صراع … داخل القمرة!
كانت أضواء ميناء «شيربورج» تَختفي شيئًا فشيئًا، في الوقت الذي تأخُذ فيه «فانيسيا» طريقها إلى المحيط الأطلنطي … كان الجو باردًا بما يَكفي لأنْ يلجأَ البحارة إلى الأماكن المغلقة في الباخرة … وكان «بورج» قد قسَّم الورديات للعمل … وجاء نصيب «أحمد» و«باسم» في بداية الرحلة. أما وردية الليل فقد كانت من نصيب «خالد» و«قيس».
ظل «أحمد» و«باسم» بين البحارة يَرقُبون حركاتهم وتصرفاتهم …
اختفت الأضواء الآن، ولم تعُد سوى الظُّلمة العميقة، وأضواء «فانيسيا» التي كانت تلقي ظلالها على سطح المحيط فيبدو لامعًا في منطقة محدَّدة، هي منطقة سير الباخرة، كانت «فانيسيا» تشق الماء، فيصل إلى سمعهما صوته، وانشغل البحارة في أحاديث متفرقة … وكانت هذه فرصة لحديث هامس بين «أحمد» و«باسم».
قال «أحمد»: إنَّ تنفيذ الخطة، سوف يكون بعد أن نَعبر جبل طارق، ونُصبح داخل البحر المتوسط … إننا لا نَعرف الظروف الآن … فإن استطعنا السيطرة على الموقف؛ فإننا سوف نفوز «بالكعكة الصفراء» وإذا لم نستطع فليس أمامنا إلا الخلاص منها.
صمت «أحمد»، واستغرق «باسم» في التفكير قليلًا. أخيرًا قال: إن بحارة «فانيسيا» لا يعرفون ماذا فوق الباخرة … بجوار أنه لا علاقة بينهم وبين «ميتشل»، وهذا يعني أن الموقف سوف يكون في صالحنا.
رد «أحمد»: لا تنسَ أن رجال «ميتشل» يَملئون الباخرة … وهذا يعني أننا سوف ندخل في صراع مع عدد ليس بقليل … بجوار أن بحارة «فانيسيا» لن يشتركوا معنا … إنهم على أكثر تقدير سوف يَأخذون موقف المتفرِّج فقط، مع المحافظة على سلامة الباخرة، وإذا لم يفهموا الموقف … فسوف ينضمُّون إلى «ميتشل» ورجاله، وفي هذه الحالة، يُصبح موقفنا صعبًا!
صمت الاثنان، وبدآ يُلاحظان البحارة. تعاقَبت الورديات، حتى خرجت «فانيسيا» من بحر «المانش» إلى المحيط الأطلنطي. كان الشياطين يَرصُدون حركة الورديات، فعن طريقها سوف يضعون خُطتهم الأخيرة. لم يكن هناك شيء جديد يحدث.
في النهار البحارة ينتشرون على سطح الباخرة، يتحدَّثون، وفي الليل يهربون إلى «قمراتهم» من البرد، واستطاع الشياطين خلال أيام أن يَرصُدوا تغيير الورديات جيدًا … وأن يعرفوا تشكيل كل وردية.
لقد كانت خطة «ميتشل»، كما اكتشف الشياطين، أن يكون عدد من رجاله في كل وردية … لقد كانت كل وردية تعمل أربع ساعات في النهار، وساعتين فقط في الليل، وكان عدد الوردية لا يَتجاوز العشر، بينهم ثلاثة من رجال «ميتشل» … وفي بعض الورديات، يكون اثنان من الشياطين في الوردية، وهذا يعني أن وردية الشياطين، تضمُّ ثلاثة من رجال «ميتشل»، وخمسة من بحارة «فانيسيا» … وكان هذا التشكيل يُناسب الشياطين تمامًا.
إلا أن «أحمد» كان يُفكِّر في مسألة أخرى، كان يُفكِّر في مدى السرعة التي تسير بها الناقلة … ويستعيد إصرار «ميتشل» على الإبحار … وحديثه عن ضرورة الإسراع في ذلك، إنَّ سرعة الناقلة، لا يُمكن أن تتكافأ مع إصراره ولهفته. وإذا كان «ميتشل» يفكر في الخروج بالشحنة إلى عرض المحيط، فقط … فإن ذلك لا يُمكن أن يكون هو كل شيء.
