المغامرة تأخذ طريقها المرسوم!
عندما هبطت الطائرة في مطار «شارل ديجول» الكبير بدأ الشياطين يَفكُّون أحزمة الأمان ثم يأخذون طريقهم إلى الخارج، وعندما أصبحوا خارج المطار … تقدم منهم سائق سيارة كانت تقف بالقُرب منهم ثم سلَّمهم مَظروفًا، وتقدَّم ناحية السيارة … فأخذوا طريقهم إليها بسرعة.
انطلقت السيارة، بينما كان «أحمد» يقرأ الرسالة المكتوبة بلغة الشياطين … عندما انتهى منها، قدَّمها ﻟ «قيس» الذي قرأها بسرعة، ثم سلَّمها ﻟ «باسم» … وهكذا، حتى قرأها الشياطين … لم ينطق أحد منهم بكلمة، بينما كانت السيارة تدخل شوارع باريس التي بدأ الليل يهبط عليها، كان الوقت ربيعًا، وكانت نسمات بارِدة قليلة، تَلذع وجوههم في رقة، جعلتْهم يشعرون بالنشاط … دخلت السيارة شارعًا يعرفونه جيدًا، إنه شارع «سان ميشيل» … كانت واجهات المحال تلمع بأضواء النيون البيضاء.
لحظات، ثم توقفت السيارة أمام فندق، قرأت «إلهام» اسمه فوق لافتة نحاسية … كان اسم الفندق «لابوار» نزلوا بسرعة، ثم اتجهوا إلى الفندق الذي كان يبدو أنيقًا تمامًا، وكان بعض النزلاء يَجلسون في الصالة الواسعة.
تقدم «أحمد» من مكتب الاستعلامات، ثم طلب أرقام الحجرات المحجوزة، فأشار موظَّف الاستعلامات إلى موظَّف آخر، تقدَّم بسرعة … ثم حدد له موظف الاستعلامات أرقام الحجرات … ١٢٢، ١٣٤، ١٢٦. وفي دقائق كان كل اثنين في حجرة، ما عدا «إلهام» التي كانت تنزل في حجرة بمفردها … وبعد دقائق معدودات، كانوا يجتمعون في حجرة «أحمد» رقم ١٢٢.
قال «أحمد»: إن الشركة موجودة في آخر الشارع، واسمها كما قرأتم في الخطاب «شركة الأمان المتحدة للنقل لأعالي البحار» … إن مواعيد العمل كما تعرفون قد انتهت … والشركة سوف تبدأ في عملها صباحًا من الثامنة. والآن، يُمكن أن نذهب إلى مقهى «باريس» ربما نستطيع أن نَعرف شيئًا من هناك. إنَّ المقهى يضمُّ بالطبع خليطًا من الناس … سماسرة … ورجال أعمال … ولصوص أيضًا. ثم صمت لحظة وأكمل قائلًا: سوف نُغيِّر ملابسنا لنذهب إلى هناك.
انصرف الشياطين بسُرعة. وبعد ربع ساعة، كانوا يَلتقون في الصالة الواسعة عند مدخل الفندق.
قال «أحمد»: سوف نَذهب أنا و«قيس» بالسيارة وعليكم أن تصلوا إلينا مشيًا … وأن تجلسوا بعيدًا عنا.
انصرف «أحمد» و«قيس» … بينما كان الشياطين يرقبونهم من خلف زجاج الباب … ركب الاثنان السيارة، وقال «أحمد»: مقهى «باريس»؟
انطلق السائق إلى نهاية الشارع، حيث يقع المقهى … فنزلا في هدوء، واتَّجها إليه، كان المقهى مزدحمًا، ودخان السجائر يصنع سحابة كثيفة، حتى إنهما شعرا بالضيق … لكن، لم تكد تمضي لحظة، حتى كان الدخان قد انسحب تمامًا …
فلقد كان هنالك «شفاط هواء» في جدران المقهى الأنيق … انتقيا منضدة تتوسَّط المكان، ثم اتجها إليها وجلسا.
كانت الكلمات تُقال بصوت مرتفع حولهما … حتى إنهما ابتسما … لم يكونا في حاجة إلى إقامة علاقة بأي إنسان؛ لأن كل شيء يُقال بوضوح … اقترب منهما الجرسون فطلبا قهوة باللبن … وكان يرتفع بجوارهما عامود متوسِّط الحجم، لا يحجب الرؤية عن أي اتجاه … تهامسَا في هدوء، بينما كانت آذانُهما تتسمَّع لكل ما يُقال … فجأة علَتِ الدهشة وجه «أحمد» … فقد وصل إلى سمعه اسم «شركة الأمان المتحدة» … فتحدث إلى «قيس» بلغة الشياطين.
