مع الكعكة الصفراء في باخرة واحدة!
منذ الصباح، كان الشياطين يأخذون طريقهم إلى «شيربورج». إن كل شيء سوف يبدأ من هناك. كان «أحمد»، و«قيس» يفكران في عمل الماكياج المناسب أما «إلهام»، فإنها سوف تبقى في الشركة بباريس، لتكون نقطة الاتصال، كانت الطائرة الداخلية تُحلِّق بهم فوق باريس وهم ينظرون إليها من النوافذ، لم يكن ركاب الطائرة كثيرين. كان «أحمد» و«قيس» يجلسان بجوار بعضهما، و«خالد» و«باسم» بجوار بعضهما في مقعد آخر … إنَّ المغامرة تبدأ الآن … وليس بعد ذلك …
بعد ساعة كانت الطائرة تنزل في المطار الصغير … وبسرعة انتهت الإجراءات، وعندما خرجوا لم يكن أحد في انتظارهم، إنهم يَعرفون أين سيذهبون الآن، بعد أن أعدَّ لهم عميل رقم «صفر» في باريس كل شيء. الآن يأخذون طريقهم إلى فندق «لاجراند» حيث تم حجز حجرتين لهم، ثم استقلُّوا تاكسيًا إلى الفندق … وعندما نزلوا هناك، تقدَّم «باسم» و«خالد» لأخذ مفاتيح الحجرتين … بينما ظل «أحمد» و«قيس» في الخارج.
إن من الأفضل ألا يعرفهما أحد على هذه الهيئة؛ لأنها سوف تتغيَّر بعد قليل. لم تمر لحظات حتى عاد «خالد» و«باسم» وقد تسلَّما مفاتيح الحجرتين.
قال «خالد»: هيا نتجول قليلًا في «شيربورج»، حتى تدبَّ الحياة في الفندق، فلا نلفت نظر أحد.
همس «قيس»: أخشى أن يقابلنا «ميتشل» أو «فيكتور» الآن، فيبدو موقفنا سخيفًا.
لم يعلق أحد منهم بكلمة. وأخذوا يتجولون بعيدًا عن نشاط المدينة لمدة ساعة. ثم أخذوا طريقهم إلى الفندق، وعندما ضمَّتهم إحدى الحجرتين، قال «أحمد»، بسرعة: ينبغي أن ينزل «باسم» و«خالد» إلى الميناء، وأظنه غير بعيد، فأصوات البواخر تُؤكد وجوده القريب، إن بحارة «فانيسيا» يعرفون أن أربعة من العمال الجدد سوف ينضمون إليهم … وهذه فرصة، لنستطلع المكان.
في أقل من دقيقة، كان الاثنان يأخذان طريقهما إلى الخارج … في الوقت الذي بدأ «قيس» و«أحمد»، يقومان بعملية الماكياج.
لقد كان كل واحد منهما يحمل قناعًا من المطاط، لا يُمكن كشفه بسهولة … وهو يكفي ليغير ملامح أيٍّ منهما. انتهيا من لبس القناعين، ونظرا إلى بعضهما فقال «أحمد» بابتسامة لم تظهر: أهلًا مسيو «بيدل».
ضحك «قيس» وهو يردُّ: أهلًا بالسيد «هاجنت لي مور»، وكيف حال فنزويلا، و«هاجنت» الأب؟!
ضحكا معًا ثم قال «قيس»: ينبغي أن تنزل الآن إلى الميناء، إن هذه ستكون تجربة جيدة. في هدوء أخذا طريقهما إلى الخارج، حاولا لفت نظر أحد من نزلاء الفندق إلا أن أحدًا لم ينظر إليهما، فقد كانت صالة الفندق مزدحمة بكثير من البحارة. وقف الاثنان لحظة وكأنهما يريدان أن يُعطيا انطباعًا بشكلهما الجديد، حتى لا يكون غريبًا على أحد.
