الوحدة
وكذلك كان رأيه في المجتمع الكبير — وهو الأمة — رأي النفرة منه والهرب، فقال: «واهرب إلى الفضاء الإمليس من شر الجليس، والله ثاني المنفردين.» (فصول ص١٥٢).
وأعلن في الشعر أن شعاره «قاطع» إذا كان شعار تنوخ في القديم «واصل».
فالرأي عنده هجران الدنيا وساكنيها:
وبالغ في العزلة حتى طلبها حيًّا وميتًا فتمنى ألا يشهد الحشر في الناس:
وطلب أن يوسد بموضع لم يحفر فيه قبر لأحد وجعل هذا رتبة لقبره حسبها من رتبة:
وودَّ لو مات في مهمهٍ لتتهيَّأ له هذه العزلة:
وهو ينصح للورقاء بالعزلة إن هديت، ولا يقتصر على الإنسان:
وهكذا رأى وحدته أُنْسًا واجتماعه بغيره وحشة:
ونفى أن في الوحدة وحشة وحبَّذها وذكر مزاياها عنده، وعلَّلها تعليلات مختلفة متنوعة دينية تارة ونظرية طورًا ونفسية حينًا، وسنعرض لهذا في موضعه.
نظرة في هذه الآراء
هذه آراء لأبي العلاء لعلها هي التي بها اشتهر، وهي خطوط صورته عند الناس، وإنها — كما قدَّمنا — لآراء في الفلسفة العملية الإنسانية متصلة بحياة الإنسان أشد الاتصال وأقواه، فهل ثبت أبو العلاء على هذه الآراء؟
لننظر قبل الإجابة عن هذا السؤال إلى صورة الرجل من جانب آخر على الترتيب الذي اتبعناه في عرض جانبها الأول … فأما:
زهد أبي العلاء
وما في عالم الأرض زاهد ولا الرهبان أهل الصوامع:
ويتهم مَنْ يُظهر الزهد فيرى بعض هذا مما سببه ضعف العقول، وبعضه مما سببه بُعْد الهمم:
وهذا هو زهد أولئك الذين طمعوا وعملوا فخذلوا، وعزَّ عليهم الحرمان فتركوا الدنيا ترفعًا، وهو يشير بهذا إلى معنًى نفسي دقيق، وقد يكون هذا النسك لبُعْد الهمم هو ما عناه بقوله:
ومثله:
والمعري يحمل عصا النسك كما أسلفنا، ويراها أحمى من رمح عامر، وأشرف من قوس حاجب، لكنه هو الذي يرى أن العلا حظ الأقوياء:
وأنه فاز الجسور وخاب مَن لم يجسر:
ولا ينال العلا إلا بأطراف القنا وكعوبه، وضرب الهوادي بالحديد المسمم وما هو من ذلك بسبيل:
ومن يكتحل بالسهد في طلب العلا فجائز أن يرى منهاجها:
وعنده أن السؤدد للشجاع والخطيب حتى في الطير:
•••
وإن يرَ النسك لا يكون إلا عن صحة واقتدار، نسك شارخ لا من فات الأربعين، فلكم بكى الشيخ شبابه آسفًا في حسرة وحنَّ إليه في لوعة كقوله:
إلى كثير من ذلك قوى، وهو الحاض على اغتنام الشباب:
بل هو الحاض على الأنانية وإيثار النفس على غيرها:
وإذا لم يكن لشيء عنده قيمة، وقد هوَّن من شأن المال وسوَّى الفقر بالغنى أو فضَّله، ورأى الفقير أقلَّ همًّا، فهو هو الذي قال: «نِعْمَ الشيء الثراء لمن كسا العاري وأطعم السغبان.» (ف٢٨٢) وهو الذي يرى العز في الثروة والعيش في الحيرة:
وهو القائل: إن كل قلب جُبِل على حب الغنى:
والمال عنده خدن النفس والفقر موت:
والفقر موت يرجى النشور منه بالمال:
والناس يحترمون الغني ويعيبون الفقير:
يخدمون الغني لا الفقير:
والمعري نفسه يألم للزوم الفقر له، كأنه دعوة ناسك استجيبت:
ويعد نفسه صعلوكًا إذ خرج من الدنيا بغير مال:
•••
وإن هتف المعري هتفة المسيح بمحبي التخلص من أذى الحياة أن يحطوا أثقالهم ويتبعوه، فهو يصارح بأن الحياة قائمة على الكد:
وأهاب بالناس أن يعملوا للحياة عمل الباقين، وكاد ينظم الحديث أو الأثر المعروف بنصه: اعمل لدنياك … إلخ فقال:
وإن أدين الناس مَن يسعى ويحترف لا يروم الرزق بالتوكل:
وحينما أعجبه الترهب عقَّب على ذلك بأن السعي الحلال أطيب من الترهب:
والرزق يهتف بالناس: أن اعملوا وكلوا وبالظبي رِدْ وبالطائر التقط:
والمعري يدعو إلى عدم الأنفة من الاحتراف والتكسب:
وهو يأمر بالجد قائلًا: من سهر في الليالي السود فأحر به أن يسود، والله مالك السائد والمسودين (ف٢٣٧).