في نفس اللحظة، ظهر «خالد» و«إلهام» و«باسم» الذين أخذوا جانبًا وجلسوا. بينما ظل «أحمد» يَتتبَّع الحديث … إلا إنه لم يَستطِع أن يسمعه جيدًا، فقد كانت الضوضاء تغطِّي عليه.
ألقى نظرة سريعة تجاه من يتحدَّث … كان هناك رجلان غير بعيدين عنهما يتحدثان … كان يبدو أنهما من رجال الأعمال … كما يبدو عليهما الهدوء … أحدهما طويلٌ نوعًا … أنيق، له شارب رشيق، والآخر، أقل منه قليلًا وإن كان مُمتلئًا أكثر، وبلا شارب. أحسَّ «أحمد» بدفء جهاز الاستقبال الصغير الذي يحمله في جيبه الداخلي عرف أن هناك رسالة ما، وضع يده على الجهاز، ثم بدأ يترجم الكلمات التي تصله.
لقد كانت الرسالة من «باسم» … وكان يقول فيها: «إن حولهما حديثًا يدور عن الشركة الجديدة، وإن المتحدثين يقولون إنها شركة منافسة، ويجب التخلص منها.» … توقَّفت الرسالة … فنقل مضمونها إلى «قيس». غير أن ذلك لم يشغل بالهما كثيرًا، وعاد «أحمد» يتتبَّع مرة أخرى حديث الرجلين القريبَين، ثم وقف محاولًا لفت نظرهما في حركة وهو ينادي الجرسون، الذي كان قد تأخَّر قليلًا.
نظر الرجلان فعلًا إليه، بينما كان الجرسون قد أقبل بسرعة، دخل «أحمد» معه في الحديث مما جعل الرجلَين يتتبعانه، فلم يكن «أحمد» يُريد شيئًا محددًا، إلا أن يلفت نظر الرجلين … وقد حقَّق ما أراده فعلًا …
وعندما جلس كان يشعر بالسعادة؛ إنه الآن قد بدأ شيئًا ما … وحتى يتأكَّد مما فعل، أخذ يتحدث إلى «قيس» بصوت مرتفع عن الشركة، وهو يَلمح بطرف عينيه، إن كان الحديث قد لفت نظر الرجلين.
لم تمضِ سوى لحظات، حتى كان أحد الرجلين يأخذ طريقه إليهما … وقف الرجل أمامهما ثم حياهما، وهو يقدم نفسه: «ميتشل جور» تاجر.
وقف «أحمد» وهو يدعوه إلى الجلوس، غير أن «ميتشل» قال بسرعة: أنتما صاحبا «شركة الأمان»؟
ابتسم «أحمد» قائلًا: إنني فقط مدير عام الشركة، وزميلي مديرها التجاري.
حيَّا «ميتشل» … «قيس» ثم قال: أرجو أن نلتقي في الصباح بمقر الشركة. إن لديَّ بعض الأعمال التي أحتاج لشركتكم فيها.
أبدى «أحمد» ترحيبه، وقال: سوف أكون في انتظارك في التاسعة.
شكره «ميتشل» ثم انصرف.
كاد «أحمد» يُقهقه بصوت مرتفع، بعد أن حقَّق ما أراد بالضبط.
همس «قيس»: المؤكد أنهما سوف يَشكَّان فينا … فنحن أصغر من أن نكون أصحاب شركة أو حتى أكون مديرها التجاري، لكن … «أحمد» صمت لحظة ثم قال: لكن الشك يمكن أن يُفسَّر في صالحنا.
نظر له «قيس» بدهشة وقال: كيف؟
قال «أحمد» باسمًا: سوف أدَّعي أننا من أبناء أصحاب شركات البترول، وأننا نُجرِّب حظنا في النقل البحري.
قال «قيس» بعد لحظة: قد يُفسَّر هذا خطأ … إن أصحاب شركات البترول، إما من الأمريكان، أو البرازيل أو فنزويلا، أو من الشرق الأوسط، ونحن لا يبدو علينا من أمريكا … ولا …
قاطعه «أحمد»: نبدو من فنزويلا … إنهم يحملون تقريبًا نفس ملامحنا، وإذا اقتنع بهذا، فسوف يكون الفأر قد دخل المصيدة.
بقيا في المقهى بعض الوقت … لمح «أحمد» بقية الشياطين. كان يبدو أنهم مُستغرقُون في سماع الحديث حولهم … وقف «أحمد» منصرفًا، فتَبِعه «قيس» الذي دفع الحساب … أشار «أحمد» إلى الرجلَين مُحيِّيًا، فردَّا تحيته، وانصرف.
