب وعدَّه جهلًا، ووصف عناء هذا العير وما يلقاه:

لقد رابني مغدى الفقير بجهله
على العير ضربًا ساء ما يتقلَّدُ
يُحمِّلُه ما لا يَطيق فإن ونَى
أحال على ذي فترة يتجلد
يظل كزان مفتر غير محصن
يقام عليه الحد شنعًا فيجلد
تظاهَرُ أبلادُ الرزايا بظهرِه
كشجيه فاعذر عاجزًا يتبلَّد
١: ١٩١

بل لم تقف شفقته عند المستأنس من الحيوان إنما تجاوزته إلى الوحش والهوام، فنهى عن طرد الوحش نفسه:

لا تطرد الوحش فما يلبث الـ
ـمطرود في الدنيا ولا الطارد
١: ٢١٢

وكره قتل البرغوث (فصول ٣٥٦) وعدَّ تسريحه إياه خيرًا من درهم تعطيه لمحتاج، وسوَّى بينه وبين الملك في حب الحياة:

تسريح كفيَّ برغوثًا ظفرت به
أبرُّ من درهم تعطيه محتاجا
لا فرق بين الأسك الجون أطلقه
وجون كندة أمسى يعقد التاجا
كلاهما يتوقى والحياة له
حبيبة ويروم العيش مهتاجا
١: ١٦٨

هذا زهد أبي العلاء وطعامه وصلة ما بينه وبين الحيوان أعلاه وأدناه، وإحساسه لآلامه فكيف نظره هو إلى الحياة؟

١  الكسور العظام.
٢  النَّحض: اللحم.
٣  الدَّبْر: جماعة النحل.
٤  ذكر أبو العلاء هذا البيت في مراسلته لداعي الدعاة، (معجم الأدباء، ١) وقال بعد في الرسالة ما نصه: المراد بالأبيض اللبن، ومشهور أن الأم إذا ذُبِح ولدها وجدت عليه وجدًا عظيمًا وتوفر على أصحاب أمه ما كان يرضع من لبنها، وقد روى البيت في الرسالة هكذا: وأبيض أمات أرادت صريحه.
٥  لسَبَ، كمنع: لدغ.
٦  البُجُّ: بالضم الفَرْخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