بعد لحظات، أخذا طريقهما إلى الخارج، كانت صفارات البواخر تتردَّد في جوانب المدينة وسارا في نشاط في اتجاه الصوت. ومن بعيد لمحا بحر «المانش» الأزرق الذي يُطلُّ عليه ميناء «شيربورج». كانت نسمات الهواء تقطع الشارع، لكن القناع كان يَحمي وجهَيهما من برده … اقتربا بسرعة، بينما أصبحت حركة الميناء أكثر وضوحًا، وعندما وصلا هناك وقفا أمام زُرقة البحر العميقة … لم تكن هناك أمواج عالية … كان يبدو الجو مثيرًا … وظريفًا …
دخلا الميناء، ثم سألا: أين ترسو السفينة «فانيسيا»؟ فعرفا أنها على الرصيف رقم «٤». لم يكن الميناء كبيرًا اقتربا من حيث ترسو السفينة … ومن بعيد لمحا «خالد» و«باسم» كان يقفان في وسط مجموعة من البحارة، تبدو عليهم ملامح القوة. اقتربا أكثر، لكنهما لم ينضما إليهم … ظلا بعيدَين، كانا يُريدان معرفة مدى اختفائهما تحت القناعين. برغم أن «خالد» قد نظر ناحيَتهما، إلا أنه لم يتوقف، فقد أجال بصره بعيدًا عنهما.
همس «أحمد»: إنَّ كل شيء على ما يرام.
فجأة، سمعا صوتًا يقول: أنت أيها العامل. أنتما … شيش.
التفتا … وكاد «أحمد» أن يَغرق في الضحك … لقد كان صاحب الصوت هو نفسه «ميتشل»، وكان وحده هذه المرة … فصاح «ميتشل» وهو يشير في اتجاه الشياطين: أنتما.
رد «أحمد»: هل تقصدُني يا سيدي؟
قال «ميتشل»: نعم. أنت.
اقترب «أحمد» بسرعة وهو يقول: نعم يا سيدي. هل من خدمة أؤديها؟
سأل ميتشل: على أيِّ ناقلة تعمل؟
أجاب «أحمد»: على الناقلة «فانيسيا».
ميتشل: هل تعرف متى سوف تبحرون؟
أحمد: أظن قريبًا يا سيدي.
ميتشل: وماذا يؤخركم؟
أحمد: أظن أننا نَنتظر شحنة لنقلها.
ميتشل: ومتى ستَصل الشحنة؟
أحمد: لا أدري يا سيدي. ولكن أظن أنها لن تتأخر.
ميتشل: وأين الكابتن؟
شعر «أحمد» أنه وقع في مأزق … لكنه فكَّر بسرعة، فقد التفت إلى مجموعة من البحارة، وصاح: هيه. أيها الكابتن … أين السيد بورج؟!
برز من بين مجموعة البحارة، رجل مُتقدِّم في السن، أشيب الشعر، مبتسم الوجه وصاح: من ينادي؟!
رد «أحمد»: هذا السيد.
اقترب الكابتن على مهلٍ … كان «ميتشل» يضرب الأرض بحذائه، وكأنه يُسلِّي نفسه، أو كأنه في حالة عصبية، حتى إذا وصل الكابتن إليه قال: أنت الكابتن «بورج»؟
قال الكابتن بابتسامة طيبة: نعم يا سيدي، هل من خدمة أؤديها؟
قال «ميتشل»: إنني «ميتشل» المسئول عن الشحنة التي سوف تنقلونها.
بورج: نحن في الانتظار يا سيدي.
ميتشل: هل المركب جاهزة؟
ضحك «بورج» وهو يقول: فقط ندير الماكينات فنُبحر إلى أي مكان في العالم.
قال «ميتشل» في هدوء: قد تتأخَّر الشحنة قليلًا، وقد أرسلنا للشركة في «باريس» نقول لها ذلك.
بورج: إن الشركة لم تُخبرنا بعد، لكننا في النهاية سوف ننتظر، فقد تأجلت الرحلة.