ما إن خرج هو و«قيس» إلى الشارع، حتى قال «قيس»: أخشى ألا تكون الأمور على ما يرام.
نظر «أحمد» حوله في ظلام باريس اللامع، وقال: لا أظن، سوف يكون كل شيء طيبًا …
بعد خطوات قليلة سمعا صفارة، عرفا أنها للشياطين … ركبا السيارة ثم انصرفا إلى الفندق …
وانضم بقية الشياطين إليهما، فنقل لهما «أحمد» ما حدث.
قالت «إلهام»: ينبغي أن أسبقك إلى الشركة بوصفي سكرتيرتك.
نظر لها مبتسمًا وقال: لقد فهمتِ قصد رقم «صفر» جيدًا …
المهم أنني رجل أعمال من فنزويلا.
ضحك الشياطين وعلَّق «باسم»: إن البدلة والصديري، يَجعلانك في عِداد رجال الأعمال فعلًا.
لم تَطُل جلستهم كثيرًا؛ فقد انصرفوا حتى يستعدوا لأعمال الشركة، وما إن كانت الساعة تعلن السادسة والنصف صباحًا، حتى كان الجميع يؤدُّون تمريناتهم الصباحية …
وأسرعت «إلهام» بارتداء ثيابها ثم قالت: أستأذن سيادة المدير العام لأبدأ عملي.
ضحك الشياطين، وانصرفت «إلهام».
قال «أحمد» وهم يتناولون طعام الفطور في مطعم الفندق: «باسم» و«خالد» … عليهما أن يكونا مستعدَّين تمامًا؛ فسوف أكون أنا و«قيس» في الشركة … ودوركم سوف يأتي بعد ذلك أن ناقلتنا الضخمة «فانيسيا» تقف في ميناء «شيربورج» تنتظر الأمر بالتحرك … وأنتما ستكونان من عمال النقل فيها.
انتهى الإفطار، وخرج «أحمد» و«قيس»، كانت السيارة في انتظارهما فركبا وانطلقت بهما إلى مقر «شركة الأمان المتحدة للنقل لأعالي البحار» … في نهاية شارع «سان ميشيل». كانت تبدو لافتة ضخمة، تحمل اسم الشركة، توقَّفت السيارة فنزلا، كان «أحمد» يتقدم «قيس» …
أخذ طريقه إلى المدخل، ثم صعد عدة درجات … فوجد باب الشركة مفتوحًا، دخل، وهو يضع على وجهه ابتسامة خفيفة … رفع بعض الموظفين وجوههم وهمس واحد للآخر: يبدو أنه المدير الجديد.
أجاب الآخر: إنه صغير جدًّا في السن.
قال الأول: يبدو أنه من الأثرياء.
ألقى «أحمد» تحية الصباح على الموظفين، وهو يأخذ طريقه إلى مكتبه، كان يقع في نهاية طرقة طويلة … مرَّ في حجرة صغيرة، كانت تجلس فيها «إلهام» التي وقفت عندما رأته، ألقى عليها تحية الصباح، ثم دخل مكتبه.
كان المكتب متسعًا جدًّا، أنيقًا، تطلُّ نافذته العريضة على الشارع، وقف خلف النافذة يرقب حركة المارة … نظر في ساعة يده كانت تُشير إلى الثامنة والنصف، دق جرس على مكتبه، فاتجه إليه، فتح الديكتافون، فسمع صوت «إلهام» تقول: إنَّ هناك بعض الزبائن يُريدون مقابلته.
قال: تعالَي وحدك، ومعك معلومات عنهم.
لحظة ثم دخلت «إلهام» … كان «أحمد» قد جلس إلى مكتبه في شكل رجل أعمال، قدَّمت إليه «إلهام» مُفكِّرة متوسطة الحجم، قرأ فيها عدة أسماء، ثم سأل: ماذا يريدون؟ …
أجابت «إلهام»: إنهم يحتاجون لنقل كميات من البضائع من الهند.
ابتسم «أحمد» وهمس: يبدو أننا سنعمل في النقل فعلًا. وصمَت لحظة ثم قال: أمامي ربع ساعة فقط.
انصرفت «إلهام»، ودخل رجلان، أحدهما متقدِّم في السن أبيض الشعر … له شارب كثيف … قدَّم نفسه «جوزيف لان» تاجر، وقدم الآخر نفسه: «جان بول» شريكه.
رحَّب بهما «أحمد»، في نفس اللحظة، دخل أحد السُّعاة يحمل كوبَي عصير قدَّمهما لهما، نظرا له، ثم ابتسما وابتسم «أحمد» قائلًا: إنه تقليد متَّبع عندنا، أرجو أن يُعجبكما.