وأبو العلاء الذي يدين بالحظ ويكثر جد الإكثار من ذكر سلطانه الجائر يذكر أن الحظ كامنٌ في العمل:
•••
ولئن حول المعري بخلابته اللفظية واشتقاقه البديعي أسماء المعادن والجواهر إلى آلام وخسائر، فإنه لهو الذي وصف الذهب فقال في الغفران — ٢٠٣ و٢٠٤: لله در الذهب من خليل، فإنه يفيء بظل ظليل، وإن دُفِن لم يبالِ؛ ما هو كغيره بال، أُعطي نفيس المقدار فما همَّ شرفه بانحدار، والدر إذا كُسر ذهبت قيمته ولم يحفظ أن تتحطم كريمته، وربَّ ذهب في سوار غبر زمانًا غير متوار، ثم جعل في خلخال، تختال بلبسه ذات الخال، ثم نُقِل إلى جام أو كاس، وهو بحسنه كاس، ما تغير لبشار النيران، ولا غدر بوفي الجيران … إلخ ما قال.
وهو الذي يفرح لصاحبه بالدنانير في الغفران (١٩٥) ويقول: «وسرتني فيئة الدنانير إليه، فتلك أعوان تشتبه منها الألوان، ولها على الناس حقوق، تبر أن خيف عقوق …»
كما يقول في وصف الدينار الذهبي من الفصول والغايات (٢٨٨ و٢٨٩): «… اعتمد على ذي وجهين ما عُرف قط بالمَين، لو كان رجلًا لكان ناصح الجيب قلما خشي منه العيب … ومتى بُعث في المآرب قضاها، والله بلطفه أمضاها، له منزل ما دخله الهم ولا سكنه الخال ولا العم … تلقاه معلمًا بالتوحيد وليس بالعالم ولا البليد، ولكن الله أنطق بعظمته كلَّ جماد.»
•••
ولئن هوَّن أبو العلاء من أمر الملك وكرهه ونهى عن ولاية الشئون العامة، فلقد تمنى أن يكون الله قد صاغه ملكًا أو ملكًا مؤيد المن يريق ما يشاء من دم هدرًا:
وهو هو الذي يريد عليا المراتب:
وهو الذي طلب العز ووالى المطايا التي تسعفه عليه:
ورهين المحابس قد أُغْرِم بالفروسية غرامًا، إذ يرى العز في رمح وترس، أظهر منه في قلم ودرج، وحلفاه قتب وسرج:
ويؤثر الموت بضربة يوم حرب على الموت في الفراش:
ويؤسفه أن يخرج من الدنيا لا يبكيه مهند ولا جواد:
•••
وإن يحذر الشيخ من لصوص الأماني فهو الذي تدب عقارب المنى على لسانه:
وله أمل فرقانه محكم:
وخانته الأماني مرارًا ثم ما زال يتعلل:
وهو يرى أنه لو قيل: لم يبقَ من العمر إلا ساعة لأملت ما تعجز عنه سنة:
وهو الذي اتسعت آماله حتى لم يفِ بها العمر وقد طال عمره:
•••
ولئن حضَّ أبو العلاء على أعمال النسك، فلقد حضَّ على التنعم:
وهو القائل نثرًا: واستقامة العالم لا تكون ولذة الدنيا منقطعة (ف٣٥٨)، وهو الذي قرر أن النفوس تنافر الجد، وتهوى اللهو:
وهو الذي يرى أن الفتى حين يكره الغواني ويتقي المرض ويحتمي من الطعام يكون قد طوى الحياة، وكاذب مَن يقول: إنه منعَّم:
وهو المدافع عن إصابة اللذات؛ إذ يقول في الغفران (١٩٣): وأما ما ذكره من ميله في مصر إلى بعض اللذات فهو يعرف الحديث: أريحوا القلوب تعِ الذاكرة. وقال أحيحة بن الجلاح:
•••
وإذا كان أبو العلاء قد وصف نسكه هو نفسه، فكم له مع ذلك من أسف على الدنيا، منه ما في الفصول (٣٦٦): «لا أكتمك ما أنت به عليم، إن أسفي لطويل، نفد عمري وغيري المصيب.» وإنه ليعلن غير مرة أن نفسه تنازعه إلى الشهوات:
ويبدي إعجابه بالخفض والصحة:
وهو يؤثر العافية وسلامة جسمه، ويعتبر السن خيرًا من درة، ويوصي بالمحافظة عليها:
وهو يجهر بأن النفس لا تزال ذليلة لحب طعام وحب شراب، ويوبِّخ هذه النفس:
•••
وهو يقرر أنه جاهد لتحسين حاله في الحياة أو إحسان ذكره فيها:
فهو كما يقول: قد قطع الحَزْن إلى السهل ابتغاء اليسار:
ونبل فلم يصب فمن له بالسهام الصائبات:
وأرسل دلوه يبغي الماء فخانه الرِّشاء:
وبعد هذا الفشل والعجز ما زال آملًا راغبًا. يقول: «أحب الدنيا وآلتها ليست فيَّ، وقد يئست من بلوغها واليأس مريح، فإلامَ التشوف إلى الضلال؟! لو كنت مؤديًا — كامل الأداة — لها لثقل عليَّ أمرها.» (ف٣٥٨).
كما يقول:
وما أصرحه بعد ذلك حين يفسر ما يمكن أن يكون منه زهدًا، ويبيِّن سببه النفسي في شجاعة، فيقول: إنه لا يؤثر خمود مصباحه ولكن خانه الزيت:
وأنه لم يطلِّق الدنيا بل هي التي طلَّقته:
وما أعرض عن اللذات إلا لأن أطايبها قد مالت عنه:
ويكمل التفسير حين يقول: إن الناس أرخصوه فأغلى قدره بالصبر:
ولعل هذا من النسك الذي ذكر هو قريبًا أنه نسك لبُعد الهمم، وهو في الحقيقة متشهٍّ راغب يريهم رياء وفي الفؤاد أوار:
هذا زهد أبي العلاء بعامة. وأما:
تحريم الحيوان وثماره
فإن يكن قد قرر ألا نسك للأسد مع خوف الوحش والنعم من فرسه، فهو يقدر الواقع الطبيعي قدره، ويقول: إنه لم تُخلق للأسد أظفار إلا ابتغاء الظفر:
وهو يدافع عن افتراس الأسد بأنه على هذا جُبلَ، وصير قوته مما يدمي:
ويقول في شعره:
وشيخنا المشفق على حيوان الأرض هو الذي يخاف ويخوف من الحيوان:
ويشبه الناس بضاري الحيوان، ويرى أن الشر قد تفرق في حيوان الأرض:
ولئن كان يجزي الحيوان عن هذا الشر إحسانًا فيكره ذبحه ويحرم على نفسه لبنه، فإنه لينسى ذلك فيذكر إيثاره اللبن على اللحم:
ويفضل اللبن على الخمر ليغري الناس بالاستعاضة عن الخمر:
كما أنه وقد بلغت به الرقة أن طلب اتخاذ حذائه من الخشب لا من الجلد حتى لا يذبح الحيوان قد نسي ذلك وأعلن أنه يشرب الماء من الجلد:
وأكثر من ذلك كله أن أبا العلاء وقد دفعته رقةُ القلب إلى تحريم الذبح فكره السيوف والسكاكين والمدى، بل كره الحديد يُتَّخذ منه المرود لسبر الجرح، فنهى عنه، هو أبو العلاء الذي يمجِّد السيف ويتعشقه، ويحبذ القوة تحبيذًا يضعه في صف الشعراء الفرسان — إن شئت — وقد أسلفنا قريبًا بعض الشيء عن حبه الفروسية وهو يشيد بالسيف في نثره فيقول في الفصول (٢٩٧ و٢٩٨) وصفًا للسيف: يهابه الفتى والكهل، وهو لأن يهاب أهل يستنصر به أرباب العقول، وليس بصاحب معقول، وفي شعره يعد السيف الشر النافع كل حين:
والسيف أبلغ واعظ يتكلم:
وبالسيف يماط الأذى:
وبالسيف تنال المنى:
وأبو العلاء رام المآرب سفهًا ولم تكن تُنال إلا بالسيف:
وفي بيض السيوف بياض عيش، هكذا قال الحكيم:
والسيف أصل المكرمات:
وهذا الرقيق القلب يصف وقع السيف، ويراه إنما يفرج الضيق بوقوعه في المضيق:
والعجب أن أبا العلاء صاحب الكلمات في الأديان والعقائد يرى أن السيف هو الذي يثيب الملاحدة إلى الرشد:
وهذا المتفلسف المفكر يأمر بقتال الملحدين:
ولو أخذهم السيف ما ألحدوا، فإنما الإلحاد إلحاد السيف عن أن يأخذهم:
وفسدت الشام في عهده كذلك بسبب إلحاد السيف في رأيه:
ورابه من السيف هذا الإلحاد وأنه لم يفجع الملحدين برءوسهم منذ أزمان:
وإذا ذكر القتل والقتال في الحديث عن ناسك: المتحوب من الجرح والدم، المبتغي نعلًا من خشب لئلا يسلخ الجلد، فاسمعه إذ يقرر أن العيش نهاب ويأمر بالمناهبة:
ويرد المطاعين وهم المطاعون:
وإذا كان له من الشعر ما يعد به بين الشعراء الفرسان حينًا فإن له من تحبيذ القوة ما يجعله بين المعدودين من أنصارها، وهو الموصوف بالبرهمة، والقول بعدم إفساد الصورة، وبتحريم ذبح الحيوان، فاستمع لقوله في تمجيد القوة:
ويذكر التقنع عن عظائم لا تبلغ بالوناء فيعد هذه العظائم في إطالة وحماس:
وهو ينفر من التغاضي على التثريب ويحتكم إلى القوة:
ويحبذ نفع السيف وحده:
والمعري في إعجابه العنيف المسرف بالقوة قد قامر بحياته في سبيل هذا وقال:
فيا ليت شعر أبي العلاء أكان هذا آخر ما قال، فهو عنده القول الفصل في الشهادة للقوة والسيف، أم تراه عاد فنقض ذلك وبه استحق بالنهي عن حمل السيف أن يهز أخو السفاسق ليضرب به؟ ما أحسبه إلا قد خسر في هذا التحدي حياته؛ إذ طالما قال: لا تحمل سيفًا ولا تمسه، وما إخال تلك النغمة القوية هي آخر نغماته.
وفي كل حال فهذا التحدي الثائر المسرف في الدعوة إلى السيف صادر من ذلك الذي حرَّم الحيوان شطرًا من عمره، واحتج لذلك مجادلًا في الرسائل المتبادلة بينه وبين أحد أبناء عصره: هبة الله بن موسى بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر، فكانت حجته في شعره هي حجته في نثره متدافعة متقابلة.
فقد احتج في شعره لما رأى من تحريم الحيوان — بما أسلفنا — من أمر صحته ونظام طعامه وقال:
ولعله لهذا قد تمنى ترك الأكل جميعًا فقال:
كأن هذا التحريم الصحي حجته، ثم هو في غير هذين الموضعين يذكر تحريم الحيوان وشفقته عليه على نحو ما قدمنا. وكذلك نراه في حجاجه النثري عن هذا التحريم، وهي المسألة التي كانت مدار مراسلاته مع داعي الدعاة، فهو تارة يظن اقتناعه بالنبات يثبت له جميل العاقبة، وحينًا يقول: إن اللحوم لا توصل إليها إلا بإيلام حيوان، ويتحدث عن هذا الألم وحس الحيوان به، وآونة يقول: إن الذي حثه على ترك أكل الحيوان قلة ماله.
فهل أبو العلاء الذي سمعت منه ما سمعت هو أرفق الناس بالحيوان وأرحمهم به وله في ترك أكله فكرة تعبر عن مذهب فلسفي؟ سنرى. وأما …