قاطعه «ميتشل»: أعرف.
ثم بعد لحظة ابتسم في غير ارتياح وقال: هل أدعوك لتَشرب معي شيئًا ما.
ابتسم «بورج» في ودٍّ حقيقي وقال: لا بأس يا سيدي، وإن كنت لا أشرب بدون زملائي.
مد «ميشيل» يده إلى كتف «بورج» وهو يدفعه برفق، وقال: لا بأس. وبحارتك أيضًا.
تحرك «ميتشل» في اتجاه كافتيريا الميناء، بينما صاح «بورج»: هيا، إن السيد «ميتشل» يدعوكم.
تحرك البحارة بسرعة وكأنهم يبعثون النشاط في أجسادهم … بينما كان «خالد» و«باسم» يتحركان في هدوء حتى اقتربا من «أحمد» و«قيس».
ظنَّ «أحمد» أنهما سيتحدَّثان إليهما … إلا أنهما مضيا في طريقهما …
قال «أحمد» بصوت منخفِض: أنت أيها الزميل.
التفت «خالد» ونظر له دون أن يَنطِق.
قال «أحمد»: ألا تُريدون عُمالًا على الباخرة.
قال «خالد» بسرعة: لا أدري … إنَّ الكابتن «بورج» هو الذي يُحدِّد ذلك.
ثم انصرف … صفَّر «قيس» صفير الشياطين، فالتفت «خالد» و«باسم»، وكادا يغرقان في الضحك … وقال «باسم»: إنني لم أعرفكما … وقد سأل عنكما الكابتن.
تقدموا في اتجاه الكافيتريا، حيث كان البحارة يشربون مشروبات ساخنة تدفئهم، وجلسوا على إحدى المناضد …
بعد لحظات التفت «بورج» إلى الجميع وقال: ألم يَصل بعد العاملان الجديدان؟!
رفع «أحمد» يده وهو يقول: وصلنا يا سيدي الكابتن … إنني «شيراك» وزميلي يُدعى «وايز».
وضحك الكابتن وهو يقول: «شيراك» … هل تُصبح رئيس وزراء فرنسا مستقبلًا؟
ضحك البحارة للقَفشة … فرئيس وزراء فرنسا السابق هو «جاك شيراك». مضى وقت في أحاديث كثيرة، تدور حول البحر والرحلات … في النهاية قام «ميتشل» وهو يقول: «سوف نلتقي بعد غد في الفجر، حيث تكون الشاحنة قد وصلت … فهناك شحنة أخرى مضافة يمكن أن تصل الليلة.»
ثم حيَّا الجميع وانصرف … تفرق البحارة بسرعة. وأخذ الشياطين طريقهم إلى الفندق «لاجراند»، حيث اتضح أن كثيرًا من بحارة فانيسيا ينزلون فيه. صعد الشياطين إلى حجرة «أحمد»، الذي نزع القناع بسرعة وهو يقول: أكاد أختنق. إنه يَلتصق بوجهي، وكأنه جلدي الحقيقي.
دق جهاز اللاسلكي فأسرع «باسم» إليه: كانت هناك رسالة من «إلهام». كانت الرسالة تتحدَّث عن تأخُّر الشحنة وإضافة شحنة أخرى، وتقول إنهم سدَّدوا رسوم النقل «والغرامة …»
نقل «باسم» الرسالة إلى الشياطين.
انتهى النهار، وأقبل الليل … وأخذ البحارة أماكنهم في الفندق، وكان الشياطين يجلسون في حجرة «أحمد» … فجأةً، سمعوا صوتًا ينادي في الفندق: «بحارة» «فانيسيا».
أسرع «خالد» بالخروج لمعرفة ماذا حدث.
عاد بعد قليل يقول: لقد وصلت الشحنتان إلى الميناء، علينا بالانضمام إلى هناك.
شرد «أحمد» قليلًا، ثم قال: إنه يُفكر بشكل جيد.
