كراهته الحياة
لقد انصرفت نفس أبي العلاء عن الحياة وبرم بها ناثرًا وشاعرًا، فقال:
إني بالحياة لبرم
١ … ما البقاء إلا طول شقاء، والحياة ظلمة ليس فيها إياة
٢ وفي شعره يقول: إن البقاء رزء:
بقائي في الدنيا على رزية
وهل أنا إلا غابر مثل ذاهب
والدعاء له بطول البقاء إنما هو دعاء عليه:
دعا لي بالحياة أخو رداد
رويدك إنما تدعو عليَّا
وحب الدنيا غرور:
وحب الأنفس الدنيا غرور
أقام الناس في هرج ومرج
وحبُّها أسُّ إمامة الجهل:
وحبُّك هذي الدار أسُّ إمامة
لجهلك والبادي على باطن سِتر
ومحبها رهين ذلة وصغار:
ومَن هوِي الدنيا الكذوب فإنه
رهينٌ بثوبَي ذلَّةٍ وصَغار
وتفنن في التنفير من المعيشة والبقاء، فالعيش علة، والردى هو البرء
منها:
وما العيش إلا علة برؤها الردَى
فخلِّي سبيلي أنصرفْ لطياتي
والعيش حرب يضع الحمام أوزارها:
والعيش حربٌ لم يضع أوزارَها
إلا الحِمامُ وكلُّنا أوزارُ
وهو في الحياة عانٍ تفك المنية إساره:
ومن العجائب أنني عانٍ بها
أرجو المنية أن تفك إساري
وقد طال بالحياة وقوفه وراء الجسر ينتظر العبور:
طال وقوفي وراء جسر
وإنما ينظر العبور
عبر الناس فوق جسر أمامي
وتخلفت لا أريد عبورا
والحياة صوم ويوم الممات عيد:
صمت حياتي إلى مماتي
لعل يوم الحِمام عيد
أنا صائم طولَ الحياة وإنما
فِطري الحِمام ويوم ذاك أُعَيِّد
طال صومي ولستُ أرفع سومي
ووفودي على المنية فطر
وكم تمنى في الحياة حال الجماد لا يحس ولا يشتهي:
عز الذي أعفى الجماد فما ترى
حجرًا يغص بمأكل أو يشرق
متعريًا في صيفه وشتائه
ما ريع قط لملبس يتخرق
متجلدًا أو خلته متبلِّدًا
لا دمع فيه بفادح يترقرق
لا حس يؤلمه فيظهر مجزعًا
إن راح يضرب ملطس أو مطرق
٣
لم يَغدُ غدوةَ طائر متكسِّب
وافاه يلقطُ أجدل أو زُرق
٤
أما الجمادُ فإني بتُّ أغبطه
إذ ليس يعلمُ إما زاد أو مُحقا
لا يشعر العود بالنار التي أخذت
فيه ولا الأصهب الداري إذ سُحقا
أجسمًا فيه هذي الروحُ هلَّا
غبطتَ لفقدِها الألمَ السِّلاما
تمنيت أني من هضاب يلملم
إذا ما أتاني الرزءُ لم أتلملم
•••
وأبو العلاء لم يفُتْه التفكير في الانتحار، فهو يقول: لو أمنت
التبعة لجاز أن أُمسك عن الطعام والشراب حتى أخلص من ضنك الحياة، ولكن
أرهب غوائل السبيل (ف٣٦٠).
وذكر مثل هذا في الغفران (١٢٤) فقال: قد كدت ألحق برهط العدم من
غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار ولم أصلح نخلي
بإبار … ويذكر بعد ذلك رأيَ بعض الحكماء في مخالفة هذا، وحكمة الله في
حجز الرجل عن الموت؛ لئلا يرغب كلُّ من احتدم غضبه في الموت، (انظر ١٢٤،
١٢٥).
ويعود إلى فضل الموت بعد يسير (ص١٢٧) فيقول: وإن رمس الهالك لبيت
الحق وإن طرق بالملم الأشق على أنه يغني الثاوي به بعد عدم، ويكفيه
المؤنة مع القدم، وإن الجسد لمن شر خبء يبعد من سبي وسبء، قال
الضبي:
ولقد علمت بأن قصري حفرة
ما بعدها خوف عليَّ ولا عدم
فأزور بيت الحق زورة ماكث
فعلام أحفل ما تقوض وانهدم
وما زالت العرب تُسمي القبر بيتًا، وإن كان المنتقل إليه ميتًا، قال
الراجز:
اليوم يبني لدويد بيته
يا رب بيت حسب بنيته
ومعصم ذي برة لويته
لو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدًا كفيته
هذا من حديثه عن كره الحياة، أما حديثه في ذم الدنيا وبيان مساوئها
فشيء لم أعرض له، وهو يوزن في الكثرة بما قيل في كرهها ويتصل
به.
•••
وإذا زهد أبو العلاء هذا الزهد وكره الحياة هذه الكراهية فكيف نظر
إلى جماعات الناس في صورها الصغرى أو الكبرى …؟ كيف نظر إلى الأسرة
والمرأة …؟ وكيف نظر إلى الشعب والأمة …؟