تناولا العصير، فقال «أحمد»: تحت أمركما. شرح له «جوزيف لان» ما يريدانه؛ شحنة بضائع من الهند إلى فرنسا، وهناك موعد للتسليم، وإذا تأخرا فإن غرامة كبيرة، سوف يدفعانها.
قال «أحمد»: إن الناقلات عندنا ليست الهند في خطوطها، لكن عندنا شحنة قريبة إلى منطقة الشرق الأوسط، ويُمكن في هذه الحالة أن تمتدَّ الرحلة إلى الهند … صمت لحظة ثم قال: أرجو أن تُقابلا السيد «بيدل» المدير التجاري.
شكراه ثم انصرفا … رفع سماعة التليفون المباشر إلى «قيس» وقال: مسيو «بيدل» … إن بعض الزبائن في الطريق إليك … اتفق معهما ولا تَرفض، وضَع السماعة فسمع صوت «إلهام»: السيد ميتشل.
قال «أحمد»: يتفضَّل.
لحظة ثم فتح الباب، وظهر «ميتشل» رجل الأمس … ومعه الرجل الآخر، قدَّمه باسم «فيكتور»، رحب بهما «أحمد»، وهو يقول: اسمي هاجنت لي مور.
نظر له «ميتشل» في دهشة: ابن هاجنت لي مور الفنزويلي صاحب آبار البترول؟!
هزَّ «أحمد» رأسه، قائلًا: نعم. وقد فكَّرت في تجربة شركات النقل البحرية، فلدينا أسطول نقل كبير.
قاطعه «ميتشل»: أعرف، أعرف، لقد تعاملنا مع والدك كثيرًا … ثم نظر إلى «فيكتور» وهو يقول مبتسمًا: إننا سعداء الحظ مرة أخرى.
صمت لحظةً ثم قال: نحتاج لناقلة متوسطة الحجم، تقوم بنقل البضائع إلى الشرق الأوسط …
دار حوار حول نوع البضائع، ومواعيد التحرُّك، ومواعيد التسليم ومكانه، أنهاه «ميتشل» بأن قال: سوف يكون بعض رجالنا معكم على الناقلة، إنَّ البضاعة سوف تصل إلى ميناء «شيربورج» بعد يومين، في تمام الثامنة مساءً، ونرجو أن تكون الناقلة جاهزة للإقلاع.
قام «أحمد» إلى خريطة معلقة خلفه، ظل يرقبها قليلًا ثم قال: إن «فانيسيا» تقف في ميناء «لورين» الآن، في انتظار حمولة تنقلها إلى «لشبونة» … وهي الناقلة المتوسطة الحجم لدينا، وهذه الشحنة سوف تَستغرق بعض الوقت؛ لأن رحلتها طويلة.
وقاطعه «فيكتور» قائلًا: إننا يمكن أن ندفع غرامة التأخير إذا كانت هناك ناقلة في الطريق إلى «لورين».
نظر لهما «أحمد» قليلًا، ثم رفع سماعة التليفون وتحدث: عزيزي السيد «بيدل»، هل لدينا ناقلات تمر بالقرب من «لورين» في خلال يومين؟
جاءه صوت يقول: سوف أرى وأردُّ حالًا.
وضع «أحمد»، سماعة التليفون، ثم قال: سوف نرى.
سأل «ميتشل»: يبدو أن شركتكم هنا جديدة.
أجاب «أحمد»: نعم، لكننا نعمل من خلال شركة أبي في فنزويلا.
قال «ميتشل» بسرعة: أعرف. أعرف، لكن يبدو أنك جديد على العمل.
ابتسم «أحمد» قائلًا: إن لي خبرة طيبة بأعمال النقل والبحار؛ فقد كان هاجنت الكبير يسند إليَّ الكثير من الأعمال، بوصفي وريثه الوحيد.
قال «ميتشل»: نعم، نعم. وأرجو أن تكون هذه بداية لنعمل معًا.
ابتسم «أحمد» وقال: أرجو ذلك.
دق جرس التليفون فرفع السماعة وجاءه صوت «قيس»: لدينا الناقلة … سيفا … إنها سوف تصل إلى ميناء «لورين» خلال ثلاثة أيام، إذا ساعدتها الظروف.
رد «أحمد»: لا بأس. سوف يأتي إليه السيد «ميتشل» صديقنا الجديد للاتِّفاق.
وضع السماعة وقال: تفضَّلا. إن السيد «بيدل» مديرنا التجاري في انتظاركما.
ودَّعاه وخرجا، ومرةً أخرى كاد «أحمد» يضحك بصوت مرتفع إن كل شيء يحدث، بشكل لم يكن يتصوره أبدًا … إن المعركة تأخذ طريقها المرسوم.