فهم الشياطين ماذا يعني «أحمد». لبس قناعه، ولبس «قيس»، أيضًا … ثم انطلقوا جميعًا إلى الميناء، عندما وصلوا كانت البضائع تنقل فعلًا في نشاط إلى الباخرة … رأى الشياطين مجموعة من البراميل … ثقيلة الوزن، تنقلها الأوناش إلى الباخرة، وعرف أن هذه البراميل من القصدير، وعرف أنها تَحمل اليورانيوم … معدن الكعكة الصفراء … تنفَّس في عمق وهو يُفكِّر: إننا في النهاية وجهًا لوجه أمام كعكة الموت.
ظل العمل مستمرًّا في نشاط، كان رجال كثيرون يعملون غير رجال الباخرة. وفكر «أحمد»: لا بد أنهم من رجال «المخ»، تحت قيادة «ميتشل»، الذي كان يقف بعيدًا يَرقب حركة النقل وبجواره «فيكتور» … وسط ضجيج العمل صاح «ميتشل» مناديًا الكابتن «بورج».
اقترب «أحمد» في الزحام بصورة عادية … كان «بورج» هو الآخر قد اقترب حتى وقف أمام «ميتشل» الذي قال: سوف نُبحر بعد الانتهاء من تفريغ الشحنة في الناقلة.
نظر له «بورج» قليلًا. ثم قال: ذلك سوف يكون عبئًا بالنسبة للرجال. يجب أن يرتاحوا بعض الوقت.
ابتسم «ميتشل» وهو يقول: سوف أعوِّضهم عن مجهودهم، وأظنُّ أنهم لن يمتنعوا.
لم يعلق «بورج» بكلمة.
مضت ساعتان حتى انتهى وضع كل شيء في الناقلة. وبدأ البحارة والعمال يأخُذون طريقهم إلى خارجها.
رفع «بورج» يده، فالتفتوا إليه … قال بصوت هادئ خشن: إن السيد «ميتشل» يريد أن نبحر الآن، وأنا أعرف أنكم مُجهَدون.
ارتفعت كلمات من بين البحارة، تعني الاعتراض على الرحيل، إلا أن «ميتشل» قال بصوت محدَّد: سوف أُعوِّضكم عن أي مجهود لكم … ولو وصلت الشحنة قبل موعدها، فإني أعدكم بمكافأة أخرى. إن الأمر غاية في الخطورة؛ فهذه الشحنة سوف تُكلِّف شركتنا كثيرًا أكثر مما تتصوَّرون، حتى إنها يمكن أن تقضيَ عليها. صمت لحظة، ثم أضاف: ما رأيكم هل نبحر الآن؟
نظر بحار عجوز إلى «المانش» … ظل يتأمله بُرهة، ثم قال: إننا مُقبلون على جوٍّ رديء، وينبغي أن نبقى حتى الصباح، فربما تحسَّن الجو. رد «ميتشل»: وإذا جاء رديئًا في الصباح؛ هل ننتظر مرة أخرى؟!
لم يردَّ أحد.
وقال «بورج»: يَنبغي أن نبدأ، مادام السيد «ميتشل» يُريد ذلك. تحرَّك البحارة في غير رغبة، وقفَزُوا الواحد خلف الآخر يصعدون، حتى إذا أصبح الجميع فوقها … صَعِد الكابتن «بورج»، وخلفه «ميتشل» ثم «فيكتور» وبدأت ماكينات الباخرة تدور ويرتفع صوتها في الليل، ثم ترددت صفارتها الخشنة في الفضاء، وكأنها نوع من الوداع، وانسحب سُلَّم الباخرة … ثم بدأت حركتها مُبتعدة عن رصيف الميناء «شيربورج» لتأخذ وِجْهتها داخل بحر «المانش».
نظر «أحمد» إلى الشياطين المُتفرِّقين على سطح المركب وهمس لنفسه: الآن لا أحد يدري، متى تنتهي المغامرة.