كان «أحمد» يقلِّب الموقف مفكرًا، بينما كانت الأيام تمر وهم يقطعون المحيط، حتى سمع الكابتن «بورج» يجيب على سؤال ﻟ «ميتشل» ذات نهار.
قال «بورج»: إنَّ أمامنا ليلة واحدة، وندخل مضيق جبل طارق، وسوف يستغرق منا المرور في المضيق، يومًا، بعدها نكون داخل المتوسط.
فكَّر «أحمد» وهو يسمع هذه الكلمات، وقال في نفسه: إن ذلك يعني أننا نقترب من ساعة الصفر، لكن من الضروري أن نفكر في كل الاحتمالات فربما يكون «ميتشل» قد دبَّر خطة أخرى … إن «الكعكة الصفراء» مسألة هامة لرجال «المخ» في الشرق الأوسط، وهذا يعني أنها ليست مثل أي شحنة أخرى؛ ولهذا لن تظلَّ «فانيسيا» في إبحارها العادي.
في الليل، أثناء آخر دورية وقبل دخول مضيق جبل طارق، أخذ «أحمد» و«باسم» جانبًا وقال «أحمد»: يجب أن نُنفِّذ الخطة، قبل موعدها بيوم، فقد نفاجأ بشيء.
نظر «باسم» قليلًا ثم قال: ماذا تعني؟
رد «أحمد» بسرعة: أعني أننا قد نفاجأ برجال آخرين من رجال «المخ».
توقف عن الكلام دون أن يكلمه، حتى إن «باسم» نظر له متسائلًا، فهمني.
«أحمد» بسرعة: «ميتشل».
تشاغل الاثنان في النظر إلى الظلام العميق، لحظة ثم جاء صوت «بورج»: إنَّ الجو يُنبئ بعاصفة وشيكة.
نظر الشياطين حولهما في كل الاتجاهات … كان الجو رائقًا بما لا يُنبئ عن شيء … ولكن فجأة، اشتدَّت الرياح، حتى إنهما نظرا لبعضهما … جاءهما صوت «ميتشل»: هل تظن أن ذلك سوف يعطلنا كثيرًا؟
كان صوت الرياح يزداد. وقال «بورج»: حسب الظروف بدأت «فانيسيا» ترتفع وتَنخفِض، لم تكن الأمواج واضحة في الليل، لكن الإحساس بها كان واضحًا.
فجأة انقلب الجو، وأصبح صوت الرياح يُغطِّي على كل شيء، في نفس الوقت، الذي بدأ فيه ارتطام الموج بالباخرة يكاد يقلبها.
زعق «ميتشل»: هل يمكن أن يحدث شيء؟
صاح «بورج» حتى يكون صوته مسموعًا: نرجو ألا يحدث شيء.
لكن ما كادت الجملة التي قالها تَنتهي، حتى كانت الباخرة كعصفور وسط عاصفة. لقد كانت الأمواج تتلاعب بها، ثم بدأ رذاذ الماء يَصل إلى السطح، اقترب «بورج» منها ثم صاح: انزلا في عُمق الباخرة، حتى لا يأخذكما الموج.
نظر «أحمد» و«باسم» له، ثم صاح «أحمد»، قد يحتاجنا الكابتن.
فجأة وكأن سطح الباخرة قد انشقَّ عن الجميع، أضاءت لمبات متعدِّدة، وانتشر جميع الرجال. غير أن انتشارهم لم يستمر، فقد بدأ المطر يَتساقط، حتى لم يكد أحد يعرفه، هل الماء ينزل من السماء، أو أنه اصطدام الموج بالباخرة … ازداد المطر أكثر، حتى كاد السطح يتحول إلى محيط آخر. بدأ الرجال ينسحبون بسرعة. غير أن الشياطين، ظلُّوا في أماكنهم قرب مدخنة الباخرة. اختفى «ميتشل» واقترب «بورج» من الشياطين، وصاح: لماذا تقفون هكذا، هيا إلى أسفل.
تحرَّك هو الآخر، ثم وقف عند قمة السُّلم … بدأ الشياطين ينزلون … عند نهاية السلَّم كان يقف بعض البحارة … سمعوا تعليقًا من أحدهم: إنَّ حمولة السفينة تجعلها في حالة أفضل، فلو كانت خفيفة، لانتهى كل شيء الآن.
كان صوت سقوط المطر، وماء المحيط واضحًا على السطح … انسحب الشياطين ولجئوا إلى قمرة «باسم» و«أحمد». لم يكن أحد منهم يتحدث إلا أن «باسم» قال: إنك لم تُكمل الحديث.
بعد لحظة قال «أحمد»: إنَّ هناك احتمالًا أن يظهر بعض رجال «المخ» في البحر المتوسط … إن «الكعكة الصفراء» ليسَت شيئًا هينًا؛ ولذلك يجب أن نُنفذ الخطة قبل موعدها بيوم.
قال «قيس»: إنه احتمال قوي.
بعد قليل قال «خالد»: ينبغي إذن أن نُحدِّد الساعة جيدًا، فما دام الاحتمال قائمًا، فقد نجدهم في انتظارنا في المضيق نفسه.
نظر له «أحمد» قليلًا ثم قال: هذا ما كنت أُفكِّر فيه … صمت لحظة، ثم أكمل: لهذا يجب أن نرصد كل شيء، ابتداء من حركة «ميتشل» و«فيكتور»، حتى حركة رجالهما، حتى الإشارات التي يمكن أن تخرج من الباخرة، نظر له الشياطين في استفهام.
وقال «قيس»: ماذا تقصد؟
لم يُجب «أحمد» … فقد أخرج جهاز اللاسلكي الصغير، ثم بدأ يُدير المؤشر، وهو يضع السماعات فوق أذنيه. كان الشياطين ينظرون إليه، وهم يتشبثون بأماكنهم فقد كانت السفينة تهتز بعنف … ظل «أحمد» يتسمَّع … فجأة ظهر الاهتمام على وجهه، لكنه كان يفكر في شيء آخر؛ ولأنه كان مشغولًا فقد تحدَّث إليهم بلغة الدقات، أخذ يدق على طرف السرير الصغير، ففهم الشياطين ماذا يعني، انصرف «باسم» بسرعة هو و«قيس» … لقد طلب منهم أن يخرج أحد لمراقبة الموقف في الخارج.
ظلَّ «أحمد» يتسمَّع … كان يبدو أن هناك رسالة شفرية بين «فانيسيا» ومكان آخر، ظل «أحمد» ينقي الصوت بالأزرار الكثيرة في الجهاز، حتى سمع الرسالة كاملة، طلب من «خالد» قلمًا وورقة، ثم بدأ يسجل عليها الكلمات الشفرية … انتهت المكالمة، فأخذ يفك رموزها، لكن فجأة، انفتح الباب، وظهر فيه أحد رجال «ميتشل». وما إن رأى الجهاز حتى فغر فاه دهشة، ثم دخل في هدوء، وأغلق الباب … قال بابتسامة حادة: سلِّماني الجهاز والورقة … إنكما في موقف لا تحسدان عليه.
تقدم خطوة للأمام … غير أن «خالد» كان أسرع منه … فقد ضربه برجليه … ضربة مزدوجة، جعلته يصطدم بجدار القمرة، لكن ذلك لم يؤثر فيه. تحرك بسرعة قافزًا في الهواء، إلا أنه اصطدم بالسطح ووقع بين الاثنَين. كان «أحمد» أسبق إليه، ضربه بقبضته ضربة قوية جعلته يتهاوى، ويرقد بلا حراكٍ.
قال «خالد»: ماذا حدث ﻟ «باسم» و«قيس»، حتى يستطيع أن يتسلَّل إلينا؟! لا بد أن شيئًا قد حدث.
كانت الباخرة تتأرجَح، وكانا يتأرجحان معها …
قال «خالد»: والآن. ماذا نفعل؟
صمت «أحمد» قليلًا ثم قال: إبرة مخدر حتى يهدأ الجو، ثم نتصرف.
أسرع خالد بإخراج مسدَّسه، وأطلق إبرة مخدِّرة على رجل العصابة، ثم جذباه إلى أسفل سرير القمرة، ثم غطياه ببطانية.
قال «أحمد»: عليك باستطلاع ما يحدث فوق، بينما أتفرغ لحل الشفرة.
خرج «خالد» بسرعة. وبدأ «أحمد» يقرأ الورقة التي في يده … أخذ يحل ألغازها، حتى وصل في النهاية إلى حلِّ معظمها، ولكن، كانت هناك بعض الكلمات، تقف في طريقه، ولا تعطي الرسالة معناها الكامل … فكَّر لحظة، ثم بدأ يرسل رسالة إلى رقم «صفر»: من ش٣ إلى رقم «صفر». ثم أرسل الرسالة الشفرية بأكملها … فجأة … لفت سمعه أصوات كثيرة، أخفى الجهاز، وخرج مسرعًا، وقف أمام الباب، كانت هناك حركة صاخبة فوق السطح … أسرع بالصعود … وكان الجميع يتعاونون في رفع المياه التي غطَّت سطح الباخرة، اشترك معهم … غير أنه لمَح من بعيد «ميتشل» يقف، وقد سدَّد عينه ناحية الشياطين. فكر: هل يكون «ميتشل» قد اكتشف شيئًا؟ هل يكون هو الذي أرسل الرجل؟ لكن أفكاره لم تعطله عن العمل.
أحسَّ بضيق نتيجة القناع الذي يَلبسه … لكنه لم يستطع أن يخلعه، قال في نفسه: يجب الخلاص من الرجل، قبل أن يبحثوا عنه. ونظر نظرة سريعة في اتجاه «ميتشل» فلم يجده … في نفس الوقت كان الرجال يعملون في نشاط.
وفكر لحظة: إنَّ الانصراف الآن يجب أن يكون له سبب. أمسك بالخرطوم الذي يشفط المياه من فوق السطح، وجذبه بقوة. غير أن الخرطوم كان مُثبَّتًا في ماكينة تقوم بعملية الشفط … انزلقت قدماه، وقع على الأرض. ضحك الرجال الذين رأوه، واقترب منه «بورج» عندما رآه يقف وهو يتألم.
وقال «بورج»: استرح قليلًا … هل حدث شيء لقدميك.
أكمل «أحمد» دوره التمثيلي … فقد جرب أن يقف على قدمَيه، لكنه ترك نفسه يسقط، وكأن قدميه لا تستطيعان حمله … أسرع إليه «بورج»، فحمله ثم نادى رجلين من رجاله، ليحملانه إلى «القمرة». إلا أن «أحمد» رفض أن يَحمله أحد، وأخذ يتساند حتى وصل إلى السُّلم، وبدأ ينزل، ممثلًا الإجهاد … وعندما أصبح قريبًا من الباب، أسرع إلى الداخل …
في نفس اللحظة، فهم «خالد» ما فعله «أحمد» فاتصل في هدوء من بين الرجال، ولحق به. عندما أصبحا معًا، همس «أحمد»: ينبغي أن تتخلص منه الآن قبل أن يبحثوا عنه، وساعتها، يمكن أن يعدوه مفقودًا. ولا يوجد حل آخر.
تذكَّر الجهاز، فأسرع بإخراجه … كان الجهاز يسجل حل الرسالة الشفرية. كانت تقول: سوف نلتقي في النقطة «ص» … نحن في الانتظار.
هز أحمد رأسه وقال: كما توقَّعت: وأظن أن «ص» هي جزيرة «صقلية».
جذبا الرجل من تحت السرير، ثم أخذا يسحبانه إلى الخارج. لم يكن الرجل ثقيل الوزن، وهذا ما جعل مهمتهما سهلة، فصعدا به السُّلم حتى ظهر سطح المحيط، وفي هدوء دلياه ثم تركاه، فانزلق ببساطة، إلى جوف المحيط. عادا بسرعة إلى حيث يعمل الرجال، لكن «أحمد» تذكَّر سقطته، فعاد إلى القمرة وهو يَهمس: واحد … لكنه سوف يُفيق من برودة المياه.